سلسلة شعراء
الخليج والجزيرة العربية
خالد الخنين
المتصفح لديوان الشعر العربي المعاصر في المملكة العربية السعودية يدرك تمام الإدراك الهوة الواسعة بين ما قيل في مطلع القرن العشرين ونهايته بل يلمس طرق التفكير والتعبير وقد اختلفتا بحيث بدت صورة الشاعر مختلفة تماما من شاعر ( مداحه نواحه ) إلى شاعر يتحدث عن أدق التفصيلات والشاعر التي تعترضه إلى شاعر يتحدث عن أرضه ووطنه وعشقه وحبه واغترابه وغربته وكفاحه في سبيل تثبيت أقدامه على واقع مر علقمي يتجرع فيه الإنسان كؤوس الانفصام عن الواقع وبروز القصيدة ( الحلم )حلم الطفولة هربا من الواقع المردي وارتماء في أحضان الأمل حتى إنك ترى الشاعر السعودي المعاصر شاعرا مغتربا عن واقعه وإن كان منتميا إلى وطنه وأرضه معاندا أحيانا ومخذولا أحيانا أخرى ولكنه يبقى مصرا على تجاوز واقعه النفسي والاجتماعي خاصة وأن مشاكل الحياة الجديدة قد تناهبته واقتسمت همومه وحولته غيمة من الصمت تبحث عن واحة خضراء تستريح على ضفافها ولست أشك ولو للحظة واحدة أن الواقع المردي الذي ظهرت بصمات أصابعه على الكثير من قصائد الشعر قد رسم معالمه من خلال لوحتين مشرقتين :
الأولى تتمثل في صورة المرأة والثانية في صورة الحديث عن الذكريات التي يحملها الشاعر ويسفحها على راحة نصوصه الشعرية وشاعرنا خالد الحنين من خلال نصه ( الدم ) يتحدث عن نقطة الذكريات التي حملها معه من تلك البقعة إلى دمشق حين طار بجناحي الشعر حاملا هموم الغربة التي تبقى في أعين الشعراء كالتقلب على أحر من الجمر فبدت ( الدم ( حكاية تدور على شفاهه بصمت
ألقى على شفتيها بوحة ومضى
إلا حكاياه ترويها حكاياها
ورسم صورتها على مساحة روحه المصعوقة يفعل الحنين والحب الجذاب للقاتل وفي مقلة الحلم المفتون وعلى أعتاب الذكريات سفح الشاعر خالد بن محمد الحنين قصيدته أو مهد صباه ومرابع أحلامه ( الدم ) ورسم صورة لمسقط رأسه حيث الطفولة والحلم والأمل المتلألئ كحبات الجمان وفي أحياء العصور وفي شوارعها وبن أزقتها وخلف بيوتها حيث السكون السديمي تقافزت طفولة الشاعر وتراقصت آماله وانتصب حلمه كزوبعة بيضاء في وهج الصحراء القاحلة وبدت هيمنة المجد على عمق روحه ترسم آفاقها بحثا عن الحب والجمال والدماثة والمتنقل بين أمواج الصحراء النجدية وتتعاقل رمالها يدرك ما للارتباط بعمق الصحراء من أثر على النفس والروح ذلك بأن هذه الصحراء ليست إلا مجرا من الصمت الصاخب بالحزن والاقظ للأحلام والواعد بعطاء مكنون وشاعرنا خالد الحنين من خلال حدائه الصحراوي يبرز لنا ( كإنسان ) سمقته حرارة الصحراء في أتونها وعلمته الصبر والصمت والتشوق .
ولسانها بصدد وصف الشاعر بقدر ما نحن بصدد استبار عمق روحه وأثر الغربة في نفسه وما خلفته تلك الديار ( مرابع صباه في شخصيته التي تحولت إلى روح معمقة ومفعمة بالحزن والألم والبحث عن التغيير من خلال ما لقيه هذا الشاعر من قضايا وأحداث تركت بصماتها على روحه المصعوقة بفعل الحب والعطاء .
إذ أن الشاعر منذ مطلع نصه واستعماله كلمة ( هناك )
(( هناك في فلك ناء جناحها سمراء فوق غمام الصبح تلقاها ))
يشعرنا بأنه يحيا بعمق إحساسه وبكل جوارحه تلك الذكريات التي أضحت طائرا يرفرف بجوانحه فوق صبح غائم يتلقاك بالندى والمطر
وأنه مازال يرتبط بها ارتباطا وثيقا لا يمكن أن تفصل عراه مهما طال الفراق وبعدت المسافة ذلك أنه ومن خلال نصه يرسم بريشة الفنان المعجب يرسم صورة محبوبته أو قل صورة يلده ومسقط رأسه ويضفي عليها أسرار الجمال الإلهي الواعد فبدت امرأة جميلة ساحرة فاتنة تختال تيها وكبرا وسموا
(( ألقت إلى ملكوت الله حببتها والكبر عبر ذرا هذا المدى تاها
(( مهد الأحبة في أرجائها درجوا فكم سقتنا من الأحلام أنداها ))
إنها مدارج أحلام وموعد صبا وطفولة وندى وحب الشاعر حين يتحدث عن ذكرياته إنما يتحدث برومنسية العاشق ولغة المحب الوامق وبهمسة المتعلق بعشقه ووطنه
(( هذي هي الدلم الشماء أي صبا هذا وأي جمال في صباياها ))
(( حور عبرن وسرن في حمام قطا والرائحات نجوم في ثناياها ))
(( هذي المليحة ما سر الجمال بها وكيف يفتننا عشقيا محياها ))
ولو رحنا نستعرض في القصائد التي يتحدث فيها الشعراء عن مساقط رؤوسهم ومواطنهم ولادتهم للمسنا بحق أن شاعرنا خالد يخرج عن الإطار العام لتشبيه مواطن الرأس بمسوح الجمال وخاصة حين يصف هذا الشاعر سحر الجمال في صبايا بلدته
(( سبحان مبدعا حسنا وخالقها ألق بها الروح في لطف وسواها ))
(( مرت بنا في الحلم طائفها فما يقول وما ترويه عيناها ))
(( ما مر فارس عشق ها هنا أبدا إلا تمنى على الأيام لقياها ))
(( هي الملاحم والرايات خافقة وعند ذروتها تمدو سراياها ))
إنها صورة البلدة المتمثلة عند الشاعر بصورة امرأة وفارس عشق لتدل على تعلق الشاعر ببلده تعلقا شديدا إلى درجة العشق أو ملحمة العشق
ويبدو أن شاعرنا حين اختار موضوعه هذا ( التعلق بمسقط الرأس ) اختار له الشكل العمودي القائم على الشطرين وهو شكل يدل على المعمارى التي يختار فيها الشاعر أحجار بنائه من الألفاظ المنتقاة المصانة المنحوتة نحتا بارعا لأنها في مواقفها إنما تتمثل كل ما أورده الشاعر من معاني تمثل بلدته المحبوبة ( مقلة الحلم – فارس عشق – ظمأ مشتاق – ارتعشت ) كما وأنه حين بنى نصه كانت القوافي لديه كأحجار الزاوية عل حد حقول الناقد ( مارون عبود ) إذ أن قافية النص بدت من خلال استخدام الهاء المشبعة فتمتها ألفا ومد الصوت من خلالها يدل دلالة عميقة على انطلاق روح الشاعر في الفضاء بحثا عن حبه ( مسقط رأسه ) إنها الأنفاس التي تحل روح الشاعر ووجدانه كما وأن استخدام الشاعر للصور بمختلف أشكالها والتشبيه + المجاز + الاستعارة + الكناية يدل دلالة حقيقية على مدى عمق خياله في تصور شوقه وعشقه لبلده ( مقلة الحلم المفتون ) ( تربني شهدا خلاياها ) ( جن قلبي )
( العبق الخافي )( سقنا من الأحلام أنداها ) ( هذه هي الدلم الشماء أي صبا ) وهذا يعني أن شاعرنا من خلال نصه استطاع أن يرسم صورة معاناته بالشكل الموروث المتشوع لاستيعاب الذهنية الشعرية المعاصرة الحديثة بحذر وتأني وكأنني باشاعر برومانسيته إنما يئكد فطرة الإنسان تجاه مسق رأسه ومكتن ولادته
سوريا – درعا
4 / 1 / 2000 م
سلسلة دراسة أدب الخليج العربي
ناصر جبران
حين تصبح الأمة كومة من رماد ويتحول التاريخ الى عود مثقوب يذر رماد الأمة وحين تتحول العواصم البكر الى نساء تفقد بكارتها لأول طارق يصبح على عاتق الشعراء والأدباء و المخلصين والمدافعين عن هذه الأمة مسؤوليات جسام تتمثل في نشر الوعي وتأطيره وتجسبده ضمن قنوات صحيحة تسلكها عناصر الأمة من أجل الوصول إلى شاطئ الحب والخير والسلام.
