حسين علي الهنداوي
أسلمة الأدب
دراسات أدبية
أسلمة الأدب
الإهداء
تقديم
قصة الأدب بدأت مع نزول آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، التي أصبحت الإطار الإنساني للتاريخ الحقيقي، الذي أوجدته صراعات (قابيل وهابيل) المتمثلة في القتل ، والتدمير، والخراب.
وقصة النقد بمفهومه الشامل بدأت مع ظهور الأدب، والفكر، وتناقض الصراعات الإنسانية، التي حملت مع ما حملته في وجهها الآخر الخير، والمحبة ، والتطور.
من هنا كان أدبنا، ونقدنا المتجذّر في عمق التاريخ الإنساني الذي يحمل بين دفتيه التناقضية الصراعية المتطورة، والنقد الأدبي بمفهومه المتعلق بدراسة الأدب برز، كأحد عناصر الفكر التطوري الذي يسهم في رسم حركة الأدب، وكشف آفاقه الداعية إلى مواكبة الحياة بمفهومها الحضاري.
ولقد وجدت أن صحافتنا ، ومؤسساتنا الثقافية والإعلامية قد نقلت إلينا الكثير من الفكر العالمي باسم التطور، والحداثة، وأننا بأمس الحاجة لغربلة هذا الفكر ، وهذا الأدب، وهذا النقد، والإفادة منه بشكل صحيح.
وإنه لمن المؤسف في زمن ، كهذا الزمن الصعب أن تتحول أجنّةُ الأدبِ إلى أمشاج مشوهة بفعل نطف جاءت سفاحاً بعيدة عن الخلق الصحيح المعافى، وكأننا أمام مواجهة عنيفة مع المسخ الأدبي الذي أصبح فيه الأدب يستلقى على الأرصفة بحثاً عمَّن يحتضنه، بعد أن كان هذا الأدب محور الحياة، وكتابها المفتوح.
لقد حمل إلينا التاريخ النقدي العربي الكثير ممّا يمكن الارتكاز عليه، وبلورته، وتطوره، كنقد ابن سلام، وابن قتيبه، والأمدي، وغيرهم ، مما يجعل مهمة النقد في هذا العصر صعبة، وعسيرة ، وخاصةً بعد أن تداخلت المعارف، والأفكار ، والفلسفات في ثوب النقد، وأصبحت جزءاً منه.
وبعد أن ظهرت مذاهب، وتيارات أدبية وافدة حملت مع حملته لنا طرقاً جديدة لتفريغ الأدب، وبالتالي طرقاً جديدة للنقد.
لا أريد أن أسرد تلك المذاهب، فهي معروفة لدى الجميع، ولكنني أريد أن أشير إلى أن بعضها ما يزال يحمل في داخله بذرة التغيير نحو الأسوأ، وأن أصحابه ما زالوا يسعون إلى الانحراف بهذه الأمة نحو الضلال، وإن مسألة التأسيس لنقد رؤيوي معافى من الأمراض السارية تحتاج إلى جهد مضن وعنيف يستطيع تحمّل مصل التغيير، وخميرة ا
كتابي هذا ليس إلا خطوة من خطوات البحث عن هذا التأسيس.
الدين والفن والحياة
إذا كان الله تعالى عندما خلق آدم عليه السلام قد أوجد له جنة عرضها السموات و الأرض ، وخلق له فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإنه من غير المعقول أن يكون خلق هذه الجنة قائم على عناصر غير جمالية ، وخاصة أننا نرى أن الحياة الدنيا بتوزعها وتوضعها يبعث في النفس الجمال والجلال ويوحي للعقل بالرزانة حتى إن الكثير من الشعراء و الأدباء والفنانين استوحوا عناصر الطبيعة وعكسوها في أدبهم وفنهم وإنك لا تجد أديباً أو فناناً سما أو علا إلا من خلال استيحائه لتلك العناصر الجمالية المنتشرة بين الأرض والسماء من طبيعة صامتة إلى طبيعة متحركة متمثلة بالإنسان والحيوان والطيور إلى طبيعة نباتية ترتسم من خلال الزهور والغابات أو من خلال ابتكاره لعناصر ممزوجة من عمق روحه وتأثير تلك الطبيعة في نفسه ، ولا أظن أحدا" يستطيع القول بأن عناصر الكون الموزعة كما شاء الله لها لا تعكس عمق الجمال – الجلال الحقيقي لأن أحدنا كثيرا" ما يقف مبهوتا" أمام طير من الطيور ويعمق بصره في توزيع الألوان المتناثرة على ريشه توزيعا" يسلب العقل ويضعه كما تقول العامة على الكف و الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة دالة على ذلك و نحن لسنا بصدد ذكر الشواهد بتفاصيلها لأننا لسنا في موضوع فقهي بقدر ما نحن في موضوع أدبي نقدي يستوحي المفهوم الإسلامي بحقيقته حين ينظر إلى الفن و الجمال والأدب الذي يعد الجمال رأس أمره وذروة سنامه ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة لكم ) (إنا زينا السماء بمصابيح وجعلناها رجوما" للشياطين ) ( إنا زينا السماء بزينة الكواكب وحفظا" من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الأعلى ويقذفون من كل جانب )و( ويا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أن الله جميل يحب الجمال ) على أنه جاء ليحقق مفهوم الجمال بأحد جوانبه .
كما وأن مفهوم الجمال بحدّ ذاته موضوع طويل وعريض وحساس يتعلق بكل جزء من حياة الإنسان ابتداءا" من طعامه وانتهاءا" بنومه مرورا" بحسيته واختتاما" بمعنويته .
كما أننا لو رحنا نستعرض علاقة الفن بالدين والحياة من جهة وعلاقة الجمال والفن من جهة ثانية وعلاقة الجمال بالدين لاحتجنا إلى تسويد صفحات كثيرة ولكننا سنحاول تأطير بعض المفاهيم الإنسانية التي ترسم العلاقة بين هذه الثلاثية (الفن – الدين –الجمال) لأنها عناصر الحياة المتكاملة والتي لولاها لفقد الإنسان بفقدان بعضها جزءا" من توازنه.
أولا" : وقبل كل شيء يجب أن نعلم أن كل ما في هذا الوجود ابتداءا" من الميكروبات الصغيرة وانتهاءا" بأكبر خلق وليكن السموات والأرض إنما قدر بمقادير ورسم ضمن عناصر جمالية دقيقة لأنه من صنع خالق هو نفسه جميل قدير كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله جميل يحب الجمال ).
ومن هنا تبدو عظمة الآية القرآنية في سورة القمر ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) وكلمة (قدر ) لا تخرج بمفهومها السياقي عن بث العناصر الجمالية في ثنايا هذا الشيء المخلوق ، حتى إن ما نراه قيما" بمفهومنا لا يبدو قبيحا" لنا لو لا أن الله تعالى قدر في أعماق عقلنا عناصر الجمال ومقاييسه .
كل ذلك إنما هو مرتبط بالفن والأدب لأن كليهما وضع لعناصر الجمال في موضعها الصحيح ومكانها المناسب والحياة بفطرتها وكما أراد الله ذلك إنما هي تآلف عناصر جمالية .
ثانيا" : لا مندوحة لنا أن نغفل أو نتغافل عن أهمية الفنون والأدب في حياة كل واحد منا لأنها تعكس صورة الجمال الحقيقي الذي نبحث عنه جميعا" ، وقد يدفع الكثير منا أغلى ما يملك حتى يحقق هذا الجمال لذاته لنعد قليلا" إلى مفهوم الجمال الذي هو لب الفنون ولب الحياة ولننظر إلى أجمل متعة يمن الله تعالى بها على عباده المؤمنين يوم القيامة إنها ( لذة النظر إلى وجهه الكريم ) ، ثم إن وصف الجنة نفسه وما تحويه من منازل وما فيه من الحور العين اللواتي هنّ أمثال اللؤلؤ المكنون وشجرة سدرة المنتهى وصفاتها الأخذة بالألباب إنما هو ترسيخ لمفهوم أصالة الجمال في النفس البشرية وانبثاقه من الذات الإلهية
ثالثا" : لقد شجع الإسلام على ضرورة ربط الحياة بالدين من خلال بث روح الشروالتلهف إلى تحقيق وشائجيه هذا الربط بين الدين والحياة والذي لا يتحقق إلا بتنمية الفنون الرفيعة القائمة على الجمال بمفهومه الجلالي لا بمفهومه الشهواني حتى لا تنحرف الفطرة الإنسانية باتجاه الرذيلة والفساد ولو لاحظنا آيات القرآن الكريم الذي تحدى الله بها العرب والعجم والإنس والجن لوجدنا أن أحد عناصر التحدي هي فنية الجمال المبثوثة فيها بحيث يبدو هذا القرآن لوحة حقيقية من صور الكون والحياة والإنسان .
وأنا واثق أن من يبحث عن العناصر الجمالية في شكل تشريعنا ومضمونها لن يجد نشوزا" أو نبوا" أو انزياحا " عن هذه العناصر .
رابعا" : ادعائية البعض أن العلاقة بين الدين والفن والحياة علاقة مقطوعة إنما هي سوء فهم وعدم تقدير حقيقي لهذه العلاقة إذ أنك لو وضعت أمام طفل صغير مجموعة حيوانات صغيرة على شكل لعب وقمت بالقائها دون ترتيب لوجدته يسارع إلى تنظيمها وتنسيقها إما بحسب اللون أو بحسب المعرفة ومن هنا كانت جمالية النص القرآني الذي تتكرر قراءته في كل يوم دون أن يفتقد جماليته معنى ولفظا" وواقعا" لأنه يحمل في ذاته عناصر الجمال بجميع مستوياتها والجمال لا يأخذ موقعه إلا إذا خاطب روحنا وعمقنا ووجداننا والعمق والروح جزء مهم من الحياة .
وما هذه الدراسات الأدبية الباقية في عناصر الجمال القرآني على مر العصور إلا دلالة على ذلك .
الوعي والفن والأدب
كيف قفز الفن في حياة الإنسان ؟ ، وكيف استطاع الوعي البشري أن يحقق الجانب الأدبي ؟!.
وكيف رسم الإنسان علاقته المعقدة مع الحياة والكون والطبيعة ؟ ، وكيف تحققت العلاقة الأدبية من خلال قيم المادة والفكر والعمل ؟، وكيف ظهر الوعي الأدبي على الرغم من تناقض القناعات حول أسبقية المادة على الفكر ، أو الفكر على المادة أو تواكبهما . وتناقضها حول أهمية أن العلاقة الجدلية بين تطور وسائل الإنتاج ، أم أن الضرورات البشرية هي المفجر لطاقاته الإبداعية .؟!
لقد كانت البرهة الزمنية التي صدر فيها القرار الإلهي بنزول آدم من الجنة هي البداية الأولى لظهور الوعي البشري بالمفهوم الحقيقي وأصبح على الإنسان أن يعي معنى خطيئته، وأن يعي معنى نزوله على الأرض ، وأن يعي معنى تعميره لهذه الأرض وكان لابد أن يعبر الإنسان عن كل هذه المعاني التي كان أولها إن صح ذلك بكاء آدم على خطيئته ، وتوبته منها ، ولقاءه بحواء أم البشر إلى قيام الساعة .
إن فجائعية البرهة الأولى جعلت الإنسان يعبر عن احساساته ، وعن ذاته ، وعن رؤاه لماضيه ، ومستقبله ، ومن هنا كانت اللحظة الجمالية الأولى في عمل الإنسان .
لا نريد أن نشير إلى التخيلات الخارقة التي كان يعيشها الإنسان القديم ، والأساطير ، والخرافات التي أنشأها رداً على ظواهر الكون – كاعتبار أن العلم مولود من بيضه أو نشوء المجرة درب التبانة من الحليب الذي قذفته حلمتا آلهة من آلهة العالم القديم – أو حمل الأرض قرن ثور – أو وجود آلهة متعددة للجمال ، والخصب ،و المطر ، وغير ذلك مما أصبح مادة خاماً للأدب . بقدر ما نريد أن نؤكد على أن خطيئة الإنسان القدرية ، ونزوله للأرض جعلته يرسم انفعالاته من خلال ما وعت ذاكرته من مشاهد وأحداث .
وإذ نؤكد على أن الوعي الأدبي هو جزء من الوعي الديني على اعتبار أن فطرة الإنسان تجعله صاحب عقيدة إلهية سماوية نشير إلى أن كل ما في الكون ينثق من الفهم الديني للحياة والموت والخلود .
إن فجائعية الموت الأول التي أحدثها الأخوان " هابيل وقابيل " جعلت الأدب يتجه باتجاه الوعي الحزين للحياة ، ورسمت الحدود الأولى لأول مشروع بشري أدبي يمكن أن يتخذ أنموذجا لطابع المأساة حتى نزول آدم وزوجه من الجنة يعد استعراضاً مسرحياً بمعنى من المعاني تعجز عن رسمه . قصص الخيال اللاواقعي ، وهكذا ، فإن وعي الإنسان جعله أديباً يعيش حياته ويؤطر لها يشكل درامي أو شعري بحيث ترسم آفاق الوجود من خلال النص المكتوب ، أو المنطوق .
لقد أصبح الأدب جزءاً من الحياة ، وأصبحت الحياة جزءاً من الأدب ذلك أن عمليتي التأثير والتأثر قد تداخلتا تداخلاً وشائجياً جعل هذا الإنسان يرسم حياته بفنية مريعة أحياناّ ومروعة أحياناً أخرى ؛ ولكم نعى المعري إنسانية الإنسان وانفلاته من أطر المعقولية إلى دوائر تتلاشى في عالم اللامعقول وما داليته المشهورة إلا الفتيل الصاعق لهذه القضية .
" أبكت تلك الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد "
ولقد نعى المتنبي من قبل المعري هذا الوجود من خلال بحثه الشخصاني عن تحقيق ذاتيته والتوكيد ببحثه المضني على حقيقة وجوده . ألم تكن رحلة المتنبي إلى مصر وحلب هي جزء من هذا البحث ؟ ومن ثم ألم تكن ثورة الشابي وشكواه من النزوع لتحقيق الوجود الجماعي في زمن صعب جزءاً من ذلك ؟
" ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر "
ونحن لا نشك أن تطور الوعي بفهم الحياة يعني الوقوف كثيراً قبل إصدار الأحكام ، وخاصة أن إنسانية الإنسان قد طحنتها رحى الحياة والزمن الصعب وقابيلية الجشعين من بني جنسنا ، وأن الأدباء ما زالوا أكثر الناس فهماً لهذه القضية فهذا شاعر صعلوك يتحسس تلك المسألة ويؤكد على ذلك فيقول :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّتَ إنسان فكدت أطيرُ
إنه يجد سلواه وإنسانيته مع الذئاب في الغابة فكيف بحياة تتحول الغابة فيها إلى ( مشروع إنساني ) وتتحول هي إلى (شريعة غاب ).وهذا مهاجر كوته نار الفقر والغربة يؤكد على ذلك فيقول :
يا أخي لا تشح بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أو ليست عملية التمييز القهري التي يعيشها المرء في هذا العالم والتي حاربها الإسلام محاربة شديدة هي القابيلية القديمة التي أسس لها قابيل أم يقل رب العزة والجلالة : ( أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .؟!
ألم يقل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم " الناس سواسية كأسنان المشط " ؟ إنها إعادة التوازن لمفهوم الانشطار الإنساني ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
إذاً المسألة في دائرة الوعي الأدبي تعني إدراك حقيقة الحياة والوجود والموت وليست الحياة كما يقال ( ولادة وزواج وموت ) وإلا لما أدركنا طعم الحياة التي تبدو حنظلاً في لحظات وسكراً وعسلاً في لحظات أخرى وما نيل اللذة والسعادة بالأمر الميسور كما يقول ابن الفارض " ودون اجتناء الشهد ما جنت النحل " ومن يا ترى من الأدباء كمحمد إقبال وغوته أو سيرفانتس أو إليوت أو شكسبير أو دانتي أو المعري أو المتنبي أو إليا أبو ماضي أو عبد الرحمن العشماوي أو حسان ابن ثابت أو طرفة ابن العبد أو لبيد أو زهير ) لم يشعر بفجائعية التناقض الإنساني أو لم يأت الإسلام رداً على كل الدعوات الساعية لتوسعة الشر في الدائرة الإنسانية أو ليس الفكر الإسلامي قد حمل في طياته بذور التغيير باتجاه المساواة والعدل والحق والجمال .
أية جمهورية مفتعلة يبحث عنها الإنسان في هذا العصر بعد هذا العبث الذي يعبثه المرء ويشكو الأدباء منه خاصة بعد تغيير النظرة للإنسان وظهور الموقف المصلحي الذي فرضته رؤى مادية طينية جعلت من الإنسان آلة حدباء تتكسر مشاعرها على أشواك الحياة .
الأدب والعقيدة
في زحمة البحث عن الحقيقة تقفز أمامك مقولة حادة الموقف تجعل من الإنسان كائنا"حقيقيا"إذا هو فعلا"التزم بما يقول :إنها العقيدة، والموقف ، والسلوك هذه العبارة تجعل من الحياة ذات طعم ولون ورائحة ،ولقد كان الموقف الإنساني على مر العصور ،ولم يزل الحدّ الفاصل بين الإنسان المتحضر والإنسان البدائي ولا أعني بالتحضر مادية الحياة وإنما جانبها الإنساني الذي يفعل فعله في تغير حركة التاريخ والحياة ؛ولا أدل على ذلك إلا الموقف الإسلامي من حياة العرب في الجاهلية.
والأدب كأحد أركان الحياة والفكر .لابد له أن يتحمل مسؤولياته تجاه الحياة ،والكون ،والآخرين لأنه بموقفه هذا يغير ،ويبدل ويسهم في التطور والتحضر .
لقد مثل الأدب الإسلامي في أيامه الأولى العقيدة الصادقة أروع تمثيل ،لأن الأدباء في تلك الفترة كانوا أصحاب عقيدة يدافعون عنها بأيديهم وألسنتهم بل يضحون بأرواحهم في سبيلها . فهذا حسان بن ثابت و كعب بن مالك وعبد الله بن رواحه لا يرون في الأدب إلا عقيدة يقارعون بها الأعداء . " اهجم حسان وروح القدس معك !"هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت .
وإذا كانت العقيدة في أيامنا هذه تعني فلسفة العصر ؛ فإن الأدباء في عصرنا لم يعودوا يأبهون بها ، بل تجد الأديب يبدل موقفه ،ويغيره يحسب الظروف ،والأحوال ، أو قل قد ينقاد الأديب لموقف من المواقف دون أن يفكر بمدى خطورته ،وأخطر ما في الأمر أن يحشر الأدباء أنفسهم في عنابر النفعية .
وإزاء ذلك فإن أهم ما يؤثر في العقيدة الأديب تبني الأدباء لخطوط غايتها إثبات موقف لا علاقة لهموم الأمة ومشاكلها به .
لقد ولد الأدب من المعاناة وعليه أن يتحدث عن هذه المعاناة وليست عقيدة الأديب إلا رؤيا حقيقية صادقة لهذه المعاناة لا أريد أن أتحدث عن قضية الفصل بين الأدب ، والأخلاق وأشير إلى النظرية الأدب للأدب أو الفن للفن لأنه من العبث والسخف أن يعيش الإنسان حياته دون هدف ، أو عقيدة ، فالعقيدة هي التي تحدد قيم الإنسان وآراءه وأفكاره ومسيرة حياته .
لن أغور عميقاً في حياة الأدباء لأشير إلى أناس بأعينهم دفعوا ثمن عقائدهم فمنهم المشرد عن وطنه ومنهم المطرود ومنهم 0000 الخ .
ولكن لا بد من القول : إن العقيدة هي لب الأدب ، وثمرته الحقيقية ، وكل من يدعو إلى غير ذلك ، إنما يدعو إلى انفلاش الحركة الأدبية وتبعثرها . وأي معنى لأدب بلا عقيدة . إن موقف الإنسان الأديب من الحياة والكون ، والحقائق يجعله أكثر الأسلحة فعالية في حياة الناس ورحم الله خالد الشواف حين يصف القلم قائلاً
لا تحسبوه يراعاً قدّ من قصبٍ هذا فـم وفـؤاد ناطق ويـدُ
ما صر بالحق إلا خر منحطماً للظلم ركن من الأركان أو عمد
لقد سود الأدباء الكثير من الصفحات الأدبية وكانت معظم تجاربهم تتحدث عن هموم شخصية ، وقضايا ذاتية أو مغامرات غرامية أو شكوى وتبرم من حظوظ سيئة أو مدح لشخص ما أو قدح لشخص آخر ولو استعرضنا ما قاله الأدباء لوجدنا أنه يدور في فلك هذه القضايا اللهم إلا النزر اليسير الذي انفلت من هذا الفلك ؛ فالمتنبي كان معظم شعره شكوى وتبرم من سوء الطالع وبحثاً عن الملك ، وامرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة كان شعرهما مغامرات غرامية في عالم النساء ، وأبو النواس كان شعره في الخمرة وأبو تمام والبحتري كان نصف شعرهما مدحاً والحطيئة وابن الرومي كان شعرهما قدحاً وتطيراً ناهيك عما يكتبه أدباء هذا العصر من عبث ولهو مغرق في الذاتية والشخصانية . ولو ذهبنا نعد الأدباء الذين كتبوا أدباً يدافعون به عن العقيدة لوجدناه من القلة بحيث لا تستطيع أن تلتقط حبات درره .
الأدب و الغرائز
لا شك أن الأديب ما وجد إلا لمخاطبة الوجدان والعقل وصقل الروح والنفس ، ولا شك أن الأدباء لا يستطيعون أن يصلوا الوصول الحق دون مخاطبة العمق الداخلي المتمثل في إذكاء العواطف والمشاعر الداخلية الممزوجة بروح العقل بحيث يبرز هذا الأدب ما يسعى إليه العقل الباطن من طموح ، وكبرياء ،وعلو عند المتلقي .
والإشكال الذي يجعل الخلاف ما يزال قائما" بين الناس هو مقدار الجرعة الوجدانية والعاطفية والعقلية التي يجب أن يحملها النص الأدبي دون أن تخرج هذا النص عن حدوده المعقولة .
فالحب أحد أغراض الأدب التي يطالب بها الأديب والمتلقي ؛ فإذا خرج في مخاطبته للمرء عن حدود العواطف السامية إلى مخاطبة الغرائز الدنيا وخاصة ما يتعلق بالجنس أصبح أدبا" هابطا" ومن هنا يبدو أن ما كتبه امرؤ القيس عن مغامراته الغرائزيه مع المرأة بشكلها الهابط محببا" للمراهقين والمولعين بإرضاء حسية الإنسان وغرائزه الهابطة وعلى شاكلته ما كتبه نزار القباني في جانب من جوانبه .
وإن كان هذا لا يقدح بشاعرية الشاعر فكلا الشاعرين صاحب فن ، ولكنهما هبطا بشاعريتهما إلى الدرجة الدنيا ، وقد فصل قدامه بن جعفر بنظريته الشعرية بين الأدب والأخلاق ، وجعل الأخلاق علاقة قائمة بين الإنسان والقيم ، ولو رحنا نتتبع تلك المخالفات التي ارتكبها الشعراء بحق القيم لما انتهينا من العد والحصر ؛ ذلك أن علاقة مهمة قائمة بين الشكل والمضمون فكلاهما سند للآخر فقد أخذ على المتنبي ما صنعه مع كافور قدحا" ومدحا" والأدب اليوم في مختلف فنونه يواجه حربا" ضروسا" بين بحث المتلقي عن الارتقاء بالقيم وبين مطالبة تجار السينما إرضاء الغرائز الدنيا من الإنسان ، والدليل على ذلك الكثير من الرويات الهابطة التي تمثل على أنها قصص واقعية ترسم عمق الواقع وقد كتب إحسان عبد القدوس ما كتبه ليدلل على ذلك على أنه يجب علينا ألا نغفل الانحراف الذي يواجهه أدبنا بفعل الصحافة باتجاه إرضاء السلطة وإظهار قانون مسيرتها على إنه الأفضل والأحسن وكم يكتب اليوم من تاريخ ( وأنا أعتبر التاريخ في معظم جوانبه أدبا" والأدب في أغلب نصوصه تاريخا" ) يسهم في تكريس قيم سلطوية غايتها تخدير الجمهور، وتقنين تفكيره والسير به ضمن قنوات خاصة .
ولكم كنا نحلم أن تكون الصحافة والأدب الخادم الأمين على تفكير الأمة ومصالحها وأهدافها الدينية والإنسانية بينما أصبحت هذه الصحافة والأدب خادمين أمينين لرغبات السلطة ورجالاتها وأحلامهم . إن علاقة الأدب بالغرائز علاقة وشيجة ، ولكنها يجب ألا تأخذ شكلا" هابطا" كما حدث عند شعراء النقائض في العصر الأموي ( جرير –الأخطل – الفرذدق).
إن تجربة الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ، والعصر الأموي والعباسي تدل دلالة عميقة على تفتح الوعي النوعي عند النخبة المنفردة إثر تعطيل قانون التكافل الاجتماعي واستلاب حق الإنسان لأخيه الإنسان ؛ كما وأن تجربة الشعراء العذريين لتعبر تعبيراً عميقاً على ردود الأفعال الصحيحة إزاء ظاهرة بناء علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على أسس من الحاجات المادية والمبادلات المصلحية وأن وجود العمق الروحي في مبادلات هذا الحب ليبرز ظاهرة انزياح القيم في المجتمع الذي تعيشه تلك القدرية.
نحن إذن أمام تجارب عديدة ومتنوعة عند الأدباء ولكل تجربة خصوصياتها وعمومياتها بحسب نفسية الأديب وقيم المجتمع التي يتعامل بها ، وإنه من السخف بمكان أن نشير على سبيل المثال إلى وجود حب عذري في هذا الزمن الذي نعيشه لأننا نعيش حالة مبادلات مصلحيه فجة قائمة على المكاسب المادية لا على القيم الروحية وما نطلبه من الأدباء أن يعمقوا المبادلات الروحية الحميمة حتى يسيروا بدفة المجتمع باتجاه الأسلم والأصح والأجود .
إن فلسفة التجارب الأدبية عند الأوروبيين حديثاً سواء أكانت فردية أم مذهبية لا تعدو أن تكون انعكاساً لتجارب المجتمع أفراداً وجماعات ، وما هذا الاستلاب باتجاه مسرح شكبير عند الجمهور لديهم إلا لما يحمله من حرارة مأساة الروح عند أبطال تلك المسرحيات .
