عايد محمد عثمان الحموز/ الخليل/ فلسطين
مقدمة
يعاني الشعب الفلسطيني منذ ستين عاما من عمر الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية وثقافية مختلفة، وأمام إصرار الشعب الفلسطيني على انتزاع الحقوق الوطنية المشروعة وفق قرارات الشرعية الدولية (194، و338، و242) راح حكام إسرائيل العسكريون يكثفون من سياساتهم الهادفة لإجبار الشعب الفلسطيني على الاستسلام والقبول بالمقترحات الإسرائيلية، فجوبه بانتفاضات الشعب الفلسطيني السلمية الرافضة للاحتلال، والمطالبة بتطبيق قرارات الشرعية الدولية واحترامها، بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، الأمر الذي أدى إلى سقوط آلاف الشهداء، والجرحى من أبناء هذا الشعب، وكذلك اعتقال المواطنين ونفيهم وتهجير أهالي فلسطين وهدم منازلهم وتفجيرها فوق رؤوس سكانها.
هذا بالإضافة إلى أن الاقتصاد الفلسطيني يعاني من أزمة حادة، لم يشهدها من قبل، بسبب الحصار والإجراءات القمعية والتعسفية التي فرضتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تحرك الشعب الفلسطيني، وعناصر إنتاجه، حيث جزأت السوق المحلي، وقامت بإغلاق المناطق ومحاصرتها وفرض منع التجول عليها، وهدمت العديد من المنشات الاقتصادية وجرفت الأراضي الزراعية وصادرتها، ولم تكتفِ بذلك، فبدأت بإنشاء جدار الفصل العنصري الذي نتج عنه عدد لا يحصى من المشكلات(أبو الرب، 2005).
كل هذه العوامل وما نتج أيضا عن ما كان يعرض عبر وسائل الإعلام من إجراءات قمع وتنكيل بحق أبناء الشعب الفلسطيني، ناهيك عن المشاهدات الحية التي كان يعيشها الأفراد أثناء عمليات الاغتيال والاعتقال، أو أثناء الاجتياحات، كان لها المردود السلبي على الصحة بصورة عامة والصحة النفسية بصورة خاصة، مما جعل الاضطرابات الموجودة عند بعض أبناء الشعب الفلسطيني أقرب إلى أن تكون سمة في شخصياتهم، خاصة وأنهم عايشوا عبر سنوات الاحتلال الطويلة أحداث دامية وكوارث ونكبات مختلفة.
ويؤكد رضوان(2002) أن هناك عوامل متنوعة تلعب دورا في تحقيق الصحة النفسية وتنميتها، ويشكل البحث في هذه العوامل وتحديدها الأساس الذي يقوم عليه علم الصحة النفسية بصورة خاصة، ومن هذه العوامل الكيفية التي يدرك فيها الفرد المواقف والخبرات والأحداث التي يمرون بها، والأساليب التي يقيمونها فيه، وهذا يؤدي إلى وجود القلق، ويؤكد (عيسوي،2002) أن أصحاب الاتجاه الإنساني يرون أن القلق ينتج عن شيء مرعب ناتج عن تهديد لمفهوم الذات، أو عن شيء ما يعيق أو يهدد بإعاقة الإشباع للحاجات النفسية الأساسية للفرد مثل حاجة الإنسان إلى الشعور بالأمن والحب والتقدير والإنجاز مما يؤثر على الصحة النفسية للأفراد.
والصحة النفسية حسب ما يبين علي وشريت (2004) هي تلك الحالة النفسية التي تتسم بالثبات النسبي والتي يكون فيها الفرد متمتعا بالتوافق الشخصي والاجتماعي والاتزان الانفعالي، وأن يتميز بالقدرة والسيطرة على العوامل التي تؤدي إلى الإحباط أو اليأس والعيش في وفاق وسلام مع نفسه من جهة، ومع غيره في محيط الأسرة أو العمل أو المجتمع الخارجي من جهة أخرى. وبالتالي يمكن القول أن من لا يستطيع السيطرة على العوامل التي تؤدي إلى الإحباط أو اليأس والعيش في وفاق وسلام، سيعاني بالتالي من اضطرابات نفسية متفاوتة الشدة، مما يؤثر على قدرة تمتع الفرد بالصحة النفسية ويكون ذا شخصية مضطربة.
والشخصية المضطربة حسب ما يؤكد (الحفني، 1995) هي تلك الشخصية المضطربة السمة إذا لم يكن باستطاعة الشخص أن يحتفظ بتوازنه الانفعالي في المواقف التي يعاني منها أقل المعاناة، ناهيك عن المواقف الضاغطة بشكل ملحوظ، والشخص المضطرب السمة لا يصاب بالانهيار الذهاني ولكنه ينحو إلى التصرف بصبيانية كلما تعرض لظروف ضاغطة أو عانى من صراعات انفعالية، وشخصيته غير مستقرة انفعاليا، فهو سهل الاستثارة وعاجز عن السيطرة على انفعالاته، أو أن شخصيته عدوانية سلبية، أو قهرية، أو هستيرية أو شخصية غير ناضجة أو أن تكون شخصية وسواسيه.
ومن خلال ما تقدم يسلط الباحث الضوء على دور الاحتلال الإسرائيلي في وجود اضطرابات نفسية تؤثر على الصحة النفسية للأفراد، فهل هناك علاقة بين ممارسات الاحتلال وظهور أشكال معينة من الأمراض والاضطرابات النفسية. وبالتالي سيقوم الباحث في هذه المقالة بتسليط الضوء على أهم الاضطرابات والمشاكل التي نتجت عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي معتمدا في ذلك على نتائج عدد من الدراسات التي تناولت آثار الاحتلال الإسرائيلي.
تفجير المنازل وهدمها:
يمكن القول إن ما اصطلح على تسميته اضطرابات الضغوط التالية للصدمة تنجم من معاناة الفرد وما شاهده وأدركه من منظوره كصدمة شديدة، ويترتب عليها بعد توافر عوامل أخرى، اضطراب محدد هو اضطراب الضغوط التالية للصدمة، حيث إن الخبرات الصدمية التي يواجهها الأفراد بعد كل حادث كثيرة، وتختلف تبعا لقوة الصدمة وتبعا لعمر الفرد. ويمثل مشهد تدمير المنازل بالنسبة لساكنيها صدمة كبيرة خارج نطاق الخبرة الإنسانية العادية، ويؤدي هذا فيما بعد إلى ظهور أعراض الاضطرابات السلوكية التي قد تكون في صورة قلق وتوتر دائمين أو عدوانية خاصة عند فئة الأطفال الذين تنقصهم الخبرة والتجربة.
فقد كشفت نتائج دراسة (2006Thabet & Vostanis, ) أن ما نسبته (91.6%) من الصدمات لدى الأطفال الذين كانت صدمتهم شديدة عند مشاهدة قصف البيوت من الطائرات للجيران وغيرهم. كما كشفت نتائج (2002Thabet & Vostanis, ) أن الأطفال الذين تعرضوا للقصف وهدمت بيوتهم ظهر لديهم اضطرابات ما بعد الصدمة، وتمثلت في صعوبة في التركيز بنسبة (85.3%) وصعوبة في النوم بنسبة (57.2%) وتجنب تذكر الحدث الصادم بنسبة (51.7%)، كما ظهر لديهم الخوف بصورة واضحة.
كما أظهرت نتائج دراسة (السراج وقوته(1995) المشار إليها في أبو هين (2001)) التي هدفت للبحث في تأثير هدم المنازل على الصحة النفسية للأطفال، أن المشاكل الانفعالية وتحديدا الخوف من الظلام وظاهرة قضم الأظافر والانسحاب والكآبة والخوف من المواقف الجديدة ظهر بصورة واضحة لدى الأطفال الذين فقدوا منازلهم مقارنة بعينة الأطفال الذين شاهدوا فقط عبر شرفات المنازل عملية الهدم والقصف للمنازل. اضطرابات ما بعد الصدمة
الاعتقال:
ماذا ينتج عن اقتحام المنازل أثناء عمليات الاعتقال؟ إن ما ينتج من اضطرابات ليس بأقل خطورة مما سبق الحديث عنه أثناء تدمير المنازل، خاصة وأن اقتحام المنازل يكون في الغالب أثناء الليل وفي ساعات متأخرة، بمعنى أن أفراد الأسرة كافة يكونون نياماً، وبالتالي تأتي عملية الاعتقال والاقتحام مباغتة، وهذا يؤدي إلى وجود اضطرابات مختلفة من أهمها الخوف الناتج عن عنصر المباغتة، وما انتهى إليه زعول (2007) ليس ببعيد عن ذلك فقد كشف من خلال نتائج دراسته التي هدفت إلى التعرف على درجة انتشار الاضطرابات السلوكية لدى أطفال أسر المعتقلين الفلسطينيين في محافظة بيت لحم أن أهم مظاهر الاضطرابات السلوكية تمثلت في اضطرابات الخوف، وأن كثرة الالتصاق بالأهل كانت من أكثر الفقرات انتشارا لدى هؤلاء الأطفال.