وحين تتحول الجراح جراح الأمة إلى مستنقعات من البؤس و المرارة يلوكها الأبناء والأحفاد يتحول الفكر إلى دوامة تطيح بأبناء الأمة في بئر عميقة القرار .
والتاريخ العربي منذ فجره الأول لم تمر عليه مرحلة كما هي الآن خاصة وأن الإنسان تحول فيها إلى شبه زواحف لا تستطيع أن تواكب ركب الحضارة أو أن تمضي قدما نحو المستقبل الواعد
والشاعر / ناصر جبران / واحد من الذين تسلموا جراح الأمة وصافحوا ماضيها المشرق وبكوا على حاضرها الذي يبدو قصيدة تعزف على أوتار الحزن من خلال نصه /ماذا لو تركوا الخيل تمضي /.
والمتصفح لهذا النص يدرك منذ البداية أن استفهام الشاعر الذي جاء على شكل تمني وارتباطه بالماضي المشرق ليس إلا صيحة من عمق الوجدان العربي الحاضر الذي أصبح هذه الأيام في خبر كان أو المتعلق بالظرف الدولي الجديد الذي بسط أذرعه الأخطبوطية على هذه الروح العربية وجعلها تلفظ آخر أنفاسها بكاء على التشرذم والتشتت والتشظي الذي تحول إلى ألبوم صور يحتوي على أكثر من اثنتين وعشرين يبحث فيها الشاعر عن اسمه فلا يجده.
(( أدخل ذاكرتي
أبحث عن اسمي......عني
عني يبحث عني
ويطول الدرب
وتمضي راحلتي
تتعرج مثل وريد القلب ))
إنه يفتش عن انتمائه كما وريد الدماء يبحث عن القلب فأين هو القلب ؟ وأين نحن منها إن كل واحد منا يبدو كالمسلول الذي يقلب صفحات التاريخ وهو ضائع لا يدري أين هو وما عبارة الشاعر ( عن يبحث ) إلا تعبيرا عن هذا الضياع هذا التشرد وهذا النكوص القاتل
لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم ))
ودلل لنا عل ان الطريقة التي بها استطعنا أن نملك الكون هي التي تستطيع أن يعيدنا إلى ما كنا عليه والبداوة الأولى التي ألمح إليها الشاعر في نصه هي النعت مع العقيدة فكونت تلك الأمة التي كتبت صفحات التاريخ بحبر من نور وإن كان البعض يسخر منها ( أقصد البداوة )
( قالوا عنا بدو
لا نحسن غير الطعن
وخيام نسكنها أشباح الصحراء
وقراصنة البحر )
ولكنم لم يدركوا أن نبي الفقراء كما قال الشاعر قد حول أرض الشام برمتها إلى واحة من نور وإن كان أبناء هذه الواحة مهدوري الدم من قبل أعدائهم
(( كأن نبي الفقراء
يذرع أرض الشام برمتها
مهدور دمه من قحطان إلى عدنان ))
إن صراع الحق و الباطل صراع الموت والحياة صراع الوجود و اللا وجود
لقد بكى العرب دموع راعفة على ضياع الأندلس وبكت جنوبهم أرقا على استلاب فلسطين ولنهم اليوم ستصعق أرواحهم بفتيل الموت إن لم يدركوا ما أعد لهم في هذه الألفية الثالثة
وما زرع في أرضهم من ألغام فكرية واقتصادية غايتها القضاء على آخر بدوي في أحضان الصحراء
(( ورحلت
أطوي مسافات البعد
أجز النفس للأعماق
أتحسس قاع الذات
أعيش الرهبة في البرهة
أستنطق أجوبة
أنهكتني هذا الميت....أضناني
وشعرت
دبيب الحمى تأكل أعضائي
فأنا منحور من وسطي))
حقا لقد أنهكنا هذا الميت الذي يدعونه جسد العروبة في زمن لم تعد تتجمع فيه إلا رايات الصعاليك البدو والمنسيين سهوا من قائمة زكاة الفطر
إننا أمام مواجهة عنيفة تحاول سبر أغوار المجهول كما يقول الشاعر أمام بحث مضني عن الذات العربية وكأننا في حمئة معركة طاحنة يحاول أعدائنا فيها أن يلغوا وجودنا وأن ينسفوه من جذوره وكأنني بالشاعر حين أدرك هذه الحقيقة إنما أغترفها من مشكاة النبوة مشكاة محمد حين قال (( ويل للعرب من شر قد اقترب )) وأنه قد شخص لنا العودة الأولى إلى الجذور إلى الماضي إلى // ماذا لو تركوا الخيل تمضي //
((حسنا سأتمسك
مثل الطفل
أغسل درني من غير حياء
فالزخة فوق الزخة
تصيح مجرى
والمجرى فوق المجرى
يولد سيلا
والسيل فوق السيل
يصنع نهرا
والنهر يهيج
حين يسود الظلم ))
إنه الموت المحيي الذي يبعث في الأمة الروح من جديد ويجعلها تمضي إلى مستقبلها الواعد المشرق إنه ينتظر كل الإشراقات الطيبة التي توصله عبر بوصلة الحلم إلى نقطة الارتكاز الأولى حيث تعود راية الحق والمحبة والعدل
(( عيني تسبر أغوار المجهول
في رشرشة الضوء
كل الاشراقات الطيبة ))
منصور الجهني
إذا تحققت مقولة الأديب الانكليزي كينى /الشعر معدنه الألم / فإن البحث عن عمق الروح و رقة المشاعر ورهافة الاحساس ودقة التفكير يتطلب من القارئ المتفحص أن يملك مفاتيح سحرية خاصة للتعامل مع قلة الشعر عند شاعر كمنصور الجهني
وإذا تحققت مقولة الشاعر الانكليزي ( الشعراء هم مشرعو العالم غير المعترف بهم ) فإن الخلوص إلى نتائج واقعية في الشعر تحتاج عند شاعر كمنصور للصعود إلى آفاق الشعر امتلاك بساط ريح مشرع الآفاق إذ أن موهبة كموهبة منصور ذات أبعاد موشورية تستطيع أن تريك قوس قزح الحياة بشكل دقيق فالشاعر امتلاك واستلاب للسلطة الزمنية التي تعيد للروح صفاءها وتخلق من الصمت حركة الحياة
والشيئ المذهل في موهبة هذا الشاعر الصامت المتكلم هدوء العاطفة وثورة السكون
وحديث الصمت الذي تراه منطبقا على جبهة الشاعر العبقرية انطباعا صحراويا قد يبدو لك للوهلة الأولى أنك تقرأ شاعرا محبطا يعيش بلا حركة ولكنك حين تدخل إلى أعماقه تدرك مدى هذه الحركة الفاعلة في واقع يشكو من الألم والحزن والنكبات
( منذ كم ترسم نافذة
وتمحوها ليلا
وتدخل في بهيمة الظل
منذ كم تقيم أعراس الماء هنا
وحدك
وتشتعل
تدخل في ايقاع صمت الأشياء
وضجيج الفخار المبتل )
إنه بريشة الفنان يرسم لنا ما تحدثه ايقاعات الطين وأي طين هذا إنه الإنسان هذا المخلوق المعذب المعذب وكيف به وهو يمزج رمل الأصابع بوجه امرأة نسي ملامحها كيف يكبر الشعر ويصبح ذو وجه مشرق ووعد حقيقي تلك مسألة الصدق والصدق الفني الذي يمتلكه الشاعر ومنصور يظهر لك مشتعلا وهو في قع انطفائه
( هو البحر ..... قاب قوسين من شجر الروح
حلم دمي
أول الأسماء في ذاكرتي
وآخر الجروح )
إذا نحن أمام تفتح أزاهير الروح وإشراقات شمس الحياة عندما نواجه ألد أعداء الصمت بأسلحة المحبة والصدق والخير
وحين قتلوا المغني / أورقت وردة الصدى /
على شفتيه / فتساءلوا / كيف عاد صوته إليه
إنه بكاء الشعراء على عصر الضياع الذي نعيشه جهل من قضية الاغتراب داخل الروح المحور الشعري الأجدى والنافع عند شاعر كمنصور بلهيب الشوق وأحرقته ( نار البعثية اللعينة ) التي سرت عدواها من الفلاسفة والمفكرين إلى كل فرد في هذا المجتمع مما جعلتها تغدو بشاعرنا نحو الموت المحيي والصمت المتكلم والحركة الساكنة وإن لوحة مجموعته ((فنيل أن )) التي تتصدر غلاف المجموعة لتدل دلالة قاطعة على ما قلت ( بحر وساحل ومجموعة كراسي فارغو وامرأة تنمو على هذا الساحل كشجرة هجرتها أوراقها // هناك في مساحة الضوء الأخيرة / تتناثر كراسي خالية فوق رصيف مهجور /وظل امرأة / وقفت وحيدة / في موجهة البحر )