ومما لا شك فيه أن التجارب الأدبية تبقى التجارب النوعية التي يستثمرها المفكرون والأدباء والجمهور وما فعله فرويد لم يكن كما اعترف هو إلا بسبب إطلاقه على مفرزات الأدب واكتشافه لعلاقة التصرفات عند الفرد بما يمليه المجتمع وما يطمح إليه هذا الفرد .
محنة الأدب والأدباء
ليس هنالك أدنى شك لدى كل أديب أو متأدب أو قارئ أن الأدب ليس فن اللعب بالكلمات ، ولا هو ترف ، وليس هو وسيلة للتسلية ، والخداع ، أو تنمية النزعات ، والأهواء الشخصية ، وليس هناك شك أن الأدباء هم نبراس الأمة و مصالح الإضاءة في ليلها المظلم لأن الأدب أحد أركان الحياة 0
وإذا كان هناك من مسؤولية تقع على عاتق الأديب ، فإنما هي من كونه يحمل بين جنبيه دعوة إلى الحياة إلى الخير إلى الجمال لأن الأديب دليل قومه ، وأهله ، وشعبه إلى سبيل الخير؛ وكم من الأدباء قد دفعوا ثمن مواقفهم حياتهم وأرواحهم ، أو على الأقل دفعوا ثمن ذلك تشردهم ونفيهم عن أوطانهم .
وإذا كان هناك من محنة يعيشها أدبنا اليوم فإنما هي من المحنة التي يعيشها أدباؤنا الذين يلهثون وراء سراب خادع تتقاسمهم النزعات المختلفة وتحركهم الاتجاهات ذات الأبعاد المغيبة عن مسرح الواقع لقد ساهم الأدب مساهمة فعالة في دفع حركة التحرر الإنساني من قيود الظلم ، والطغيان الاجتماعي ، والسياسي ،والفكري ، ولكن البعض من أدبائنا اليوم يسير في عجلة الحركات الأدبية المسيرة من اتجاهات غير أدبية .
لن أتحدث عن السريالية والوجودية الدادائية وغيرها وما صنعته من انقسامات وإنما سأشير إلى أن أدباءنا ما تزال نظراتهم الضيقة تحدد آراءهم الفكرية التي ينسخونها على صفحات نصوصهم الأدبية.
لقد ولد الفن من الواقع ليتحدث عن آلام و آمال الإنسان ،ليرسم للآخرين طريق الخير ،وليس من حق الأديب أن يتناسي مسؤولية تجاه المجتمع والناس والحياة لآن مهمته مميزه.
إن غاية الأدب إتاحة الفرصة الحقيقية أمام الآخرين لتظهر الحقيقة بثوبها الصحيح لا لتزورّ بحيث يكون الأديب قد حصل على ما يريده من أهداف خاصة به و أدباؤنا اليوم أحد ثلاثة أشخاص :
الأول: أديب انهزامي لا يفكر بموقف من المواقف الإنسانية بل على العكس من ذلك يكرس هذا الموقف الموجه ليثبت للآخرين أنه خادم أمين من أجل الحصول على العطايا و الهبات .
الثاني:أديب صامت لا يحرك ساكناً ولا يتحرك تجاه موقف من المواقف و هذا النوع من الأدباء يترك الساحة فارغة لتملأ بأفكار موجهة من قبل الآخرين.
الثالث :أديب يشجب كلّ موقف لا يخدم الإنسان ولا يراعي التطور الاجتماعي و الإنساني وهذا النوع هو ضمير الأمة المتيقظ وأناها الأعلى الذي يتدخل حتّى لا تقع الأمة في مستنقع السقوط .و لكنه في الوقت نفسه يدفع ثمن موقفه هذا إما حياته و إما تشرده .
و إذا كان هناك من موقف يفترض أن نشير إليه .هو دخول العديد ممن لا علاقة لهم بالأدب و الفكر السّاحة الأدبية بطريقة ،أو بأخرى و اعتبارهم أدباء و هم بعيدون عن الأدب بعد الأرض عن السماء .
إن الأدب مسؤولية عظيمة أمام الله و الناس و المجتمع على الأديب أن يلتزمها بأمانة مخلصة حتى يبقى المجتمع محافظاً على تماسكه .و إن أديباً حقيقياً واحداً ليزن في مميزان الأمة مالا تزنه الجبال لأن كلمته الفصل و قوله الحق
هــدم أم تجديد ؟ بقلم حسين علي الهنداوي
هــدم أم تجديد ؟
1- هل غاية التجديد عند دعاته إسقاط لغة القرآن الكريم ؟
2- هل محاولات التجديد تعني أن نعيش حالة سفاح أدبي تكون فيها الفحولة استيراد نطف غير شرعية أدبياً ؟
3- هل المجدد من يخالف إجماعاً أدبياً أو يستبيح فضيلة من الفضائل الاجتماعية و الإنسانية و الدينية ؟
4- هل العودة إلى الأصالة حافز إلى أدب نظيف 0
من العجب العجاب في هذا العصر الذي نعيشه عصر ( الرويبضة ) كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ترى و تلمس بشكل حقيقي مدى التأكيد على قضية الهدم أكثر من قضية البناء و الأعجب من ذلك أنك ترى أن عملية الهدم نفسها تظهر على أنها عملية بناء و تأسيس و أن دعاة هذا الهدم يظهرون على أنهم بناة مجددون و أن ما يصنعونه هو رقي و حضارة و تقدم ونقلة في الأدب و الفكر 0
و المثير للأسى و الحزن أن ترى مؤسسات كبيرة ينفق عليها أمول طائلة و يجند لها رجالات كثر تسعى سعياً جاداً في هذه المحاولات و الغاية البعيدة المرمى هي إسقاط لغة القرآن الكريم من أذهان المتلقين و بالتالي إسقاط ارتباط المسلمين بدينهم و تحويلهم من أصحاب عقيدة إلى أصحاب دنيا متخذين شتى الطرق و مختلف الوسائل و محاولين اختراق كل التحصينات المنيعة ابتداءً من لغة القرآن الكريم و انتهاء بالأدب و نحن نعرف جميعاً أن ما يسمونه بحركة التجديد أو التحديث التي نحن بحاجة إليها دون التخلي عن معطيات الموروث إنما جاءت سفاحاً و أن مولودها الجديد يعيش حالة الفصام و الهوس و الازدواجية و إن معظم من عزفوا على هذا الوتر مصابون بالحول الشعري و الصرع الأدبي و بعضهم تجاوز ذلك إلى المازوخية و السادية الأدبية و لقد وجدت بعضهم يجهد نفسه ليالي طوال في سبيل إبداع عبارات متميزة على حد زعمه مثل ( السقوط إلى أعلى – التمرغ على الثلج الأسود – الاستحمام بالنور المظلم ) و غير ذلك من العبارات التي لا تمثل في حقيقتها سوى فأفأة لفظية و نكوص لغوي 0
نحن لا ننكر أن أدبنا العربي أدب سامق البناء و لكنه في مرحلة زمنية قد وصل الأدباء به إلى حافة السقوط و التردي و ذلك باستعمال الزخرفة اللفظية و الألفاظ الطنانة و المعاني الخاوية حتى تحول الشعر إلى أحاج و ألغاز و جعجعة دون طحن كما في قول أحدهم :
عجب عجيب عجب بقرة تمشي و لها ذنب
و قول الآخر :
الأرض أرض و السماء سماء و الطير ما بينهن يطير
و لكن ذلك لا يعني أن نخرج من ثوب الأصالة و ندعي كما زعم الشاعر نزار قباني أن القصيدة العربية قد خرجت من بيت الطاعة 0
و السؤال الملح الذي يطرح نفسه في كل لحظة :
هل محاولات التجديد تعني أن نعيش حالة سفاح أدبي تكون فيه الفحولة في استيراد نطف غير شرعية أدبياً و زرعها في أنابيب اختبار لا تكون نتيجتها إلا مواليد مشوهة ؟
لقد كان لمحاولات بعض الشعراء العرب في رفض الأصيل على أنه قديم و قبول الحديث على أنه جديد و التمترس وراء دعوات مشبوهة أثر كبير في تغيير مفهوم الأدب و تحويله من أدب حقيقي إلى أدب صوري و لكم كنا ننبه إلى أن التجديد المنطلق من الأصالة و التراث إنما هو مطلب مشروع على الاّ يخرج باللغة إلى جسور وهمية و أن محاولة تقليد الغير من الشعوب الأخرى إنما هو محاولة لا تعني الإفادة من هذا الغير من الشعوب الأخرى و ذلك محاولة يجب أن لا تعني التخلص من القواعد التي أسسها الأدباء على مر العصور فلا جديد لمن لا خلق له ولا أدب لمن هزلت لغته و يعجبني التفات الرافعي رحمه الله في كتابه ( تحت راية القرآن) إلى عملية الهدم التي عاشها عصره وما تزال معركتها محتدمة إلى يومنا هذا تحت مسميات عدة بحيث برز المجدد العصري في عصر الرافعي المسخر للهدم حقيقة و الذي لا يكون مجدداً على حد زعم الهدامين إلا إذا كان ( ممن يخالف إجماعا أو يصيب فضيلة أو يغض من دينه أو ينقض أصلاً عربياً جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة أو يحقر معنى من المعاني التي يعظمها أنصار القديم من القرآن فصاعداً ) 0
أما المجدد العصري في أيامنا فهو الذي يلقي بقواعد اللغة بسلة المهملات و يعتبرها تراثاً قديماً لا يتناسب مع الحضارة و الرقي فيرفع مفعولاً و ينصب فاعلاً و يجر الحال و التمييز و قد يسقط المعاني الحقيقية للغة من باب إدعاء أن اللغة تتطور مجازاً باتجاهات مختلفة 0
إن دعوى الكثير من المجددين المعاصرين القائمة على التخلي عن قواعد هذه اللغة على أنها حمولة زائدة يجب التخلص منها إنما جاءت هذه الأيام لتكمل ما بدأه مستشرقو القرن العشرين من أن العامية العربية أقدر من الفصحى على المعاصرة و مواكبة العلم و أن العرب لن يتقدموا على حد زعمهم إلا إذا تركوا اللغة العربية الفصحى و اتبعوا العامية أو كتبوا بالأحرف اللاتينية وكل ذلك من أجل هدم ركن ثان بعد القرآن الكريم حبل الله المتين في الأرض 0
إن للأدباء بكافة أجناسهم الأدبية و للشعراء الحق في ابتكار طرق جديدة للتعبير عن قضايا أمتهم و لكن دون التخلي عن الثوابت الأساسية للغة و الأدب فلكل فن أدواته ووسائله و غاياته و كما أنه لا يمكن لأي مهندس معماري أو بنّاء متميز أن يتخلى عن أدواته كذلك لا يحق لأي أديب أو متأدب أن يتخلى عن قواعد اللغة و معانيها المنطقية 0
إن الأدب المعافى من أمراض الهلوسة و السيلان غير الشعري إنما ينطلق من قواعد ثابتة تقوم على البناء لا الهدم و على التجديد لا التقليد ضمن سياق الذوق العربي و الإسلامي الأصيل الذي لا يخرج عن هويته الحقيقية فنحن نمتلك لغة رائعة لها خصائص مميزة و أدبا عريقاً لا مثيل له تمتد جذوره في التراث و الأصالة و العودة إلى الأصالة التي تستفيد من التطور دون أن تتخلى عن هويتها حافز إلى أدب نظيف لأن الإسلام لا يقف بوجه التجديد إذا انطلق من مصادره الثرية و لم يخالف ما جاء عبر أصالتنا المعهودة 0
أيها الشعراء توقفوا عن الهلوسة
هل نحن نعيش جيل الشعر المنكود ؟؟ !!!
و هل شعرائنا في حالة سقوط قيمي و حضاري ؟؟ !!!
و لماذا هذا التركيز على الضياع و التشرد و التيه في الفكر ؟؟ !!!
و لمَ تبرز المرأة عند الكثير من شعرائنا على أنها بضاعة مزجاة ؟؟ !!!
ولمَ يبدو عند الشعراء أن الكيل بمفاتنها هو الكيل الوافي من وجهة النظر التجارية ؟؟ !!
أسئلة تحتاج إلى أجوبة واعدة و علينا أن نعترف منذ البداية أن أدبنا المعاصر في حالــة نكوص و سقوط و ترد ٍ بعد تلك الهزائم و النكسات التي منيت بها أمتنا العربية و الإسلامية و التي ما يزال شعراؤنا يعزفون على أوتار اللحاق بركاب ما تنتجه مطابخ الشعر و لنقد في أوربا ناسين و متناسين أن مشكلة الأمة تكمن في نقص مناعة في الوعي الحقيقي لمشاكلها و نحن نرى أن الكثير من شعراء هذه الأمة ما زال يقبع في كهوف السريالية و الوجودية و العبثية فبين معجب بدعوات الهدم و متقمص لنوازع السقوط و حالم بسحق الموروث الديني على أنه عائق في وجه تطور الشعر وهم يعيشون حالة من الهلوسة الشعرية زاعمين أنـها تمثل دفقة الإبداع و عمق الخلق و الابتكار حتى إنك لتجد أن بعضهم يسف إسفافاً كبيراً فـي دعوته إلى نسف مفهوم الشاعرية على أنه خروج من المعقول إل اللا معقول و من الوضوح إلى الغموض و من الواقعية إلى الحلم و من المحلية إلى العالمية 0
و إننا اليوم و نحن نواجه أعتى حملة فكرية أدبية دينية تهدف إلى التشكيـك بكل ما يتصـل بالقرآن الكريم و الحديث الشريف و عنفوان هذه الأمة يفترض في شعرائنا أن يعوا وعياً تاماً أن الشعرية العربية التي ترتبط بالموروث العربي هي ثقافة إنسانية تبسط أجنحتها في عالـم يبحث عن الخير و المحبة و السلام فهي ثقافة شفافة تصل الإنسان بالآخر ضمـن منهـجية نقدية أسس لها الشعراء منذ زمن مديد 0
إن جيل الشعر المنكود الذي يحمله إلينا شعراء معتوهون استنبتوا في أرحام غير عربــية و غذوا بترجمات مشوهة أفرزوا لنا جيشاً عرمرما من شعراء الأنابيب الذين لايفرقون بـين قافية البيت الشعري و قافية الرأس البشري و بين الشعر الموزون و الكلام المخـزون و بين الشعر بتشديد الشين و كسرها و الشعر بتشديد الشين و فتحها و هذا ما جعل الشـعر يصاب بأمراض الفأفأة الشعرية و التأتأة الكلامية 0
و نحن كمتلقين نطالب الشعراء بالتوقف عن الهلوسة اتجاه المرأة و المجتمع و الحـــياة و الكون و نطالب هؤلاء الشعراء أن ينتجوا لنا شعراً يحمل هموم الأمة و يعرض مشكلاتها ضمن رؤيوية إنسانية واعدة 0
لقد سفح الكثير من الشعراء المهلوسين قصائدهم على نحور النساء و بين حانات الخــمر و تحت أقدام السفاحين بحثاً عن الشهوة و المال و الشهرة و نسوا أن للكلمة مكانها و هدفها و قيمتها 0
إن الكلمة الحرة الصادقة المخلصة الواعدة هي شجرة الحياة و الجمال و إن أي شاعر حقيقي يمتلك زمام الشعر الحق يحمل بين جناحيه أسلمة الكون ضمن وعد إنساني يحمل إلى الإنسان سبل الحق و الخير و الجمال 0000 فأما الزبد فيذهب جفاء ً00 و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض 0
شعراء الأنابيب
هل يمكن للشعر أن يستنبت في أرحام مستعارة ؟؟؟ !!!
وهل يمكن للشعراء أن تنمو شخصياتهم الشـعرية في أرحام أدبية ذات أمشاج مختلطة ؟؟؟؟ !!!!
و هل يمكن أن يتحول الشعر إلى صَـناعة بفتح الصاد على حد قـول الناقد العربي ابن سلام ؟؟
في حوار مع صديقي الشاعر حاتم قاسـم تجاذبنا أطراف الحديث حول أحقية من يمكن أن يطلق عليه لقب شاعر بفعل نصه الحقيقي لا بـقوة المنابر التي بدأ يتسنمها الكثير ممن تسلبطوا على الشـعر فأتقنوا تأليف حروفه دون أن ينفذوا إلى أكسير الشعر الذي قلما تجده عند شــعراء عصرنا هؤلاء الذين استنبتوا أنفسهم في دوواوين الشعراء الآخرين و لم يستطيعوا أن يستقلوا بشخصياتهم الشعرية المتميزة على ألا نغفل أنه من حق الشاعر أن يتتلمذ على يد شاعر أعظم منه فيستوحي شخصيته إلى فترة ما ثم يعود فيبني عظامه من جديد و يستنبت ريشه بشكل مستقل ثم ينطلق باتجاه السماء الشعرية ليكون لنفسه فضاء شعرياً مستقلاً 0
قال لي صديقي الشاعر حاتم قاسم إن النابغة الذبياني شــاعر متميز لم يستنبت في رحم شعرية أخرى بنى شخصيته الشــعرية من خلال تعدد الثقافات الشعرية التي تلقاها عن سابقيه و أســــهمت بيئته في تكوين شخصيته الشعرية فكان وحيد عصره جمع ميزة النـقد إلى جانب موهبة الشعر فكان المحكم الوحيد بين الشعراء في سـوق عكاظ و هاك بعض النماذج من شعره التي ارتقت إلى مستوى تشكيل فضاء مســتقل يميز النابغة عن غيره من الشعراء :
أتاني أبيتَ اللعنَ أنكَ لمتني و تلكَ التي أهتمّ منها وأنصبُ
فبتُّ كأنّ العائداتِ فرشن لي هراساً، به يُعلى فِراشي ويُقْشَبُ
حَلَفْتُ، فلم أترُكْ لنَفسِكَ ريبَة ً، وليسَ وراءَ اللَّهِ للمَرْءِ مَذهَبُ
لئنْ كنتَ قد بُلغتَ عني وشايةً، لَمُبْلغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذَبُ
و لكنني كنتُ امرأً ليَ جانبٌ منَ الأرضِ ، فيه مسترادٌ ومطلب
مُلوكٌ وإخوانٌ، إذا ما أتَيتُهُمْ، أحكمُ في أموالهمْ ، وأقربْ
كفعلكَ في قومٍ أراكَ اصطفيتهم ، فلم ترَهُمْ، في شكر ذلك، أذْنَبُوا
فلا تتركني بالوعيدِ ، كأنني إلى النّاسِ مَطليٌّ به القارُ، أجْرَبُ
ألمْ ترَ أنّ اللهَ أعطاكَ سورة ً ترى كلّ مَلْكٍ، دونَها،يتذَبذَبُ
فإنكَ شمسٌ ، والملوكُ كواكبٌ إذا طلعتْ لم يبدُ منهنّ كوكبُ
و لستَ بمستبقٍ أخاً ، لا تلمهُ على شَعَثٍ، أيُّ الّرجال المُهَذَّبُ؟
فإنْ أكُ مظلوماً ؛ فعبدٌ ظلمتهُ وإنْ تكُ ذا عُتَبى ؛ فمثلُكَ يُعتِبُ
هذه الأبيات أليست تدل على أن الشاعر قد كون شخصية مستقلة صحيح أنه استفاد من تجارب الشــعراء قبله و لكنه خرج من عباءاتهم ليرتدي عباءة جديدة هي عباءة النابغة الذبياني 0
قلت لصديق الشاعر هذا صحيح و يدعمه في الرأي أن المدرسة الأوسية التي أسسها أوس بن حجر و بشامة بن الغدير و كان من تلاميذها زهير بن أبي سلمى و أبناءه كعب و بجير و سلمى إضافة إلى الحطيئة و جميل بن معمر طبعت شعراء هذه المدرسة بصفات متشابهة إلى حد ما جعلت من الصنعة الشعرية عنصر استلاب لدى أعضاء هذه المدرســة فكانوا كلهم من الشعراء المحككين الذين لا يخرجون نصهم إلى الناس إلا بعد مراجعته مرات عديدة قد تستغرق حولاً كاملاً ومع ذلك بقيت شخصياتهم الشعرية مستقلة عن بعضها البعض فزهير لقم ثدي الشـــعر من خاله بشامة بن الغدير ومن زوج أمه أوس بن حجر و بقيت شخصيته مستقلة عنهما لأنه يأنف أن يستنبت شاعريته في رحم هذين الشـاعرين و لكن الحالة في أيامنا المعاصرة تختلف فالكثير من الشعراء لم يكملوا حملهم الشعري مدته الحقيقية فخرج الشعر لديهم سقطاً أو مشوهاً أو تراه أحياناً ناقص الأعضاء و ذلك بفعل مرور الشعراء بشخصياتهم على شخصيات الشعراء الآخرين دون أن يعتصروا منهم رحيق الشعر 0
اعترضني صديقي الشاعر حاتم قاسم رافعاً يديه بنقطة نظام و مقاطـعاً إياي أن مدارس الشعراء المعاصرين انتهجت أســلوباً مختلفاً و مزجت ثقافتها العربية بثقافة غربية كمدرسة شعر و جماعة ( أبلو ) و مدرسـة شعراء المهجر الشمالي و قد برز منهم شعراء ميزوا أنفســهم كيوسف الخال و إبراهيم ناجي و الشاعر القروي 0
قلت له و لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل فلكل شاعر من هؤلاء الشـعراء شخصية مختلفة إذ أنهم بنوا شخصياتهم بشكل مستقل و الأمر الخطير في قطيع الشعراء المعاصرين الذين دخلوا عالم الشعر دون أن يتمكـنوا من أدواتهم الشعرية فجاءت أشاعرهم عينات مليئة بالشــوائب بحـيث تجد و أنت تتصفح القصيدة الواحدة مجموعة شخصيات لشــعراء اختزنتهم ذاكرة الشاعر الذي اقتبس هذه الشخصيات كما هي دون أن يدخلها فرنه الذري و يصهرها ثم يحولها إلى مادة جديدة تستقي من شخصيته طابعاً جديداً يلغي تلك الشخصيات من النص الذي كتبه هذا الشاعر 0
قال لي صديقي الشاعر حاتم قاسم تعقيباً على ما قلته و أنا أضيف إلى ذلك هذه الترجمات المشوه للأشعار الغربية أســهمت في التأثير على مفردات أولئك الشعراء الذين استنبتوا في أرحام هذه القصائد المترجمة ناهيك عن دعوة بعض الشعراء إلى الكتابة دون الالتزام بقواعد اللغة و هذا ما يؤكد هذا الاستنبات الذي جعل الشـــاعر يبني نصه بناءً غير متجانس و هذا ما أشرت إليه من عدم امتلاك هؤلاء المستنبتين لأدواتهم الشعرية 0 و لو قرأت الكثــير من النصــوص الملقاة على أرصفة الصفحات الأدبية لوجدت غموضاً مســتغلقاً يغلف الكلمات يحتاج إلى بصارة نقدية قد تفك طلاسمه و قد لا تســتطيع فك هذه الطلاسم 0
قلت له قبل أن نختم حوارنا : إن العصــر الذي نعيشه أفرز الكثير من المهوشين على الفن الشعري و الذين ليــس لأحدهم أي علاقة بالموهبة الشعرية و لكنه هاو من الهواة يحب أن يتلقى الشعر و بفعل فاعل أصبح محرراً لصفحة أدبية أو موظفاً في مؤسسة أدبية جعلته يبحث عن طريقة يستنبت فيها هواياته لتصبح اختلاساً لكثير من الجمل الشعرية التي ينظم بينها بخيط واه فتبدو و كأنها عقد من اللؤلؤ و لكنك إذا ما أمسـكت بها لتتأكد من أدوات صناعتها انفرط العقد بين يديك و ظهــر بريق حبات اللؤلؤ المزورة لتعود من جديد إلى مادتها الأولى 0
لماذا الهجوم على العربية
ما سمعت عبارة أغرب من قول الشاعر اللبناني سعيد عقل تعليقاً على العروبة : مارست كتابة العربية ثلاثين عاماً فما كرهت كلمة كتبتها مثل كلمةٍ مؤلفة من ثلاثة أحرف ( العين و الراء و الباء ) مع أنه كتب أجمل قصائده المعروفة ( سائليني يا شآم) باللغة العربية 0
و ما قرأت عبارة قط أجمل من عبارة الشاعر حليم دموس حين قال :
لغة إذا وقعت على أسماعنا كانت لنا برداً على الأكباد
ســتظل رابطـــة تؤلف بيننا فهي الرجاء لناطق بالضاد
فهل للغة العربية لغة جميلة أم لغة قبيحة ؟
وهل هي لغة حضارية تصلح للحياة و الأدب و الاستعمالات اليومية ؟
و هل هي لغة ما تزال ترضع أبناءها حليب الفصاحة ؟
وهل هي قادرة على مواكبة العصر و استيعاب كل المصطلحات الجديدة؟
و لماذا الهجوم على هذه اللغة بالذات و بشكل مستمر ؟
ولماذا الإغارة على أحقيتها في الاستعمال عند أبنائها؟
أسئلة كثيرة تشرع في الآفاق أمام كل عربي و مسلم غيور على أمته و لغـــــته و دينه
و بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء فإن هذه اللغة أقصد العربية تمتلك قواعد دقيقة و نحواً
عالي المستوى فالألمان يقولون : إن أبرع علمين أجاد بهما العرب هما عـــلم النحــــو و علم الجرح و التعديل 0
هذه العربية التي ابتدأت بالذات قبل ( قفا نبك) بما لا يقل عن ثلاثة آلاف عام ما زلنا
نستعمل مفرداتها نفسها و ما زالت تحمل الجمال و الشفافية نفسها و السحر نفسه و هي أعظم لغة حضارية لأن الله تعالى اختارها لغة لقرآنه الكريم ( إنا جعلناه قرآناً عربـــــياً لعلكم تعقلون ) و هي أم اللغات كلها كما أن مكة هي أم القرى لأنها قادرة على التشــكل في كل عصر بحسب الحاجة و ما من مصطلح جديد إلا و نجد له في جذور العربيـــــة أصلاً و لكن المشكلة تكمن في نقطة واحدة ماتزال المحاولات مستمرة لطمســـها وهي التحول عن لغة القرآن الكريم و بالتالي نسيان أحكام هذا القرآن الكريم و لم يعد أحــــد يشك أن الصهيونية العالمية ما تزال تسعى لتحقيق حلمها الأبدي ( إخراج النــــاس من أديانهم و إعادتهم إلى اليهودية من جديد ) و ما من ســـــبيل لتحــــقيق ذلك إلا صرف المسلمين عن إسلامهم و لا يتأتى ذلك إلا في وضع جدار فاصل بين العرب و قرآنهم و ذلك بالعزوف عن لغة القرآن ثم هجر العربية الفصحى إلى العامــية الشــــعبية أو إلى الكتابة بالأحرف اللاتينية و الشيء المخيف الآن بعد فشل تلك المحاولات أنك ترى أن الحملة تتوجه إلى تجهيل الناس بلغتهم بحيث ترى أن الصفوة التي كنا ننظر إليها على أنها الرائدة في تمثل اللغة تمارس الخطأ على أنه الأسهل و الأحســــــن و الأجدى لأنه أقرب إلى الناس و هكذا نجد أن تدريس اللغة العربية بدأ يخرج من التأصيل إلى مقولة ( تمشية الحال ) على حد قول العبارة الشعبية و إنك تسمع الآن من يقول لك لا حاجة لنا في تحميل طلاب اللغة العربية عناء حفظ قواعدها فنحن نكتفــي من طلابـــــنا كما يقولون بضرب أمثلة فقط على نسق المطلوب دون التعرف على القاعدة و كأن هناك حملة تستهدف نسيان قواعد اللغة العربية و كنا قد سمعنا من قبل في خمسينيات القرن الماضي أن باب المنصوبات في قواعد اللغة العربية يجب أن لا تعرب كلماته بتفاصيلها الدقيقة ( مفعول به – مفعول فيه – مفعولاً مطلقاً – مفعولاً لأجله – حالاً – تمييزاً - استثناءً ) بل تعرب فقط اسم منصوب دون ذكر الحالة و لا نســــتغرب إذا ما قيل لنا مستقبلاً لا حاجة لكم بنطق الحروف تحدثوا بالإشارة فذلك يكفي 0
إن عبارة الوليد بن المغيرة المعروفة في وصف القرآن الكريم إن عليه لحلاوة و إن له لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق ترسم صورة هذه اللغة التي حملت كـــلام الله إلينا و التي جعلت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما يسمع قوله تعالى
( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى تنزيلاً ممن خلق الأرض و السموات العلا الرحمن على العرش استوى له ما في السموات و ما في الأرض وما تحت الـــثرى و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى ) يستجيب للدعوة الإلهية و يعلن إســــلامه و ما ذلك إلا لأن العربية بما تحمله من آفاق و مضامين استطاعت أن تستوعب هذه الدعوة الإلهــية
إن اللغة هي المدخل الرئيس لفهم مختلف العلوم على الإطلاق ولولا أن يكون ما تحمله هذه اللغة من بعد معرفي هو الموصل لحقائق الكون و الحياة لما اســـــتطعنا أن نفهـم الحياة و علومها و يحضرني ما روي عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم في تبيان أهمية اللغة العربية و مكانتها بالنسبة للقرآن الكريم و أهمـــية العرب و مكانتهم بالنسبة للناس جميعاً قوله : أحبوا العرب لثلاث لأني عربي و القرآن عربي و كـلام أهل الجنة عربي 0
إننا اليوم بحاجة أكثر مما مضى إلى التصدي إلى هذه الترهات التي تحاول أن تجعل من لغتنا العملاقة قزماً صغيراً مشوهاً مع أن الله تعالى تكفل لنا بحفظ قرآنه و بالتالي حفظ لغتنا العربية حين قال : ( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ) 0
هل يصبح الأدب من اختصاص الطيور؟!