ويمكن الاستدلال بنتائج دراسة( أبو هين والسراج (1992) المشار إليها في أبو هين (2001)) التي بينت أن (89%) من الأطفال تعرضت منازلهم للمداهمات الليلية ونتج عن ذلك معدلات الخوف من الظلام لدى الأطفال، وأن (45%) من أطفال العينة تعرضوا للخبرات الشخصية العصيبة، وتحديدا تعرضوا للضرب الشخصي، وأن (55%) من الأطفال شاهدوا تعرض أحد أفراد أسرهم للضرب الشخصي أمام أعينهم بصورة نتج عنها خوف الطفل وتزايد حالات فقدان الأمن. كما بينت نتائج مغالسة (2003)أن العائلات التي أعتقل أحد أفرادها كانت أكثر تأثراً بأعراض ما بعد الصدمة من العائلات التي تعرضت بيوتها للهدم.
أيضا لا يتوقف ذلك على أفراد أسرة المعتقل فقط، لا بل فالشخص المعتقل له حديث أخر، فماذا ينتج عن الاعتقال والتعرض للضرب والإهانة؟ فقد دلت دراسة لسابا والسراج(1991) أن الذين تعرضوا للضرب أثناء الاعتقال كانوا سريعي الغضب ولا يستطيعون الانتظار وذلك لأن الانتظار كان أحد أساليب التعذيب التي استعملت ضدهم وظهرت لدى الكثير من ضحايا التعذيب مشاعر الاكتئاب كنتيجة حتمية للشعور العميق بالعجز أو الإحساس بالذنب، فكثير منهم وقّعوا على اعترافات حتى لو كانت غير صحيحة. وأثبتت هذه الدراسة أن الكثير من ضحايا التعذيب والإرهاب يحتاجون إلى العلاج النفسي بعد خروجهم من السجون والمعتقلات.
مشاهدة أحداث عنف:
إن مشاهدة عمليات القتل والتنكيل، أو مداهمة البيوت، أو اعتقال أحد الأفراد، أو تفجير منزل يؤدي إلى اضطرابات متنوعة خاصة عند الأطفال، فقد أظهرت نتائج دراسة نذر(2000) التي تعرضت للتحديات العصبية للطفولة العربية الناتجة من الحروب، أنه من خلال معايشة الأطفال ومشاهدة صور العنف المختلفة ظهر السلوك العدواني والميل إلى العنف وقد أثّر ذلك كله على صور التنشئة النفسية والتربوية.
ومعروف أن غالبية الأطفال في المجتمع الفلسطيني يشاهدون أحداث العنف إما من خلال المشاهدة مباشرة أو من خلال شاشات التلفزيون، فقد كشف كراوي (2001) من خلال نتائج العينة المستطلعة آراءهم، أن الأغلبية وبنسبة (60.0%) يشاهدون أحداث الانتفاضة عبر شاشات التلفاز. وبالتالي فإن (57.0%) من الأطفال أحيانا ما تسبب لهم مشاهد الأحداث ارتعاب، و(13.0%) يرتعبون بسبب مشاهدة هذه الأحداث، وأن الأغلبية يشعرون بالحزن والاكتئاب نتيجة هذه الأحداث.
وهذا يتفق مع نتائج دراسة حنون (2001) التي هدفت إلى التعرف على أثر مشاهدة أحداث انتفاضة الأقصى من خلال التلفاز على سلوك أطفال الفئة (12-8 سنة) من وجهة نظر الأطفال، والأمهات، وأظهرت نتائج الدراسة أن ما نسبته (77.27%) يشاهدون أحداث الانتفاضة على التلفاز، وفي ما يتعلق بالأمهات أيضا كانت النتائج متشابهة مع الأطفال حيث كانت النسبة (%63.15) وخرج بنتيجة مفادها أن هناك شبه اتفاق بين الأطفال والأمهات على أن مشاهدة أحداث الانتفاضة على التلفاز تؤثر على سلوك الأطفال حيث تبين وجود علاقة بين مشاهدة الأحداث واضطرابات السلوك.
ويتفق ذلك مع دراسة كويتية قام بها (الحمادي وآخرون (1993) والمشار إليها في الخرافي (1997)) الذين أكدوا أن (40%) من عينة الدراسة من البالغين ذكروا أنهم شاهدوا عملية قتل الزوج أو الطفل، أو الوالد، و(42%) شاهدوا عمليات عنف، بينما قرر (45%) منهم أنهم هم أنفسهم مروا بعمليات تعذيب جسدي ونفسي، ويشير الباحثون إلى أنّ جميع هؤلاء الأفراد يعانون من أعراض ما بعد الصدمة، كما أكد كل ( 2001 Thabet. Abed, Vostanis,.) من خلال دراسة قاموا بها، أن الأطفال تعرضوا للصدمات بمعدل أربع خبرات صادمة لكل طفل وهذه الصدمات جاءت كنتيجة مباشرة للعنف الممارس ضدهم, بمشاهدتهم بأعينهم أفراداً تعرضوا للعنف الإسرائيلي، كما أن حوالي ثلث الأطفال كانت لديهم ردود فعل نفسية شديدة عن الخبرات الصادمة( 34.4%).
أسر الشهداء:
هل يؤدي فقدان الأسرة لأحد أفرادها بصورة فجائية لأنواع مختلفة من الاضطرابات، خاصة لدى الزوجات والأبناء؟ هذا ما يمكن تأكيده من خلال نتائج دراسة الخرافي (1997) على المجتمع الكويتي الذي بين أن درجة الشعور بالوحدة النفسية كانت أكثر لدى أرامل الشهداء الكويتيات، يليه زوجات الأسرى، وأخيرا أرامل فقدن أزواجهن في ظل ظروف طبيعية، بمعنى أن أرامل الشهداء أكثر إحساسا بالوحدة النفسية، وهذا يرتبط بنتيجة أخرى تمثلت في أنه كلما زاد الشعور بالوحدة النفسية لدى الأرامل قل التوافق النفسي لدى أبنائهن.
وهذا يتفق مع نتائج (البدور وآخرون (1999) المشار إليها في أبو هين (2001)) التي بينت أن (50%) من بنات أسر شهداء مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، وحوالي (39%) من نسائهم، وحوالي (23%) من الأبناء، ظهرت لديهم أعراض الصدمات النفسية بصورة واضحة، وظهرت كثير في أعراض القلق والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي. كما وتبين دراسة مغالسة (2003) أن العائلات التي أستشهد أحد أفرادها أكثر تأثراً باضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة النفسية وردود الفعل مقارنة بالعائلات التي أعتقل أحد أفرادها، وأشارت النتائج أيضاً أن العائلات التي استشهد أحد أفرادها أكثر تأثراً بأعراض اضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة النفسية من العائلات التي هدمت بيوتها.
الحصار والحواجز العسكرية:
لم تكتفِ سلطات الاحتلال فقط بتدمير المنازل واقتحامها أو اغتيال من بداخلها، بل لجأت إلى سياسية الحصار الظالم على المدن والبلدات والقرى الفلسطينية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في العام (2000)، مصادرة بذلك الحق في حرية الحركة والتنقل، مما أدى إلى تعذر وصول العمال إلى أماكن عملهم في مراكز المدن الفلسطينية وكذلك الإسرائيلية، إلى جانب ذلك وبعد حملة تحريض عنصرية لم يسبق لها مثيل. حرمت إسرائيل (130)ألف عامل فلسطيني من حقهم في العمل، وذلك بمنعهم من العودة إلى أماكن عملهم في إسرائيل، إن مجمل هذه الأوضاع قد رفعت نسبة البطالة بشكل دراماتيكي فمن (9.71%) في إحصاءات الربع الثالث من العام (2000) ارتفعت نسبة البطالة إلى (39.7%) في الربع الأخير من العام (2000) وزادت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر من (28%) إلى (51.7%) ودفع (43%) من العائلات للاستدانة(الجهاز المركزي للإحصاء، 2000).