إن تجربة شاعر كمنصور في مجموعة هذه لتدل دلالة عميقة على وعي فكري وأدبي فائض رسم الحياة حلما واقعيا
(( وحين تأتين /ألم من عراء الصمت / أشلاء الغيم قطعة قطعة /
وأرسم خارطة للمستحيل / أعبرها ألف مرة / وأرسم نافذة وصهيل ))
إذن شاعرنا يرسم ما يرسمه من واقع رديء على تضاريس الموت والحلم يمنح القصيدة بعدا قمريا كامل الإستدارة وتتقتح على يديه من اشتباك الأصابع وردة النار قبل أن تستيقظ في دمه خيل المسلفة
وهكذا فإن شاعرنا تجسد ما يراه من قضايا حياتية مقززة إلى شعر محمول على أجنحة الموت ويجد دمه خلاله ضرورة الخروج بالعمر إلى فضاء شمسي مشرق لا عاتمة فيه ولا ظلمة
(( لأن أصابعكم عمياء / رسمتم خارطة العتمة
لأنكم تأتون بعد فوات الأوان / بعد انتهاء الربع الأخير من الحفلة /
بعد أن تترمد الأغاني / وتصبح الأواني فارغة /
لأنكم هكذا /
فإنني لم أجد سوى ظلالكم / تحاصر شجرا يابسا ))
لقد قتلت أغنيات الطلح وأناشيد الشيح والقيصوم وبرودة حالة عمار وغيوم الصحراء الملتهبة شوقا روح الشاعر وجعلته يسرعه الماء مرا والخيل عطا شما والهواجس رملية المفازات جميعا أحمر تحترق على أعرافه لوجه الحياة الحقيقية وترحل عنه هواجس الشعراء وتبكيه رؤى الأرامل الشابة
(( ماء مر وخيول عطاش
مساء يضيء خطى الأرض مملكته
بح صوت المغني وما من خير
أيها الليل ماذا تبقى من
وهج الأغنية
وماذا تركت الليمات فوق بقايا الطلول سوى بشمة ذابلة وحطام مرايا ))
وثمة أصوات و ضجيج للكراسي يهمس في أذن الصمت وتقتبل الأصوات الصافية وستحمل للشمال الذي يسكنه روح الشاعر تبارح الشوق وهم الحرمان وتجعل نسائم الشمائل القاتلة تحرك أوراق الخريف الساقطة باتجاه العمق بحيث يبدو الشاعر منغمسا في رمال المحترقين والاحتراق
(( ضجيج الكراسي كأشجار خرافية لكن وجوه الموتى لن تورق في غباب الموائد
أيتها الحالة المنسية ))
وأخيرا نقول مع الشاعر :
(( لو عسبة فوق جدار القلب / لو قطرة ماء تشق جدران الصدى وتسيل/ .... لو أخرج بين صمتي إلى يقين اللغة ومنك إلي / لو أصعد درجة / ليفتح العراء لدمي أبوابه ويمنحني مفاتيح السر ))
نقول ذلك مع الشاعر لأنه ما يزال يرسم بريشة العصفور كل أغنيات الموت والحياة والروح والتنفس والنار والثلج والحر والقمر والصعود والنزول والعروج و المروج ويصعد بنا إلى المعري وصبابة الخيام وغيبوبة ابن الرومي وطموح المتنبي
إن فجائعية منصور الجهني الاجتماعية التي تبدو فهما حقيقيا وراعيا لحركة الحياة الصاعدة باتجاه الأسفل جعله شاعر البرهة الحزينة ومغني الصمت القاتل وموقد النار الهاجعة من أجل الرقي باتجاه الأسفل
لقد قتلت غيلان الضوغائية الكثير من الشعراء وجعلتهم بائعي حلوى أمام سرير الموت الحديدي أو خلف جداره الهاجع ولكن منصور بقي رافعا صوته مغنيا أغنيات الحنين والشوق راقصا كالديك المذبوح احتجاجا على انفلات العلاقات الاجتماعية القاتلة
سراييغوا تقول لكم ..!
صرخة ألم من بلاد البوشناق
{{البوسنة والهر سل}} إلى كل
الناطقين بشهادة (( لا إله إلا اله ))
شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي الرياض
نناديكم وقد كثـر النحيبُ نناديكم ولكن من يجيبُ؟
تعثرت الخطى ، حتّى رأينا خُطانا لا تهشُّ لها الدروب
نناديكم وآهاتُ الثكالى تحدثكم بما اقترف الصَّايبُ
{اسراييغو} تقولُ لكم: ثيابي ممزقةٌ، وجدراني ثقــــــوبُ
محاربي تئنُّ وقد تهــــــــاوى على أركانها القصفُ الرَّهيبُ
وأوردتي تُقطّــــــــعُ لا لأني جنيتُ ولا لأني لا أتــــــــــوبُ
ولكنني رفعتُ شعاَ دينٍ يضيقُ بصدق مبدئه الكذوب
لأني لا أجامل أو أحابي ولا أرضى بصدق مبدئه الكذوبُ
لهذا أمزّق الأعداء ثوبي وبين يديَّ أشعلتُ الحروب
لكم يا إخوتي أكلُ وشرب وأكسيةٌ لها نسيجٌ عجيبُ
لكم دارٌ مشيّدةٌ وظلّ يظلّكم بهِ غصنَ رطيب
لدى أطفالكم تعب وحلوى وعندَ نسائكم ذهب وطيبُ
وا نحسدكم أبداً ولكن نقول أما لإخوتكم نصيبُ
نذير الحرب في أرضي نذير لكم فالليل منشؤه الغروب
وجَدْبُ الأرض يسبقه احتباس وعصف الريح يسبقه الهبوب
لنا في أرضنا نهر وماء وروض في مرابعنا خصيب
لنا بيت وأطفال ولكن محت آثار منزلنا الخطوب
بنات المسلمين هنا سبايا وشمس المكرمات هنا تغيب
نبيت {كريمة} ليلى ونصحو وقد ألغى كرامتها الغريب
تختبئُ وجهه باليت شعري بماذا ينطق الوجه الكئيب؟؟
يموت الطفلُ في أحضانِ أمٍّ تمد هذه، وقد جفَّ الحليبُ
بكت حزناً عليه بغير دمعٍ فأين الدّمع ، والظّمأ النصيبُ
سل الفجر الذي لم يبْدُ فينا لماذا لا يغني العندليب؟؟
بني الإسلام هذه حرب كفرٍ لها في كل ناحية لهيب
أراكم تنظرون وأيُّ جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب؟؟
محرم 1413ه المجلة العربية
صرخة حب وغضب
قراءة في قصيدة الشاعر: عبد الرحمن العشماوي
سراييفّو تقول لكم المجلة العربية محرم/1413/ه
إذا كان الرسول العربي الكريم محمد{صلى الله عليه وسلم} قد اتخذ عبد الله بن رواحه وكعب بن مالك وحسان بن ثابت شعراء للدعوة يدافعون عن الحزب الجديد ويقارعون حزب الكفر بألسنتهم ، فإنما اتخذ ذلك لما للشعر عند العرب من مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة وهذا ما جعلهُ يقول لحسان بن ثابت{ رضي اللهُ عنه } {{* اهجهم حسان وروح القدس معك واللهِ إن لشعركَ فيهم أوقعُ من نضج النبال *}} وإذا كانت العقيدة بالنسبة للأدب هي فلسفة حياة فإن الشاعر عبد الرحمن العشماوي يعد من شعراء العقيدة التي تمتد جذورها إلى شعراء الرسول الثلاث وهو السّباق إلى تلمّس آلام المسلمين وما يحل بهم من مصائب ونكبات إن الشعر إبداع ، وإن الإبداع تجربة ، وإن التجربة قضية وإن رؤيا كما يقول الناقد محي الدين صبحي في مقالته {{ الرؤيا موصفها تعبيراً عن جدلية الإبداع والواقع: {{ إن الرؤيا ، ما دام تعبيراً عن لذاق الجماعية في تجاربها الماضية وتطلعاتها المقبلة فهو بالضرورة يتحلى بقدر كبير من الموضوعية}}
والعثماوي في صرختهِ هذه يطلق صيحة حبّ وغضب.