هل يتحول الأدب إلى مجرد تسلية وألعوبة؟
وهل يتحول الأدباء إلى مجرد منجمين على أبواب قلعة الصحافة؟
وهل يمكن إنقاذ آخر قاطرة تندفع بشعراء عام/2000/إلى هاوية التسكع؟
وكيف نجعل من الأدب سلاحاً في وجه الظلم والتسلط، والاستبداد؟
تساؤلات شتى تحرض فيروسات الموت في ذاكرة الأيام، واستفهامات شتى تبحث عن حلول لها في زمن لم تعد الإنسانية فيه إلا مجرد مصنع لتعليب الهواء وأجوبة تائهة تبحث عن أسئلة يدماغوجية قد تطرح بعد عام /2000/م على هوائيات حديثة تتمثل في جهاز جوال (متلفز وممذيع) تحاور فيه كل من تشاء من أدباء العالم كل واحد بلغته المختلفة ولكن بترجمة آلية عبر لغة عالمية واحدة.
وقبل الإجابة على كل هذه التساؤلات ، علينا أن نعيد اعتبارنا وموقفنا من الفنون والآداب في حركة عالمية متسارعة نحو المتغير أفقياً وشاقولياً.
هل عصر ما بعد عام /2000/م عصر الفنون والأدب أم هو عصر الحركة الرياضية والأرقام القياسية بحيث تصبح العاطفة (زائدة دودية)، علينا أن نتخلص منها ؟ وهـل عـام /2000/م القرن الحادي والعشرون سيكون عصر الوجدان بحيث تسهل على أي حشرة من حشرات الأرض ولو كانت (سحلية)، أو (برصاً) أو (عصفوراً) أو (صرداً) أن ينتقل لك مشاعره الحاره تجاه موقفه من هذا الإنسان اللاهث خلف بصيص ظلام يكتشف فيه أسلحة جديدة تدمر ما على الأرض دون أن تحدث خراباً في العمران فقط (د.د.ة) لقتل الإنسان وحده دون سواه.
وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نضع تصورات جديدة لمدة تزيد على ربع قرن، فإنما ذلك لعجلة الحياة السريعة التي تضع أمام الإنسان مخترعات جديدة، ولكن يبقى هناك فسحة أمل يمكن من خلال دائرتها أن نلمح إلى تصورات جديدة للعالم خاصة فيما يتعلق بعلاقة الفنون والآداب بالحياة.
وعليه يمكن الجزم أنه سيكون قيمة نوعية للوجدان الصادق والعاطفة الحقيقية بحيث تبحث في جميع مختبرات العالم دون أن تحصل على درهم وجدان صادق، ونحن نعرف أن الوجدان الصادق هو لب القضية الأدبية والفنية ومن هنا سيكون انتشار واسع للفن والأدب الهابط، الرخيص المتصنع وسيكون للفن (الغجري) قيمة كبيرة جداً بحيث تندثر كل النصوص المبدعة في عصر ما قبل عام /2000/م وتصبح مجرد (علاك فاضي) على حد تعبير اللهجات الدارجة وسينظر إلى شعراء المعلقات أو المتنبي أو المعري وأبي تمام أو البحتري ... وغيرهم من الشعراء الأعلام بمفهومنا على أنهم شعراء متخلفين فناً ولغة وصياغة وفكراً وسينظر إلى شعراء مثل نزار قباني وعمر أبو ريشه والجواهري والخ ... على أنهم مراهقون كتبوا على جدران الحياة عبارات بليدة قاصرة لا يفهم منها إلا أنها أحلام بدوي في شوارع طوكيو.
وسينظر إلى الزير سالم والمهلهل والزيبق على أنهم شعراء فهموا عصرهم وتجاوزوه؟ وستصبح فنون الرقص الجنوبي هي التقليعة المسيطرة على هوائيات البث الشخصي.
لن أتجاوز حدودي فأقول إن ما قاله (طويس) أو غيره من مغني العصر كأم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب وسيد درويش مجرد عواء ذئاب في صحراء النفس القاحلة وسيستعيض جمهور الناس عن هذه الأصوات إلى تسجيل أصوات الطيور والرياح والشجر والرعود. والجنادب والضفادع والخيول وغيرها من الحيوانات العجماء المستنكر صوتها.
لا أظنني واهماً فيما أقول بعد أن تغيرت حركة الحياة على رحى مختلفة من حيث الفعل والقول، فالأدب على تعبير (جدتي) مجانين والمجانين في (القاموس) الأدبي أدباء وفنانون تميزوا وتفردوا فكان الجنون والجنون كما نعرف مشتق من فعل (جن) وجنن كم يقول (ابن جني) في نظريته اللغوية (نظرية الأصوات) يدل على الستر والمجنون مستتر بذكائه.
لن أستطرد طويلاً وسأعود إلى عام /2000/م بحيث يمكن أن تتحول فيه المتغيرات وتنزاح السحرة والمشعوذون بشكل كبير بحيث يصبح عددهم حوالي نصف سكان العالم وسيكثر (الدجاجله) الذين يدّعون أن العالم أصبح خاتم سليمان في أيديهم.
أما الفنون الحقيقية والآداب الصادقة فلن يكون لها مكان في قاموس الحياة.
وسأدلل على ما أقول: لننظر على قول ابن ملحان إذا صدق ظني
عوى لذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدت أطير
وهذا الكلام قبل تسعمائة عام على الأقل نشتم منه رائحة الهروب من الإنسانية من الكذب من الدجل إلى فطرية الحياة لماذا؟ أرى أن الذئاب ستتحول إلى بشر يمكن أن يستأنس بها بينما ستتحول البشر إلى ذئاب تنهش بعضها البعض ومن هنا ستتحول الحياة إلى مجرد معركة بين مغلوب ومغلوب ولا غالب إلا الأنانية والتدميرية والسادية وسيصبح أقل الأمراض النفسية خطورة الانفصام وسيظهر جيل الأقزام فكراً وشعوراً وعاطفة .
زمان الشعر والوجدان ولّى/ وخلّف بعده عهد الجنون(1)
فلا تأسف على عصر تدلى/ عناقيداً من الغضب السجين
فقد تمسي الأناس وقد تجلى / شعاع الشمس في الكون الحزين
ثعالبَ همها رقص بحقلٍ / وغيلاناً تفكر 1) بالجنون
(الأبيات من نظم الدار
الفطام الشعري
( استجابات و نوازع
الشعر حالة إنسانية تستدعيها الذات الفاعلة و تنطلق بها إلى عالم يرتسم بأبعاده القيمية الحقة و الشعراء كما يصنفون أنفسهم و إن كانوا أكثر الحالات استثنائياً مصابيح تشعل ظلام الليل إذا ادلهمت الخطوب على الأمة و تحولت حياتها إلى جحيم مظلم 0
و الشعر العربي في عصرنا الحاضر يحتاج إلى إعادة نظر من حيث الثقافة و الموارد و التقليد و الاتكاء فهو يحتاج إلى تحليل من نوع آخر يمتلك أدوات فنية جديدة تسبر لا أعماقه بشكل دقيق 0
أسئلة كثيرة تقرع ذاكرة الشعراء و تحاول نقل الستار الحديدي عن آفاق شعرنا فشعرنا الموروث استطاع أن يؤسس لنفسه في مرحلة تناسبت فناً و فكراً مع واقع ذلك العصر و لكن هل استطاع الشعراء في عصرنا أن يتجاوزوا مرحلة النمو الوجداني و النفسي وهل تخطوا مرحلة العواصف في مراهقتهم الشعرية و هل سيطروا بحق على قلق الفصام الشعري الذي جعل شعراء هذا العصر ينفصلون عن الشعر الأم انفصالاً تاماً بحيث قطعوا كل صلات الرحم التي تربط بينهم و بين جذور الشعر العربي و نحن نعلم أن حالة الرجوع إلى الشعر العربي الأصيل يقف أمامها أولئك المتسلبطون على فن الشعر و الذين يدعون باسم الحداثة أن التقليد عائق كبير و بالتالي لا بد من الانطلاق بالشعر من قيوده و نحن لا نطالب الشعر و لا الشعراء أن يكونوا مقلدين لأن التقليد مرحلة متدنية من النمو و لكننا نطالب الشعراء أن يكون لديهم ماض يستنيرون بمصابيحه المشرقة حين ينطلقون إلى المستقبل فنحن نرى اليوم أن الحركة الشعرية و المشي الشعري يحتاج إلى حوافز كبيرة إذ أن الشعراء ما زالوا يعيشون في حالة الطفولة الشعرية لأنهم انقطعوا عن كهولة الشعر العربي و حاولوا تقليد مشية الشعر الأوروبي و نحن لا ننكر أن في أوروبا نهضة مادية حققت وجوداً حضارياً لكنه في النتيجة لا ينسجم مع واقعنا الثقافي و الاجتماعي و الديني فدادائية الشعر الأوروبي و عبثيته جاءت بسبب القنوط الذي يعيشه الفرد في تلك البلاد أما نحن فإننا في حالة أخرى لا تنسجم مع هذا الواقع 0
إن تكوين الأمم و الأفراد إذا كان ينطلق من تربية للأنا و الذات و الميل إلى الفردية فإنه يؤثر تأثيراً كبيراً في الأهداف التي يرسمها الأدب لمستقبل الأمة و نتساءل لماذا يتسابق شعراءنا نحو الفردية دون أن يصل إلى نتائج مرضية لقد حاول أدونيس أن يخطو بالشعر العربي باتجاه الغموض على أنها مدرسة مستقلة يمكن أن تتطابق مع واقعنا إلا أنه في النتيجة استولى عليه الاستغلاق الشعري و تحولت لديه الصور الشعرية من كائنات حيه إلى أحجار جامدة 0
لقد انبرى أدباءنا كل ما هب و دب من مدارس أدبية أوروبية إلى شعرنا و حاكوا بمشيتهم الشعرية كثير من الشعراء الأوروبيين معتقدين أنهم بذلك يقفزون بالشعر نحو الأسمى و لكننا اليوم نكتشف أن شعرنا يدور مرة أخرى في رحى التقليد للشعر الأوروبي و نحن اليوم أكثر ما نحتاج إلى تأصيل شعرنا و تطويره و الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في تطوير هذا الطفل المدلل دون أن نمس بأساسيات هذا الفن
فالشعر المعاصر يحتاج إلى إعادة نظر في بنيته الحديثة و ما أروع ما قاله الحطيئة قبل ألف و أربعمائة عام :
الشعر صعب و طويل سلمه............ إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
• دنيا الوطن
• دنيا الرأي
هل صحيح أن أعذب الشعر أكذبه ؟!!
لا شك أن القرآن الكريم عندما قال في محكم آياته في أواخر سورة الشـــعراء ( و الشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون و أنهم يقولـون مالا يفعلون إلا الذين أمنوا و عملوا الصالحات 0000 )) يشير إلى نقطة حسـاسة في ذاكرة الشعر تتمثل في فهم معنى ((أنهم في كل واد يهيمون )) بأن وديان الشعراء التي يهيمون بها إنما هي خيالاتهم التي ينقلوننا إليها بفعل آلة التصوير لديهم فكم من شاعر نقلنا إلى عبقره الخيالي فأرانا ما لا نرى و أسمعنا ما لم نسمع و أذاقنا ما لم نذق طعمه و جعلنا نفارق أحبة و نعانق آخرين فإذا ما تركنا وادي خــيال الشاعر عدنا إلى واقعنا و لا يعتقد البعض أن الخيال مذموم فلولاه لما فتحنا آفاقـاً لتصور الجنة أو النار أو الميزان أو الحســاب و إنما المذموم من الخيــال هو المريض الذي يسترخي صاحبه فيه و يعتقد أنه واقع موجود من حوله و هذا مع الأسف ما وقع به شعراء قبيلة عذره فأصبحوا كغيرهم من المجانين الذين تلبسهم الخيال و هجرهم الواقع لكن الخيال الشعري الممدوح و المحبوب لدينا هو الخيال الذي ينقلنا إلى ساحة جديدة نســتمتع بمعطياتها و نتصور من خلالهـا الماضي أو الحاضر أو المستقبل و لا يكون الشعر عذباً إلا إذا حملنا على أجنحة المبالغـة فحول الصور غير الممكنة إلى واقع متخيل يستحبه الإنسان و يسر إذا ما سـرح بين أشجاره 0
يقول المتنبي واصفاً سيف الدولة الحمداني في معركة الحدث الحمراء التي هاجم فيها المسلمون الروم على مشارف الشام :
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطـال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح و ثغرك باسـم
ما أكذب هذه الصورة و ما أجملها لأنها تصور الردى ( الموت ) ساحة قتال يقف فيها سيف الدولة بوجه ضاحك و ثغر بسام بينما تمر من تحت أقدامه الأبطــال هزيمة مجروحة 0000 صورة تمس الخيال فما من إنســان إلا و يخاف الموت ولكن شاعرنا المتنبي صور سيف الدولة بشــخصية لا تهاب الموت بل تقف في عين الموت 0000 و هذا يعني المبالغة الزائدة في وصف صورة ســيف الدولة وهذا ليس كذباً إنما هو عذوبة في الكلام 0
و لو نظرنا إلى قول الشاعر المجهول الهوية
هامت بك العين ولم تتبع سواك هوى
من علم البين أن القلب يهواك
أليس خيال الشاعر في الشطر الثاني من هذا البيت يدلل على أن أعذب الشــعر أكذبه 000 ترى من الذي علم البين ( الموت ) و أرشده أنني قد متّ في هـواك و هل الموت يراقب هوى المحبين 00 إنها خيالات كاذبة و لكنها مسـتطرفة عند بني الإنسان 0
كما أننا لو قرأنا قول عمر بن أبي ربيعة :
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد و شفت أنفسنا مما تجد
و اسـتبدت مرة واحدة إنما العجز من لا يستبد
------------- -------------
كلما قلت مت ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
أليس الوعد في هذه الأبيات وعداً كاذبا ً و لكنه وعد عذب و ما أجمل الشعر الذي يعتمد على المبالغات غير الممجوجة و في تقديرنا أن الشعر إذا خلا من المبالغات افتقر إلى الخيال و إذا افتقر إلى الخيال ضعفت القوى الشاعرية لدى صاحبه نفسه
الأدب والأخلاق والجمال
ينطلق الإنسان في حكمه على الأشياء من منطلقات عدة، ويعلل ذلك بأسباب متباينة. إذ أن جوانب الإنسان المتعددة تفرض عليه أن يرضي مختلف توازناته الروحية والنفسية والعقلية والأدب كأحد عناصر الحياة المعبرة عن ماهية هذه النوازع في فهمه لتلك النوازع من منطلقات جمالية حسية ومعنوية تتلاءم مع المواصفات الجمالية المتفق عليها في كل تجمع إنساني على هذ الروح ولا خلاف أن تحسس الجمال قضية شخصية جماعية قد لا نجد لها تعليلاً إذ أنها تبعث نشوة في كيان الإنسان وتجعله يعيش حياة سرور وسعادة، وعلاقة الجمال بالأخلاق والأدب علاقة متداخلة خاصة، وأن الأخلاق هي جزء من القضية الجمالية التي يسعى لتحقيقها الفرد في بحثه المستمر والمضني عن ديمومة السعادة.
فالأدب، والأخلاق، والجمال عناصر متعاضدة في بلورة مفهوم الحياة كنقطة التقاء بين الزمن والحركة؛ وإنه لا وجود لأي مفهوم خارج نطاق الألوهية، وأن الوجود المطلق هو حقيقة النور المنبعث من خلال حركة دائمة تستمد وجودها من الله، وإذا كان الإنسان بطبعه وفطرته نزّاع إلى الجمال؛ فإنه لا بد له من مثل ينطلق من خلالها لفهم هذا الجمال من خلال طرق مختلفة، وإن الأدب أحد الطرق المعبرة عن نزوع الإنسان لهذا الشوق الجمالي. إن الجمال بما يبعثه في روح الإنسان من رعب، وطمأنينة يجعل منه قضية إشكالية لا تُحلّ إلا بمحاولة الإثبات لحقيقة الجمال. لقد ولد الفن من المعاناة والمكابدة تعبيراً عن شعور داخلي وهذا الشعور يحاول أن يبعث في الإنسان روح الجمال التي ينزع إليها.
فالجمال حقيقة علوية ذات طبيعة نورانية ممتدة في ذات الإله "إن الله جميل يحب الجمال" كما قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكل الناس يتأثرون بالجمال، ولكن الفنانين والأدباء يدركون سرّ هذا الجمال بشفافيه مهذّبه، ومن هنا كان على المبدع ألا ينقل صورة الواقع كما هي، بل يجب عليه أن يخلق واقعاً فنياً جديداً. وسرّ الجمال هذا لا تدرك حقيقته إلا إذا وجد توافق بين روح العمل الفني، وروح المتلقي.
إذ أن الجمال يتركب من النظام في الأشياء التي نراها جميلة لأنها مرضية ومرضيه لأنها جميله ولأن أجزاءها تتشابه وينتظمها انسجام واحد. إن نزعة الإنسان الخيرة وفطرته السليمة تجعل من الخير العنصر الأكثر أهمية وتربط الجمال به بشكل كبير، وإذا كانت النفس تفصل علاقاتها بسبب طبيعة جوهرها عن العقل والروح؛ فإن الجمال بطبيعته يمس حقيقة الروح أولاً، وليس للعقل دور فيه إلا تفسير مبادلاته الحسية، ومقاييسه المنطقية. إن أحداً منّا مهما أوتي من رجاحة عقل لا يستطيع أن يعللَ التعليل المنطقي لماذا يكون الجمال على هذه الصورة في المرأة وعلى تلك الصورة في الرجل وفي ذلك الشكل في الأشجار وفي هذه الحالة عند الحيوان والطيور إذ أن الجمال كمفهوم، أو ماهية لا يمكن تحديده على صورته الدقيقة، ولكم فتن الإنسان بجماليات لم يستطع تفسير سبب افتتانه بها اللهم إلا أنها جميلة، ومن هذا المنطلق يمكن لنا أن نفهم مقولة (الإنسان يخضع للصوت الحسن والوجه الحسن). إن أثافيَّ الحياةِ الثلاثَ (الأدب والأخلاق والجمال) تتعاضد لتسهم بدورها في تكوين الشخصية الإنسانية على وجهها الفعال الصحيح.
إذ أن الأدب بطبيعته وأهدافه ووظيفته بحث عن الأخلاق من خلال الجمال، كما وأن الأخلاق تريد أن تبرز بصور جميلة من خلال أشكال معينة أحدها الأدب، وليس هناك قضية أكثر إلحاحاً على عقل ونفس وروح الإنسان من البحث عن الجمال الذي يبعث في الروح الطمأنينة والسكينة وينفخ في النفس روح الاستقرار ويطلق الخيال من عنانه. إن البحث المضني من الأدباء باتجاه الجمال يدل على انزياح الروح الإنساني باتجاه الكمال الذي حاول تثبيته آدم عليه السلام حين أغواه الشيطان وأقنعه بالأكل من شجرة الخلد.
وليس من الدقة بمكان أن تفصل الأدب عن الأخلاق كما يدعو إلى ذلك بعض أصحاب النظريات الحديثة التي ترى في الفن قيمة منفصلة عن أي قيمة أخرى وفي ذلك إلغاء لحقائق راسخة كامنه كافح الإنسان طويلاً في تثبيت مفهومها وكيف يمكن للإنسان أن يلغي ذاتيته من خلال إلغائه لأخلاقه أو فصلها عن روحه المتعطشة للاستقرار والثبات.
صحيح أن بعض الأجناس الأدبية قد انزاحت من حيث المضمون في تصوير قضايا حياتية لا يجوز أن تسلط عليها أي آلة تصوير خفية وهذه قضية ليست حديثة فقد مارسها أول شاعر في العربية عرفناه (امرؤ القيس) في حديثه عن (دارة جلجل) وفي وصف علاقته بعنيزة (ولقد دخلت الخدر خدر عنيزة).
ولكن هذا الانزياح كان عاملاً في توجيه سلوك الكثير من المنحرفين باتجاه الأسوأ، والأدب أحد عناصر التغير في السلوك الفردي والاجتماعي في البيئات الإنسانية.
فلا أدب بلا جمال ولا أخلاق بلا أدب ولا جمال بلا أخلاق.
لقد نعى الأدباء تدهور الأخلاق بمفهومها الشامل (أقصد الأخلاق المتعلقة بكل صغيرة وكبيرة في الحياة) إلى توجه الأدب إلى العبثية والانفلات من الروابط الاجتماعية والإنسانية وتحول القضايا التي يعالجها الأدباء إلى حماقات صغيرة لا تستحق أن تذكر، وحسبنا ما نشاهده من دواوين شعر وروايات ومسرحيات فارغة المضمون تائهة الهدف.
إن بحث الأدب عن الجمال لا يعني تداخل الجنسي بالفطري عند المرأة ولا يعني التمرد من أجل التمرد فكراً، ولا التغيير بحسب المزاج والرغبة في سلوكيات الحياة.
لقد قتل الأدب البحث عن القيم الدونيه للجمال بحيث يرى الأديب أن القضية السخيفة هي المحور الرئيسي في الحياة ولطالما أشرت إلى ضرورة بحث الأدب في حديثه عن مختلف القضايا إلى سبر القيم الروحية والداخلية الشعورية والإنسانية التي من شأنها الوصول إلى عمق الإنسان الداخلي.
ضرورة الخروج من المراهقة الشعرية
الشعر رؤيا، واستبصار فني، ومخاض إنساني ، وجلاء للروح، وموقف من الحياة، والنّاس، والمجتمع. إنه ثوره على الذات، والغير، وثورة على القيم البالية المهترئة، وولوج في عقيدة المرء الصحيحة وفي قيم الحق، والعدل، والخير، والجمال، والشاعر هو المحاور الوحيد الذي يخرجك من منظور الواقع إلى فضاء المستقبل، بيده مفتاح النغم، وفي كلماته مسقط التجربة الشعرية، وفي وجدانه عذاب الآخرين.
لقد ولد الفن، وانبثق من مرآة الخلق الأول، وأصبحت الذات الإنسانية قطب الوجود، وتهويمات الصمت في عمق اللاوجود.
إنّ كون الشعّر، نطفة الفكر الإنساني الذي كان أمشاجاً في عمق المادة، جعل روح الشّعراء تتمرّد على صيحات الشياطين التي تنطلق من هنا، وهناك؛ معلنة كلّ ما عدا الشِّعر، وإنّ كون الشّعراء هم النّاطق الرّسمي في لاوعي الأمة، وعقلها الباطن يجعل الحياة سفراً مفتوحاً من الانصعاق الرّوحي الّذي لم يكن قبل حركة الشّعر الوجدانية شيئاً مذكوراً.