بدوره أدى ذلك إلى وجود أنواع مختلفة من الاضطرابات، فالاحتلال أوجد الحصار ونتج عن الحصار البطالة، ونتج عن البطالة تدني مستوى الدخل، ونتج عن تدني مستوى الدخل اضطرابات نفسية مختلفة، فقد كشفت نتائج دراسة الحموز (2002) عن وجود فروق في متوسطات درجة الحصار الإسرائيلي فترة انتفاضة الأقصى على أوضاع العمال في مخيم الفوار تعزى إلى معدل الدخل الشهري لصالح فئة متدني الدخل، حيث أكد من خلال ذلك على أن فئة متدني الدخل هم أكثر تأثر بالحصار الإسرائيلي، كما تبين من خلال الدراسة أيضا وجود فروق تبعا لمصدر الدخل ولصالح الفئة التي تعتمد في مصادر دخلها على أجرة العامل، مما يؤكد أن الأسرة التي كانت تعتمد على أجرة العامل فقدت مصدر رزقها الذي ليس لها بديل عنه، وبالتالي فإنها ستواجه صعوبات في توفير حاجياتها الأساسية، وهذا بالتالي سيؤدي إلى وجود اضطرابات مختلفة.
ويؤكد على ذلك ما توصل إليه كل من ( 1998 Thabet, Vostanis,.) من أن الحالة الاقتصادية المتردية لعائلة الطفل تكن سبباً في ظهور الاضطرابات لديه بشكل عام والقلق بشكل خاص. ويمكن التأكيد على ذلك أيضا من خلال نتائج دراسة المطيري (2000) التي هدفت إلى تحديد معدلات الاضطرابات السلوكية الظاهرة بين الأطفال الذين يعيشون في كنف أسرة محدودة الدخل. وكان من أبرز نتائج هذه الدراسة أن (%35) من الأطفال الذين يعيشون في أسر محدودة الدخل يعانون من اضطرابات سلوكية ظاهرة عند مستويات إكلينيكية.
والحواجز العسكرية هي الصورة الأخرى المكملة للحصار، حيث قطّعت أوصال الوطن وجزأت كل جزء فيه إلى أجزاء متفرقة رغم وحدة الدم الفلسطيني الواحد، مما خلق العديد من الأزمات التي طالت الصغير والكبير، والطالب والمعلم، فقد كشفت نتائج دراسة عبد الله والعسيلي (2005) أن أبرز الأزمات التي تعاني منها جامعة القدس المفتوحة أثناء انتفاضة الأقصى هي الأزمات السياسية والنفسية بالدرجة الأولى، ثم الأزمات الاقتصادية فالإدارية، وهي مرتبة تنازليا على النحو التالي: الضغوطات النفسية الناجمة عن الاحتلال كالقلق والإحباط والملل، والحواجز المتسببة في صعوبة الوصول إلى مراكز الجامعة، والحصار المقطّع لأوصال الوطن والمتسبب في انقطاع الاتصال بين مراكز الجامعة، وفقدان الطالب الإحساس بالأمن الذاتي.
التواجد بالقرب من الأحدث:
هل السكن بالقرب من المناطق الساخنة، أو التواجد الدائم بالقرب من أماكن الأحداث له علاقة بالاضطرابات النفسية؟ هذا ما أكدته دراسة سعادة وأبو زيادة وزامل (2002) من خلال وجود فروق في التعرف إلى المشكلات السلوكية تعزى لمتغير موقع المدرسة من أحداث الانتفاضة لصالح المدارس القريبة والمتوسطة القرب من أحداث الانتفاضة. كما أكد (Baker,1990) أن الأطفال الذين يعيشون في المناطق المحتلة يواجهون مشاكل نفسية تمثلت في ارتفاع نسبة الضغط النفسي ودرجة الخوف لديهم. وأيضا كشفت سعادة (2006) أن هناك فروقاً في أعراض ما بعد الصدمة تبعا لموقع المدرسة من أحداث الانتفاضة ولصالح المدارس القريبة. وأيضا يمكن الاستدلال على ذلك من خلال دراسة الشريف(1990) التي سعت للمقارنة بين الشباب الفلسطيني المقيم في قطاع غزة ومصر، حيث تبين أن الشباب الفلسطيني المقيم في قطاع غزة أكثر قلقا، كما تبين وجود علاقة بين العدوان والقلق.
منع التجول:
هل ينتج عن منع التجول اضطرابات نفسية؟ هذا ما يمكن تأكيده أيضا من خلال دراسة (قوته (1993) المشار إليها في أبو هين (2001)) الهادفة لمعرفة تأثير منع التجول على الأطفال الفلسطينيين، وبينت النتائج أن حوالي (66%) من الأطفال ظهرت لديهم مشاكل التناحر والتقاتل والعدوانية تجاه بعضهم البعض، وأن حوالي (55%) من الأطفال أظهروا خوفا من المواقف الجديدة. وأن حوالي (54%) من الأطفال ظهرت عليهم العدوانية والعنف، كما دلت دراسة أجراها كل من (السراج وسابا، 1991) على مجموعة من الأطفال الفلسطينيين بقطاع غزة على أن حالات منع التجول أدت إلى كثير من المشكلات الاجتماعية للسكان الفلسطينيين حيث أثرت على الطفل الفلسطيني وحرمانه من أبسط حقوقه الإنسانية في اللعب، والتمتع مع الرفاق خارج المنزل، وكانت نتيجة منع التجول المستمر لمدة أسابيع وأشهر، أن (60%) من الأطفال الفلسطينيين شديدو التوترّ، وكثيرو الحركة، وعديمو الاستقرار، وأن (26%) منهم يثورون لأتفه الأسباب، وأن (17%) يخافون من الظلام، و(33%) يخافون من الجيش.
التعرّض للعنف مباشرة:
ماذا يمكن أن ينتج عن التعرّض المباشر للعنف من قبل جنود الاحتلال؟ في دراسة قامت بها (1996، katleen ) أظهرت وجود علاقة مرتفعة بين العنف والمشكلات السلوكية لدى الأطفال، وكانت هذه المشكلات لدى الذكور أعلى منها عند الإناث، وكذلك تبين أن الذكور كانوا أكثر عرضة للمواجهة والمشاركة في فعاليات الانتفاضة من الإناث. وهذا ما خرجت به دراسة الحموز (2006) التي بينت أن هناك أثرًا للجنس في انتشار القلق سمةً لدى عينة الدراسة ولصالح الذكور، وكان أكثر الفقرات انتشارا (القلق من حدوث الكوارث والمخاطر) رغم أن العديد من الدراسات العربية والأجنبية أكدت أن الإناث أكثر قلقا وأكثر إظهارا للمخاوف من الذكور، وإن تميز هذه النتيجة عن باقي النتائج الأخرى يأتي بطبيعة الحال من تميز المجتمع الفلسطيني عن المجتمعات الأخرى بوجود الاحتلال الإسرائيلي.
ما يؤكده (البدور(1994) المشار إليها في أبو هين (2001)) من خلال دراسته التي اهتمت بمعرفة درجة التعرض للعنف على المشاكل النفسية والانفعالية وتقدير الذات لدى الفتيان من بيئات مختلفة (عرب بدو بئر السبع الفلسطينيين، وأطفال من قطاع غزة، وأطفال يهود)، إن أقل درجات القلق والتوتر وجدت لدى الأطفال اليهود بسبب قلة تعرضهم لمصادر العنف في بيئتهم، ثم جاء بعدهم عرب بئر السبع، بينما كان أطفال غزة أكثر درجات القلق والتوتر. وأتفق بذلك مع الدراسة التي قام بها فريق بحث عالمي مكون منMiller , Ei-masri , Allodi, Qouta , 1999) ) الذين بيّنوا أن حجم المعاناة بعد الصدمة، وظهور الاضطرابات السلوكية والعاطفية لدى الأطفال من سن (6-16) كانت أكبر وبنسبة أعلى من حيث التراكمات في السلوك العامة للأطفال الفلسطينيين إذا ما قورنت بأطفال الشعوب الأخرى الذين لا يعانون من ويلات الحروب، ولا يوجد بها صراعات أو مناطق مشابهة تقع تحت احتلال.