صيحة حبّ أولاً:
لأنهُ يرى أن من واجبه أن يقف إلى جانب إخوته في العقيدة فالمسلم أخو المسلم لا يظلمهُ ولا يسلمه ولا يخذلهُ وهو لأخيهِ كالبيان المرصوص يشد بعضهُ بعضاً وسراييفو بالنسبة للشاعر جزء من البنيان الإسلامي والإنساني لا يجوز أن نغضَّ الطرفَ عنهُ . إنها تستصرخ الهمم والمروءة والأخوة لننظر إلى حالها الممزقة المشتتة ولا فرق فأعداء اليوم هم أعداء الأمس إنها الصليبية الجديدة التي تذكرنا بما حلَّ في الأندلس نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترفَ الصليبُ
وصرخة غضبٍ ثانياً:
لأنهُ رأى ما حلَّ بمسلمي تلك البلاد من قتل وتدمير وبطش فاغتصاب وانتهاك للأعراض وسلب للأموال وسياسة تنصير وتهويد .
لأني لا أجامل أو أحابي ولا أرضى الخضوع ولا أذوب
لهذا أمزق الأعداء ثوبي وبين يدي أشعلت الحروب
وأهم ما في تجربة العثماوي هو هذه الطاقة الاستبصارية
القادرة على ربط الحاضر بالماضي وخاصة أنَّ تجربة الأندلس قد تركت دروساً وعبر في حياة المسلمين جنداً لو استفادوا منها وإنهُ لمن الجدير بالاهتمام أن الشاعر العثماوي شاعراً رؤيا يتلقى إبداعه من القيم والمفاهيم والسلوك الإسلامي في المثل وتعبيراً عن تجارب حيّة ، وإذا كان أفلاطون يتثبت بأن الفنون ومنها الشعر تهتم بالجوانب العاطفية من الطبيعية الإنسانية وتصفح عن الجوانب العقلية فإن ذلك لا يحط من قيمة الشعر خاصة والفنون عامة وخاصة أن الشعر يمس الجوانب المهمة المهملة من حياتنا وهذا ما دل عليه العثماوي حين قال:
بني الإسلام هذي حرب كفرٍ لها في كل ناحية لهيبُ
أراكم تنظرونَ وأي جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب
لقد ولد الضن والمعاناة وشذبتهُ العقيدة وأعتبر ته المحرك لكثير من المواقف والقضايا وإذا كان أفلاطون قد طرد الشعراء من جمهوريتهِ فإن الرسول محمد {{صلى الله عليهِ وسلم }} قد منح كعباً بردتهُ حين أسمعهُ قصيدتهُ ((بانت سعاد)) واتخذ حسان شاعر الدعوة ، ورسخ أهمية الشعر حين قال: {{ إن من البيان لسخراً ، وأن من الشعرِ لحكمة ولا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الخنين }} وإذا كان القرآن الكريم قد نفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الشعر فإن ذلك لا يعني أن هذا الرسول كان يعادي الشعراء أو يقف منهم موقفاً سلبياً يقول الناقد يوسف اليوسف {{على النص العظيم أن يهب المتلقي في صفة الحدث والتخمين ونحن إن حاولنا رفع الغطاء عن { تضافية}العشماوي مع مسلم البوشقان فإنما عن نجعل المطلق مفتوحاً أمام أغنينا حين مربط ذلك بقوله الرسول الكريم صلى الله عله وسلم { مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منهُ عضو تداعى سائر الأعضاء بالسهر والحمّى }}
محاربي تئن وقدتها وعى على أركانها القصف برهيب
وإذا كان الفن يقوم على الوحي والاستحياء والفن لخالد هو تعبير عن الحقائق السامية والعواطف النبيلة فإنه يلتقي بالدين لأن كليهما تعبير عن شيء سام كما أشار إلى ذلك ناصر ألخاني في مقالتهِ ( أفلاطون والشعر ) إن معالجة العثماوي لقضية البوسئة والهر سل ليست هي الأولى والأخيرة فهو السباق إلى رؤية القضايا الإسلامية رؤية دقيقة فاحصة ولكن رؤيتهُ على لأهميتها بقيت سطحية لا تنظر إلى المشكلة إلا من خلال تعاطف قائم على المناداة.
والتشخيص للمصيبة.
نناديكم وقد كثر النحيب نناديكم ولكن من يجيب
تعثرتُ الخطى حتى رأينا خطانا لا تهش لها الدروب
نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترف الصليبُ
فقط أيا الشاعر الفذ تنادي من لا يجيب وتصرخ في قوم كثر فيهم النحيب وكلهم يرى بأم عينيه ما حل بهذه الأرض المسلمة أم أنك مدرك أن هذه الأمة أضحت كما وصفها رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم فثاء كغثاء السيل أما أنت فلا تملك فلا تملك إلا ما كان يمتلكهُ سميح القاسم على أرض القدس الشريف حين صرخ بأعلى صوتهِ كما صرخْتَ ولكن صرخاته ذهبت أدراج الرياح .
{{أناديكم.. ..أشد على أياديكم }}
أقبل تربة الأحرار تحت نعالكم
وأقول أفديكم ....
هل أكلت الغيلان القمر أم أن هذه الأمة أصبحت بقايا
رماد يتناثر في مشارق الأرض ومغاربها
بنات المسلمين هنا سبايا وشمس المكرمات هنا تغيبُ
تبيت كريمة ليلى وتصحو وقد ألغى كرامتها الغريبُ
أين هي {{ ومعتصماه}} التي ملأت الأرض دوياً لتستنهض همم الرجال.
إن شعر العقيدة الذي نهج طريقة شعراء الرسول ومن جاء بعدهم يستصرخ روح الشعراء ويدعوهم إلى زرع الأمل في هذا التصحر والقحط الذي يهيمن على الروح العربية المسلمة وإذا كان لنا من همسة نهمسها في أذن شاعر كبير كالعثماوي فإنما هو قولنا ليكن الشعر لديك أداة ثورة وأداة تغيير حتى يكون الممثل للعقيدة الصادقة الصارمة بكل أبعادها...