لا أريد أن أحمل القارئ البكر إلى آفاق الحداثة التي ينفخ معظم الشّعراء في بوقها المثقوب دون أن يعو حقيقتها، وإنما أريد أنْ يطير هذا القارئ معي على جناحين من الخيال الواقعي المشروع، ليصل إلى فردوس الشّعر المفقود، أو إلى مملكة الحب الأبدية، أو الصمت، أو الموت، أو القحط والتصحّر الّذي يعيشه إنسان في هذا العصر المرفوع على أوهام الشكلية التي تهرب من الثبات إلى السقوط في مستنقع السَّاديه أو النجرسية الشعرية والأدبية.
إن الحديث عن الإنسان هو الحديث عن الشّعر فهما صنوان باقيان على مرّ الحياة وكرّها.
إن فجائية غياب الحقيقة عن الواقع الإنساني تدعو هذا الإنسان، لا أن يُعِدَّ للحقيقة عدتها، وأن يبكي بكاء الخنساء على صخر ، أو قلْ. أن يذوي أمام فجائعية رثاء ابن الرومي لولده محمد.
لقد كان الحب الإنساني، والشعر، والحقيقة أثافي الحياة الراسخة؛ لا ترتكز مراجل الخير إلا عليها، ولكم بكى امرؤ القيس ضياع ملكه، ونسي أنه؛ إنما يبكي شخصيته، وانتماءه لأمة ما فتئت تقضم أصابعها ندماً على قتل الغيله، وبكاء الأندلسيات، وصراع الجنوب والشمال.
أي ضياع هذا الذي يعيشه الشّعر في زمن انفلشت فيه حدود المعقولية، وصار الإنسان مصاباً بداء الأزدواجيه، والمازوخية؛ وتحولت حركة الشعر ، والحياة إلى دائرة ضيقة تشبه الدائرة التي يدور فيها ثور العاقية.
لا أريد أن أتباكى على أطلال الشعر، فتلك سمة العاجزين، إنما أريد أن أقترح على الشّعراء، والمبدعين ألا يعطوا لأنفسهم ابتكارات مازالت في عالم الغيب ، ومشاريع لإشباع الفقراء، والجائعين لم تخطّط بعد.
إنّ تشكيل أي فضاء لأي نص شعري روحياً يحتاج إلى حركة إنسانية تستبعد شعراء الأنابيب أولا، والقصائد اللقيطة ثانياً، وفنون الأدب التي جاءت سفاحاً ثالثا. دون أن يكون هناك عقود أصالة شرعية.
لقد اتهم الجاهليون بالبساطة، والسذاجه ، لأنهم فهموا الأدب كما فهموا الصحراء، ونسينا نحن المتمرسين بفنّ إسقاط التهم، أن الغوغائية، والدعاوى غير الصادقة في الشعر، والواقع هي التي جرتنا إلى مسارح صراع الثيران، أو قل، إلى مكاشفة السحرة، والعّرافين إن الشّعر أصبح المفتاح السحري لمغالق الحياة. أية تهمة يمكن أن نلصقها بالأدب، وقد أطبق على شفاه الحقيقة، وصارت الأيدي الأرض مالها من قرار). نواقيس استجابة واقعة في زمن رديء المواقف، والمثل التي نعيشها. إن أمراض الجهاز العصبي للشعر، وعلاقة هذه الأمراض باضطراب لغة الحقيقة يجعل قسماً كبيراً من الشعراء مصابين باضطرابات اللغة التعبيرية ، واللغة الاستقبالية ، والاكتئاب الحسي، والنفسي والشعري؛ وبالتالي الوقوع تحت وطأة الفصام الوجداني.
لن أقول لكم كما يزعم البعض:
إن الكثير من شعراء هذا العصر يحتاجون إلى عيادات نفسية لردهم إلى سوية الحياة، أو يحتاجون إلى مصحات فكرية. بل أريد أن أقف مع صف الداعين إلى ضرورة الخروج من المراهقة الشعرية، والأدبية وأدعو بأعلى صوتي إلى تحمل المسؤوليات بكل إخلاص وأمانه مسؤولية الاطلاع على صناعة الأدب، ومسؤولية حمل أمانة الكلمة التي عجزت عنها السموات والأرض والجبال، لأن الكلمة الصادقة المخلصة الأمينة هي عده الأديب وسلاحه في مواجهة العبثية والانفلاشية والسفسطة والغوغائية والادعائية.
و(مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرفعها في السّماء، ومثل كلمة خبيثة، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
هل تحّول الشعر إلى مومياء؟
لست أشك ولا أظن أحداً من الأدباء أو المتأدبين – يشكّ – أن الشعر في أزمة عنيفة، وأكاد منذ البداية أجزم أن شعرنا المعاصر مصاب بالصرع، والعصاب وهو ممعود، وأقصد بالشعر المعاصر ما كتب في العصر الحديث بأي شكل كان أو بأي صورة جاء. وإنه لمن نافلة القول أن أشير إلى أن سبب هذا التردي هو لغة المجاملات التي أتقن فنّها نقادنا في العصر الحديث، والتي أخذت تكيل الألقاب، والمدائح للكثير ممن لا يستحق حتى لقب /شعرور/، وكأني بالنقاد قد أصبحوا فنانين في تحنيط جثث قصائد الشعر المعاصر.
لقد أسهم الفرز الاجتماعي والسياسي في الوطن العربي على ظهور طبقة من سماسرة ترويج القضايا منذ بداية هذا القرن، وأصبح الكثير من المبدعين الحقيقيين بين مطرقة السلطة، وسندان الواقع المرَ. ولم يطفُ على السطح إلا كلّ موتور، أو حاقد، أو منافق، وفي أفضل الأحيان من يحاول إخفاء الحقيقة وراء ستار من الوهم.
لقد التقيت بكثير ممن يحبّ الأدب، بل ويعشقه وحاورت الكثير من يقرض هذا الشعر، وراسلت ممن له علم ودراية في فن القول. فلم أعثر على رأي يرى أن التطور الذي أصاب الشعر كان إلى أعلى، لقد تغيرت الأشكال والألوان، والبنى النفسية، والجسمية للشعر إلى الأسوأ.
وإذا كان دعاة الحداثة قد أغروا الناشئين بضرورة الثورة على القديم إلا أنهم أوقعوهم في شراك التخبط والوهم والغموض، والقفز فوق سرك الشعر الموهوم.
لا أعتقد – كما لا يعتقد الكثير من دارسي الشعر – أن شعرنا في عافية، وأن أدبنا أدب حياة، وتطور، وإذا كانت هناك عوامل سياسية، واجتماعية قدأسهمت بفعل هذا الشعر، وإعاقة تحركه فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الشعراء أولاً والنقاد ثانياً.
ولو أنا حاولنا استعراض بعض هذا الشعر من المنهجين التقليدي، والحداثي لوجدنا أن معظم هذه التجارب جاء تعبيراً عن واقع هذه الأمة المريض، ورؤيتها العشواء، ومحاولة تعويض النقص عند الكثيرين ممن لا يرى في نفسه أهلاً لذلك.
لقد زعم علي أحمد سعيد – أدونيس – (أن الحداثة تختزل أحياناً لتصبح لعباً شكلياً)، وإن كان يشير أن الحداثة في رأيه هي التخلص من ثقل الفكر التقليدي المهيمن على الحياة العربية، والتركيز على الابداعية من جهة ثانية؛ ومتى كان الموروث العربي مجرد عائق في وجه الحداثة؟ وهل الحداثة هي الخروج من موروث لم يعد مناسباً على حد زعمه والوقوع في أسر حداثة مشوهة وغير مفهومة؟.
يقول نزار قباني: (إن القصيدة العربية خرجت من بيت الطاعة واكتشفت صوتها الخاص بعد أن كانت مجموعة من العادات اللغوية والبلاغية)(1) وكأن نزار نفسه الذي عبّ من ينابيع الأسلاف، لم يعد يذكر امرأ القيس وعمر بن كلثوم وطرفة وعنترة وابن الرومي والبحتري والمتنبي وهل بنى نزار مجده الشعري، إلا من خلال هذه التركة العظيمة التي لم نستطع نحن أن نطورها.
إن محاولة الكثير من أصحاب الدعاوى المسيسة باتجاهات مشبوهة باءت بالفشل، وإنني أهيب بالقارئ العربي العام أولاً، والخاص ثانياً أن يعي تمام الوعي أن الكثير من كتابنا في الأدب ، والصحافة ، والفكر هم كتاب أجراء إما عند سلطة ما يروجون لها ملصقات إعلانات سياسية، أو عند مجلات، وجرائد مأجورة غايتها طمس الثقافة العربية الأصيلة التي تربط العربي بواقعه الحقيقي، وتكشف له عن مواطن الضعف في حركة التطور. لا أريد أن أبكي أطلال امرئ القيس، ودار جانين كما سماها نزار قباني في صراعه مع الناقد مارون عبود؛ ولكني أود أن أشير إلى أن الكلمة قد فقدت قدسيتها ، وبكارتها، وشرعيتها، وأن القلم الذي رفع القرآن من شأنه وأقسم به (نون والقلم وما يسطرون)(2) قد أصبحا أجيرين عند واهمٍ، ومخدوعٍ، ومغرورٍ، ومعتوه. لقد أراد الآخرون للأدب أن يكون من أجل التسلية، والمتعة، والخيال متعامين عن دور الكلمة العقيدي، والكفاحي، والتوجيهي؛ وكأن غاية الأدب أن يقول ما يقول من أجل جائزة نوبل، أو من أجل وقفه في إيوان كسرى من الأكاسرة، أو من أجل الفوز برضى قيصر من القياصره، لاهمَ له ولا غاية إلا الجيوب.
لقد عاب النقاد في الخمسينات والستينات من هذا القرن الشعر العربي لأنه تربى في أحضان الزعماء وهاهو اليوم يستمد قوانينه من وراء البحار ويوجّه برادارات بعيدة المدى غايته غير نزيه المرمى. وبذلك فقد القارئ العربي ثقته بأدبائه وأحس أنهم حقيقة مأجورون، وعزف عن الأدب، والشعر بشكل خاص، وتحول الشعر إلى مومياء محنطة في رفات الكتب.
هل الشاعر بوهيمي بطبعه؟!
كيفما استدرت تقف في وجهك؛ وأنت تقرأ الإنسان من الداخل – أقصد عندما تقرأه مشاعراً – العواطف التي هي لب الإنسان وعمقه الوجداني ومصدر حركاته وسكناته والباعث الحقيقي على الحب والكره والاستلطاف والاستكراه والتآلف والتعاطف وهي قضية فطرية وطبيعية لها وجودها وسيطرتها وحكمها، ولكن الشيء الخطر في هذه القضية عند الشاعر أن تفعل العواطف في نفسه بشكل مسرف فيهيم على وجهه، ويأخذ بأطراف الهيمان وتصبح الخيالات المميّعة دأبه ويتحول بالتالي إلى إنسان أخر، وما شاعرنا الراعي النميري أو الشعراء العذريون إلا نموذجاً لذلك. فأنا لا أشك ولو للحظة أن ما سماه نقادنا القدامى حباً عذرياً أو شعراً عذرياً ليس إلا هيمان في وديان الخيال بل هو مرض نفسي خطير فليس هناك قصص حب بين قيس ولبنى أو ليلى وإنما هناك حب في خيال الشاعر بين (المجنون) وشخصية (أمرأة) مفترضه من صنع خيال الشاعر نفسه. وهو ما نسميه بالدون كيشوتيه التي تقتل البعد الرابع(1) للشخصية الشاعرة وأقصد بالبعد الرابع (خيال الشاعر المتنامي باتجاه التلاشي) من هنا تبدو بوهيمية الشاعر أو تفكك أجزائه الأربعة السابقة وتحولها إلى سراب قاتل ووهم مريض.
ألم يكن المتنبي وديك الجن الحمصي ودوقلة المنبجي انعكاساً لهذه البوهيمية؟ وإذا لم يكونوا كذلك فما تراهم يكونون؟ إن موقف الكثير من الشعراء العرب من المرأة والذات يجعلهم باحثين عن البوهيمية بمعناها العريض باستثناء موقف المعري – الذي اعتبره يمتلك البعد الثالث وبعد الموقف تبقى مواقف الشعراء بوهيمية خارجة عن إطارها الصحيح.
إن ظاهرة شعراء المدح والقدح في أدبنا ظاهرة بوهيمية ناشرّة لا تعبر إلا عن خيال مريض غايته نبذ التوازن الداخلي في عمق الوجدان الخلاّق.
ولولا أن بعض أصحاب المراثي ممن سفحوا مراثيهم بفعل الصعقة الإنسانية العميقة لبقي أدبنا بلا روح ولبقي الكثير من أدبائنا بائعين جواليين على أعتاب مطابخ المتحكمين بمصائر الناس ونحن على عتبات الشعر العربي مطالبون بأن نكتب من عمق وجداننا الحقيقي ونخاطب أنفسنا أولاً والأخر ثانيـاً.
البعد الرابع: بعد خيالي مريض يتبع ثلاثة أبعاد هي العقل- بعد العاطفة – بعد الوقف . (المؤلف نفسه).
وأن نخرج من بوهيميتنا لنكون أدوات فاعلة في تغيير ما ترسب على قلب البشرية من صدأ قاتل كما عبر القرآن قائلاً (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) (1) أي تكريس حقيقية أزلية لم ينج منها إلا شعراء الموقف أو شعراء البعد الثالثﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ الشعراء: ٢٢٧.
الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية الكلمة بمعناها الإنساني ومن هنا تبدو عظمة الشعراء حين يخلعون بوهيمتهم ويرتدون دروع المواقف السابغة وقد عبر عن ذلك رسول الله حين قال لحسان بن ثابت (أهجهم حسان وردح القدس معك)(3).
ولطالما نعي الشعراء أنفسهم هذا الهاجس الناشز الذي تحمله عربات الموت كنفايات شعرية يريد أن يتخلص منها الشاعر وأن يدفنها في عمق صحرائه القاتلة وما اختلاط الشعر بالجنون أو الكهانة أو السحر في العصور الأولى إلا الدليل القاطع على ذلك كأنّ مهمة الشاعر لم تكن التطريب فقط بل الخروج من دائرة المشاركة البسيطة إلى صنع المستقبل (الرؤى الاجتماعية) ومن هنا كان اتهام مشركي قريش للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالسحر والشعر والجنون والكهانة ذلك أنة أتى بما لا يستطيعه هؤلاء من بلاغة وفصاحة ونصوص غاية في السحر والجمال تحمل في طياتها الرؤى الحقيقة للحياة والكون والطبيعة. إن بوهيمية الشاعر الأولى التي ظهرت في بدايات تشكل الحياة الأدبية لازمت الكثير من الشعراء حديثاً وجعلتهم ينطلقون من نقطة الصفر الأولى حاملين على أكتافهم صخرة الحياة كما حمل سيزيف صخرته باحثين عن الفطرة الأولى التي ذهبت هباءً منثوراً وتحولت إلى شظايا قاتلة في حقل ألغام الحياة المشؤومة.
1- حديث شريف
حينما تصبح القصيدة أنثى
بعد اعترافات عصريه أدلت بها القصيدة العربية أمام أجفان امرأة ناعسة، وبعد ليل طويل من البنفسج المظلم وتعري الفضاء أمام قوس قزح أشرع جناحيه وبسط روحه فوق ذرات الماء المتساقطه وبعد غربلة عصرية كان المغربل فيها شعراء تركوا وراءهم طلمسات البحث خلف تمتمات العصور الناشرّة تحولت القصيدة إلى (انثى) من نوع آخر، وحتى لا يفهم كلامي على أنه ترجيح لطريقة شعريه على طريقة أخرى، أو أنه محاولة لخلق توازن في السوق الشعرية المعاصرة بعد الحرب الباردة بين أنصار (عمود الشعر) وأنصار (السطر الشعري)، فقد وضعت أسساً للقصيدة الأنثى والتي رأيتها تخرج بعباءتها العروبية من قصور المترفين إلى أكواخ البسطاء والسوق الشعرية العربية الحرة هي سوق المستهلكين البسطاء الباحثين عن ستر العورة ولو ببعض أوراق الشجر كما صنع أبونا آدم عليه السلام عندما طفق يخصف على عورتة من ورق الجنة، ولكن السؤال الذي أقض مضجعي وتركني على فراش من إبر أو كما قال النابغة
فبت كأن العائدات فرشن لي
هراساً به يعلو فراشي ويقشب
لم لم تتحول القصيدة العربية إلى الآن إلى انثى حقيقية إلى جانب الرجل لا تنحني أمامه؟! أقصد لم لا تتحول القصيدة العربية إلى أم تبحث عن حلول لأبنائها، ونحن نعلم أن شعرانا العرب في العصور السحيقة عالجوا مشاكل عصرهم وعبّروا عنها تعبيراً بيناً وطرحوا لها بعض الحلول، والصعلكة بمفهومها الشعري خير دليل على ذلك لأن الصعلكة كانت رد فعل اجتماعي على الخلل الذي أصاب المجتمع وأنا قد أكون مع المعري في رسمه للكثير من أفكار مجتمعه وتشخيص هذه الأفكار لكنني لست معه في مواجهته لهذه المشاكل بانزياحه عن المجتمع وهروبه ولزومه بيته. كما وأنني لست مع زهديات أبي العتاهية التي لم تكن إلا رداً سلبياً على الشرخ الذي حدث في بناء المجتمع فقسمه إلى قسمين قسم في الأعالي وقسم في قعر الوادي كما وأنني لست مع تحول الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري إلى (مداحة نواحة) بعد أن رفع راية الباحثين عن ستر العورة، وقد لا أوافق نزار قباني في الكثير من طروحاته التي حولت المرأة ليس إلى أنثى حقيقية وإنما إلى (بائعة هوى) تبحث عن حلول لنزواتها الجنسية وإن كنت لا أنكر على المرأة ما تعيشه من (ظلم أنثوي) فقدت فيه أنوثتها الحقيقية؛ على أنني في الوقت ذاته أنعى الكثير من شعراء هذا العصر الذين ماتوا قبل أن يولدوا وخاصة أولئك الذين يعيشون همهم الشعري الوحيد الباحث عن الظهور المتسرع دون أن يعوا لم نكتب وكيف نكتب؟ وماذا نكتب؟ حتى يخلد شعرنا المعاصر. وعندما نتحدث عن هذه القضية لابد لنا أن نضرب مثلين:
الأول: حالة الشعر العربي وقضاياه القديمة والمعاصرة.
الثاني: حالة الشعر الأوروبي وقضاياه القديمة والمعاصرة.
وليخلع القارئ المنصف عن عينيه النظارة السوداء ليرى بأم عينه أنهم اختلسوا ما كنا نبنيه.
وحتى تصبح القصيدة أنثى كما قلنا لابد لنا أن نؤسس أنفسنا على استلهام القيم الإنسانية والقضايا العصرية التي تجعل من الأدب معول بناء لا معول هدم وكل ذلك لا يتأتى إلا في حال بناء جيل من الشعراء الباحثين عن (قضية) ما في شعرهم لا أخص أي قضية بعينها وفي الوقت نفسه يفترض أن تكون القضية إنسانية لا شخصية ومن هنا سما بالشعر والأدب شكسبير وإليوت وسيرفانتس والعشماوي ومحمد إقبال وعزيز نيسن وتولستوي والشابي ... إلخ.
ولست أشك أن أي أدب إنساني لابد له من تناول مشاكل العصر ومعالجتها بوجهها الصحيح وبعث القيم الإنسانية الرفيعة ممتزجة بهذا الأدب على ألا نحتكم إلى غيرنا في تغيير مراكب الشعر بحسب المياه التي نبحر فيها والمحيطات التي نجتازها.
إن أمتنا اليوم أكثر ما تحتاجه أدب صادق مخلص يدافع عن الأمة نفسها بلغة عصرية واحدة.
وكيف يكون ذلك والأمة مهزومة بمبادئها وفلسفتها وأن قوانينها أصبحت من صنع أفراد لا من صنع مؤسسات وتجمعات كبيرة تحمل حقيقة المشكلة وتعالجها بأكثر من عين واحدة وأكثر من فكر واحد ولم تعد حالتها إلا كما قيل:
أتسمو أمة من غير فكـر
وترقى دون وعي في المجميعِ
وتحمل راية الحق ابتهاجاً
إذا هي لم تر أصـل الفـروعِ
أتبقى جمعها يمضي بعيداً
مضيَّ الناشزات من القطيـع(1)
(1) الأبيات من نظم الدارس.
إعادة تشكيل الموقف من الشاعر
يكاد الزمن الذي يعيشه إنسان ما قبل عام /2000/أن يتحول إلى طاحون حجرية تطحن الإنسان طحناً ناعماً، وتحوله إلى علف لحركة الحياة المادية، فالمشاعر معلبة، والأحاسيس مدفونة، والعواطف مقتولة، ولا مكانة للقلب في خارطة التكوين الإنساني.
لم تعد هناك مكانة للمفهوم الإنساني بمعناه المجرد،لأن هذا الإنسان تحول إلى (قطع غيار) يمكن استبدالها بمواد بلاستيكية أو قل رجال آليين يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون أوامر الذبحة المادية التي تسيطر على روح الإنسان، ولو أن شاعراً كمجنون ليلى أو المتنبي أو المعري أو عمر الخيام استنسخ من جديد في عصرنا، لألقيناه من أعلى جبل التوباد، أو لوضعناه أمين مستودع أحذية بلاستيكية، أو بائع عطورات على أرصفة المدن المقتولة، ولو أن شاعرة كليلى الأخليلية، أو كولادة بنت المستكفي حملت نفسها، وزارت عصرنا الحاضر لوظفنا الأولى قابلة في مشافي الإجهاض النسائي، ولجعلنا من الثانية سكرتيرة فندقية لأعمال رجال نزلوا من كوكب الشهوائية السفلى.
من هنا يبدو أن لغة الشعر والمشاعر أصبحت قاسية ونادرة في الوقت نفسه، على الرغم من كثرة الشعراء في هذا الزمن المسخ فهم قلة (تعيرنا أنا قليل عبيدنا ، فقلت لها إن أصحاب المشاعر الإنسانية الصادقة هم قليل).
ولو أن عمرو بن كلثوم أو عنترة العبسي أو الحارث بن حِلّزه وضعوا رؤساء تحرير لبعض مجلاتنا، وجرائدنا لخرجت الصفحات الأدبية بيضاء كأحلام الفقراء، ولنصبوا المشانق لإعدام الكثير ممن يكتب دون علم أو دراية أو ثقافة ومعرفة.
إن الشعر اليوم يعاني ما يعانيه جراء أمراض العقم والفصام والصرع؛ ويحاصر محاصرة اقتصادية عنيفة بل ينساق مقيداً لينحني أمام أحلام المشدوهين بسحر السيطرة والاستعباد، وإن أعنف ما يعانيه الشعر – والقرن العشرون يلفظ آخر أنفاسه ويحشرج بالبقية الباقية من روحه – كثرة المدعين للشعر والذين أصبحوا يستلقون على أرصفة الصحف والمجلات والمطابع كما يستلقي المخمورون بالبطالة على أرصفة الطرقات يدعمهم من يتولى قيادة تلك الصفحات بنشر كل هذيان وسخف وباطل مما لا يعدو أن يكون إفرازات مهبليه من عقل باطن لمجانين حوّلوا الحياة إلى مشفى توليف مخمور بقهوة الجنون.
لقد أعلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من مكانة الشعر "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحر"(1) وتبعه أصحابه في ذلك وجعلوا من الشعر ديوان العرب ورفعوا من مكانة قائليه بحيث أصبح للشعر مكانة كبيرة تفوق من حيث الأهمية في عصرنا هيئة أمم متحدة ولكن عصرنا الحالي الذي يبدو ديناصوراً شرساً أخذ يدوس الأدب بأقدامه ويسجن الشعراء البرره المدافعين عن أمتهم أما الشعراء الصابونيون، أو شعراء الشامبو وزيت الخروع فإنهم ينزلجون تحت أقدام هذا الديناصور، ويبرمجون أنفسهم بحسب الظروف والأهواء، وفاتورة الحساب آخر السهرة بل قل إن إنسان عصرنا أصبح على خارطة الصراع المادي للحياة حبّة سمسم تعصرها ضاغطات المستثمرين كيما تستنزف آخر قطرة زيت فيها، ثم تلقى في سلة المهملات والمنسيات. لقد بكى الشعراء عصورهم بقصائد ساخنة الدموع ولكنهم لو قرؤوا عصرنا هذا لألقوا بأنفسهم من قمة (إفريست) هاربين من الموت داخل الحياة.
لقد أصبحت الكلمة بخيسة الثمن في هذا العصر، وأصبح قائلوا لحقيقة نياقاً جرباء يأنفها القطيع وتأباها الناس. من هنا كان لابد من إعادة تشكيل الموقف من الأدب والموقف من الشعر، فالشعراء أصبحوا باعة جوالين أمام عنابر ومطابخ السلاطين، والاتجاهات الحديثة عند المتلقي تتمحور حلول إشباع الغرائز والشهوات ووسائل نشر الأدب استنسخت قوانين طوطمية تحارب كل ما لايخدم الطوطمية وحركة الفكر تتجه إلى وادي الجحيم بحثاً عن الثعالب الهاربة، وأي موقف شعري يريد أصحابه أن يحققوا منه سلوكاً معقولاً خارجاً عن إطار العصر لا بد له أن يسير بحركة (السرطان) أقصد لابد أن يعاكس حركة العصر الحالي لأن حركة هذا العصر كما قلت هي حركة تقدم نحو الخلف والمسؤولية على عاتق الشعراء مسؤولية عظيمة فإذا فقدت الأمة ضميرها خسرت مصيرها وبناءً عليه:
(1) حديث نبوي شريف
أولاً- الشعر حركة إنسانية تسعى إلى دفع المجتمع باتجاه المحبة والخير والسلام مهمته بعث الأموات من القبور وطلاء جدران الحياة بالضوء ووخز المستبدين ذوي الجلود السميكة وتحريك المسيرة الإنسانية نحو الأفضل، والأجدى، والأنفع، ومناقشة المشكلات الإنسانية العالقة كمشكلة الفقر، والاستبداد، والمرأة والحريات والطفولة والمرض والجهل.
ثانياً- سلوك الشعراء المنحى الإنساني وعدم مخالفة اقوالهم لأفعالهم لأن الكثرة الكثيرة منهم (يقولون ما لا يفعلون) وفي ذلك بناء للشخصية الإنسانية بناءٍ سليماً معافى من المداهنة والنفاق والتزلف.