ومن خلال ما تقدم يستنتج الباحث أن هناك علاقة قوية بين وجود الاحتلال الإسرائيلي واضطراب الصحة النفسية لدى الأفراد في المجتمع الفلسطيني، فقد نتج عن هدم البيوت اضطرابات ما بعد الصدمة ومشاكل انفعالية مختلفة. ونتج عن اقتحام البيوت أثناء الاعتقال اضطرابات ما بعد الصدمة ومشكلة الخوف بصورة واضحة. ونتج عن الاعتقال سرعة الغضب والشعور العميق بالعجز والإحساس بالذنب. وبسبب مشاهدة أحداث العنف فان غالبية الأطفال يرتعبون، وأن الأغلبية يشعرون بالحزن والاكتئاب نتيجة هذه الأحداث. وتؤدي هذه الأحداث إلى اضطرابات السلوك وأعراض ما بعد الصدمة، كما ظهرت أعراض القلق والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي والإحساس بالوحدة النفسية والمعاناة من اضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة النفسية في الأسرة التي فقدت شهيداً.
كذاك ظهور الاضطرابات بشكل عام والقلق بشكل خاص نتيجة للحالة الاقتصادية المتردية، وعدد من الاضطرابات السلوكية. ونتيجة للحواجز العسكرية برز القلق والإحباط والملل، كما أن التواجد بالقرب من الأحداث يؤدي إلى أن يكون الفرد أكثر قلقا، ويعاني من أعراض ما بعد الصدمة. كما أنه نتج عن منع التجول مشاكل التناحر والتقاتل والعدوانية والخوف من المواقف الجديدة والتوتر، وكثرة الحركة، والغضب والخوف من الظلام والجيش. أيضا تبين أن الذكور أكثر تعرضا للاضطرابات النفسية من الإناث نتيجة التعرض المباشر للعنف، حيث أدى هذا إلى ظهور القلق والتوتر والاضطرابات السلوكية والعاطفية عندهم بصورة واضحة.
وفي ضوء ما تم ذكره فإن الباحث يوصي بضرورة العمل على نشر هذه النتائج التي تظهر جريمة من جرائم الاحتلال الإسرائيلي. وكذلك تفعيل المؤسسات الحقوقية والاجتماعية والإنسانية، والعمل على تضافر الجهود بين التربويين والنفسيين والمسؤولين، والاهتمام بالخدمات النفسية للتدخل والبدء بإيجاد الحلول المناسبة، للتخفيف من حدة هذه الاضطرابات لدى المواطنين الفلسطينيين، كما أنه لابد من العمل على إنشاء مراكز توعية نفسية أسرية، تهدف إلى تقديم الإرشاد النفسي والأسري، وبث الوعي بين الآباء عن مخاطر الاضطرابات النفسية، وذلك لدور الأسرة في بناء شخصية الفرد وقدرتها على تنمية مفاهيم الصحة النفسية. خاصة وأن الأسرة يجب أن تكون الصدر الحنون لهم وأَن تقبل شكواهم وأَن تمنحهم مزيدا من الشعور بالأمان والحماية والحب. للتخفيف مما يعانونه من اضطرابات.
المراجع العربية
• أبو الرب، محمود.(2005): "الآثار الاقتصادية والاجتماعية المباشرة للجدار العنصري الفاصل على الشعب العربي الفلسطيني". مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، عدد (5)، ص ص 257- 289.
• أبو هين، فضل خالد.(2001):"المشاركة في فعاليات الانتفاضة وعلاقتها بالمشكلات النفسية والانفعالية للاطفال- تدافع الأطفال نحو الاستشهاد وعلاقته ببعض المتغيرات"، مجلة جامعة الأقصى، (5)، (2)، ص ص 132- 280.
• الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.(2000): مسح القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية، رام الله، فلسطين.
• الحموز، عايد محمد.(2006): الأفكار اللاعقلانية وعلاقتها بالقلق لدى طلبة جامعات الضفة الغربية في فلسطين، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• الحموز، عايد محمد.(2002): أثر الحصار الإسرائيلي فترة انتفاضة الأقصى على أوضاع العمال في مخيم الفوار.جامعة القدس المفتوحة. فلسطين(مشروع تخرج غير منشور).
• حنون، رسمية سعيد.(2001): "دور بعض المتغيرات الديموغرافية المرتبطة بمشاهدة الأطفال الفلسطينيين في العمر من (12-8) بأحداث انتفاضة الأقصى على شاشة التلفاز في تغير سلوكهم". دراسات نفسية، 2))، (11)، ص ص 193-169.
• الخرافي، نوريه مشاري.(1997): "مستوى الشعور بالوحدة النفسية لدى زوجات فقدن أزواجهن في ظل ظروف طبيعية وغير طبيعية وأثرها على التوافق الشخصي والاجتماعي لأطفالهن"، مستقبل التربية العربية،(3)، (12)، ص ص 9 -31.
• رضوان، سامر جميل.(2002): الصحة النفسية، الطبعة الأولى. دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان.
• زعول، لؤي زيدان.(2007): الاضطرابات السلوكية لدى أطفال أسر المعتقلين الفلسطينيين في محافظة بيت لحم، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• سابا، رغدة، والسراج ، إياد.(1991): "طرق التعذيب وآثاره النفسية"، جمعية فلسطين الدولية للصحة النفسية، برنامج غزة للصحة النفسية. ص ص 4 - 5.
• السراج، إياد، وسابا، رغدة.(1991): "واقع الطفل الفلسطيني في ظل الانتفاضة". جمعية فلسطين الدولية للصحة النفسية، برنامج غزة للصحة النفسية. ص ص 11-.16.
• سعادة، جودة احمد، وأبو زيادة، إسماعيل جابر، وزامل، مجدي علي. (2002):" المشكلات السلوكية لدى الأطفال الفلسطينيين في المرحلة الأساسية الدنيا بمحافظة نابلس خلال انتفاضة الأقصى كما يراها المعلمون وعلاقتها ببعض المتغيرات". مجلة جامعة النجاح للأبحاث، ع(2)، ص ص 590-546 .
• سعادة، وفاء.( 2006 ) الاضطرابات الناتجة عن ضغوط التجارب الصادمة لدى الطلبة الجامعيين في محافظة رام الله والبيرة وأساليب تكيفهم، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• الشريف، محمد يوسف.(1990): مظاهر العدوان ومستوى القلق لدى الشباب الفلسطيني في قطاع غزة بالأرض المحتلة والشباب الفلسطيني المقيم بجمهورية مصر العربية، جامعة الزقازيق، مصر.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• عبد الله، تيسير، والعسيلي، رجاء.(2005):" قلق الأزمات التي تعاني منها جامعة القدس المفتوحة أثناء انتفاضة الأقصى". مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد الخامس، ربيع أول ، ص ص 9- 54.
• علي، صبره محمد، شريت، أشرف محمد.(2004): الصحة النفسية والتوافق النفسي. دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، مصر.
• عيسوي، عبد الرحمن.(2002): الأمراض النفسية وعلاجها. دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، مصر.
• كراوي، دانا. (2001): اثر انتفاضة الأقصى على الطفل الفلسطيني – الجانب النفسي السلوكي، جامعة بيت لحم، فلسطين. (مشروع تخرج غير منشور).
• مغالسة، جميلة. (2003): اضطرابات ما بعد الصدمة المتعلقة بالشهادة أو السجن، وهدم البيوت في محافظة بيت لحم، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• المطيري، حامد نهار. (2000): "الاضطرابات السلوكية لدى أطفال الأسر الكويتية محدودة الدخل". مجلة العلوم الاجتماعية، ((3، (28)، ص ص 88 - 64.
• نذر، فاطمة.(2000): "الحروب واضطرابات السلوك عند الأطفال وكيفية التعامل مع الأزمات"، المجلة التربوية، (14)، (54)، ص ص 141- 168.
المراجع الاجنبية:
- Baker , A .(1990):''The Psychological impact of the Intefada on Palestinian children in the West Bank and Gaza Strip; An exploratory Study''. American Journal of Orthopsychiatry (60), pp 496 – 505.
- Katleen, k. (1996) :" The effect of political violence on Palestinian children's behavior problems : A risk accumulation model. Child development. Vol. (67), No. (1), pp. 33-45
- Thabet , A., Vostanis, p.(2002):" Emotional problems among Palestinian children living in a War Zone". The Lancet. (359), pp 1801 – 1804.
- Thabet , A., Vostanis, p.(2001): "Epidemiology of psychiatric disorders in the Gaza Strip ". Eastern Mediterranean Public Health Journal. (7), pp403- 412.
- Thabet , A., Vostanis, p.(1998):"Social adversities and anxiety disorders in the Gaza Strip". Archives of Disease in Childhood, (78), pp 439 – 442.
- Thabet , A., Vostanis, p.(2006):" Trauma exposure in preschool children in a war zone". British psychiatric journal. 188, p. 154-158.