الخليج والجزيرة العربية
خالد الخنين
المتصفح لديوان الشعر العربي المعاصر في المملكة العربية السعودية يدرك تمام الإدراك الهوة الواسعة بين ما قيل في مطلع القرن العشرين ونهايته بل يلمس طرق التفكير والتعبير وقد اختلفتا بحيث بدت صورة الشاعر مختلفة تماما من شاعر ( مداحه نواحه ) إلى شاعر يتحدث عن أدق التفصيلات والشاعر التي تعترضه إلى شاعر يتحدث عن أرضه ووطنه وعشقه وحبه واغترابه وغربته وكفاحه في سبيل تثبيت أقدامه على واقع مر علقمي يتجرع فيه الإنسان كؤوس الانفصام عن الواقع وبروز القصيدة ( الحلم )حلم الطفولة هربا من الواقع المردي وارتماء في أحضان الأمل حتى إنك ترى الشاعر السعودي المعاصر شاعرا مغتربا عن واقعه وإن كان منتميا إلى وطنه وأرضه معاندا أحيانا ومخذولا أحيانا أخرى ولكنه يبقى مصرا على تجاوز واقعه النفسي والاجتماعي خاصة وأن مشاكل الحياة الجديدة قد تناهبته واقتسمت همومه وحولته غيمة من الصمت تبحث عن واحة خضراء تستريح على ضفافها ولست أشك ولو للحظة واحدة أن الواقع المردي الذي ظهرت بصمات أصابعه على الكثير من قصائد الشعر قد رسم معالمه من خلال لوحتين مشرقتين :
الأولى تتمثل في صورة المرأة والثانية في صورة الحديث عن الذكريات التي يحملها الشاعر ويسفحها على راحة نصوصه الشعرية وشاعرنا خالد الحنين من خلال نصه ( الدم ) يتحدث عن نقطة الذكريات التي حملها معه من تلك البقعة إلى دمشق حين طار بجناحي الشعر حاملا هموم الغربة التي تبقى في أعين الشعراء كالتقلب على أحر من الجمر فبدت ( الدم ( حكاية تدور على شفاهه بصمت
ألقى على شفتيها بوحة ومضى
إلا حكاياه ترويها حكاياها
ورسم صورتها على مساحة روحه المصعوقة يفعل الحنين والحب الجذاب للقاتل وفي مقلة الحلم المفتون وعلى أعتاب الذكريات سفح الشاعر خالد بن محمد الحنين قصيدته أو مهد صباه ومرابع أحلامه ( الدم ) ورسم صورة لمسقط رأسه حيث الطفولة والحلم والأمل المتلألئ كحبات الجمان وفي أحياء العصور وفي شوارعها وبن أزقتها وخلف بيوتها حيث السكون السديمي تقافزت طفولة الشاعر وتراقصت آماله وانتصب حلمه كزوبعة بيضاء في وهج الصحراء القاحلة وبدت هيمنة المجد على عمق روحه ترسم آفاقها بحثا عن الحب والجمال والدماثة والمتنقل بين أمواج الصحراء النجدية وتتعاقل رمالها يدرك ما للارتباط بعمق الصحراء من أثر على النفس والروح ذلك بأن هذه الصحراء ليست إلا مجرا من الصمت الصاخب بالحزن والاقظ للأحلام والواعد بعطاء مكنون وشاعرنا خالد الحنين من خلال حدائه الصحراوي يبرز لنا ( كإنسان ) سمقته حرارة الصحراء في أتونها وعلمته الصبر والصمت والتشوق .
ولسانها بصدد وصف الشاعر بقدر ما نحن بصدد استبار عمق روحه وأثر الغربة في نفسه وما خلفته تلك الديار ( مرابع صباه في شخصيته التي تحولت إلى روح معمقة ومفعمة بالحزن والألم والبحث عن التغيير من خلال ما لقيه هذا الشاعر من قضايا وأحداث تركت بصماتها على روحه المصعوقة بفعل الحب والعطاء .
إذ أن الشاعر منذ مطلع نصه واستعماله كلمة ( هناك )
(( هناك في فلك ناء جناحها سمراء فوق غمام الصبح تلقاها ))
يشعرنا بأنه يحيا بعمق إحساسه وبكل جوارحه تلك الذكريات التي أضحت طائرا يرفرف بجوانحه فوق صبح غائم يتلقاك بالندى والمطر
وأنه مازال يرتبط بها ارتباطا وثيقا لا يمكن أن تفصل عراه مهما طال الفراق وبعدت المسافة ذلك أنه ومن خلال نصه يرسم بريشة الفنان المعجب يرسم صورة محبوبته أو قل صورة يلده ومسقط رأسه ويضفي عليها أسرار الجمال الإلهي الواعد فبدت امرأة جميلة ساحرة فاتنة تختال تيها وكبرا وسموا
(( ألقت إلى ملكوت الله حببتها والكبر عبر ذرا هذا المدى تاها
(( مهد الأحبة في أرجائها درجوا فكم سقتنا من الأحلام أنداها ))
إنها مدارج أحلام وموعد صبا وطفولة وندى وحب الشاعر حين يتحدث عن ذكرياته إنما يتحدث برومنسية العاشق ولغة المحب الوامق وبهمسة المتعلق بعشقه ووطنه
(( هذي هي الدلم الشماء أي صبا هذا وأي جمال في صباياها ))
(( حور عبرن وسرن في حمام قطا والرائحات نجوم في ثناياها ))
(( هذي المليحة ما سر الجمال بها وكيف يفتننا عشقيا محياها ))
ولو رحنا نستعرض في القصائد التي يتحدث فيها الشعراء عن مساقط رؤوسهم ومواطنهم ولادتهم للمسنا بحق أن شاعرنا خالد يخرج عن الإطار العام لتشبيه مواطن الرأس بمسوح الجمال وخاصة حين يصف هذا الشاعر سحر الجمال في صبايا بلدته
(( سبحان مبدعا حسنا وخالقها ألق بها الروح في لطف وسواها ))
(( مرت بنا في الحلم طائفها فما يقول وما ترويه عيناها ))
(( ما مر فارس عشق ها هنا أبدا إلا تمنى على الأيام لقياها ))
(( هي الملاحم والرايات خافقة وعند ذروتها تمدو سراياها ))
إنها صورة البلدة المتمثلة عند الشاعر بصورة امرأة وفارس عشق لتدل على تعلق الشاعر ببلده تعلقا شديدا إلى درجة العشق أو ملحمة العشق
ويبدو أن شاعرنا حين اختار موضوعه هذا ( التعلق بمسقط الرأس ) اختار له الشكل العمودي القائم على الشطرين وهو شكل يدل على المعمارى التي يختار فيها الشاعر أحجار بنائه من الألفاظ المنتقاة المصانة المنحوتة نحتا بارعا لأنها في مواقفها إنما تتمثل كل ما أورده الشاعر من معاني تمثل بلدته المحبوبة ( مقلة الحلم – فارس عشق – ظمأ مشتاق – ارتعشت ) كما وأنه حين بنى نصه كانت القوافي لديه كأحجار الزاوية عل حد حقول الناقد ( مارون عبود ) إذ أن قافية النص بدت من خلال استخدام الهاء المشبعة فتمتها ألفا ومد الصوت من خلالها يدل دلالة عميقة على انطلاق روح الشاعر في الفضاء بحثا عن حبه ( مسقط رأسه ) إنها الأنفاس التي تحل روح الشاعر ووجدانه كما وأن استخدام الشاعر للصور بمختلف أشكالها والتشبيه + المجاز + الاستعارة + الكناية يدل دلالة حقيقية على مدى عمق خياله في تصور شوقه وعشقه لبلده ( مقلة الحلم المفتون ) ( تربني شهدا خلاياها ) ( جن قلبي )
( العبق الخافي )( سقنا من الأحلام أنداها ) ( هذه هي الدلم الشماء أي صبا ) وهذا يعني أن شاعرنا من خلال نصه استطاع أن يرسم صورة معاناته بالشكل الموروث المتشوع لاستيعاب الذهنية الشعرية المعاصرة الحديثة بحذر وتأني وكأنني باشاعر برومانسيته إنما يئكد فطرة الإنسان تجاه مسق رأسه ومكتن ولادته
سوريا – درعا
4 / 1 / 2000 م
سلسلة دراسة أدب الخليج العربي
ناصر جبران
حين تصبح الأمة كومة من رماد ويتحول التاريخ الى عود مثقوب يذر رماد الأمة وحين تتحول العواصم البكر الى نساء تفقد بكارتها لأول طارق يصبح على عاتق الشعراء والأدباء و المخلصين والمدافعين عن هذه الأمة مسؤوليات جسام تتمثل في نشر الوعي وتأطيره وتجسبده ضمن قنوات صحيحة تسلكها عناصر الأمة من أجل الوصول إلى شاطئ الحب والخير والسلام.