ثالثاً- التكسب بالشعر والوقوف أمام مطابخ السلاطين ظاهرة مرضية لا يشفى صاحبها إلا بفهم غايات وأهداف الأدب لا أقصد بذلك شعر المدح بمعناه الصريح الواضح كما لمسناه في العصور السابقة فحسب ولكن أقصد من يروّج لفكرة هدامة على أساس المتعة والمصلحة وملء الجيوب بالعطايا.
رابعاً- إبعاد الصراعات القبلية والمذهبية عن روح الشعر وتبني الشاعر لفكرة الدفاع عن الإنسان ضد الاستغلال والقهر والعبودية ضمن إطار عقيدي صالح غايته سامية وراقية.
خامساً: عدم الانبهار انبهاراً كلياً بالثقافات الأخرى وتقمص شخصياتها تقمصاً تاماً وترك ما يرتبط بالثقافة المتأصلة للأمة لأن في شخصية الأفراد ما هو منقول عن شخصية الأمة التي أسست لنفسها على كر العصور ومر الأزمان وكل من يتخلى عن تراثه سيسقط في أحضان الآخرين أنا لا أقصد الوقوف عنده فقط إذ لابد من تمثله والاستفادة منه وتجاوزه إلى المعاصرة .
سادساً: الأخذ بكل ما هو جديد ونافع ومقنع مما أسسه الآخرون لأن في بعضه الفائدة فإذا وهنت حركة الأمة لابد من شحذ همتها من جديد ولا ضير فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها على ألا يلغي شخصيته تماماً وألا يترك ينابيع السلف وجذور الأصالة ويلقي بتراث الأمة عرض الحائط .
سابعاً: الحركة الشعرية المعاصرة حركة إنسانية بناءة يختبئ وراءها بعض المنتفعين والحاقدين الموتورين الذين يحاولون طمس معالم الأمة والتنكر لانجازاتها. والقضاء على أصالتها والأخذ بها نحو الهاوية وليس صحيحاً أن كل ما يكتب باسم المعاصرة يخدم الأمة ويدافع عن معتقداتها ويوطد لحياة جديدة، فكم من كاتب معاصر حاقد على أصالة أمتنا يريد تدمير كيانها لأنه لا يستطيع أن يعيش إلا مع تناقضات الآخرين وأمتنا دخلتها عناصر هدامة حاقدة تلفعت بأفكار شكلانية براقة خداعة وأضمرت أهدافاً حاقدة تريد وأد أصالتنا وطمس معالمنا والقضاء على شخصية الأمة ووضع الحواجز أمام مسيرتها.
ثامناً: الخروج من التقليد العقيم للشعر الذي قيل في العصور السابقة دون محاكمة اجتماعية إنسانية فنية فكم في دواوين الشعر العربي مما لا يستحق أن يسمى شعراً لأنه لم يخرج عن حدّ النظم وعلى حد قول المتنبي (أكل فصيح قال شعراً متيم) وهذا لا يعني بالضرورة نسف كل ما يتعلق بالشعر القديم لأن فيه نماذجاً آخذة بسحر الألباب وفيه شعراء كبار بذلوا جهوداً مضنية في سبيل رفع سوية القصيدة الشعرية وليست نظرية (عمود الشعر العربي) إلا ثماراً لجهود جبارة ارتقت بالشعر إلى المستوى الأرفع وما أحوجنا اليوم إلى نظرية شعرية عربية ترقى بالشعر إلى المستوى العالمي أقصد المستوى الرفيع فناً وهدفاً.
تاسعاً: هناك حركات شعرية معاصرة في ظاهرها ولكنها موجهة برادارات بث أجنبي يلهث أصحابها وراء (نوبل) ما أو ينساقون إلى خرق أسس الشعر والأدب مقابل دريهمات معدودة التقطتهم أيد أجنبية خبيثة وسخرتهم لمصلحتها وأمتنا بريئة منهم لأنهم عرفوا وحرّفوا وأخذوا وجحدوا هم بعيدون كل البعد عن أصالتنا لا يعيشون إلا في المستنقعات الآسنة ولا يتغذون إلا مع النباتات النتنة همومهم سطحية وأفكارهم همجية ودعواتهم خروجية. وعلى الشعراء والنقاد التصدي لهم ومحاربتهم وإبعادهم عن روح الأمة لأنهم سرطان محموم غايته تدمير خلايا الأمة الحية وجرثمة معتقداتها وفكرها وتلطيخ أجيالها بأفكار مسمومة.
عاشراً: الشعر الأصيل الذي قبل خارج عنابر المتسلطين وناقش مجمل العواطف والوجدان الصادق لعمق الفرد الذي أفرزته أقلام شعراء عرفوا الحياة حق المعرفة وخبروها تمام الخبرة وجربوها تجربة المضرس والذين ثقفوا صناعة الشعر وأطلعوا على ثقافة الحياة كمرتكز الأدب الحديث، لا يمكن تجاوزه دون الإفادة منه ولا يمكن اعتباره تراثاً سجين الكتب؛ وهو كنز الأمة الباقي ومادتها الخام التي لا مناص من الرجوع إليه وتمثله لأنه حركة التطور تقتضي ذلك.
حادي عشر: كل تجمعات شعرية أدبية توجه من قبل وزارات إعلام محدودة هي أبواق تنفخ في جراب مثقوب وتسيسها باتجاه (ما) هو قتل لحركة الأدب ووأد للفكر الحر وظلم للتراث الإنساني. لأن مسألة تسييس الأدب أقصد تبني الأدب لأفكار سياسية لها غايات نفعية ومشبوهة هو قتل للأدب وقضاء عليه، وكم هي التجمعات الشعرية والأدبية الغارقة حتى أذنيها في سياسات همجية تتريه تتزيا بأثواب إنسانية وتضع فوق قبعاتها شعارات خداعة براقة.
ثاني عشر: حشر الأدب والشعر ضمن مؤسسات ونقابات وروابط تستمد قوتها من هيئة ما أو جماعة ما هو تدمير لكيان الكلمة إذ لا حدود ولا قيود للأدب لأن الأديب المصباح الأخضر المضيء للأمة أو هو فسفور حركة التاريخ الإنساني في مسيرة الإنسانية المظلمة فإذا قدر له أن يؤجر على ذلك أو يوجه من قبل جماعة ما مدفوعة بفعل فاعله ضمير مستتر جوازاً أو وجوباً فإنما بفعلته ذلك يكون قد خرج عن حدوده الأدبية.
ثالث عشر: إيجاد زعامات فارغة وإعطاء ألقاب رنانة لشعراء وأدباء لم تنته الدراسات من تقويمهم حق التقويم من خلال استثمار سذاجة الصحافة والصحفيين أمر يجيب الوقوف عنده والتأني قبل الحكم عليه فلا أمير للشعر ولا وزير له وما كل ذلك إلا إرهاصات وجدانية حملتها أدمغة فارغة لأن الأدب بعيد كل البعد عن هذه النياشين البراقة.
رابع عشر: الأدب همو الخميرة الفعالة في حركة الصحافة وتطورها وهو صاحب زمام المبادرة في ذلك وليس العكس هو الصحيح فلا صحافة بلا أدب لأن الأدباء هم جنود الصحافة الأوفياء ولا يجوز أن يركب الأدب ويصبح تابعاً لآراء الصحافة بحيث تسيره هذه الصحافة بالاتجاه الذي تريده وما يفعله ممولو الصحافة من جرّ الأدب إلى حظائرهم ليس إلا خزعبلات ستنقرض بوجود أدباء غيورين على مصالح الأمة.
خامس عشر: الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص نهر يتدفق كل لحظة ولا يجد من الدراسات النقدية إلا اهتمامات بسيطة وسطحية لا تدخل أغواره العميقة لتكشف عن ماهيته وحقيقته ولا تضع الشعراء والأدباء في أمكنتهم المناسبة وعلى الحركة الأدبية المعاصرة أن تولي هذه القطيعة اهتماماً كبيراً.
سادس عشر: طريقة عرض الأدب والشعر بشكل خاص في المراحل التعليمية ابتداءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءاً بالمرحلة الجامعية طريقة بائسة على الدراسيين إعادة النظر فيها ووضع النصوص المناسبة لفهم واقع الأمة الرديء. وليست النماذج التي تدرس في معظم المراحل الدراسية إلا فئران تجارب تتناسب مع سياسات قبلية أكثر مما هي في صالح جمهور الناس وحركتها الإنسانية وحتى تقسيم العصور الأدبية لم يخرج عن نطاق حشر شعراء المدح في قوائم لا مقياس حقيقي لها وتزعّم بعض الشعراء لتلك العصور إنما جاء من خلال فكر مشوه يحمل طابع التأثر لا منهج البحث.
سابع عشر: الشاعرات النساء في العصر الحديث نزد يسير بالقياس إلى الشاعرات والأديبات في العصور السابقة وأصواتهن غير مسموعة على مختلف الأصعدة بل يكاد يكون مختفياً بحيث لا ترى منهن من يدافع عن الأمة وينهض بها نهوضاً صحيحاً عدا عن مشاكل المرأة المعاصرة التي مازالت لا تعالج من قبل الأدب النسائي معالجة صحيحة تفهم واقع المرأة وتنسف المفاهيم التي لا ترحم إنسانيتها وحرية تعبيرها وتفكيرها كما يؤطره التفكير السليم.
ثامن عشر: الأدباء والشعراء بالمقارنة مع المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات والرياضيين، لا يجدون الرعاية الحقة من مجتمعاتهم ولا يلقون المساندة القوية من التجمعات الإنسانية ولا يكيل بصاعهم أحد بل على العكس من ذلك هم مبعدون عن الأضواء وأدوارهم مهمشة لأنهم أصحاب موقف غير محايد بينما غيرهم تفسح لهم الطرق وترفع لهم الرايات وتنحني لهم الصحافة رأسها وتقبل أيديهم افتخاراً على أنهم أبطال حقيقيون مع أنهم ليسوا إلا أبطالاً من ورق.
توصيات على هامش إعادة تشكيل الأدب (الشعر)
1-التوصية الأولى: الكلمة الشعرية ذات أهمية كبيرة في تغيير سلوك المجتمعات وعلى الشعراء أن يعوا خطورة استخدامهافلا تطور بلا كلمة نظيفة (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)(1). ولا تعبير بدون كلمة صادقة.
2- الشعراء الحقيقيون مصابيح خضراء تضيء للأمم والشعوب ليلها المظلم وأهمية دور الشعراء في الأمة تأتي من المهمة الصعبة الملقاة على عاتقهم فإذا خرج الشاعر عن الحدود المعقولة تحول إلى هائم في وديان الخيال المريض وأصبح كلامه هذراً ووقع في حيص بيص ذلك أن الشاعر الحقيقي هو ضمير الأمة الحاضر يدافع عن كل قضاياها بإخلاص ومحبة.
3- استبعاد شعراء الأنابيب واللقطاء والشعراء الذين جاءوا إلى ساحة الشعر سفاحاً على أن مكانتهم الطبيعية يجب أن تكون جوالين على أرصفة الطرقات أو متسكعين في المقاهي أو لاجئين في دور العناية.
4- إيجاد لقاءات شعرية عالمية وإنشاء مؤتمرات قمة للشعر حرة طليقة غير مقيدة بمؤسسات رسمية غايتها مراقبة تطور الشعر والدفاع عن الشعراء الحاملين لواء الإنسانية الحقة. وجعل الشعر مادة أساسية في تطور الفكر والسلوك الإنساني.
فإذا تم للشعر ذلك وتحقق للشعر ما يصبو إليه أصبح الأدب حقيقة الكواكب الكونية المشرقة بشحنة الحياة الفاعلة.
(1)- آية قرآنية.
النكوص الأدبي وتراجع القيم
بين الرجوع للموروث، وموالاة الثقافة الأدبية الأجنبيةوقع الاديب في حيرة عميقة وتشطت شخصيته الأدبية ومن خلال تقليد النماذج، سواء أكانت القديمة أو الحديثة رقص الأدب رقصته الأخيرة وخرّ صريعاً على حلبة السقوط.
وانطلاقاً من ضرورة التأسيس على بنى "سليمة، وأعمدة متينة، وحتى لا تبدو سماء الأدب ذات فروج واسعة أو حتى لا تُخترق طبقة الأوزون القيمية ، لابد لنا أن ننطلق من منطلقات راسخة رسوخ الجبال الراسيات باحثين عن أدب حقيقي نموذجي يغرس في أعماق شخصياتنا بعداً إنسانياً عظيماً، يلامس أرواحنا ملامسة البلبل للزهر. ملامسة الشفاة العظيمة للماء العذب. أقول ذلك لأنني أخذت ألمس من خلال ما يصدره الشعراء الشباب وجود أدب يبدو كشبكات عنكبوتية، واهية البناء، سقيمة المعنى، فارغة القيم، تعتمد على لعب بهلواني في توزيع الألفاظ والصور، أدب مقلد للموروث في سقمه، ونحن نعلم علم اليقين أن في أدبنا الموروث ما هو مصاب بالإيدز والسرطان والخمج الدماغي، وأدب مقلد للأدب الأجنبي في صياغته، وطروحاته وفي هذا الأدب ما هو مصاب بالصرع والهلوسة والنكوس القييمي، فإن كلا الأمرين يبعث في نفس المتلقي التقزز والنفور.
نحن إذاً نبحث عن أدب حقيقي، أدب غير مقلد، وذلك لا يتأتى إلا بوجود تحضّرٍ في المبادلات الاجتماعية ورقي في القيم الإنسانية وسعي نحو تعميق فكرة أنسنة الإنسان، وإبعاده عن الذئبية والثعلبية والعدوانية، ذلك أن الأدب ما وجد إلا لتهذيب الروح وصقلها وإظهار عناصر اللطف والدماثة فيها، والروح كما نعلم جزء من لطف الله وروحه وكلمة الله التي هذبت حركة الكواكب وأجرت الأنهار مطمئنة وسلخت الليل عن النهار دون أن يشعر كلاهما بوجود الآخر.
وقد يتساءل المرء في عمق ذاته عما جعله يبحر في بحر من الألغام اللاخلقية المفخخة والتي زرعها الإنسان ككمائن لاصطياد أخيه الإنسان حتى جعلت الآخر المظلوم يسوّد الآلاف والملايين من الصفحات تعبيراً عن ظلمه، وأي ظلم أبشع من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وما أحوج المظلوم أن يعبر عن قيمة تجاه ظالمة بأدب خالد، أدب فعال، أدب راسخ، أدب يسهم في بناء القيم.
نحن إذاً أمام توجه جديد يلغي هذا التكدس الأدبي ويحول الأديب من فنان يحقق وجوده الذاتي إلى داعية مسؤول يصرخ بأعلى صوته أمام كل نكوص قيمي.
وحتى يتحقق لأدب هذا الأديب أن يكون خالداً لابد له من:
1- نبذ النفعية الأدبية المنعكسة فقط على ذات الأديب.
2- إلغاء موضوعات شعر المدح بكافة أشكاله وإقصاء هذا الموضوع عن دائرة الأدب.
3- تبني قضايا الإنسان بكافة أجناسه على وجه الأرض ورفع شعار (الإنسان أولاً).
4- إبراز صورة المرأة ببعدها الإنساني لا ببعدها الجنسي واعتبار ذلك جزءاً مهماً من أدب النهوض والصحوة.
5- نبذ كل أدب يروج لسلطة من السلطات مهما كان هدفها.
6- تشكيل الصراع الإنساني بشكل غير عدواني ورفع قيم المحبة والخير والجمال.
7- الحرية الشخصية بمفهومها الخلقي والعدالة الإنسانية مطلبان ملحان ومن مهمة الأدب الرئيسية الدعوة لهما.
8- إبراز علاقة الإنسان بالكون والحياة علاقة محب وعاشق يسعى إلى صناعة العيش صناعة واعدة.
كل ذلك حتى ننهض بأدب يسهم في بناء الشخصية بناءً سليماً، وقد يعترض عليّ بعضهم ويسأل: أين هو الأدب الموروث المصاب بالإيدز والسرطان والخمج الدماغي؟! ناسياً أو متناسياً أن (أدب النقائض) عند جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم لم يخرج من دائرة الإيدز العقلي وكيف بأدب يستمر حوالي ستين عاماً وهو يبرز عورته وسوأته أمام الآخرين لقد سلخ شعراء النقائض أكثر من ثلثي أعمارهم في مستنقع الشتم والسب وكشف عورات الآخرين، على أن بعض جوانب الأدب الحديث لا تخلو من الصرع والهلوسة والنكوص القييمي وما أفرزه السرياليون بزعامة أندريه بريتون لايتعدى ذلك!
ومتى كان على الأديب أن يتناول المخدرات حتى يترك لعقله الباطني العنان للحديث عما (هب ودب) مما يختزنه عمق الإنسان من الغث والسمين وهل يبقى من الأدب شيء إن كان قائله قد خرج عن طوره الإنساني إلى حالة بهيمية . إن مشكلة فصل الأدب عن الأخلاق وأقصد بالأخلاق السلوك الإنساني الفاعل الإيجابي مشكلة خطيرة إن تركت دون تقييد بحيث تترك للأديب الباب مفتوحاً على مصراعيه ليصور لنا باسم الفن للفن أو الأدب للأدب ما يسهم في جعل الأدب أرضاً يباباً وبيتاً خراباً. أنا لا أنكر أن بعض نصوص الأدب تنقل لنا صورة جميلة أو مشاعر مشدودة ولكن على أن تكون هذه الصورة الجميلة أو المشاعر المشدودة خيّرة غايتها تنمية عناصر الحب والجمال والخير والعدل والمحبة حتى تبقى (هابيليه) الإنسان عنصر تقديم لا عنصر استلاب وحتى يتمتع الإنسان بما هو خير، لا بما هو محرك لنوازع الشر، والعدوان، وبحيث لا تبرز المرأة بصورتها الجنسية بل بصورتها الجمالية الخيرة، وبالتالي حتى لا تتراجع القيم من خلال فعل النكوص الأدبي.
بين ثقافة الجسد وأميّة اللغة
الفيلسوفه العجوز و البدوية النشوز
حينما تتماهى الراوية مع الشعر تبرز في ذاكرة الأدب رؤى صورية تجعل من الصعوبة بمكان أن نميز بين ما تفرزه الرواية و ما يفرزه الشعر جنسان أدبيان يحملان خيال الإنسان فوق أجنحة تبعث في النفس آفاق كونية شاسعة 0
و حينما يكون هذا الجنسان الأدبيان من إفراز الأنوثة تشتم منهما ورائحة قرمزية تحملك إلى واقع غير مرئي 0 الشعر و الرواية جنسان أدبيان ملتصقان بكينونة الأدب بشكل كبير و ين فلسفة الشعر و فلسفة الرواية يبرز العمق الإنساني الذي يحمل في تلافيف لاوعيه البعد الدرامي للنفس الإنسانية 0
بين ( الجنس و الموت) كما تشير الشاعرة المتهتكة جمانة حداد في حوار فضائية الحرة معها ثنائية تستدعي من الشاعرة أن تقف ملهوفة بين تناقضين خطيرين هذا ( الجنس ) يرتقي بالإنسان إلى أعلى درجات الرضى و ذاك
( الموت ) يهبط بالإنسان في وادي السخط و عدم القبول و لو كنت كاتباً كتاباً جديداً لأضفت إلى الشواعر المنتحرات الاثنتي عشرة شاعرة تتنبأ لنفسها لتكون الثالثة عشرة
وهذا يقود إلى فلسفة ذاتية تندرج تحت ضغط الذات المنفعلة بأحداث الحياة اليومية 0
ومن خلال ما دار من حوار في هذه الفضائية همست الشاعرة جمانة حداد معلنة أن اللغة العربية :لم تعد قادرة على التماهي مع الواقع الجديد مع أنها هي التي تقول في الحوارية ذاتها إنها لا تقيم النص الأدبي إلا من خلال الفنيات الحقيقية لهذا النص وهذا يعني أن الشاعرة تعي البنية الحقيقية للشعر و تتكئ عليه و لكنها لم توفق في توصيف هذه اللغة التي استطاعت أن تحمل على بساط ريحها كل المشاعر و العواطف الإنسانية التي عايشها الإنسان العربي منذ حبوه في مدارج هذه اللغة أضف إلى أن الروائية مريال الطحاوي التي تتهم اللغة أيضاً بأنها لا تستطيع أن تعبر عن ثقافة الجسد الأنثوي وكأنها غفلت أو تغافلت عن الموروث الذي تركه لنا النص القرآني المقدس في وصف الحالة الاستثنائية لامرأة العزيز التي رسمت الحالة الجسدية التي وصلت إليها في لقائها مع النبي العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام و الذي نقل لنا هذه الصورة بحذافيرها القرآن الكريم ليوصل إلينا صورة ( ثقافة الجسد التي تؤمن بها المرأة ) و التي إن سيطرت عليها جعلت المتلقي يستقرئ من حروفها رائحة الثقافة الجسدية وهذا ما حاولت أن ترسمه الروائية الطحاوية في روايتها ( الباذنجانة الزرقاء )و كأنها عميت أو تعامت عن أبعاد اللغة العربية التي يبدو فيها المجاز هو خيال هذه اللغة لأن ما يقوله المجاز في كثير من الأحيان لا يعبر عنه الصريح من القول وكم منا من يستعذب التلميح أكثر من التصريح وأنا أحيل كلا الأديبتين (الشاعرة والروائية )
إلى مجازات اللغة أولاً و إلى مجازات القرآن الكريم و البلاغة النبوية لتسقرآ ما تقدمه هذه اللغة من مجازات عظيمة تبعث في النفس العمق الحقيقي للمتعة في تلقي المعنى بشكله الإنساني لا بشكله الشهواني و إذا كانت الأديبتان تقصدان من ثقافة الجسد الأنثوي أن تستعمل لغة التصريح فهذا يعني أن فنيات الأدب قد فقدت بعدها الحقيقي فكم من مشهد نرمز إليه يثير فينا ما يثير من العواطف الإنسانية أكثر من استعمال التصريح في ذلك اللهم إلا إذا كان هناك شذوذ في تلقي همسات ذلك الجسد الدافئ
فالقرآن الكريم وصف لنا ما صنعته زليخة بكلمات قليلة لكنها عبرت عن مشهد عظيم من خلال قول القرآن الكريم في سورة يوسف ( هيت لك )
1. ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
2. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
3. وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
4. قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
5. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
6. فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
7. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
8. وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
9. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
10. قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ
11. قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ
12. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
و هذا يعني أن ثقافة الجسد كما عبرت عنها زليخة الفرعونية مع أبهى صورة تتمثل فيها المرأة أمام من تحب و لكنها العفة النبوية التي برزت في شخصية يوسف عليه السلام و التي ترفض أن يدخل إلى الكروم من أطرافها و أن تؤكل هذه الكروم بغير حقها و هذا هو سر الأديان التي قررتها السماء لأهل الأرض ناهيك عما قاله الرسول محمد صلى الله عليه و سلم في وصف المرأة التي تطلق ثلاثاً و التي يريد زوجها الأول أن يعيدها إلى أحضانه الأسرية بقوله إنها يجب أن تتزوج رجلا آخر ثم تذوق عسيلته ثم إن شاء طلقها فتزوجها الأول و قد عبر عن ثقافة الجسد بعبارة مجازية حملتها جملة ( تذوق عسيلته ) وما أبرع هذا التعبير الذي رسم ثقافة الجسد دون أن يخدش جمالية و حرمة هذا الجسد وهذا بحدّ ذاته يعني إضفاء قدسية على جسد المرأة الذي يجب أن لا يبذل إلا بحق الله ولنتأمل معنى( يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته) لندرك جمالية هذه العبارة
( 1 ) حدثنا أبو بكر قال نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة { أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب , فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك )
وهذا يعني أيضاً أن المجاز يبرز أي ثقافة مهما كانت محرمة من خلال ما يرمز إليه وما يشير إليه دون أن يخدش حياء اللغة و هذا ما عبرت عنه الشاعرة جمانة حداد نفسها بشكل فاضح وفج في قولها ( نهداي مالحان ) إذ أن وراء هذه العبارة ما وراءها إنها ( اللبؤة التي لا يجرؤ أحد على الارتشاف من حليبها) و ما عبرت عنه الروائية الطحاوية من خلال عنوان روايتها
( الباذنجانة الزرقاء ) و كأنها تريد أن تشير إلى سمرة الرمال المصرية التي صبغت المرأة المصرية بلون الباذنجان والتي تحتاج إلى من يكتشف هذا الفضاء الأزرق في عمق المرأة الصحراوية0
أما إذا كنا غير قادرين على صناعة نص يحمل الأبعاد العميقة للمشاعر الإنسانية فإننا علينا أن نتهم أنفسنا لا أن نتهم اللغة فلغتنا أكثر اللغات حيوية و هي كائن حي يستطيع أن يتماهى مع كل المشاعر و لكننا في عصر يخرج فيه الكاتب و الشاعر من جلده ليتهم اللغة مع أنه لا يجيد مبادئها الأولية وكما قال المعري :
نعيب زماننا و العيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
إن أمية اللغة التي يعيشها بعض شعرائنا المعاصرين وروائيينا المعاصرين وعدم تمكنهم من الكشف عن أسرار اللغة العربية جعلتهم يتهمون اللغة مع أنه عليهم أن يكتشفوا أنفسهم أولا وقدرتهم ثانيا وأدواتهم الإبداعية ثالثا فمي زيادة وجبران خليل جبران ونسيب عريضة والشاعر القروي وغيرهم لم يتمكنوا من أدواتهم الإبداعية حتى ثقفوا النص القرآني أهم ركن من أركان الأدب وأنا أحيل الشاعرة والروائية لاكتشاف أبعاد النص القرآني
أسلمة الأدب
دراسات أدبية
أسلمة الأدب
الإهداء
تقديم
قصة الأدب بدأت مع نزول آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، التي أصبحت الإطار الإنساني للتاريخ الحقيقي، الذي أوجدته صراعات (قابيل وهابيل) المتمثلة في القتل ، والتدمير، والخراب.
وقصة النقد بمفهومه الشامل بدأت مع ظهور الأدب، والفكر، وتناقض الصراعات الإنسانية، التي حملت مع ما حملته في وجهها الآخر الخير، والمحبة ، والتطور.
من هنا كان أدبنا، ونقدنا المتجذّر في عمق التاريخ الإنساني الذي يحمل بين دفتيه التناقضية الصراعية المتطورة، والنقد الأدبي بمفهومه المتعلق بدراسة الأدب برز، كأحد عناصر الفكر التطوري الذي يسهم في رسم حركة الأدب، وكشف آفاقه الداعية إلى مواكبة الحياة بمفهومها الحضاري.