مقدمة
يعاني الشعب الفلسطيني منذ ستين عاما من عمر الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية وثقافية مختلفة، وأمام إصرار الشعب الفلسطيني على انتزاع الحقوق الوطنية المشروعة وفق قرارات الشرعية الدولية (194، و338، و242) راح حكام إسرائيل العسكريون يكثفون من سياساتهم الهادفة لإجبار الشعب الفلسطيني على الاستسلام والقبول بالمقترحات الإسرائيلية، فجوبه بانتفاضات الشعب الفلسطيني السلمية الرافضة للاحتلال، والمطالبة بتطبيق قرارات الشرعية الدولية واحترامها، بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، الأمر الذي أدى إلى سقوط آلاف الشهداء، والجرحى من أبناء هذا الشعب، وكذلك اعتقال المواطنين ونفيهم وتهجير أهالي فلسطين وهدم منازلهم وتفجيرها فوق رؤوس سكانها.
هذا بالإضافة إلى أن الاقتصاد الفلسطيني يعاني من أزمة حادة، لم يشهدها من قبل، بسبب الحصار والإجراءات القمعية والتعسفية التي فرضتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تحرك الشعب الفلسطيني، وعناصر إنتاجه، حيث جزأت السوق المحلي، وقامت بإغلاق المناطق ومحاصرتها وفرض منع التجول عليها، وهدمت العديد من المنشات الاقتصادية وجرفت الأراضي الزراعية وصادرتها، ولم تكتفِ بذلك، فبدأت بإنشاء جدار الفصل العنصري الذي نتج عنه عدد لا يحصى من المشكلات(أبو الرب، 2005).
كل هذه العوامل وما نتج أيضا عن ما كان يعرض عبر وسائل الإعلام من إجراءات قمع وتنكيل بحق أبناء الشعب الفلسطيني، ناهيك عن المشاهدات الحية التي كان يعيشها الأفراد أثناء عمليات الاغتيال والاعتقال، أو أثناء الاجتياحات، كان لها المردود السلبي على الصحة بصورة عامة والصحة النفسية بصورة خاصة، مما جعل الاضطرابات الموجودة عند بعض أبناء الشعب الفلسطيني أقرب إلى أن تكون سمة في شخصياتهم، خاصة وأنهم عايشوا عبر سنوات الاحتلال الطويلة أحداث دامية وكوارث ونكبات مختلفة.
ويؤكد رضوان(2002) أن هناك عوامل متنوعة تلعب دورا في تحقيق الصحة النفسية وتنميتها، ويشكل البحث في هذه العوامل وتحديدها الأساس الذي يقوم عليه علم الصحة النفسية بصورة خاصة، ومن هذه العوامل الكيفية التي يدرك فيها الفرد المواقف والخبرات والأحداث التي يمرون بها، والأساليب التي يقيمونها فيه، وهذا يؤدي إلى وجود القلق، ويؤكد (عيسوي،2002) أن أصحاب الاتجاه الإنساني يرون أن القلق ينتج عن شيء مرعب ناتج عن تهديد لمفهوم الذات، أو عن شيء ما يعيق أو يهدد بإعاقة الإشباع للحاجات النفسية الأساسية للفرد مثل حاجة الإنسان إلى الشعور بالأمن والحب والتقدير والإنجاز مما يؤثر على الصحة النفسية للأفراد.
والصحة النفسية حسب ما يبين علي وشريت (2004) هي تلك الحالة النفسية التي تتسم بالثبات النسبي والتي يكون فيها الفرد متمتعا بالتوافق الشخصي والاجتماعي والاتزان الانفعالي، وأن يتميز بالقدرة والسيطرة على العوامل التي تؤدي إلى الإحباط أو اليأس والعيش في وفاق وسلام مع نفسه من جهة، ومع غيره في محيط الأسرة أو العمل أو المجتمع الخارجي من جهة أخرى. وبالتالي يمكن القول أن من لا يستطيع السيطرة على العوامل التي تؤدي إلى الإحباط أو اليأس والعيش في وفاق وسلام، سيعاني بالتالي من اضطرابات نفسية متفاوتة الشدة، مما يؤثر على قدرة تمتع الفرد بالصحة النفسية ويكون ذا شخصية مضطربة.
والشخصية المضطربة حسب ما يؤكد (الحفني، 1995) هي تلك الشخصية المضطربة السمة إذا لم يكن باستطاعة الشخص أن يحتفظ بتوازنه الانفعالي في المواقف التي يعاني منها أقل المعاناة، ناهيك عن المواقف الضاغطة بشكل ملحوظ، والشخص المضطرب السمة لا يصاب بالانهيار الذهاني ولكنه ينحو إلى التصرف بصبيانية كلما تعرض لظروف ضاغطة أو عانى من صراعات انفعالية، وشخصيته غير مستقرة انفعاليا، فهو سهل الاستثارة وعاجز عن السيطرة على انفعالاته، أو أن شخصيته عدوانية سلبية، أو قهرية، أو هستيرية أو شخصية غير ناضجة أو أن تكون شخصية وسواسيه.
ومن خلال ما تقدم يسلط الباحث الضوء على دور الاحتلال الإسرائيلي في وجود اضطرابات نفسية تؤثر على الصحة النفسية للأفراد، فهل هناك علاقة بين ممارسات الاحتلال وظهور أشكال معينة من الأمراض والاضطرابات النفسية. وبالتالي سيقوم الباحث في هذه المقالة بتسليط الضوء على أهم الاضطرابات والمشاكل التي نتجت عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي معتمدا في ذلك على نتائج عدد من الدراسات التي تناولت آثار الاحتلال الإسرائيلي.
تفجير المنازل وهدمها:
يمكن القول إن ما اصطلح على تسميته اضطرابات الضغوط التالية للصدمة تنجم من معاناة الفرد وما شاهده وأدركه من منظوره كصدمة شديدة، ويترتب عليها بعد توافر عوامل أخرى، اضطراب محدد هو اضطراب الضغوط التالية للصدمة، حيث إن الخبرات الصدمية التي يواجهها الأفراد بعد كل حادث كثيرة، وتختلف تبعا لقوة الصدمة وتبعا لعمر الفرد. ويمثل مشهد تدمير المنازل بالنسبة لساكنيها صدمة كبيرة خارج نطاق الخبرة الإنسانية العادية، ويؤدي هذا فيما بعد إلى ظهور أعراض الاضطرابات السلوكية التي قد تكون في صورة قلق وتوتر دائمين أو عدوانية خاصة عند فئة الأطفال الذين تنقصهم الخبرة والتجربة.
فقد كشفت نتائج دراسة (2006Thabet & Vostanis, ) أن ما نسبته (91.6%) من الصدمات لدى الأطفال الذين كانت صدمتهم شديدة عند مشاهدة قصف البيوت من الطائرات للجيران وغيرهم. كما كشفت نتائج (2002Thabet & Vostanis, ) أن الأطفال الذين تعرضوا للقصف وهدمت بيوتهم ظهر لديهم اضطرابات ما بعد الصدمة، وتمثلت في صعوبة في التركيز بنسبة (85.3%) وصعوبة في النوم بنسبة (57.2%) وتجنب تذكر الحدث الصادم بنسبة (51.7%)، كما ظهر لديهم الخوف بصورة واضحة.
كما أظهرت نتائج دراسة (السراج وقوته(1995) المشار إليها في أبو هين (2001)) التي هدفت للبحث في تأثير هدم المنازل على الصحة النفسية للأطفال، أن المشاكل الانفعالية وتحديدا الخوف من الظلام وظاهرة قضم الأظافر والانسحاب والكآبة والخوف من المواقف الجديدة ظهر بصورة واضحة لدى الأطفال الذين فقدوا منازلهم مقارنة بعينة الأطفال الذين شاهدوا فقط عبر شرفات المنازل عملية الهدم والقصف للمنازل. اضطرابات ما بعد الصدمة
الاعتقال:
ماذا ينتج عن اقتحام المنازل أثناء عمليات الاعتقال؟ إن ما ينتج من اضطرابات ليس بأقل خطورة مما سبق الحديث عنه أثناء تدمير المنازل، خاصة وأن اقتحام المنازل يكون في الغالب أثناء الليل وفي ساعات متأخرة، بمعنى أن أفراد الأسرة كافة يكونون نياماً، وبالتالي تأتي عملية الاعتقال والاقتحام مباغتة، وهذا يؤدي إلى وجود اضطرابات مختلفة من أهمها الخوف الناتج عن عنصر المباغتة، وما انتهى إليه زعول (2007) ليس ببعيد عن ذلك فقد كشف من خلال نتائج دراسته التي هدفت إلى التعرف على درجة انتشار الاضطرابات السلوكية لدى أطفال أسر المعتقلين الفلسطينيين في محافظة بيت لحم أن أهم مظاهر الاضطرابات السلوكية تمثلت في اضطرابات الخوف، وأن كثرة الالتصاق بالأهل كانت من أكثر الفقرات انتشارا لدى هؤلاء الأطفال.