وحين تتحول الجراح جراح الأمة إلى مستنقعات من البؤس و المرارة يلوكها الأبناء والأحفاد يتحول الفكر إلى دوامة تطيح بأبناء الأمة في بئر عميقة القرار .
والتاريخ العربي منذ فجره الأول لم تمر عليه مرحلة كما هي الآن خاصة وأن الإنسان تحول فيها إلى شبه زواحف لا تستطيع أن تواكب ركب الحضارة أو أن تمضي قدما نحو المستقبل الواعد
والشاعر / ناصر جبران / واحد من الذين تسلموا جراح الأمة وصافحوا ماضيها المشرق وبكوا على حاضرها الذي يبدو قصيدة تعزف على أوتار الحزن من خلال نصه /ماذا لو تركوا الخيل تمضي /.
والمتصفح لهذا النص يدرك منذ البداية أن استفهام الشاعر الذي جاء على شكل تمني وارتباطه بالماضي المشرق ليس إلا صيحة من عمق الوجدان العربي الحاضر الذي أصبح هذه الأيام في خبر كان أو المتعلق بالظرف الدولي الجديد الذي بسط أذرعه الأخطبوطية على هذه الروح العربية وجعلها تلفظ آخر أنفاسها بكاء على التشرذم والتشتت والتشظي الذي تحول إلى ألبوم صور يحتوي على أكثر من اثنتين وعشرين يبحث فيها الشاعر عن اسمه فلا يجده.
(( أدخل ذاكرتي
أبحث عن اسمي......عني
عني يبحث عني
ويطول الدرب
وتمضي راحلتي
تتعرج مثل وريد القلب ))
إنه يفتش عن انتمائه كما وريد الدماء يبحث عن القلب فأين هو القلب ؟ وأين نحن منها إن كل واحد منا يبدو كالمسلول الذي يقلب صفحات التاريخ وهو ضائع لا يدري أين هو وما عبارة الشاعر ( عن يبحث ) إلا تعبيرا عن هذا الضياع هذا التشرد وهذا النكوص القاتل
لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم ))
ودلل لنا عل ان الطريقة التي بها استطعنا أن نملك الكون هي التي تستطيع أن يعيدنا إلى ما كنا عليه والبداوة الأولى التي ألمح إليها الشاعر في نصه هي النعت مع العقيدة فكونت تلك الأمة التي كتبت صفحات التاريخ بحبر من نور وإن كان البعض يسخر منها ( أقصد البداوة )
( قالوا عنا بدو
لا نحسن غير الطعن
وخيام نسكنها أشباح الصحراء
وقراصنة البحر )
ولكنم لم يدركوا أن نبي الفقراء كما قال الشاعر قد حول أرض الشام برمتها إلى واحة من نور وإن كان أبناء هذه الواحة مهدوري الدم من قبل أعدائهم
(( كأن نبي الفقراء
يذرع أرض الشام برمتها
مهدور دمه من قحطان إلى عدنان ))
إن صراع الحق و الباطل صراع الموت والحياة صراع الوجود و اللا وجود
لقد بكى العرب دموع راعفة على ضياع الأندلس وبكت جنوبهم أرقا على استلاب فلسطين ولنهم اليوم ستصعق أرواحهم بفتيل الموت إن لم يدركوا ما أعد لهم في هذه الألفية الثالثة
وما زرع في أرضهم من ألغام فكرية واقتصادية غايتها القضاء على آخر بدوي في أحضان الصحراء
(( ورحلت
أطوي مسافات البعد
أجز النفس للأعماق
أتحسس قاع الذات
أعيش الرهبة في البرهة
أستنطق أجوبة
أنهكتني هذا الميت....أضناني
وشعرت
دبيب الحمى تأكل أعضائي
فأنا منحور من وسطي))
حقا لقد أنهكنا هذا الميت الذي يدعونه جسد العروبة في زمن لم تعد تتجمع فيه إلا رايات الصعاليك البدو والمنسيين سهوا من قائمة زكاة الفطر
إننا أمام مواجهة عنيفة تحاول سبر أغوار المجهول كما يقول الشاعر أمام بحث مضني عن الذات العربية وكأننا في حمئة معركة طاحنة يحاول أعدائنا فيها أن يلغوا وجودنا وأن ينسفوه من جذوره وكأنني بالشاعر حين أدرك هذه الحقيقة إنما أغترفها من مشكاة النبوة مشكاة محمد حين قال (( ويل للعرب من شر قد اقترب )) وأنه قد شخص لنا العودة الأولى إلى الجذور إلى الماضي إلى // ماذا لو تركوا الخيل تمضي //
((حسنا سأتمسك
مثل الطفل
أغسل درني من غير حياء
فالزخة فوق الزخة
تصيح مجرى
والمجرى فوق المجرى
يولد سيلا
والسيل فوق السيل
يصنع نهرا
والنهر يهيج
حين يسود الظلم ))
إنه الموت المحيي الذي يبعث في الأمة الروح من جديد ويجعلها تمضي إلى مستقبلها الواعد المشرق إنه ينتظر كل الإشراقات الطيبة التي توصله عبر بوصلة الحلم إلى نقطة الارتكاز الأولى حيث تعود راية الحق والمحبة والعدل
(( عيني تسبر أغوار المجهول
في رشرشة الضوء
كل الاشراقات الطيبة ))
منصور الجهني
إذا تحققت مقولة الأديب الانكليزي كينى /الشعر معدنه الألم / فإن البحث عن عمق الروح و رقة المشاعر ورهافة الاحساس ودقة التفكير يتطلب من القارئ المتفحص أن يملك مفاتيح سحرية خاصة للتعامل مع قلة الشعر عند شاعر كمنصور الجهني
وإذا تحققت مقولة الشاعر الانكليزي ( الشعراء هم مشرعو العالم غير المعترف بهم ) فإن الخلوص إلى نتائج واقعية في الشعر تحتاج عند شاعر كمنصور للصعود إلى آفاق الشعر امتلاك بساط ريح مشرع الآفاق إذ أن موهبة كموهبة منصور ذات أبعاد موشورية تستطيع أن تريك قوس قزح الحياة بشكل دقيق فالشاعر امتلاك واستلاب للسلطة الزمنية التي تعيد للروح صفاءها وتخلق من الصمت حركة الحياة
والشيئ المذهل في موهبة هذا الشاعر الصامت المتكلم هدوء العاطفة وثورة السكون
وحديث الصمت الذي تراه منطبقا على جبهة الشاعر العبقرية انطباعا صحراويا قد يبدو لك للوهلة الأولى أنك تقرأ شاعرا محبطا يعيش بلا حركة ولكنك حين تدخل إلى أعماقه تدرك مدى هذه الحركة الفاعلة في واقع يشكو من الألم والحزن والنكبات
( منذ كم ترسم نافذة
وتمحوها ليلا
وتدخل في بهيمة الظل
منذ كم تقيم أعراس الماء هنا
وحدك
وتشتعل
تدخل في ايقاع صمت الأشياء
وضجيج الفخار المبتل )
إنه بريشة الفنان يرسم لنا ما تحدثه ايقاعات الطين وأي طين هذا إنه الإنسان هذا المخلوق المعذب المعذب وكيف به وهو يمزج رمل الأصابع بوجه امرأة نسي ملامحها كيف يكبر الشعر ويصبح ذو وجه مشرق ووعد حقيقي تلك مسألة الصدق والصدق الفني الذي يمتلكه الشاعر ومنصور يظهر لك مشتعلا وهو في قع انطفائه
( هو البحر ..... قاب قوسين من شجر الروح
حلم دمي
أول الأسماء في ذاكرتي
وآخر الجروح )
إذا نحن أمام تفتح أزاهير الروح وإشراقات شمس الحياة عندما نواجه ألد أعداء الصمت بأسلحة المحبة والصدق والخير
وحين قتلوا المغني / أورقت وردة الصدى /
على شفتيه / فتساءلوا / كيف عاد صوته إليه
إنه بكاء الشعراء على عصر الضياع الذي نعيشه جهل من قضية الاغتراب داخل الروح المحور الشعري الأجدى والنافع عند شاعر كمنصور بلهيب الشوق وأحرقته ( نار البعثية اللعينة ) التي سرت عدواها من الفلاسفة والمفكرين إلى كل فرد في هذا المجتمع مما جعلتها تغدو بشاعرنا نحو الموت المحيي والصمت المتكلم والحركة الساكنة وإن لوحة مجموعته ((فنيل أن )) التي تتصدر غلاف المجموعة لتدل دلالة قاطعة على ما قلت ( بحر وساحل ومجموعة كراسي فارغو وامرأة تنمو على هذا الساحل كشجرة هجرتها أوراقها // هناك في مساحة الضوء الأخيرة / تتناثر كراسي خالية فوق رصيف مهجور /وظل امرأة / وقفت وحيدة / في موجهة البحر )