ولقد وجدت أن صحافتنا ، ومؤسساتنا الثقافية والإعلامية قد نقلت إلينا الكثير من الفكر العالمي باسم التطور، والحداثة، وأننا بأمس الحاجة لغربلة هذا الفكر ، وهذا الأدب، وهذا النقد، والإفادة منه بشكل صحيح.
وإنه لمن المؤسف في زمن ، كهذا الزمن الصعب أن تتحول أجنّةُ الأدبِ إلى أمشاج مشوهة بفعل نطف جاءت سفاحاً بعيدة عن الخلق الصحيح المعافى، وكأننا أمام مواجهة عنيفة مع المسخ الأدبي الذي أصبح فيه الأدب يستلقى على الأرصفة بحثاً عمَّن يحتضنه، بعد أن كان هذا الأدب محور الحياة، وكتابها المفتوح.
لقد حمل إلينا التاريخ النقدي العربي الكثير ممّا يمكن الارتكاز عليه، وبلورته، وتطوره، كنقد ابن سلام، وابن قتيبه، والأمدي، وغيرهم ، مما يجعل مهمة النقد في هذا العصر صعبة، وعسيرة ، وخاصةً بعد أن تداخلت المعارف، والأفكار ، والفلسفات في ثوب النقد، وأصبحت جزءاً منه.
وبعد أن ظهرت مذاهب، وتيارات أدبية وافدة حملت مع حملته لنا طرقاً جديدة لتفريغ الأدب، وبالتالي طرقاً جديدة للنقد.
لا أريد أن أسرد تلك المذاهب، فهي معروفة لدى الجميع، ولكنني أريد أن أشير إلى أن بعضها ما يزال يحمل في داخله بذرة التغيير نحو الأسوأ، وأن أصحابه ما زالوا يسعون إلى الانحراف بهذه الأمة نحو الضلال، وإن مسألة التأسيس لنقد رؤيوي معافى من الأمراض السارية تحتاج إلى جهد مضن وعنيف يستطيع تحمّل مصل التغيير، وخميرة ا
كتابي هذا ليس إلا خطوة من خطوات البحث عن هذا التأسيس.
الدين والفن والحياة
إذا كان الله تعالى عندما خلق آدم عليه السلام قد أوجد له جنة عرضها السموات و الأرض ، وخلق له فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإنه من غير المعقول أن يكون خلق هذه الجنة قائم على عناصر غير جمالية ، وخاصة أننا نرى أن الحياة الدنيا بتوزعها وتوضعها يبعث في النفس الجمال والجلال ويوحي للعقل بالرزانة حتى إن الكثير من الشعراء و الأدباء والفنانين استوحوا عناصر الطبيعة وعكسوها في أدبهم وفنهم وإنك لا تجد أديباً أو فناناً سما أو علا إلا من خلال استيحائه لتلك العناصر الجمالية المنتشرة بين الأرض والسماء من طبيعة صامتة إلى طبيعة متحركة متمثلة بالإنسان والحيوان والطيور إلى طبيعة نباتية ترتسم من خلال الزهور والغابات أو من خلال ابتكاره لعناصر ممزوجة من عمق روحه وتأثير تلك الطبيعة في نفسه ، ولا أظن أحدا" يستطيع القول بأن عناصر الكون الموزعة كما شاء الله لها لا تعكس عمق الجمال – الجلال الحقيقي لأن أحدنا كثيرا" ما يقف مبهوتا" أمام طير من الطيور ويعمق بصره في توزيع الألوان المتناثرة على ريشه توزيعا" يسلب العقل ويضعه كما تقول العامة على الكف و الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة دالة على ذلك و نحن لسنا بصدد ذكر الشواهد بتفاصيلها لأننا لسنا في موضوع فقهي بقدر ما نحن في موضوع أدبي نقدي يستوحي المفهوم الإسلامي بحقيقته حين ينظر إلى الفن و الجمال والأدب الذي يعد الجمال رأس أمره وذروة سنامه ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة لكم ) (إنا زينا السماء بمصابيح وجعلناها رجوما" للشياطين ) ( إنا زينا السماء بزينة الكواكب وحفظا" من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الأعلى ويقذفون من كل جانب )و( ويا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أن الله جميل يحب الجمال ) على أنه جاء ليحقق مفهوم الجمال بأحد جوانبه .
كما وأن مفهوم الجمال بحدّ ذاته موضوع طويل وعريض وحساس يتعلق بكل جزء من حياة الإنسان ابتداءا" من طعامه وانتهاءا" بنومه مرورا" بحسيته واختتاما" بمعنويته .
كما أننا لو رحنا نستعرض علاقة الفن بالدين والحياة من جهة وعلاقة الجمال والفن من جهة ثانية وعلاقة الجمال بالدين لاحتجنا إلى تسويد صفحات كثيرة ولكننا سنحاول تأطير بعض المفاهيم الإنسانية التي ترسم العلاقة بين هذه الثلاثية (الفن – الدين –الجمال) لأنها عناصر الحياة المتكاملة والتي لولاها لفقد الإنسان بفقدان بعضها جزءا" من توازنه.
أولا" : وقبل كل شيء يجب أن نعلم أن كل ما في هذا الوجود ابتداءا" من الميكروبات الصغيرة وانتهاءا" بأكبر خلق وليكن السموات والأرض إنما قدر بمقادير ورسم ضمن عناصر جمالية دقيقة لأنه من صنع خالق هو نفسه جميل قدير كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله جميل يحب الجمال ).
ومن هنا تبدو عظمة الآية القرآنية في سورة القمر ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) وكلمة (قدر ) لا تخرج بمفهومها السياقي عن بث العناصر الجمالية في ثنايا هذا الشيء المخلوق ، حتى إن ما نراه قيما" بمفهومنا لا يبدو قبيحا" لنا لو لا أن الله تعالى قدر في أعماق عقلنا عناصر الجمال ومقاييسه .
كل ذلك إنما هو مرتبط بالفن والأدب لأن كليهما وضع لعناصر الجمال في موضعها الصحيح ومكانها المناسب والحياة بفطرتها وكما أراد الله ذلك إنما هي تآلف عناصر جمالية .
ثانيا" : لا مندوحة لنا أن نغفل أو نتغافل عن أهمية الفنون والأدب في حياة كل واحد منا لأنها تعكس صورة الجمال الحقيقي الذي نبحث عنه جميعا" ، وقد يدفع الكثير منا أغلى ما يملك حتى يحقق هذا الجمال لذاته لنعد قليلا" إلى مفهوم الجمال الذي هو لب الفنون ولب الحياة ولننظر إلى أجمل متعة يمن الله تعالى بها على عباده المؤمنين يوم القيامة إنها ( لذة النظر إلى وجهه الكريم ) ، ثم إن وصف الجنة نفسه وما تحويه من منازل وما فيه من الحور العين اللواتي هنّ أمثال اللؤلؤ المكنون وشجرة سدرة المنتهى وصفاتها الأخذة بالألباب إنما هو ترسيخ لمفهوم أصالة الجمال في النفس البشرية وانبثاقه من الذات الإلهية
ثالثا" : لقد شجع الإسلام على ضرورة ربط الحياة بالدين من خلال بث روح الشروالتلهف إلى تحقيق وشائجيه هذا الربط بين الدين والحياة والذي لا يتحقق إلا بتنمية الفنون الرفيعة القائمة على الجمال بمفهومه الجلالي لا بمفهومه الشهواني حتى لا تنحرف الفطرة الإنسانية باتجاه الرذيلة والفساد ولو لاحظنا آيات القرآن الكريم الذي تحدى الله بها العرب والعجم والإنس والجن لوجدنا أن أحد عناصر التحدي هي فنية الجمال المبثوثة فيها بحيث يبدو هذا القرآن لوحة حقيقية من صور الكون والحياة والإنسان .
وأنا واثق أن من يبحث عن العناصر الجمالية في شكل تشريعنا ومضمونها لن يجد نشوزا" أو نبوا" أو انزياحا " عن هذه العناصر .
رابعا" : ادعائية البعض أن العلاقة بين الدين والفن والحياة علاقة مقطوعة إنما هي سوء فهم وعدم تقدير حقيقي لهذه العلاقة إذ أنك لو وضعت أمام طفل صغير مجموعة حيوانات صغيرة على شكل لعب وقمت بالقائها دون ترتيب لوجدته يسارع إلى تنظيمها وتنسيقها إما بحسب اللون أو بحسب المعرفة ومن هنا كانت جمالية النص القرآني الذي تتكرر قراءته في كل يوم دون أن يفتقد جماليته معنى ولفظا" وواقعا" لأنه يحمل في ذاته عناصر الجمال بجميع مستوياتها والجمال لا يأخذ موقعه إلا إذا خاطب روحنا وعمقنا ووجداننا والعمق والروح جزء مهم من الحياة .
وما هذه الدراسات الأدبية الباقية في عناصر الجمال القرآني على مر العصور إلا دلالة على ذلك .
الوعي والفن والأدب
كيف قفز الفن في حياة الإنسان ؟ ، وكيف استطاع الوعي البشري أن يحقق الجانب الأدبي ؟!.
وكيف رسم الإنسان علاقته المعقدة مع الحياة والكون والطبيعة ؟ ، وكيف تحققت العلاقة الأدبية من خلال قيم المادة والفكر والعمل ؟، وكيف ظهر الوعي الأدبي على الرغم من تناقض القناعات حول أسبقية المادة على الفكر ، أو الفكر على المادة أو تواكبهما . وتناقضها حول أهمية أن العلاقة الجدلية بين تطور وسائل الإنتاج ، أم أن الضرورات البشرية هي المفجر لطاقاته الإبداعية .؟!
لقد كانت البرهة الزمنية التي صدر فيها القرار الإلهي بنزول آدم من الجنة هي البداية الأولى لظهور الوعي البشري بالمفهوم الحقيقي وأصبح على الإنسان أن يعي معنى خطيئته، وأن يعي معنى نزوله على الأرض ، وأن يعي معنى تعميره لهذه الأرض وكان لابد أن يعبر الإنسان عن كل هذه المعاني التي كان أولها إن صح ذلك بكاء آدم على خطيئته ، وتوبته منها ، ولقاءه بحواء أم البشر إلى قيام الساعة .
إن فجائعية البرهة الأولى جعلت الإنسان يعبر عن احساساته ، وعن ذاته ، وعن رؤاه لماضيه ، ومستقبله ، ومن هنا كانت اللحظة الجمالية الأولى في عمل الإنسان .
لا نريد أن نشير إلى التخيلات الخارقة التي كان يعيشها الإنسان القديم ، والأساطير ، والخرافات التي أنشأها رداً على ظواهر الكون – كاعتبار أن العلم مولود من بيضه أو نشوء المجرة درب التبانة من الحليب الذي قذفته حلمتا آلهة من آلهة العالم القديم – أو حمل الأرض قرن ثور – أو وجود آلهة متعددة للجمال ، والخصب ،و المطر ، وغير ذلك مما أصبح مادة خاماً للأدب . بقدر ما نريد أن نؤكد على أن خطيئة الإنسان القدرية ، ونزوله للأرض جعلته يرسم انفعالاته من خلال ما وعت ذاكرته من مشاهد وأحداث .
وإذ نؤكد على أن الوعي الأدبي هو جزء من الوعي الديني على اعتبار أن فطرة الإنسان تجعله صاحب عقيدة إلهية سماوية نشير إلى أن كل ما في الكون ينثق من الفهم الديني للحياة والموت والخلود .
إن فجائعية الموت الأول التي أحدثها الأخوان " هابيل وقابيل " جعلت الأدب يتجه باتجاه الوعي الحزين للحياة ، ورسمت الحدود الأولى لأول مشروع بشري أدبي يمكن أن يتخذ أنموذجا لطابع المأساة حتى نزول آدم وزوجه من الجنة يعد استعراضاً مسرحياً بمعنى من المعاني تعجز عن رسمه . قصص الخيال اللاواقعي ، وهكذا ، فإن وعي الإنسان جعله أديباً يعيش حياته ويؤطر لها يشكل درامي أو شعري بحيث ترسم آفاق الوجود من خلال النص المكتوب ، أو المنطوق .
لقد أصبح الأدب جزءاً من الحياة ، وأصبحت الحياة جزءاً من الأدب ذلك أن عمليتي التأثير والتأثر قد تداخلتا تداخلاً وشائجياً جعل هذا الإنسان يرسم حياته بفنية مريعة أحياناّ ومروعة أحياناً أخرى ؛ ولكم نعى المعري إنسانية الإنسان وانفلاته من أطر المعقولية إلى دوائر تتلاشى في عالم اللامعقول وما داليته المشهورة إلا الفتيل الصاعق لهذه القضية .
" أبكت تلك الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد "
ولقد نعى المتنبي من قبل المعري هذا الوجود من خلال بحثه الشخصاني عن تحقيق ذاتيته والتوكيد ببحثه المضني على حقيقة وجوده . ألم تكن رحلة المتنبي إلى مصر وحلب هي جزء من هذا البحث ؟ ومن ثم ألم تكن ثورة الشابي وشكواه من النزوع لتحقيق الوجود الجماعي في زمن صعب جزءاً من ذلك ؟
" ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر "
ونحن لا نشك أن تطور الوعي بفهم الحياة يعني الوقوف كثيراً قبل إصدار الأحكام ، وخاصة أن إنسانية الإنسان قد طحنتها رحى الحياة والزمن الصعب وقابيلية الجشعين من بني جنسنا ، وأن الأدباء ما زالوا أكثر الناس فهماً لهذه القضية فهذا شاعر صعلوك يتحسس تلك المسألة ويؤكد على ذلك فيقول :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّتَ إنسان فكدت أطيرُ
إنه يجد سلواه وإنسانيته مع الذئاب في الغابة فكيف بحياة تتحول الغابة فيها إلى ( مشروع إنساني ) وتتحول هي إلى (شريعة غاب ).وهذا مهاجر كوته نار الفقر والغربة يؤكد على ذلك فيقول :
يا أخي لا تشح بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أو ليست عملية التمييز القهري التي يعيشها المرء في هذا العالم والتي حاربها الإسلام محاربة شديدة هي القابيلية القديمة التي أسس لها قابيل أم يقل رب العزة والجلالة : ( أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .؟!
ألم يقل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم " الناس سواسية كأسنان المشط " ؟ إنها إعادة التوازن لمفهوم الانشطار الإنساني ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
إذاً المسألة في دائرة الوعي الأدبي تعني إدراك حقيقة الحياة والوجود والموت وليست الحياة كما يقال ( ولادة وزواج وموت ) وإلا لما أدركنا طعم الحياة التي تبدو حنظلاً في لحظات وسكراً وعسلاً في لحظات أخرى وما نيل اللذة والسعادة بالأمر الميسور كما يقول ابن الفارض " ودون اجتناء الشهد ما جنت النحل " ومن يا ترى من الأدباء كمحمد إقبال وغوته أو سيرفانتس أو إليوت أو شكسبير أو دانتي أو المعري أو المتنبي أو إليا أبو ماضي أو عبد الرحمن العشماوي أو حسان ابن ثابت أو طرفة ابن العبد أو لبيد أو زهير ) لم يشعر بفجائعية التناقض الإنساني أو لم يأت الإسلام رداً على كل الدعوات الساعية لتوسعة الشر في الدائرة الإنسانية أو ليس الفكر الإسلامي قد حمل في طياته بذور التغيير باتجاه المساواة والعدل والحق والجمال .
أية جمهورية مفتعلة يبحث عنها الإنسان في هذا العصر بعد هذا العبث الذي يعبثه المرء ويشكو الأدباء منه خاصة بعد تغيير النظرة للإنسان وظهور الموقف المصلحي الذي فرضته رؤى مادية طينية جعلت من الإنسان آلة حدباء تتكسر مشاعرها على أشواك الحياة .
الأدب والعقيدة
في زحمة البحث عن الحقيقة تقفز أمامك مقولة حادة الموقف تجعل من الإنسان كائنا"حقيقيا"إذا هو فعلا"التزم بما يقول :إنها العقيدة، والموقف ، والسلوك هذه العبارة تجعل من الحياة ذات طعم ولون ورائحة ،ولقد كان الموقف الإنساني على مر العصور ،ولم يزل الحدّ الفاصل بين الإنسان المتحضر والإنسان البدائي ولا أعني بالتحضر مادية الحياة وإنما جانبها الإنساني الذي يفعل فعله في تغير حركة التاريخ والحياة ؛ولا أدل على ذلك إلا الموقف الإسلامي من حياة العرب في الجاهلية.
والأدب كأحد أركان الحياة والفكر .لابد له أن يتحمل مسؤولياته تجاه الحياة ،والكون ،والآخرين لأنه بموقفه هذا يغير ،ويبدل ويسهم في التطور والتحضر .
لقد مثل الأدب الإسلامي في أيامه الأولى العقيدة الصادقة أروع تمثيل ،لأن الأدباء في تلك الفترة كانوا أصحاب عقيدة يدافعون عنها بأيديهم وألسنتهم بل يضحون بأرواحهم في سبيلها . فهذا حسان بن ثابت و كعب بن مالك وعبد الله بن رواحه لا يرون في الأدب إلا عقيدة يقارعون بها الأعداء . " اهجم حسان وروح القدس معك !"هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت .
وإذا كانت العقيدة في أيامنا هذه تعني فلسفة العصر ؛ فإن الأدباء في عصرنا لم يعودوا يأبهون بها ، بل تجد الأديب يبدل موقفه ،ويغيره يحسب الظروف ،والأحوال ، أو قل قد ينقاد الأديب لموقف من المواقف دون أن يفكر بمدى خطورته ،وأخطر ما في الأمر أن يحشر الأدباء أنفسهم في عنابر النفعية .
وإزاء ذلك فإن أهم ما يؤثر في العقيدة الأديب تبني الأدباء لخطوط غايتها إثبات موقف لا علاقة لهموم الأمة ومشاكلها به .
لقد ولد الأدب من المعاناة وعليه أن يتحدث عن هذه المعاناة وليست عقيدة الأديب إلا رؤيا حقيقية صادقة لهذه المعاناة لا أريد أن أتحدث عن قضية الفصل بين الأدب ، والأخلاق وأشير إلى النظرية الأدب للأدب أو الفن للفن لأنه من العبث والسخف أن يعيش الإنسان حياته دون هدف ، أو عقيدة ، فالعقيدة هي التي تحدد قيم الإنسان وآراءه وأفكاره ومسيرة حياته .
لن أغور عميقاً في حياة الأدباء لأشير إلى أناس بأعينهم دفعوا ثمن عقائدهم فمنهم المشرد عن وطنه ومنهم المطرود ومنهم 0000 الخ .
ولكن لا بد من القول : إن العقيدة هي لب الأدب ، وثمرته الحقيقية ، وكل من يدعو إلى غير ذلك ، إنما يدعو إلى انفلاش الحركة الأدبية وتبعثرها . وأي معنى لأدب بلا عقيدة . إن موقف الإنسان الأديب من الحياة والكون ، والحقائق يجعله أكثر الأسلحة فعالية في حياة الناس ورحم الله خالد الشواف حين يصف القلم قائلاً
لا تحسبوه يراعاً قدّ من قصبٍ هذا فـم وفـؤاد ناطق ويـدُ
ما صر بالحق إلا خر منحطماً للظلم ركن من الأركان أو عمد
لقد سود الأدباء الكثير من الصفحات الأدبية وكانت معظم تجاربهم تتحدث عن هموم شخصية ، وقضايا ذاتية أو مغامرات غرامية أو شكوى وتبرم من حظوظ سيئة أو مدح لشخص ما أو قدح لشخص آخر ولو استعرضنا ما قاله الأدباء لوجدنا أنه يدور في فلك هذه القضايا اللهم إلا النزر اليسير الذي انفلت من هذا الفلك ؛ فالمتنبي كان معظم شعره شكوى وتبرم من سوء الطالع وبحثاً عن الملك ، وامرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة كان شعرهما مغامرات غرامية في عالم النساء ، وأبو النواس كان شعره في الخمرة وأبو تمام والبحتري كان نصف شعرهما مدحاً والحطيئة وابن الرومي كان شعرهما قدحاً وتطيراً ناهيك عما يكتبه أدباء هذا العصر من عبث ولهو مغرق في الذاتية والشخصانية . ولو ذهبنا نعد الأدباء الذين كتبوا أدباً يدافعون به عن العقيدة لوجدناه من القلة بحيث لا تستطيع أن تلتقط حبات درره .
الأدب و الغرائز
لا شك أن الأديب ما وجد إلا لمخاطبة الوجدان والعقل وصقل الروح والنفس ، ولا شك أن الأدباء لا يستطيعون أن يصلوا الوصول الحق دون مخاطبة العمق الداخلي المتمثل في إذكاء العواطف والمشاعر الداخلية الممزوجة بروح العقل بحيث يبرز هذا الأدب ما يسعى إليه العقل الباطن من طموح ، وكبرياء ،وعلو عند المتلقي .
والإشكال الذي يجعل الخلاف ما يزال قائما" بين الناس هو مقدار الجرعة الوجدانية والعاطفية والعقلية التي يجب أن يحملها النص الأدبي دون أن تخرج هذا النص عن حدوده المعقولة .
فالحب أحد أغراض الأدب التي يطالب بها الأديب والمتلقي ؛ فإذا خرج في مخاطبته للمرء عن حدود العواطف السامية إلى مخاطبة الغرائز الدنيا وخاصة ما يتعلق بالجنس أصبح أدبا" هابطا" ومن هنا يبدو أن ما كتبه امرؤ القيس عن مغامراته الغرائزيه مع المرأة بشكلها الهابط محببا" للمراهقين والمولعين بإرضاء حسية الإنسان وغرائزه الهابطة وعلى شاكلته ما كتبه نزار القباني في جانب من جوانبه .
وإن كان هذا لا يقدح بشاعرية الشاعر فكلا الشاعرين صاحب فن ، ولكنهما هبطا بشاعريتهما إلى الدرجة الدنيا ، وقد فصل قدامه بن جعفر بنظريته الشعرية بين الأدب والأخلاق ، وجعل الأخلاق علاقة قائمة بين الإنسان والقيم ، ولو رحنا نتتبع تلك المخالفات التي ارتكبها الشعراء بحق القيم لما انتهينا من العد والحصر ؛ ذلك أن علاقة مهمة قائمة بين الشكل والمضمون فكلاهما سند للآخر فقد أخذ على المتنبي ما صنعه مع كافور قدحا" ومدحا" والأدب اليوم في مختلف فنونه يواجه حربا" ضروسا" بين بحث المتلقي عن الارتقاء بالقيم وبين مطالبة تجار السينما إرضاء الغرائز الدنيا من الإنسان ، والدليل على ذلك الكثير من الرويات الهابطة التي تمثل على أنها قصص واقعية ترسم عمق الواقع وقد كتب إحسان عبد القدوس ما كتبه ليدلل على ذلك على أنه يجب علينا ألا نغفل الانحراف الذي يواجهه أدبنا بفعل الصحافة باتجاه إرضاء السلطة وإظهار قانون مسيرتها على إنه الأفضل والأحسن وكم يكتب اليوم من تاريخ ( وأنا أعتبر التاريخ في معظم جوانبه أدبا" والأدب في أغلب نصوصه تاريخا" ) يسهم في تكريس قيم سلطوية غايتها تخدير الجمهور، وتقنين تفكيره والسير به ضمن قنوات خاصة .
ولكم كنا نحلم أن تكون الصحافة والأدب الخادم الأمين على تفكير الأمة ومصالحها وأهدافها الدينية والإنسانية بينما أصبحت هذه الصحافة والأدب خادمين أمينين لرغبات السلطة ورجالاتها وأحلامهم . إن علاقة الأدب بالغرائز علاقة وشيجة ، ولكنها يجب ألا تأخذ شكلا" هابطا" كما حدث عند شعراء النقائض في العصر الأموي ( جرير –الأخطل – الفرذدق).
إن تجربة الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ، والعصر الأموي والعباسي تدل دلالة عميقة على تفتح الوعي النوعي عند النخبة المنفردة إثر تعطيل قانون التكافل الاجتماعي واستلاب حق الإنسان لأخيه الإنسان ؛ كما وأن تجربة الشعراء العذريين لتعبر تعبيراً عميقاً على ردود الأفعال الصحيحة إزاء ظاهرة بناء علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على أسس من الحاجات المادية والمبادلات المصلحية وأن وجود العمق الروحي في مبادلات هذا الحب ليبرز ظاهرة انزياح القيم في المجتمع الذي تعيشه تلك القدرية.
نحن إذن أمام تجارب عديدة ومتنوعة عند الأدباء ولكل تجربة خصوصياتها وعمومياتها بحسب نفسية الأديب وقيم المجتمع التي يتعامل بها ، وإنه من السخف بمكان أن نشير على سبيل المثال إلى وجود حب عذري في هذا الزمن الذي نعيشه لأننا نعيش حالة مبادلات مصلحيه فجة قائمة على المكاسب المادية لا على القيم الروحية وما نطلبه من الأدباء أن يعمقوا المبادلات الروحية الحميمة حتى يسيروا بدفة المجتمع باتجاه الأسلم والأصح والأجود .
إن فلسفة التجارب الأدبية عند الأوروبيين حديثاً سواء أكانت فردية أم مذهبية لا تعدو أن تكون انعكاساً لتجارب المجتمع أفراداً وجماعات ، وما هذا الاستلاب باتجاه مسرح شكبير عند الجمهور لديهم إلا لما يحمله من حرارة مأساة الروح عند أبطال تلك المسرحيات .
ومما لا شك فيه أن التجارب الأدبية تبقى التجارب النوعية التي يستثمرها المفكرون والأدباء والجمهور وما فعله فرويد لم يكن كما اعترف هو إلا بسبب إطلاقه على مفرزات الأدب واكتشافه لعلاقة التصرفات عند الفرد بما يمليه المجتمع وما يطمح إليه هذا الفرد .