ويمكن الاستدلال بنتائج دراسة( أبو هين والسراج (1992) المشار إليها في أبو هين (2001)) التي بينت أن (89%) من الأطفال تعرضت منازلهم للمداهمات الليلية ونتج عن ذلك معدلات الخوف من الظلام لدى الأطفال، وأن (45%) من أطفال العينة تعرضوا للخبرات الشخصية العصيبة، وتحديدا تعرضوا للضرب الشخصي، وأن (55%) من الأطفال شاهدوا تعرض أحد أفراد أسرهم للضرب الشخصي أمام أعينهم بصورة نتج عنها خوف الطفل وتزايد حالات فقدان الأمن. كما بينت نتائج مغالسة (2003)أن العائلات التي أعتقل أحد أفرادها كانت أكثر تأثراً بأعراض ما بعد الصدمة من العائلات التي تعرضت بيوتها للهدم.
أيضا لا يتوقف ذلك على أفراد أسرة المعتقل فقط، لا بل فالشخص المعتقل له حديث أخر، فماذا ينتج عن الاعتقال والتعرض للضرب والإهانة؟ فقد دلت دراسة لسابا والسراج(1991) أن الذين تعرضوا للضرب أثناء الاعتقال كانوا سريعي الغضب ولا يستطيعون الانتظار وذلك لأن الانتظار كان أحد أساليب التعذيب التي استعملت ضدهم وظهرت لدى الكثير من ضحايا التعذيب مشاعر الاكتئاب كنتيجة حتمية للشعور العميق بالعجز أو الإحساس بالذنب، فكثير منهم وقّعوا على اعترافات حتى لو كانت غير صحيحة. وأثبتت هذه الدراسة أن الكثير من ضحايا التعذيب والإرهاب يحتاجون إلى العلاج النفسي بعد خروجهم من السجون والمعتقلات.
مشاهدة أحداث عنف:
إن مشاهدة عمليات القتل والتنكيل، أو مداهمة البيوت، أو اعتقال أحد الأفراد، أو تفجير منزل يؤدي إلى اضطرابات متنوعة خاصة عند الأطفال، فقد أظهرت نتائج دراسة نذر(2000) التي تعرضت للتحديات العصبية للطفولة العربية الناتجة من الحروب، أنه من خلال معايشة الأطفال ومشاهدة صور العنف المختلفة ظهر السلوك العدواني والميل إلى العنف وقد أثّر ذلك كله على صور التنشئة النفسية والتربوية.
ومعروف أن غالبية الأطفال في المجتمع الفلسطيني يشاهدون أحداث العنف إما من خلال المشاهدة مباشرة أو من خلال شاشات التلفزيون، فقد كشف كراوي (2001) من خلال نتائج العينة المستطلعة آراءهم، أن الأغلبية وبنسبة (60.0%) يشاهدون أحداث الانتفاضة عبر شاشات التلفاز. وبالتالي فإن (57.0%) من الأطفال أحيانا ما تسبب لهم مشاهد الأحداث ارتعاب، و(13.0%) يرتعبون بسبب مشاهدة هذه الأحداث، وأن الأغلبية يشعرون بالحزن والاكتئاب نتيجة هذه الأحداث.
وهذا يتفق مع نتائج دراسة حنون (2001) التي هدفت إلى التعرف على أثر مشاهدة أحداث انتفاضة الأقصى من خلال التلفاز على سلوك أطفال الفئة (12-8 سنة) من وجهة نظر الأطفال، والأمهات، وأظهرت نتائج الدراسة أن ما نسبته (77.27%) يشاهدون أحداث الانتفاضة على التلفاز، وفي ما يتعلق بالأمهات أيضا كانت النتائج متشابهة مع الأطفال حيث كانت النسبة (%63.15) وخرج بنتيجة مفادها أن هناك شبه اتفاق بين الأطفال والأمهات على أن مشاهدة أحداث الانتفاضة على التلفاز تؤثر على سلوك الأطفال حيث تبين وجود علاقة بين مشاهدة الأحداث واضطرابات السلوك.
ويتفق ذلك مع دراسة كويتية قام بها (الحمادي وآخرون (1993) والمشار إليها في الخرافي (1997)) الذين أكدوا أن (40%) من عينة الدراسة من البالغين ذكروا أنهم شاهدوا عملية قتل الزوج أو الطفل، أو الوالد، و(42%) شاهدوا عمليات عنف، بينما قرر (45%) منهم أنهم هم أنفسهم مروا بعمليات تعذيب جسدي ونفسي، ويشير الباحثون إلى أنّ جميع هؤلاء الأفراد يعانون من أعراض ما بعد الصدمة، كما أكد كل ( 2001 Thabet. Abed, Vostanis,.) من خلال دراسة قاموا بها، أن الأطفال تعرضوا للصدمات بمعدل أربع خبرات صادمة لكل طفل وهذه الصدمات جاءت كنتيجة مباشرة للعنف الممارس ضدهم, بمشاهدتهم بأعينهم أفراداً تعرضوا للعنف الإسرائيلي، كما أن حوالي ثلث الأطفال كانت لديهم ردود فعل نفسية شديدة عن الخبرات الصادمة( 34.4%).
أسر الشهداء:
هل يؤدي فقدان الأسرة لأحد أفرادها بصورة فجائية لأنواع مختلفة من الاضطرابات، خاصة لدى الزوجات والأبناء؟ هذا ما يمكن تأكيده من خلال نتائج دراسة الخرافي (1997) على المجتمع الكويتي الذي بين أن درجة الشعور بالوحدة النفسية كانت أكثر لدى أرامل الشهداء الكويتيات، يليه زوجات الأسرى، وأخيرا أرامل فقدن أزواجهن في ظل ظروف طبيعية، بمعنى أن أرامل الشهداء أكثر إحساسا بالوحدة النفسية، وهذا يرتبط بنتيجة أخرى تمثلت في أنه كلما زاد الشعور بالوحدة النفسية لدى الأرامل قل التوافق النفسي لدى أبنائهن.
وهذا يتفق مع نتائج (البدور وآخرون (1999) المشار إليها في أبو هين (2001)) التي بينت أن (50%) من بنات أسر شهداء مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، وحوالي (39%) من نسائهم، وحوالي (23%) من الأبناء، ظهرت لديهم أعراض الصدمات النفسية بصورة واضحة، وظهرت كثير في أعراض القلق والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي. كما وتبين دراسة مغالسة (2003) أن العائلات التي أستشهد أحد أفرادها أكثر تأثراً باضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة النفسية وردود الفعل مقارنة بالعائلات التي أعتقل أحد أفرادها، وأشارت النتائج أيضاً أن العائلات التي استشهد أحد أفرادها أكثر تأثراً بأعراض اضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة النفسية من العائلات التي هدمت بيوتها.
الحصار والحواجز العسكرية:
لم تكتفِ سلطات الاحتلال فقط بتدمير المنازل واقتحامها أو اغتيال من بداخلها، بل لجأت إلى سياسية الحصار الظالم على المدن والبلدات والقرى الفلسطينية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في العام (2000)، مصادرة بذلك الحق في حرية الحركة والتنقل، مما أدى إلى تعذر وصول العمال إلى أماكن عملهم في مراكز المدن الفلسطينية وكذلك الإسرائيلية، إلى جانب ذلك وبعد حملة تحريض عنصرية لم يسبق لها مثيل. حرمت إسرائيل (130)ألف عامل فلسطيني من حقهم في العمل، وذلك بمنعهم من العودة إلى أماكن عملهم في إسرائيل، إن مجمل هذه الأوضاع قد رفعت نسبة البطالة بشكل دراماتيكي فمن (9.71%) في إحصاءات الربع الثالث من العام (2000) ارتفعت نسبة البطالة إلى (39.7%) في الربع الأخير من العام (2000) وزادت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر من (28%) إلى (51.7%) ودفع (43%) من العائلات للاستدانة(الجهاز المركزي للإحصاء، 2000).