إن تجربة شاعر كمنصور في مجموعة هذه لتدل دلالة عميقة على وعي فكري وأدبي فائض رسم الحياة حلما واقعيا
(( وحين تأتين /ألم من عراء الصمت / أشلاء الغيم قطعة قطعة /
وأرسم خارطة للمستحيل / أعبرها ألف مرة / وأرسم نافذة وصهيل ))
إذن شاعرنا يرسم ما يرسمه من واقع رديء على تضاريس الموت والحلم يمنح القصيدة بعدا قمريا كامل الإستدارة وتتقتح على يديه من اشتباك الأصابع وردة النار قبل أن تستيقظ في دمه خيل المسلفة
وهكذا فإن شاعرنا تجسد ما يراه من قضايا حياتية مقززة إلى شعر محمول على أجنحة الموت ويجد دمه خلاله ضرورة الخروج بالعمر إلى فضاء شمسي مشرق لا عاتمة فيه ولا ظلمة
(( لأن أصابعكم عمياء / رسمتم خارطة العتمة
لأنكم تأتون بعد فوات الأوان / بعد انتهاء الربع الأخير من الحفلة /
بعد أن تترمد الأغاني / وتصبح الأواني فارغة /
لأنكم هكذا /
فإنني لم أجد سوى ظلالكم / تحاصر شجرا يابسا ))
لقد قتلت أغنيات الطلح وأناشيد الشيح والقيصوم وبرودة حالة عمار وغيوم الصحراء الملتهبة شوقا روح الشاعر وجعلته يسرعه الماء مرا والخيل عطا شما والهواجس رملية المفازات جميعا أحمر تحترق على أعرافه لوجه الحياة الحقيقية وترحل عنه هواجس الشعراء وتبكيه رؤى الأرامل الشابة
(( ماء مر وخيول عطاش
مساء يضيء خطى الأرض مملكته
بح صوت المغني وما من خير
أيها الليل ماذا تبقى من
وهج الأغنية
وماذا تركت الليمات فوق بقايا الطلول سوى بشمة ذابلة وحطام مرايا ))
وثمة أصوات و ضجيج للكراسي يهمس في أذن الصمت وتقتبل الأصوات الصافية وستحمل للشمال الذي يسكنه روح الشاعر تبارح الشوق وهم الحرمان وتجعل نسائم الشمائل القاتلة تحرك أوراق الخريف الساقطة باتجاه العمق بحيث يبدو الشاعر منغمسا في رمال المحترقين والاحتراق
(( ضجيج الكراسي كأشجار خرافية لكن وجوه الموتى لن تورق في غباب الموائد
أيتها الحالة المنسية ))
وأخيرا نقول مع الشاعر :
(( لو عسبة فوق جدار القلب / لو قطرة ماء تشق جدران الصدى وتسيل/ .... لو أخرج بين صمتي إلى يقين اللغة ومنك إلي / لو أصعد درجة / ليفتح العراء لدمي أبوابه ويمنحني مفاتيح السر ))
نقول ذلك مع الشاعر لأنه ما يزال يرسم بريشة العصفور كل أغنيات الموت والحياة والروح والتنفس والنار والثلج والحر والقمر والصعود والنزول والعروج و المروج ويصعد بنا إلى المعري وصبابة الخيام وغيبوبة ابن الرومي وطموح المتنبي
إن فجائعية منصور الجهني الاجتماعية التي تبدو فهما حقيقيا وراعيا لحركة الحياة الصاعدة باتجاه الأسفل جعله شاعر البرهة الحزينة ومغني الصمت القاتل وموقد النار الهاجعة من أجل الرقي باتجاه الأسفل
لقد قتلت غيلان الضوغائية الكثير من الشعراء وجعلتهم بائعي حلوى أمام سرير الموت الحديدي أو خلف جداره الهاجع ولكن منصور بقي رافعا صوته مغنيا أغنيات الحنين والشوق راقصا كالديك المذبوح احتجاجا على انفلات العلاقات الاجتماعية القاتلة
سراييغوا تقول لكم ..!
صرخة ألم من بلاد البوشناق
{{البوسنة والهر سل}} إلى كل
الناطقين بشهادة (( لا إله إلا اله ))
شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي الرياض
نناديكم وقد كثـر النحيبُ نناديكم ولكن من يجيبُ؟
تعثرت الخطى ، حتّى رأينا خُطانا لا تهشُّ لها الدروب
نناديكم وآهاتُ الثكالى تحدثكم بما اقترف الصَّايبُ
{اسراييغو} تقولُ لكم: ثيابي ممزقةٌ، وجدراني ثقــــــوبُ
محاربي تئنُّ وقد تهــــــــاوى على أركانها القصفُ الرَّهيبُ
وأوردتي تُقطّــــــــعُ لا لأني جنيتُ ولا لأني لا أتــــــــــوبُ
ولكنني رفعتُ شعاَ دينٍ يضيقُ بصدق مبدئه الكذوب
لأني لا أجامل أو أحابي ولا أرضى بصدق مبدئه الكذوبُ
لهذا أمزّق الأعداء ثوبي وبين يديَّ أشعلتُ الحروب
لكم يا إخوتي أكلُ وشرب وأكسيةٌ لها نسيجٌ عجيبُ
لكم دارٌ مشيّدةٌ وظلّ يظلّكم بهِ غصنَ رطيب
لدى أطفالكم تعب وحلوى وعندَ نسائكم ذهب وطيبُ
وا نحسدكم أبداً ولكن نقول أما لإخوتكم نصيبُ
نذير الحرب في أرضي نذير لكم فالليل منشؤه الغروب
وجَدْبُ الأرض يسبقه احتباس وعصف الريح يسبقه الهبوب
لنا في أرضنا نهر وماء وروض في مرابعنا خصيب
لنا بيت وأطفال ولكن محت آثار منزلنا الخطوب
بنات المسلمين هنا سبايا وشمس المكرمات هنا تغيب
نبيت {كريمة} ليلى ونصحو وقد ألغى كرامتها الغريب
تختبئُ وجهه باليت شعري بماذا ينطق الوجه الكئيب؟؟
يموت الطفلُ في أحضانِ أمٍّ تمد هذه، وقد جفَّ الحليبُ
بكت حزناً عليه بغير دمعٍ فأين الدّمع ، والظّمأ النصيبُ
سل الفجر الذي لم يبْدُ فينا لماذا لا يغني العندليب؟؟
بني الإسلام هذه حرب كفرٍ لها في كل ناحية لهيب
أراكم تنظرون وأيُّ جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب؟؟
محرم 1413ه المجلة العربية
صرخة حب وغضب
قراءة في قصيدة الشاعر: عبد الرحمن العشماوي
سراييفّو تقول لكم المجلة العربية محرم/1413/ه
إذا كان الرسول العربي الكريم محمد{صلى الله عليه وسلم} قد اتخذ عبد الله بن رواحه وكعب بن مالك وحسان بن ثابت شعراء للدعوة يدافعون عن الحزب الجديد ويقارعون حزب الكفر بألسنتهم ، فإنما اتخذ ذلك لما للشعر عند العرب من مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة وهذا ما جعلهُ يقول لحسان بن ثابت{ رضي اللهُ عنه } {{* اهجهم حسان وروح القدس معك واللهِ إن لشعركَ فيهم أوقعُ من نضج النبال *}} وإذا كانت العقيدة بالنسبة للأدب هي فلسفة حياة فإن الشاعر عبد الرحمن العشماوي يعد من شعراء العقيدة التي تمتد جذورها إلى شعراء الرسول الثلاث وهو السّباق إلى تلمّس آلام المسلمين وما يحل بهم من مصائب ونكبات إن الشعر إبداع ، وإن الإبداع تجربة ، وإن التجربة قضية وإن رؤيا كما يقول الناقد محي الدين صبحي في مقالته {{ الرؤيا موصفها تعبيراً عن جدلية الإبداع والواقع: {{ إن الرؤيا ، ما دام تعبيراً عن لذاق الجماعية في تجاربها الماضية وتطلعاتها المقبلة فهو بالضرورة يتحلى بقدر كبير من الموضوعية}}
والعثماوي في صرختهِ هذه يطلق صيحة حبّ وغضب.