محنة الأدب والأدباء
ليس هنالك أدنى شك لدى كل أديب أو متأدب أو قارئ أن الأدب ليس فن اللعب بالكلمات ، ولا هو ترف ، وليس هو وسيلة للتسلية ، والخداع ، أو تنمية النزعات ، والأهواء الشخصية ، وليس هناك شك أن الأدباء هم نبراس الأمة و مصالح الإضاءة في ليلها المظلم لأن الأدب أحد أركان الحياة 0
وإذا كان هناك من مسؤولية تقع على عاتق الأديب ، فإنما هي من كونه يحمل بين جنبيه دعوة إلى الحياة إلى الخير إلى الجمال لأن الأديب دليل قومه ، وأهله ، وشعبه إلى سبيل الخير؛ وكم من الأدباء قد دفعوا ثمن مواقفهم حياتهم وأرواحهم ، أو على الأقل دفعوا ثمن ذلك تشردهم ونفيهم عن أوطانهم .
وإذا كان هناك من محنة يعيشها أدبنا اليوم فإنما هي من المحنة التي يعيشها أدباؤنا الذين يلهثون وراء سراب خادع تتقاسمهم النزعات المختلفة وتحركهم الاتجاهات ذات الأبعاد المغيبة عن مسرح الواقع لقد ساهم الأدب مساهمة فعالة في دفع حركة التحرر الإنساني من قيود الظلم ، والطغيان الاجتماعي ، والسياسي ،والفكري ، ولكن البعض من أدبائنا اليوم يسير في عجلة الحركات الأدبية المسيرة من اتجاهات غير أدبية .
لن أتحدث عن السريالية والوجودية الدادائية وغيرها وما صنعته من انقسامات وإنما سأشير إلى أن أدباءنا ما تزال نظراتهم الضيقة تحدد آراءهم الفكرية التي ينسخونها على صفحات نصوصهم الأدبية.
لقد ولد الفن من الواقع ليتحدث عن آلام و آمال الإنسان ،ليرسم للآخرين طريق الخير ،وليس من حق الأديب أن يتناسي مسؤولية تجاه المجتمع والناس والحياة لآن مهمته مميزه.
إن غاية الأدب إتاحة الفرصة الحقيقية أمام الآخرين لتظهر الحقيقة بثوبها الصحيح لا لتزورّ بحيث يكون الأديب قد حصل على ما يريده من أهداف خاصة به و أدباؤنا اليوم أحد ثلاثة أشخاص :
الأول: أديب انهزامي لا يفكر بموقف من المواقف الإنسانية بل على العكس من ذلك يكرس هذا الموقف الموجه ليثبت للآخرين أنه خادم أمين من أجل الحصول على العطايا و الهبات .
الثاني:أديب صامت لا يحرك ساكناً ولا يتحرك تجاه موقف من المواقف و هذا النوع من الأدباء يترك الساحة فارغة لتملأ بأفكار موجهة من قبل الآخرين.
الثالث :أديب يشجب كلّ موقف لا يخدم الإنسان ولا يراعي التطور الاجتماعي و الإنساني وهذا النوع هو ضمير الأمة المتيقظ وأناها الأعلى الذي يتدخل حتّى لا تقع الأمة في مستنقع السقوط .و لكنه في الوقت نفسه يدفع ثمن موقفه هذا إما حياته و إما تشرده .
و إذا كان هناك من موقف يفترض أن نشير إليه .هو دخول العديد ممن لا علاقة لهم بالأدب و الفكر السّاحة الأدبية بطريقة ،أو بأخرى و اعتبارهم أدباء و هم بعيدون عن الأدب بعد الأرض عن السماء .
إن الأدب مسؤولية عظيمة أمام الله و الناس و المجتمع على الأديب أن يلتزمها بأمانة مخلصة حتى يبقى المجتمع محافظاً على تماسكه .و إن أديباً حقيقياً واحداً ليزن في مميزان الأمة مالا تزنه الجبال لأن كلمته الفصل و قوله الحق
هــدم أم تجديد ؟ بقلم حسين علي الهنداوي
هــدم أم تجديد ؟
1- هل غاية التجديد عند دعاته إسقاط لغة القرآن الكريم ؟
2- هل محاولات التجديد تعني أن نعيش حالة سفاح أدبي تكون فيها الفحولة استيراد نطف غير شرعية أدبياً ؟
3- هل المجدد من يخالف إجماعاً أدبياً أو يستبيح فضيلة من الفضائل الاجتماعية و الإنسانية و الدينية ؟
4- هل العودة إلى الأصالة حافز إلى أدب نظيف 0
من العجب العجاب في هذا العصر الذي نعيشه عصر ( الرويبضة ) كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ترى و تلمس بشكل حقيقي مدى التأكيد على قضية الهدم أكثر من قضية البناء و الأعجب من ذلك أنك ترى أن عملية الهدم نفسها تظهر على أنها عملية بناء و تأسيس و أن دعاة هذا الهدم يظهرون على أنهم بناة مجددون و أن ما يصنعونه هو رقي و حضارة و تقدم ونقلة في الأدب و الفكر 0
و المثير للأسى و الحزن أن ترى مؤسسات كبيرة ينفق عليها أمول طائلة و يجند لها رجالات كثر تسعى سعياً جاداً في هذه المحاولات و الغاية البعيدة المرمى هي إسقاط لغة القرآن الكريم من أذهان المتلقين و بالتالي إسقاط ارتباط المسلمين بدينهم و تحويلهم من أصحاب عقيدة إلى أصحاب دنيا متخذين شتى الطرق و مختلف الوسائل و محاولين اختراق كل التحصينات المنيعة ابتداءً من لغة القرآن الكريم و انتهاء بالأدب و نحن نعرف جميعاً أن ما يسمونه بحركة التجديد أو التحديث التي نحن بحاجة إليها دون التخلي عن معطيات الموروث إنما جاءت سفاحاً و أن مولودها الجديد يعيش حالة الفصام و الهوس و الازدواجية و إن معظم من عزفوا على هذا الوتر مصابون بالحول الشعري و الصرع الأدبي و بعضهم تجاوز ذلك إلى المازوخية و السادية الأدبية و لقد وجدت بعضهم يجهد نفسه ليالي طوال في سبيل إبداع عبارات متميزة على حد زعمه مثل ( السقوط إلى أعلى – التمرغ على الثلج الأسود – الاستحمام بالنور المظلم ) و غير ذلك من العبارات التي لا تمثل في حقيقتها سوى فأفأة لفظية و نكوص لغوي 0
نحن لا ننكر أن أدبنا العربي أدب سامق البناء و لكنه في مرحلة زمنية قد وصل الأدباء به إلى حافة السقوط و التردي و ذلك باستعمال الزخرفة اللفظية و الألفاظ الطنانة و المعاني الخاوية حتى تحول الشعر إلى أحاج و ألغاز و جعجعة دون طحن كما في قول أحدهم :
عجب عجيب عجب بقرة تمشي و لها ذنب
و قول الآخر :
الأرض أرض و السماء سماء و الطير ما بينهن يطير
و لكن ذلك لا يعني أن نخرج من ثوب الأصالة و ندعي كما زعم الشاعر نزار قباني أن القصيدة العربية قد خرجت من بيت الطاعة 0
و السؤال الملح الذي يطرح نفسه في كل لحظة :
هل محاولات التجديد تعني أن نعيش حالة سفاح أدبي تكون فيه الفحولة في استيراد نطف غير شرعية أدبياً و زرعها في أنابيب اختبار لا تكون نتيجتها إلا مواليد مشوهة ؟
لقد كان لمحاولات بعض الشعراء العرب في رفض الأصيل على أنه قديم و قبول الحديث على أنه جديد و التمترس وراء دعوات مشبوهة أثر كبير في تغيير مفهوم الأدب و تحويله من أدب حقيقي إلى أدب صوري و لكم كنا ننبه إلى أن التجديد المنطلق من الأصالة و التراث إنما هو مطلب مشروع على الاّ يخرج باللغة إلى جسور وهمية و أن محاولة تقليد الغير من الشعوب الأخرى إنما هو محاولة لا تعني الإفادة من هذا الغير من الشعوب الأخرى و ذلك محاولة يجب أن لا تعني التخلص من القواعد التي أسسها الأدباء على مر العصور فلا جديد لمن لا خلق له ولا أدب لمن هزلت لغته و يعجبني التفات الرافعي رحمه الله في كتابه ( تحت راية القرآن) إلى عملية الهدم التي عاشها عصره وما تزال معركتها محتدمة إلى يومنا هذا تحت مسميات عدة بحيث برز المجدد العصري في عصر الرافعي المسخر للهدم حقيقة و الذي لا يكون مجدداً على حد زعم الهدامين إلا إذا كان ( ممن يخالف إجماعا أو يصيب فضيلة أو يغض من دينه أو ينقض أصلاً عربياً جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة أو يحقر معنى من المعاني التي يعظمها أنصار القديم من القرآن فصاعداً ) 0
أما المجدد العصري في أيامنا فهو الذي يلقي بقواعد اللغة بسلة المهملات و يعتبرها تراثاً قديماً لا يتناسب مع الحضارة و الرقي فيرفع مفعولاً و ينصب فاعلاً و يجر الحال و التمييز و قد يسقط المعاني الحقيقية للغة من باب إدعاء أن اللغة تتطور مجازاً باتجاهات مختلفة 0
إن دعوى الكثير من المجددين المعاصرين القائمة على التخلي عن قواعد هذه اللغة على أنها حمولة زائدة يجب التخلص منها إنما جاءت هذه الأيام لتكمل ما بدأه مستشرقو القرن العشرين من أن العامية العربية أقدر من الفصحى على المعاصرة و مواكبة العلم و أن العرب لن يتقدموا على حد زعمهم إلا إذا تركوا اللغة العربية الفصحى و اتبعوا العامية أو كتبوا بالأحرف اللاتينية وكل ذلك من أجل هدم ركن ثان بعد القرآن الكريم حبل الله المتين في الأرض 0
إن للأدباء بكافة أجناسهم الأدبية و للشعراء الحق في ابتكار طرق جديدة للتعبير عن قضايا أمتهم و لكن دون التخلي عن الثوابت الأساسية للغة و الأدب فلكل فن أدواته ووسائله و غاياته و كما أنه لا يمكن لأي مهندس معماري أو بنّاء متميز أن يتخلى عن أدواته كذلك لا يحق لأي أديب أو متأدب أن يتخلى عن قواعد اللغة و معانيها المنطقية 0
إن الأدب المعافى من أمراض الهلوسة و السيلان غير الشعري إنما ينطلق من قواعد ثابتة تقوم على البناء لا الهدم و على التجديد لا التقليد ضمن سياق الذوق العربي و الإسلامي الأصيل الذي لا يخرج عن هويته الحقيقية فنحن نمتلك لغة رائعة لها خصائص مميزة و أدبا عريقاً لا مثيل له تمتد جذوره في التراث و الأصالة و العودة إلى الأصالة التي تستفيد من التطور دون أن تتخلى عن هويتها حافز إلى أدب نظيف لأن الإسلام لا يقف بوجه التجديد إذا انطلق من مصادره الثرية و لم يخالف ما جاء عبر أصالتنا المعهودة 0
أيها الشعراء توقفوا عن الهلوسة
هل نحن نعيش جيل الشعر المنكود ؟؟ !!!
و هل شعرائنا في حالة سقوط قيمي و حضاري ؟؟ !!!
و لماذا هذا التركيز على الضياع و التشرد و التيه في الفكر ؟؟ !!!
و لمَ تبرز المرأة عند الكثير من شعرائنا على أنها بضاعة مزجاة ؟؟ !!!
ولمَ يبدو عند الشعراء أن الكيل بمفاتنها هو الكيل الوافي من وجهة النظر التجارية ؟؟ !!
أسئلة تحتاج إلى أجوبة واعدة و علينا أن نعترف منذ البداية أن أدبنا المعاصر في حالــة نكوص و سقوط و ترد ٍ بعد تلك الهزائم و النكسات التي منيت بها أمتنا العربية و الإسلامية و التي ما يزال شعراؤنا يعزفون على أوتار اللحاق بركاب ما تنتجه مطابخ الشعر و لنقد في أوربا ناسين و متناسين أن مشكلة الأمة تكمن في نقص مناعة في الوعي الحقيقي لمشاكلها و نحن نرى أن الكثير من شعراء هذه الأمة ما زال يقبع في كهوف السريالية و الوجودية و العبثية فبين معجب بدعوات الهدم و متقمص لنوازع السقوط و حالم بسحق الموروث الديني على أنه عائق في وجه تطور الشعر وهم يعيشون حالة من الهلوسة الشعرية زاعمين أنـها تمثل دفقة الإبداع و عمق الخلق و الابتكار حتى إنك لتجد أن بعضهم يسف إسفافاً كبيراً فـي دعوته إلى نسف مفهوم الشاعرية على أنه خروج من المعقول إل اللا معقول و من الوضوح إلى الغموض و من الواقعية إلى الحلم و من المحلية إلى العالمية 0
و إننا اليوم و نحن نواجه أعتى حملة فكرية أدبية دينية تهدف إلى التشكيـك بكل ما يتصـل بالقرآن الكريم و الحديث الشريف و عنفوان هذه الأمة يفترض في شعرائنا أن يعوا وعياً تاماً أن الشعرية العربية التي ترتبط بالموروث العربي هي ثقافة إنسانية تبسط أجنحتها في عالـم يبحث عن الخير و المحبة و السلام فهي ثقافة شفافة تصل الإنسان بالآخر ضمـن منهـجية نقدية أسس لها الشعراء منذ زمن مديد 0
إن جيل الشعر المنكود الذي يحمله إلينا شعراء معتوهون استنبتوا في أرحام غير عربــية و غذوا بترجمات مشوهة أفرزوا لنا جيشاً عرمرما من شعراء الأنابيب الذين لايفرقون بـين قافية البيت الشعري و قافية الرأس البشري و بين الشعر الموزون و الكلام المخـزون و بين الشعر بتشديد الشين و كسرها و الشعر بتشديد الشين و فتحها و هذا ما جعل الشـعر يصاب بأمراض الفأفأة الشعرية و التأتأة الكلامية 0
و نحن كمتلقين نطالب الشعراء بالتوقف عن الهلوسة اتجاه المرأة و المجتمع و الحـــياة و الكون و نطالب هؤلاء الشعراء أن ينتجوا لنا شعراً يحمل هموم الأمة و يعرض مشكلاتها ضمن رؤيوية إنسانية واعدة 0
لقد سفح الكثير من الشعراء المهلوسين قصائدهم على نحور النساء و بين حانات الخــمر و تحت أقدام السفاحين بحثاً عن الشهوة و المال و الشهرة و نسوا أن للكلمة مكانها و هدفها و قيمتها 0
إن الكلمة الحرة الصادقة المخلصة الواعدة هي شجرة الحياة و الجمال و إن أي شاعر حقيقي يمتلك زمام الشعر الحق يحمل بين جناحيه أسلمة الكون ضمن وعد إنساني يحمل إلى الإنسان سبل الحق و الخير و الجمال 0000 فأما الزبد فيذهب جفاء ً00 و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض 0
شعراء الأنابيب
هل يمكن للشعر أن يستنبت في أرحام مستعارة ؟؟؟ !!!
وهل يمكن للشعراء أن تنمو شخصياتهم الشـعرية في أرحام أدبية ذات أمشاج مختلطة ؟؟؟؟ !!!!
و هل يمكن أن يتحول الشعر إلى صَـناعة بفتح الصاد على حد قـول الناقد العربي ابن سلام ؟؟
في حوار مع صديقي الشاعر حاتم قاسـم تجاذبنا أطراف الحديث حول أحقية من يمكن أن يطلق عليه لقب شاعر بفعل نصه الحقيقي لا بـقوة المنابر التي بدأ يتسنمها الكثير ممن تسلبطوا على الشـعر فأتقنوا تأليف حروفه دون أن ينفذوا إلى أكسير الشعر الذي قلما تجده عند شــعراء عصرنا هؤلاء الذين استنبتوا أنفسهم في دوواوين الشعراء الآخرين و لم يستطيعوا أن يستقلوا بشخصياتهم الشعرية المتميزة على ألا نغفل أنه من حق الشاعر أن يتتلمذ على يد شاعر أعظم منه فيستوحي شخصيته إلى فترة ما ثم يعود فيبني عظامه من جديد و يستنبت ريشه بشكل مستقل ثم ينطلق باتجاه السماء الشعرية ليكون لنفسه فضاء شعرياً مستقلاً 0
قال لي صديقي الشاعر حاتم قاسم إن النابغة الذبياني شــاعر متميز لم يستنبت في رحم شعرية أخرى بنى شخصيته الشــعرية من خلال تعدد الثقافات الشعرية التي تلقاها عن سابقيه و أســــهمت بيئته في تكوين شخصيته الشعرية فكان وحيد عصره جمع ميزة النـقد إلى جانب موهبة الشعر فكان المحكم الوحيد بين الشعراء في سـوق عكاظ و هاك بعض النماذج من شعره التي ارتقت إلى مستوى تشكيل فضاء مســتقل يميز النابغة عن غيره من الشعراء :
أتاني أبيتَ اللعنَ أنكَ لمتني و تلكَ التي أهتمّ منها وأنصبُ
فبتُّ كأنّ العائداتِ فرشن لي هراساً، به يُعلى فِراشي ويُقْشَبُ
حَلَفْتُ، فلم أترُكْ لنَفسِكَ ريبَة ً، وليسَ وراءَ اللَّهِ للمَرْءِ مَذهَبُ
لئنْ كنتَ قد بُلغتَ عني وشايةً، لَمُبْلغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذَبُ
و لكنني كنتُ امرأً ليَ جانبٌ منَ الأرضِ ، فيه مسترادٌ ومطلب
مُلوكٌ وإخوانٌ، إذا ما أتَيتُهُمْ، أحكمُ في أموالهمْ ، وأقربْ
كفعلكَ في قومٍ أراكَ اصطفيتهم ، فلم ترَهُمْ، في شكر ذلك، أذْنَبُوا
فلا تتركني بالوعيدِ ، كأنني إلى النّاسِ مَطليٌّ به القارُ، أجْرَبُ
ألمْ ترَ أنّ اللهَ أعطاكَ سورة ً ترى كلّ مَلْكٍ، دونَها،يتذَبذَبُ
فإنكَ شمسٌ ، والملوكُ كواكبٌ إذا طلعتْ لم يبدُ منهنّ كوكبُ
و لستَ بمستبقٍ أخاً ، لا تلمهُ على شَعَثٍ، أيُّ الّرجال المُهَذَّبُ؟
فإنْ أكُ مظلوماً ؛ فعبدٌ ظلمتهُ وإنْ تكُ ذا عُتَبى ؛ فمثلُكَ يُعتِبُ
هذه الأبيات أليست تدل على أن الشاعر قد كون شخصية مستقلة صحيح أنه استفاد من تجارب الشــعراء قبله و لكنه خرج من عباءاتهم ليرتدي عباءة جديدة هي عباءة النابغة الذبياني 0
قلت لصديق الشاعر هذا صحيح و يدعمه في الرأي أن المدرسة الأوسية التي أسسها أوس بن حجر و بشامة بن الغدير و كان من تلاميذها زهير بن أبي سلمى و أبناءه كعب و بجير و سلمى إضافة إلى الحطيئة و جميل بن معمر طبعت شعراء هذه المدرسة بصفات متشابهة إلى حد ما جعلت من الصنعة الشعرية عنصر استلاب لدى أعضاء هذه المدرســة فكانوا كلهم من الشعراء المحككين الذين لا يخرجون نصهم إلى الناس إلا بعد مراجعته مرات عديدة قد تستغرق حولاً كاملاً ومع ذلك بقيت شخصياتهم الشعرية مستقلة عن بعضها البعض فزهير لقم ثدي الشـــعر من خاله بشامة بن الغدير ومن زوج أمه أوس بن حجر و بقيت شخصيته مستقلة عنهما لأنه يأنف أن يستنبت شاعريته في رحم هذين الشـاعرين و لكن الحالة في أيامنا المعاصرة تختلف فالكثير من الشعراء لم يكملوا حملهم الشعري مدته الحقيقية فخرج الشعر لديهم سقطاً أو مشوهاً أو تراه أحياناً ناقص الأعضاء و ذلك بفعل مرور الشعراء بشخصياتهم على شخصيات الشعراء الآخرين دون أن يعتصروا منهم رحيق الشعر 0
اعترضني صديقي الشاعر حاتم قاسم رافعاً يديه بنقطة نظام و مقاطـعاً إياي أن مدارس الشعراء المعاصرين انتهجت أســلوباً مختلفاً و مزجت ثقافتها العربية بثقافة غربية كمدرسة شعر و جماعة ( أبلو ) و مدرسـة شعراء المهجر الشمالي و قد برز منهم شعراء ميزوا أنفســهم كيوسف الخال و إبراهيم ناجي و الشاعر القروي 0
قلت له و لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل فلكل شاعر من هؤلاء الشـعراء شخصية مختلفة إذ أنهم بنوا شخصياتهم بشكل مستقل و الأمر الخطير في قطيع الشعراء المعاصرين الذين دخلوا عالم الشعر دون أن يتمكـنوا من أدواتهم الشعرية فجاءت أشاعرهم عينات مليئة بالشــوائب بحـيث تجد و أنت تتصفح القصيدة الواحدة مجموعة شخصيات لشــعراء اختزنتهم ذاكرة الشاعر الذي اقتبس هذه الشخصيات كما هي دون أن يدخلها فرنه الذري و يصهرها ثم يحولها إلى مادة جديدة تستقي من شخصيته طابعاً جديداً يلغي تلك الشخصيات من النص الذي كتبه هذا الشاعر 0
قال لي صديقي الشاعر حاتم قاسم تعقيباً على ما قلته و أنا أضيف إلى ذلك هذه الترجمات المشوه للأشعار الغربية أســهمت في التأثير على مفردات أولئك الشعراء الذين استنبتوا في أرحام هذه القصائد المترجمة ناهيك عن دعوة بعض الشعراء إلى الكتابة دون الالتزام بقواعد اللغة و هذا ما يؤكد هذا الاستنبات الذي جعل الشـــاعر يبني نصه بناءً غير متجانس و هذا ما أشرت إليه من عدم امتلاك هؤلاء المستنبتين لأدواتهم الشعرية 0 و لو قرأت الكثــير من النصــوص الملقاة على أرصفة الصفحات الأدبية لوجدت غموضاً مســتغلقاً يغلف الكلمات يحتاج إلى بصارة نقدية قد تفك طلاسمه و قد لا تســتطيع فك هذه الطلاسم 0
قلت له قبل أن نختم حوارنا : إن العصــر الذي نعيشه أفرز الكثير من المهوشين على الفن الشعري و الذين ليــس لأحدهم أي علاقة بالموهبة الشعرية و لكنه هاو من الهواة يحب أن يتلقى الشعر و بفعل فاعل أصبح محرراً لصفحة أدبية أو موظفاً في مؤسسة أدبية جعلته يبحث عن طريقة يستنبت فيها هواياته لتصبح اختلاساً لكثير من الجمل الشعرية التي ينظم بينها بخيط واه فتبدو و كأنها عقد من اللؤلؤ و لكنك إذا ما أمسـكت بها لتتأكد من أدوات صناعتها انفرط العقد بين يديك و ظهــر بريق حبات اللؤلؤ المزورة لتعود من جديد إلى مادتها الأولى 0
لماذا الهجوم على العربية
ما سمعت عبارة أغرب من قول الشاعر اللبناني سعيد عقل تعليقاً على العروبة : مارست كتابة العربية ثلاثين عاماً فما كرهت كلمة كتبتها مثل كلمةٍ مؤلفة من ثلاثة أحرف ( العين و الراء و الباء ) مع أنه كتب أجمل قصائده المعروفة ( سائليني يا شآم) باللغة العربية 0
و ما قرأت عبارة قط أجمل من عبارة الشاعر حليم دموس حين قال :
لغة إذا وقعت على أسماعنا كانت لنا برداً على الأكباد
ســتظل رابطـــة تؤلف بيننا فهي الرجاء لناطق بالضاد
فهل للغة العربية لغة جميلة أم لغة قبيحة ؟
وهل هي لغة حضارية تصلح للحياة و الأدب و الاستعمالات اليومية ؟
و هل هي لغة ما تزال ترضع أبناءها حليب الفصاحة ؟
وهل هي قادرة على مواكبة العصر و استيعاب كل المصطلحات الجديدة؟
و لماذا الهجوم على هذه اللغة بالذات و بشكل مستمر ؟
ولماذا الإغارة على أحقيتها في الاستعمال عند أبنائها؟
أسئلة كثيرة تشرع في الآفاق أمام كل عربي و مسلم غيور على أمته و لغـــــته و دينه
و بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء فإن هذه اللغة أقصد العربية تمتلك قواعد دقيقة و نحواً
عالي المستوى فالألمان يقولون : إن أبرع علمين أجاد بهما العرب هما عـــلم النحــــو و علم الجرح و التعديل 0
هذه العربية التي ابتدأت بالذات قبل ( قفا نبك) بما لا يقل عن ثلاثة آلاف عام ما زلنا
نستعمل مفرداتها نفسها و ما زالت تحمل الجمال و الشفافية نفسها و السحر نفسه و هي أعظم لغة حضارية لأن الله تعالى اختارها لغة لقرآنه الكريم ( إنا جعلناه قرآناً عربـــــياً لعلكم تعقلون ) و هي أم اللغات كلها كما أن مكة هي أم القرى لأنها قادرة على التشــكل في كل عصر بحسب الحاجة و ما من مصطلح جديد إلا و نجد له في جذور العربيـــــة أصلاً و لكن المشكلة تكمن في نقطة واحدة ماتزال المحاولات مستمرة لطمســـها وهي التحول عن لغة القرآن الكريم و بالتالي نسيان أحكام هذا القرآن الكريم و لم يعد أحــــد يشك أن الصهيونية العالمية ما تزال تسعى لتحقيق حلمها الأبدي ( إخراج النــــاس من أديانهم و إعادتهم إلى اليهودية من جديد ) و ما من ســـــبيل لتحــــقيق ذلك إلا صرف المسلمين عن إسلامهم و لا يتأتى ذلك إلا في وضع جدار فاصل بين العرب و قرآنهم و ذلك بالعزوف عن لغة القرآن ثم هجر العربية الفصحى إلى العامــية الشــــعبية أو إلى الكتابة بالأحرف اللاتينية و الشيء المخيف الآن بعد فشل تلك المحاولات أنك ترى أن الحملة تتوجه إلى تجهيل الناس بلغتهم بحيث ترى أن الصفوة التي كنا ننظر إليها على أنها الرائدة في تمثل اللغة تمارس الخطأ على أنه الأسهل و الأحســــــن و الأجدى لأنه أقرب إلى الناس و هكذا نجد أن تدريس اللغة العربية بدأ يخرج من التأصيل إلى مقولة ( تمشية الحال ) على حد قول العبارة الشعبية و إنك تسمع الآن من يقول لك لا حاجة لنا في تحميل طلاب اللغة العربية عناء حفظ قواعدها فنحن نكتفــي من طلابـــــنا كما يقولون بضرب أمثلة فقط على نسق المطلوب دون التعرف على القاعدة و كأن هناك حملة تستهدف نسيان قواعد اللغة العربية و كنا قد سمعنا من قبل في خمسينيات القرن الماضي أن باب المنصوبات في قواعد اللغة العربية يجب أن لا تعرب كلماته بتفاصيلها الدقيقة ( مفعول به – مفعول فيه – مفعولاً مطلقاً – مفعولاً لأجله – حالاً – تمييزاً - استثناءً ) بل تعرب فقط اسم منصوب دون ذكر الحالة و لا نســــتغرب إذا ما قيل لنا مستقبلاً لا حاجة لكم بنطق الحروف تحدثوا بالإشارة فذلك يكفي 0
إن عبارة الوليد بن المغيرة المعروفة في وصف القرآن الكريم إن عليه لحلاوة و إن له لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق ترسم صورة هذه اللغة التي حملت كـــلام الله إلينا و التي جعلت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما يسمع قوله تعالى
( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى تنزيلاً ممن خلق الأرض و السموات العلا الرحمن على العرش استوى له ما في السموات و ما في الأرض وما تحت الـــثرى و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى ) يستجيب للدعوة الإلهية و يعلن إســــلامه و ما ذلك إلا لأن العربية بما تحمله من آفاق و مضامين استطاعت أن تستوعب هذه الدعوة الإلهــية
إن اللغة هي المدخل الرئيس لفهم مختلف العلوم على الإطلاق ولولا أن يكون ما تحمله هذه اللغة من بعد معرفي هو الموصل لحقائق الكون و الحياة لما اســـــتطعنا أن نفهـم الحياة و علومها و يحضرني ما روي عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم في تبيان أهمية اللغة العربية و مكانتها بالنسبة للقرآن الكريم و أهمـــية العرب و مكانتهم بالنسبة للناس جميعاً قوله : أحبوا العرب لثلاث لأني عربي و القرآن عربي و كـلام أهل الجنة عربي 0
إننا اليوم بحاجة أكثر مما مضى إلى التصدي إلى هذه الترهات التي تحاول أن تجعل من لغتنا العملاقة قزماً صغيراً مشوهاً مع أن الله تعالى تكفل لنا بحفظ قرآنه و بالتالي حفظ لغتنا العربية حين قال : ( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ) 0
هل يصبح الأدب من اختصاص الطيور؟!