بدوره أدى ذلك إلى وجود أنواع مختلفة من الاضطرابات، فالاحتلال أوجد الحصار ونتج عن الحصار البطالة، ونتج عن البطالة تدني مستوى الدخل، ونتج عن تدني مستوى الدخل اضطرابات نفسية مختلفة، فقد كشفت نتائج دراسة الحموز (2002) عن وجود فروق في متوسطات درجة الحصار الإسرائيلي فترة انتفاضة الأقصى على أوضاع العمال في مخيم الفوار تعزى إلى معدل الدخل الشهري لصالح فئة متدني الدخل، حيث أكد من خلال ذلك على أن فئة متدني الدخل هم أكثر تأثر بالحصار الإسرائيلي، كما تبين من خلال الدراسة أيضا وجود فروق تبعا لمصدر الدخل ولصالح الفئة التي تعتمد في مصادر دخلها على أجرة العامل، مما يؤكد أن الأسرة التي كانت تعتمد على أجرة العامل فقدت مصدر رزقها الذي ليس لها بديل عنه، وبالتالي فإنها ستواجه صعوبات في توفير حاجياتها الأساسية، وهذا بالتالي سيؤدي إلى وجود اضطرابات مختلفة.
ويؤكد على ذلك ما توصل إليه كل من ( 1998 Thabet, Vostanis,.) من أن الحالة الاقتصادية المتردية لعائلة الطفل تكن سبباً في ظهور الاضطرابات لديه بشكل عام والقلق بشكل خاص. ويمكن التأكيد على ذلك أيضا من خلال نتائج دراسة المطيري (2000) التي هدفت إلى تحديد معدلات الاضطرابات السلوكية الظاهرة بين الأطفال الذين يعيشون في كنف أسرة محدودة الدخل. وكان من أبرز نتائج هذه الدراسة أن (%35) من الأطفال الذين يعيشون في أسر محدودة الدخل يعانون من اضطرابات سلوكية ظاهرة عند مستويات إكلينيكية.
والحواجز العسكرية هي الصورة الأخرى المكملة للحصار، حيث قطّعت أوصال الوطن وجزأت كل جزء فيه إلى أجزاء متفرقة رغم وحدة الدم الفلسطيني الواحد، مما خلق العديد من الأزمات التي طالت الصغير والكبير، والطالب والمعلم، فقد كشفت نتائج دراسة عبد الله والعسيلي (2005) أن أبرز الأزمات التي تعاني منها جامعة القدس المفتوحة أثناء انتفاضة الأقصى هي الأزمات السياسية والنفسية بالدرجة الأولى، ثم الأزمات الاقتصادية فالإدارية، وهي مرتبة تنازليا على النحو التالي: الضغوطات النفسية الناجمة عن الاحتلال كالقلق والإحباط والملل، والحواجز المتسببة في صعوبة الوصول إلى مراكز الجامعة، والحصار المقطّع لأوصال الوطن والمتسبب في انقطاع الاتصال بين مراكز الجامعة، وفقدان الطالب الإحساس بالأمن الذاتي.
التواجد بالقرب من الأحدث:
هل السكن بالقرب من المناطق الساخنة، أو التواجد الدائم بالقرب من أماكن الأحداث له علاقة بالاضطرابات النفسية؟ هذا ما أكدته دراسة سعادة وأبو زيادة وزامل (2002) من خلال وجود فروق في التعرف إلى المشكلات السلوكية تعزى لمتغير موقع المدرسة من أحداث الانتفاضة لصالح المدارس القريبة والمتوسطة القرب من أحداث الانتفاضة. كما أكد (Baker,1990) أن الأطفال الذين يعيشون في المناطق المحتلة يواجهون مشاكل نفسية تمثلت في ارتفاع نسبة الضغط النفسي ودرجة الخوف لديهم. وأيضا كشفت سعادة (2006) أن هناك فروقاً في أعراض ما بعد الصدمة تبعا لموقع المدرسة من أحداث الانتفاضة ولصالح المدارس القريبة. وأيضا يمكن الاستدلال على ذلك من خلال دراسة الشريف(1990) التي سعت للمقارنة بين الشباب الفلسطيني المقيم في قطاع غزة ومصر، حيث تبين أن الشباب الفلسطيني المقيم في قطاع غزة أكثر قلقا، كما تبين وجود علاقة بين العدوان والقلق.
منع التجول:
هل ينتج عن منع التجول اضطرابات نفسية؟ هذا ما يمكن تأكيده أيضا من خلال دراسة (قوته (1993) المشار إليها في أبو هين (2001)) الهادفة لمعرفة تأثير منع التجول على الأطفال الفلسطينيين، وبينت النتائج أن حوالي (66%) من الأطفال ظهرت لديهم مشاكل التناحر والتقاتل والعدوانية تجاه بعضهم البعض، وأن حوالي (55%) من الأطفال أظهروا خوفا من المواقف الجديدة. وأن حوالي (54%) من الأطفال ظهرت عليهم العدوانية والعنف، كما دلت دراسة أجراها كل من (السراج وسابا، 1991) على مجموعة من الأطفال الفلسطينيين بقطاع غزة على أن حالات منع التجول أدت إلى كثير من المشكلات الاجتماعية للسكان الفلسطينيين حيث أثرت على الطفل الفلسطيني وحرمانه من أبسط حقوقه الإنسانية في اللعب، والتمتع مع الرفاق خارج المنزل، وكانت نتيجة منع التجول المستمر لمدة أسابيع وأشهر، أن (60%) من الأطفال الفلسطينيين شديدو التوترّ، وكثيرو الحركة، وعديمو الاستقرار، وأن (26%) منهم يثورون لأتفه الأسباب، وأن (17%) يخافون من الظلام، و(33%) يخافون من الجيش.
التعرّض للعنف مباشرة:
ماذا يمكن أن ينتج عن التعرّض المباشر للعنف من قبل جنود الاحتلال؟ في دراسة قامت بها (1996، katleen ) أظهرت وجود علاقة مرتفعة بين العنف والمشكلات السلوكية لدى الأطفال، وكانت هذه المشكلات لدى الذكور أعلى منها عند الإناث، وكذلك تبين أن الذكور كانوا أكثر عرضة للمواجهة والمشاركة في فعاليات الانتفاضة من الإناث. وهذا ما خرجت به دراسة الحموز (2006) التي بينت أن هناك أثرًا للجنس في انتشار القلق سمةً لدى عينة الدراسة ولصالح الذكور، وكان أكثر الفقرات انتشارا (القلق من حدوث الكوارث والمخاطر) رغم أن العديد من الدراسات العربية والأجنبية أكدت أن الإناث أكثر قلقا وأكثر إظهارا للمخاوف من الذكور، وإن تميز هذه النتيجة عن باقي النتائج الأخرى يأتي بطبيعة الحال من تميز المجتمع الفلسطيني عن المجتمعات الأخرى بوجود الاحتلال الإسرائيلي.
ما يؤكده (البدور(1994) المشار إليها في أبو هين (2001)) من خلال دراسته التي اهتمت بمعرفة درجة التعرض للعنف على المشاكل النفسية والانفعالية وتقدير الذات لدى الفتيان من بيئات مختلفة (عرب بدو بئر السبع الفلسطينيين، وأطفال من قطاع غزة، وأطفال يهود)، إن أقل درجات القلق والتوتر وجدت لدى الأطفال اليهود بسبب قلة تعرضهم لمصادر العنف في بيئتهم، ثم جاء بعدهم عرب بئر السبع، بينما كان أطفال غزة أكثر درجات القلق والتوتر. وأتفق بذلك مع الدراسة التي قام بها فريق بحث عالمي مكون منMiller , Ei-masri , Allodi, Qouta , 1999) ) الذين بيّنوا أن حجم المعاناة بعد الصدمة، وظهور الاضطرابات السلوكية والعاطفية لدى الأطفال من سن (6-16) كانت أكبر وبنسبة أعلى من حيث التراكمات في السلوك العامة للأطفال الفلسطينيين إذا ما قورنت بأطفال الشعوب الأخرى الذين لا يعانون من ويلات الحروب، ولا يوجد بها صراعات أو مناطق مشابهة تقع تحت احتلال.