صيحة حبّ أولاً:
لأنهُ يرى أن من واجبه أن يقف إلى جانب إخوته في العقيدة فالمسلم أخو المسلم لا يظلمهُ ولا يسلمه ولا يخذلهُ وهو لأخيهِ كالبيان المرصوص يشد بعضهُ بعضاً وسراييفو بالنسبة للشاعر جزء من البنيان الإسلامي والإنساني لا يجوز أن نغضَّ الطرفَ عنهُ . إنها تستصرخ الهمم والمروءة والأخوة لننظر إلى حالها الممزقة المشتتة ولا فرق فأعداء اليوم هم أعداء الأمس إنها الصليبية الجديدة التي تذكرنا بما حلَّ في الأندلس نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترفَ الصليبُ
وصرخة غضبٍ ثانياً:
لأنهُ رأى ما حلَّ بمسلمي تلك البلاد من قتل وتدمير وبطش فاغتصاب وانتهاك للأعراض وسلب للأموال وسياسة تنصير وتهويد .
لأني لا أجامل أو أحابي ولا أرضى الخضوع ولا أذوب
لهذا أمزق الأعداء ثوبي وبين يدي أشعلت الحروب
وأهم ما في تجربة العثماوي هو هذه الطاقة الاستبصارية
القادرة على ربط الحاضر بالماضي وخاصة أنَّ تجربة الأندلس قد تركت دروساً وعبر في حياة المسلمين جنداً لو استفادوا منها وإنهُ لمن الجدير بالاهتمام أن الشاعر العثماوي شاعراً رؤيا يتلقى إبداعه من القيم والمفاهيم والسلوك الإسلامي في المثل وتعبيراً عن تجارب حيّة ، وإذا كان أفلاطون يتثبت بأن الفنون ومنها الشعر تهتم بالجوانب العاطفية من الطبيعية الإنسانية وتصفح عن الجوانب العقلية فإن ذلك لا يحط من قيمة الشعر خاصة والفنون عامة وخاصة أن الشعر يمس الجوانب المهمة المهملة من حياتنا وهذا ما دل عليه العثماوي حين قال:
بني الإسلام هذي حرب كفرٍ لها في كل ناحية لهيبُ
أراكم تنظرونَ وأي جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب
لقد ولد الضن والمعاناة وشذبتهُ العقيدة وأعتبر ته المحرك لكثير من المواقف والقضايا وإذا كان أفلاطون قد طرد الشعراء من جمهوريتهِ فإن الرسول محمد {{صلى الله عليهِ وسلم }} قد منح كعباً بردتهُ حين أسمعهُ قصيدتهُ ((بانت سعاد)) واتخذ حسان شاعر الدعوة ، ورسخ أهمية الشعر حين قال: {{ إن من البيان لسخراً ، وأن من الشعرِ لحكمة ولا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الخنين }} وإذا كان القرآن الكريم قد نفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الشعر فإن ذلك لا يعني أن هذا الرسول كان يعادي الشعراء أو يقف منهم موقفاً سلبياً يقول الناقد يوسف اليوسف {{على النص العظيم أن يهب المتلقي في صفة الحدث والتخمين ونحن إن حاولنا رفع الغطاء عن { تضافية}العشماوي مع مسلم البوشقان فإنما عن نجعل المطلق مفتوحاً أمام أغنينا حين مربط ذلك بقوله الرسول الكريم صلى الله عله وسلم { مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منهُ عضو تداعى سائر الأعضاء بالسهر والحمّى }}
محاربي تئن وقدتها وعى على أركانها القصف برهيب
وإذا كان الفن يقوم على الوحي والاستحياء والفن لخالد هو تعبير عن الحقائق السامية والعواطف النبيلة فإنه يلتقي بالدين لأن كليهما تعبير عن شيء سام كما أشار إلى ذلك ناصر ألخاني في مقالتهِ ( أفلاطون والشعر ) إن معالجة العثماوي لقضية البوسئة والهر سل ليست هي الأولى والأخيرة فهو السباق إلى رؤية القضايا الإسلامية رؤية دقيقة فاحصة ولكن رؤيتهُ على لأهميتها بقيت سطحية لا تنظر إلى المشكلة إلا من خلال تعاطف قائم على المناداة.
والتشخيص للمصيبة.
نناديكم وقد كثر النحيب نناديكم ولكن من يجيب
تعثرتُ الخطى حتى رأينا خطانا لا تهش لها الدروب
نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترف الصليبُ
فقط أيا الشاعر الفذ تنادي من لا يجيب وتصرخ في قوم كثر فيهم النحيب وكلهم يرى بأم عينيه ما حل بهذه الأرض المسلمة أم أنك مدرك أن هذه الأمة أضحت كما وصفها رسولنا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم فثاء كغثاء السيل أما أنت فلا تملك فلا تملك إلا ما كان يمتلكهُ سميح القاسم على أرض القدس الشريف حين صرخ بأعلى صوتهِ كما صرخْتَ ولكن صرخاته ذهبت أدراج الرياح .
{{أناديكم.. ..أشد على أياديكم }}
أقبل تربة الأحرار تحت نعالكم
وأقول أفديكم ....
هل أكلت الغيلان القمر أم أن هذه الأمة أصبحت بقايا
رماد يتناثر في مشارق الأرض ومغاربها
بنات المسلمين هنا سبايا وشمس المكرمات هنا تغيبُ
تبيت كريمة ليلى وتصحو وقد ألغى كرامتها الغريبُ
أين هي {{ ومعتصماه}} التي ملأت الأرض دوياً لتستنهض همم الرجال.
إن شعر العقيدة الذي نهج طريقة شعراء الرسول ومن جاء بعدهم يستصرخ روح الشعراء ويدعوهم إلى زرع الأمل في هذا التصحر والقحط الذي يهيمن على الروح العربية المسلمة وإذا كان لنا من همسة نهمسها في أذن شاعر كبير كالعثماوي فإنما هو قولنا ليكن الشعر لديك أداة ثورة وأداة تغيير حتى يكون الممثل للعقيدة الصادقة الصارمة بكل أبعادها...