ومن خلال ما تقدم يستنتج الباحث أن هناك علاقة قوية بين وجود الاحتلال الإسرائيلي واضطراب الصحة النفسية لدى الأفراد في المجتمع الفلسطيني، فقد نتج عن هدم البيوت اضطرابات ما بعد الصدمة ومشاكل انفعالية مختلفة. ونتج عن اقتحام البيوت أثناء الاعتقال اضطرابات ما بعد الصدمة ومشكلة الخوف بصورة واضحة. ونتج عن الاعتقال سرعة الغضب والشعور العميق بالعجز والإحساس بالذنب. وبسبب مشاهدة أحداث العنف فان غالبية الأطفال يرتعبون، وأن الأغلبية يشعرون بالحزن والاكتئاب نتيجة هذه الأحداث. وتؤدي هذه الأحداث إلى اضطرابات السلوك وأعراض ما بعد الصدمة، كما ظهرت أعراض القلق والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي والإحساس بالوحدة النفسية والمعاناة من اضطرابات إجهاد ما بعد الصدمة النفسية في الأسرة التي فقدت شهيداً.
كذاك ظهور الاضطرابات بشكل عام والقلق بشكل خاص نتيجة للحالة الاقتصادية المتردية، وعدد من الاضطرابات السلوكية. ونتيجة للحواجز العسكرية برز القلق والإحباط والملل، كما أن التواجد بالقرب من الأحداث يؤدي إلى أن يكون الفرد أكثر قلقا، ويعاني من أعراض ما بعد الصدمة. كما أنه نتج عن منع التجول مشاكل التناحر والتقاتل والعدوانية والخوف من المواقف الجديدة والتوتر، وكثرة الحركة، والغضب والخوف من الظلام والجيش. أيضا تبين أن الذكور أكثر تعرضا للاضطرابات النفسية من الإناث نتيجة التعرض المباشر للعنف، حيث أدى هذا إلى ظهور القلق والتوتر والاضطرابات السلوكية والعاطفية عندهم بصورة واضحة.
وفي ضوء ما تم ذكره فإن الباحث يوصي بضرورة العمل على نشر هذه النتائج التي تظهر جريمة من جرائم الاحتلال الإسرائيلي. وكذلك تفعيل المؤسسات الحقوقية والاجتماعية والإنسانية، والعمل على تضافر الجهود بين التربويين والنفسيين والمسؤولين، والاهتمام بالخدمات النفسية للتدخل والبدء بإيجاد الحلول المناسبة، للتخفيف من حدة هذه الاضطرابات لدى المواطنين الفلسطينيين، كما أنه لابد من العمل على إنشاء مراكز توعية نفسية أسرية، تهدف إلى تقديم الإرشاد النفسي والأسري، وبث الوعي بين الآباء عن مخاطر الاضطرابات النفسية، وذلك لدور الأسرة في بناء شخصية الفرد وقدرتها على تنمية مفاهيم الصحة النفسية. خاصة وأن الأسرة يجب أن تكون الصدر الحنون لهم وأَن تقبل شكواهم وأَن تمنحهم مزيدا من الشعور بالأمان والحماية والحب. للتخفيف مما يعانونه من اضطرابات.
المراجع العربية
• أبو الرب، محمود.(2005): "الآثار الاقتصادية والاجتماعية المباشرة للجدار العنصري الفاصل على الشعب العربي الفلسطيني". مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، عدد (5)، ص ص 257- 289.
• أبو هين، فضل خالد.(2001):"المشاركة في فعاليات الانتفاضة وعلاقتها بالمشكلات النفسية والانفعالية للاطفال- تدافع الأطفال نحو الاستشهاد وعلاقته ببعض المتغيرات"، مجلة جامعة الأقصى، (5)، (2)، ص ص 132- 280.
• الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.(2000): مسح القوى العاملة في الأراضي الفلسطينية، رام الله، فلسطين.
• الحموز، عايد محمد.(2006): الأفكار اللاعقلانية وعلاقتها بالقلق لدى طلبة جامعات الضفة الغربية في فلسطين، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• الحموز، عايد محمد.(2002): أثر الحصار الإسرائيلي فترة انتفاضة الأقصى على أوضاع العمال في مخيم الفوار.جامعة القدس المفتوحة. فلسطين(مشروع تخرج غير منشور).
• حنون، رسمية سعيد.(2001): "دور بعض المتغيرات الديموغرافية المرتبطة بمشاهدة الأطفال الفلسطينيين في العمر من (12-8) بأحداث انتفاضة الأقصى على شاشة التلفاز في تغير سلوكهم". دراسات نفسية، 2))، (11)، ص ص 193-169.
• الخرافي، نوريه مشاري.(1997): "مستوى الشعور بالوحدة النفسية لدى زوجات فقدن أزواجهن في ظل ظروف طبيعية وغير طبيعية وأثرها على التوافق الشخصي والاجتماعي لأطفالهن"، مستقبل التربية العربية،(3)، (12)، ص ص 9 -31.
• رضوان، سامر جميل.(2002): الصحة النفسية، الطبعة الأولى. دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان.
• زعول، لؤي زيدان.(2007): الاضطرابات السلوكية لدى أطفال أسر المعتقلين الفلسطينيين في محافظة بيت لحم، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• سابا، رغدة، والسراج ، إياد.(1991): "طرق التعذيب وآثاره النفسية"، جمعية فلسطين الدولية للصحة النفسية، برنامج غزة للصحة النفسية. ص ص 4 - 5.
• السراج، إياد، وسابا، رغدة.(1991): "واقع الطفل الفلسطيني في ظل الانتفاضة". جمعية فلسطين الدولية للصحة النفسية، برنامج غزة للصحة النفسية. ص ص 11-.16.
• سعادة، جودة احمد، وأبو زيادة، إسماعيل جابر، وزامل، مجدي علي. (2002):" المشكلات السلوكية لدى الأطفال الفلسطينيين في المرحلة الأساسية الدنيا بمحافظة نابلس خلال انتفاضة الأقصى كما يراها المعلمون وعلاقتها ببعض المتغيرات". مجلة جامعة النجاح للأبحاث، ع(2)، ص ص 590-546 .
• سعادة، وفاء.( 2006 ) الاضطرابات الناتجة عن ضغوط التجارب الصادمة لدى الطلبة الجامعيين في محافظة رام الله والبيرة وأساليب تكيفهم، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• الشريف، محمد يوسف.(1990): مظاهر العدوان ومستوى القلق لدى الشباب الفلسطيني في قطاع غزة بالأرض المحتلة والشباب الفلسطيني المقيم بجمهورية مصر العربية، جامعة الزقازيق، مصر.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• عبد الله، تيسير، والعسيلي، رجاء.(2005):" قلق الأزمات التي تعاني منها جامعة القدس المفتوحة أثناء انتفاضة الأقصى". مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد الخامس، ربيع أول ، ص ص 9- 54.
• علي، صبره محمد، شريت، أشرف محمد.(2004): الصحة النفسية والتوافق النفسي. دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، مصر.
• عيسوي، عبد الرحمن.(2002): الأمراض النفسية وعلاجها. دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، مصر.
• كراوي، دانا. (2001): اثر انتفاضة الأقصى على الطفل الفلسطيني – الجانب النفسي السلوكي، جامعة بيت لحم، فلسطين. (مشروع تخرج غير منشور).
• مغالسة، جميلة. (2003): اضطرابات ما بعد الصدمة المتعلقة بالشهادة أو السجن، وهدم البيوت في محافظة بيت لحم، جامعة القدس، فلسطين.(رسالة ماجستير غير منشورة).
• المطيري، حامد نهار. (2000): "الاضطرابات السلوكية لدى أطفال الأسر الكويتية محدودة الدخل". مجلة العلوم الاجتماعية، ((3، (28)، ص ص 88 - 64.
• نذر، فاطمة.(2000): "الحروب واضطرابات السلوك عند الأطفال وكيفية التعامل مع الأزمات"، المجلة التربوية، (14)، (54)، ص ص 141- 168.
المراجع الاجنبية:
- Baker , A .(1990):''The Psychological impact of the Intefada on Palestinian children in the West Bank and Gaza Strip; An exploratory Study''. American Journal of Orthopsychiatry (60), pp 496 – 505.
- Katleen, k. (1996) :" The effect of political violence on Palestinian children's behavior problems : A risk accumulation model. Child development. Vol. (67), No. (1), pp. 33-45
- Thabet , A., Vostanis, p.(2002):" Emotional problems among Palestinian children living in a War Zone". The Lancet. (359), pp 1801 – 1804.
- Thabet , A., Vostanis, p.(2001): "Epidemiology of psychiatric disorders in the Gaza Strip ". Eastern Mediterranean Public Health Journal. (7), pp403- 412.
- Thabet , A., Vostanis, p.(1998):"Social adversities and anxiety disorders in the Gaza Strip". Archives of Disease in Childhood, (78), pp 439 – 442.
- Thabet , A., Vostanis, p.(2006):" Trauma exposure in preschool children in a war zone". British psychiatric journal. 188, p. 154-158.