هل يتحول الأدب إلى مجرد تسلية وألعوبة؟
وهل يتحول الأدباء إلى مجرد منجمين على أبواب قلعة الصحافة؟
وهل يمكن إنقاذ آخر قاطرة تندفع بشعراء عام/2000/إلى هاوية التسكع؟
وكيف نجعل من الأدب سلاحاً في وجه الظلم والتسلط، والاستبداد؟
تساؤلات شتى تحرض فيروسات الموت في ذاكرة الأيام، واستفهامات شتى تبحث عن حلول لها في زمن لم تعد الإنسانية فيه إلا مجرد مصنع لتعليب الهواء وأجوبة تائهة تبحث عن أسئلة يدماغوجية قد تطرح بعد عام /2000/م على هوائيات حديثة تتمثل في جهاز جوال (متلفز وممذيع) تحاور فيه كل من تشاء من أدباء العالم كل واحد بلغته المختلفة ولكن بترجمة آلية عبر لغة عالمية واحدة.
وقبل الإجابة على كل هذه التساؤلات ، علينا أن نعيد اعتبارنا وموقفنا من الفنون والآداب في حركة عالمية متسارعة نحو المتغير أفقياً وشاقولياً.
هل عصر ما بعد عام /2000/م عصر الفنون والأدب أم هو عصر الحركة الرياضية والأرقام القياسية بحيث تصبح العاطفة (زائدة دودية)، علينا أن نتخلص منها ؟ وهـل عـام /2000/م القرن الحادي والعشرون سيكون عصر الوجدان بحيث تسهل على أي حشرة من حشرات الأرض ولو كانت (سحلية)، أو (برصاً) أو (عصفوراً) أو (صرداً) أن ينتقل لك مشاعره الحاره تجاه موقفه من هذا الإنسان اللاهث خلف بصيص ظلام يكتشف فيه أسلحة جديدة تدمر ما على الأرض دون أن تحدث خراباً في العمران فقط (د.د.ة) لقتل الإنسان وحده دون سواه.
وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نضع تصورات جديدة لمدة تزيد على ربع قرن، فإنما ذلك لعجلة الحياة السريعة التي تضع أمام الإنسان مخترعات جديدة، ولكن يبقى هناك فسحة أمل يمكن من خلال دائرتها أن نلمح إلى تصورات جديدة للعالم خاصة فيما يتعلق بعلاقة الفنون والآداب بالحياة.
وعليه يمكن الجزم أنه سيكون قيمة نوعية للوجدان الصادق والعاطفة الحقيقية بحيث تبحث في جميع مختبرات العالم دون أن تحصل على درهم وجدان صادق، ونحن نعرف أن الوجدان الصادق هو لب القضية الأدبية والفنية ومن هنا سيكون انتشار واسع للفن والأدب الهابط، الرخيص المتصنع وسيكون للفن (الغجري) قيمة كبيرة جداً بحيث تندثر كل النصوص المبدعة في عصر ما قبل عام /2000/م وتصبح مجرد (علاك فاضي) على حد تعبير اللهجات الدارجة وسينظر إلى شعراء المعلقات أو المتنبي أو المعري وأبي تمام أو البحتري ... وغيرهم من الشعراء الأعلام بمفهومنا على أنهم شعراء متخلفين فناً ولغة وصياغة وفكراً وسينظر إلى شعراء مثل نزار قباني وعمر أبو ريشه والجواهري والخ ... على أنهم مراهقون كتبوا على جدران الحياة عبارات بليدة قاصرة لا يفهم منها إلا أنها أحلام بدوي في شوارع طوكيو.
وسينظر إلى الزير سالم والمهلهل والزيبق على أنهم شعراء فهموا عصرهم وتجاوزوه؟ وستصبح فنون الرقص الجنوبي هي التقليعة المسيطرة على هوائيات البث الشخصي.
لن أتجاوز حدودي فأقول إن ما قاله (طويس) أو غيره من مغني العصر كأم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب وسيد درويش مجرد عواء ذئاب في صحراء النفس القاحلة وسيستعيض جمهور الناس عن هذه الأصوات إلى تسجيل أصوات الطيور والرياح والشجر والرعود. والجنادب والضفادع والخيول وغيرها من الحيوانات العجماء المستنكر صوتها.
لا أظنني واهماً فيما أقول بعد أن تغيرت حركة الحياة على رحى مختلفة من حيث الفعل والقول، فالأدب على تعبير (جدتي) مجانين والمجانين في (القاموس) الأدبي أدباء وفنانون تميزوا وتفردوا فكان الجنون والجنون كما نعرف مشتق من فعل (جن) وجنن كم يقول (ابن جني) في نظريته اللغوية (نظرية الأصوات) يدل على الستر والمجنون مستتر بذكائه.
لن أستطرد طويلاً وسأعود إلى عام /2000/م بحيث يمكن أن تتحول فيه المتغيرات وتنزاح السحرة والمشعوذون بشكل كبير بحيث يصبح عددهم حوالي نصف سكان العالم وسيكثر (الدجاجله) الذين يدّعون أن العالم أصبح خاتم سليمان في أيديهم.
أما الفنون الحقيقية والآداب الصادقة فلن يكون لها مكان في قاموس الحياة.
وسأدلل على ما أقول: لننظر على قول ابن ملحان إذا صدق ظني
عوى لذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدت أطير
وهذا الكلام قبل تسعمائة عام على الأقل نشتم منه رائحة الهروب من الإنسانية من الكذب من الدجل إلى فطرية الحياة لماذا؟ أرى أن الذئاب ستتحول إلى بشر يمكن أن يستأنس بها بينما ستتحول البشر إلى ذئاب تنهش بعضها البعض ومن هنا ستتحول الحياة إلى مجرد معركة بين مغلوب ومغلوب ولا غالب إلا الأنانية والتدميرية والسادية وسيصبح أقل الأمراض النفسية خطورة الانفصام وسيظهر جيل الأقزام فكراً وشعوراً وعاطفة .
زمان الشعر والوجدان ولّى/ وخلّف بعده عهد الجنون(1)
فلا تأسف على عصر تدلى/ عناقيداً من الغضب السجين
فقد تمسي الأناس وقد تجلى / شعاع الشمس في الكون الحزين
ثعالبَ همها رقص بحقلٍ / وغيلاناً تفكر 1) بالجنون
(الأبيات من نظم الدار
الفطام الشعري
( استجابات و نوازع
الشعر حالة إنسانية تستدعيها الذات الفاعلة و تنطلق بها إلى عالم يرتسم بأبعاده القيمية الحقة و الشعراء كما يصنفون أنفسهم و إن كانوا أكثر الحالات استثنائياً مصابيح تشعل ظلام الليل إذا ادلهمت الخطوب على الأمة و تحولت حياتها إلى جحيم مظلم 0
و الشعر العربي في عصرنا الحاضر يحتاج إلى إعادة نظر من حيث الثقافة و الموارد و التقليد و الاتكاء فهو يحتاج إلى تحليل من نوع آخر يمتلك أدوات فنية جديدة تسبر لا أعماقه بشكل دقيق 0
أسئلة كثيرة تقرع ذاكرة الشعراء و تحاول نقل الستار الحديدي عن آفاق شعرنا فشعرنا الموروث استطاع أن يؤسس لنفسه في مرحلة تناسبت فناً و فكراً مع واقع ذلك العصر و لكن هل استطاع الشعراء في عصرنا أن يتجاوزوا مرحلة النمو الوجداني و النفسي وهل تخطوا مرحلة العواصف في مراهقتهم الشعرية و هل سيطروا بحق على قلق الفصام الشعري الذي جعل شعراء هذا العصر ينفصلون عن الشعر الأم انفصالاً تاماً بحيث قطعوا كل صلات الرحم التي تربط بينهم و بين جذور الشعر العربي و نحن نعلم أن حالة الرجوع إلى الشعر العربي الأصيل يقف أمامها أولئك المتسلبطون على فن الشعر و الذين يدعون باسم الحداثة أن التقليد عائق كبير و بالتالي لا بد من الانطلاق بالشعر من قيوده و نحن لا نطالب الشعر و لا الشعراء أن يكونوا مقلدين لأن التقليد مرحلة متدنية من النمو و لكننا نطالب الشعراء أن يكون لديهم ماض يستنيرون بمصابيحه المشرقة حين ينطلقون إلى المستقبل فنحن نرى اليوم أن الحركة الشعرية و المشي الشعري يحتاج إلى حوافز كبيرة إذ أن الشعراء ما زالوا يعيشون في حالة الطفولة الشعرية لأنهم انقطعوا عن كهولة الشعر العربي و حاولوا تقليد مشية الشعر الأوروبي و نحن لا ننكر أن في أوروبا نهضة مادية حققت وجوداً حضارياً لكنه في النتيجة لا ينسجم مع واقعنا الثقافي و الاجتماعي و الديني فدادائية الشعر الأوروبي و عبثيته جاءت بسبب القنوط الذي يعيشه الفرد في تلك البلاد أما نحن فإننا في حالة أخرى لا تنسجم مع هذا الواقع 0
إن تكوين الأمم و الأفراد إذا كان ينطلق من تربية للأنا و الذات و الميل إلى الفردية فإنه يؤثر تأثيراً كبيراً في الأهداف التي يرسمها الأدب لمستقبل الأمة و نتساءل لماذا يتسابق شعراءنا نحو الفردية دون أن يصل إلى نتائج مرضية لقد حاول أدونيس أن يخطو بالشعر العربي باتجاه الغموض على أنها مدرسة مستقلة يمكن أن تتطابق مع واقعنا إلا أنه في النتيجة استولى عليه الاستغلاق الشعري و تحولت لديه الصور الشعرية من كائنات حيه إلى أحجار جامدة 0
لقد انبرى أدباءنا كل ما هب و دب من مدارس أدبية أوروبية إلى شعرنا و حاكوا بمشيتهم الشعرية كثير من الشعراء الأوروبيين معتقدين أنهم بذلك يقفزون بالشعر نحو الأسمى و لكننا اليوم نكتشف أن شعرنا يدور مرة أخرى في رحى التقليد للشعر الأوروبي و نحن اليوم أكثر ما نحتاج إلى تأصيل شعرنا و تطويره و الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في تطوير هذا الطفل المدلل دون أن نمس بأساسيات هذا الفن
فالشعر المعاصر يحتاج إلى إعادة نظر في بنيته الحديثة و ما أروع ما قاله الحطيئة قبل ألف و أربعمائة عام :
الشعر صعب و طويل سلمه............ إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
• دنيا الوطن
• دنيا الرأي
هل صحيح أن أعذب الشعر أكذبه ؟!!
لا شك أن القرآن الكريم عندما قال في محكم آياته في أواخر سورة الشـــعراء ( و الشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون و أنهم يقولـون مالا يفعلون إلا الذين أمنوا و عملوا الصالحات 0000 )) يشير إلى نقطة حسـاسة في ذاكرة الشعر تتمثل في فهم معنى ((أنهم في كل واد يهيمون )) بأن وديان الشعراء التي يهيمون بها إنما هي خيالاتهم التي ينقلوننا إليها بفعل آلة التصوير لديهم فكم من شاعر نقلنا إلى عبقره الخيالي فأرانا ما لا نرى و أسمعنا ما لم نسمع و أذاقنا ما لم نذق طعمه و جعلنا نفارق أحبة و نعانق آخرين فإذا ما تركنا وادي خــيال الشاعر عدنا إلى واقعنا و لا يعتقد البعض أن الخيال مذموم فلولاه لما فتحنا آفاقـاً لتصور الجنة أو النار أو الميزان أو الحســاب و إنما المذموم من الخيــال هو المريض الذي يسترخي صاحبه فيه و يعتقد أنه واقع موجود من حوله و هذا مع الأسف ما وقع به شعراء قبيلة عذره فأصبحوا كغيرهم من المجانين الذين تلبسهم الخيال و هجرهم الواقع لكن الخيال الشعري الممدوح و المحبوب لدينا هو الخيال الذي ينقلنا إلى ساحة جديدة نســتمتع بمعطياتها و نتصور من خلالهـا الماضي أو الحاضر أو المستقبل و لا يكون الشعر عذباً إلا إذا حملنا على أجنحة المبالغـة فحول الصور غير الممكنة إلى واقع متخيل يستحبه الإنسان و يسر إذا ما سـرح بين أشجاره 0
يقول المتنبي واصفاً سيف الدولة الحمداني في معركة الحدث الحمراء التي هاجم فيها المسلمون الروم على مشارف الشام :
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطـال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح و ثغرك باسـم
ما أكذب هذه الصورة و ما أجملها لأنها تصور الردى ( الموت ) ساحة قتال يقف فيها سيف الدولة بوجه ضاحك و ثغر بسام بينما تمر من تحت أقدامه الأبطــال هزيمة مجروحة 0000 صورة تمس الخيال فما من إنســان إلا و يخاف الموت ولكن شاعرنا المتنبي صور سيف الدولة بشــخصية لا تهاب الموت بل تقف في عين الموت 0000 و هذا يعني المبالغة الزائدة في وصف صورة ســيف الدولة وهذا ليس كذباً إنما هو عذوبة في الكلام 0
و لو نظرنا إلى قول الشاعر المجهول الهوية
هامت بك العين ولم تتبع سواك هوى
من علم البين أن القلب يهواك
أليس خيال الشاعر في الشطر الثاني من هذا البيت يدلل على أن أعذب الشــعر أكذبه 000 ترى من الذي علم البين ( الموت ) و أرشده أنني قد متّ في هـواك و هل الموت يراقب هوى المحبين 00 إنها خيالات كاذبة و لكنها مسـتطرفة عند بني الإنسان 0
كما أننا لو قرأنا قول عمر بن أبي ربيعة :
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد و شفت أنفسنا مما تجد
و اسـتبدت مرة واحدة إنما العجز من لا يستبد
------------- -------------
كلما قلت مت ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
أليس الوعد في هذه الأبيات وعداً كاذبا ً و لكنه وعد عذب و ما أجمل الشعر الذي يعتمد على المبالغات غير الممجوجة و في تقديرنا أن الشعر إذا خلا من المبالغات افتقر إلى الخيال و إذا افتقر إلى الخيال ضعفت القوى الشاعرية لدى صاحبه نفسه
الأدب والأخلاق والجمال
ينطلق الإنسان في حكمه على الأشياء من منطلقات عدة، ويعلل ذلك بأسباب متباينة. إذ أن جوانب الإنسان المتعددة تفرض عليه أن يرضي مختلف توازناته الروحية والنفسية والعقلية والأدب كأحد عناصر الحياة المعبرة عن ماهية هذه النوازع في فهمه لتلك النوازع من منطلقات جمالية حسية ومعنوية تتلاءم مع المواصفات الجمالية المتفق عليها في كل تجمع إنساني على هذ الروح ولا خلاف أن تحسس الجمال قضية شخصية جماعية قد لا نجد لها تعليلاً إذ أنها تبعث نشوة في كيان الإنسان وتجعله يعيش حياة سرور وسعادة، وعلاقة الجمال بالأخلاق والأدب علاقة متداخلة خاصة، وأن الأخلاق هي جزء من القضية الجمالية التي يسعى لتحقيقها الفرد في بحثه المستمر والمضني عن ديمومة السعادة.
فالأدب، والأخلاق، والجمال عناصر متعاضدة في بلورة مفهوم الحياة كنقطة التقاء بين الزمن والحركة؛ وإنه لا وجود لأي مفهوم خارج نطاق الألوهية، وأن الوجود المطلق هو حقيقة النور المنبعث من خلال حركة دائمة تستمد وجودها من الله، وإذا كان الإنسان بطبعه وفطرته نزّاع إلى الجمال؛ فإنه لا بد له من مثل ينطلق من خلالها لفهم هذا الجمال من خلال طرق مختلفة، وإن الأدب أحد الطرق المعبرة عن نزوع الإنسان لهذا الشوق الجمالي. إن الجمال بما يبعثه في روح الإنسان من رعب، وطمأنينة يجعل منه قضية إشكالية لا تُحلّ إلا بمحاولة الإثبات لحقيقة الجمال. لقد ولد الفن من المعاناة والمكابدة تعبيراً عن شعور داخلي وهذا الشعور يحاول أن يبعث في الإنسان روح الجمال التي ينزع إليها.
فالجمال حقيقة علوية ذات طبيعة نورانية ممتدة في ذات الإله "إن الله جميل يحب الجمال" كما قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكل الناس يتأثرون بالجمال، ولكن الفنانين والأدباء يدركون سرّ هذا الجمال بشفافيه مهذّبه، ومن هنا كان على المبدع ألا ينقل صورة الواقع كما هي، بل يجب عليه أن يخلق واقعاً فنياً جديداً. وسرّ الجمال هذا لا تدرك حقيقته إلا إذا وجد توافق بين روح العمل الفني، وروح المتلقي.
إذ أن الجمال يتركب من النظام في الأشياء التي نراها جميلة لأنها مرضية ومرضيه لأنها جميله ولأن أجزاءها تتشابه وينتظمها انسجام واحد. إن نزعة الإنسان الخيرة وفطرته السليمة تجعل من الخير العنصر الأكثر أهمية وتربط الجمال به بشكل كبير، وإذا كانت النفس تفصل علاقاتها بسبب طبيعة جوهرها عن العقل والروح؛ فإن الجمال بطبيعته يمس حقيقة الروح أولاً، وليس للعقل دور فيه إلا تفسير مبادلاته الحسية، ومقاييسه المنطقية. إن أحداً منّا مهما أوتي من رجاحة عقل لا يستطيع أن يعللَ التعليل المنطقي لماذا يكون الجمال على هذه الصورة في المرأة وعلى تلك الصورة في الرجل وفي ذلك الشكل في الأشجار وفي هذه الحالة عند الحيوان والطيور إذ أن الجمال كمفهوم، أو ماهية لا يمكن تحديده على صورته الدقيقة، ولكم فتن الإنسان بجماليات لم يستطع تفسير سبب افتتانه بها اللهم إلا أنها جميلة، ومن هذا المنطلق يمكن لنا أن نفهم مقولة (الإنسان يخضع للصوت الحسن والوجه الحسن). إن أثافيَّ الحياةِ الثلاثَ (الأدب والأخلاق والجمال) تتعاضد لتسهم بدورها في تكوين الشخصية الإنسانية على وجهها الفعال الصحيح.
إذ أن الأدب بطبيعته وأهدافه ووظيفته بحث عن الأخلاق من خلال الجمال، كما وأن الأخلاق تريد أن تبرز بصور جميلة من خلال أشكال معينة أحدها الأدب، وليس هناك قضية أكثر إلحاحاً على عقل ونفس وروح الإنسان من البحث عن الجمال الذي يبعث في الروح الطمأنينة والسكينة وينفخ في النفس روح الاستقرار ويطلق الخيال من عنانه. إن البحث المضني من الأدباء باتجاه الجمال يدل على انزياح الروح الإنساني باتجاه الكمال الذي حاول تثبيته آدم عليه السلام حين أغواه الشيطان وأقنعه بالأكل من شجرة الخلد.
وليس من الدقة بمكان أن تفصل الأدب عن الأخلاق كما يدعو إلى ذلك بعض أصحاب النظريات الحديثة التي ترى في الفن قيمة منفصلة عن أي قيمة أخرى وفي ذلك إلغاء لحقائق راسخة كامنه كافح الإنسان طويلاً في تثبيت مفهومها وكيف يمكن للإنسان أن يلغي ذاتيته من خلال إلغائه لأخلاقه أو فصلها عن روحه المتعطشة للاستقرار والثبات.
صحيح أن بعض الأجناس الأدبية قد انزاحت من حيث المضمون في تصوير قضايا حياتية لا يجوز أن تسلط عليها أي آلة تصوير خفية وهذه قضية ليست حديثة فقد مارسها أول شاعر في العربية عرفناه (امرؤ القيس) في حديثه عن (دارة جلجل) وفي وصف علاقته بعنيزة (ولقد دخلت الخدر خدر عنيزة).
ولكن هذا الانزياح كان عاملاً في توجيه سلوك الكثير من المنحرفين باتجاه الأسوأ، والأدب أحد عناصر التغير في السلوك الفردي والاجتماعي في البيئات الإنسانية.
فلا أدب بلا جمال ولا أخلاق بلا أدب ولا جمال بلا أخلاق.
لقد نعى الأدباء تدهور الأخلاق بمفهومها الشامل (أقصد الأخلاق المتعلقة بكل صغيرة وكبيرة في الحياة) إلى توجه الأدب إلى العبثية والانفلات من الروابط الاجتماعية والإنسانية وتحول القضايا التي يعالجها الأدباء إلى حماقات صغيرة لا تستحق أن تذكر، وحسبنا ما نشاهده من دواوين شعر وروايات ومسرحيات فارغة المضمون تائهة الهدف.
إن بحث الأدب عن الجمال لا يعني تداخل الجنسي بالفطري عند المرأة ولا يعني التمرد من أجل التمرد فكراً، ولا التغيير بحسب المزاج والرغبة في سلوكيات الحياة.
لقد قتل الأدب البحث عن القيم الدونيه للجمال بحيث يرى الأديب أن القضية السخيفة هي المحور الرئيسي في الحياة ولطالما أشرت إلى ضرورة بحث الأدب في حديثه عن مختلف القضايا إلى سبر القيم الروحية والداخلية الشعورية والإنسانية التي من شأنها الوصول إلى عمق الإنسان الداخلي.
ضرورة الخروج من المراهقة الشعرية
الشعر رؤيا، واستبصار فني، ومخاض إنساني ، وجلاء للروح، وموقف من الحياة، والنّاس، والمجتمع. إنه ثوره على الذات، والغير، وثورة على القيم البالية المهترئة، وولوج في عقيدة المرء الصحيحة وفي قيم الحق، والعدل، والخير، والجمال، والشاعر هو المحاور الوحيد الذي يخرجك من منظور الواقع إلى فضاء المستقبل، بيده مفتاح النغم، وفي كلماته مسقط التجربة الشعرية، وفي وجدانه عذاب الآخرين.
لقد ولد الفن، وانبثق من مرآة الخلق الأول، وأصبحت الذات الإنسانية قطب الوجود، وتهويمات الصمت في عمق اللاوجود.
إنّ كون الشعّر، نطفة الفكر الإنساني الذي كان أمشاجاً في عمق المادة، جعل روح الشّعراء تتمرّد على صيحات الشياطين التي تنطلق من هنا، وهناك؛ معلنة كلّ ما عدا الشِّعر، وإنّ كون الشّعراء هم النّاطق الرّسمي في لاوعي الأمة، وعقلها الباطن يجعل الحياة سفراً مفتوحاً من الانصعاق الرّوحي الّذي لم يكن قبل حركة الشّعر الوجدانية شيئاً مذكوراً.
لا أريد أن أحمل القارئ البكر إلى آفاق الحداثة التي ينفخ معظم الشّعراء في بوقها المثقوب دون أن يعو حقيقتها، وإنما أريد أنْ يطير هذا القارئ معي على جناحين من الخيال الواقعي المشروع، ليصل إلى فردوس الشّعر المفقود، أو إلى مملكة الحب الأبدية، أو الصمت، أو الموت، أو القحط والتصحّر الّذي يعيشه إنسان في هذا العصر المرفوع على أوهام الشكلية التي تهرب من الثبات إلى السقوط في مستنقع السَّاديه أو النجرسية الشعرية والأدبية.
إن الحديث عن الإنسان هو الحديث عن الشّعر فهما صنوان باقيان على مرّ الحياة وكرّها.
إن فجائية غياب الحقيقة عن الواقع الإنساني تدعو هذا الإنسان، لا أن يُعِدَّ للحقيقة عدتها، وأن يبكي بكاء الخنساء على صخر ، أو قلْ. أن يذوي أمام فجائعية رثاء ابن الرومي لولده محمد.
لقد كان الحب الإنساني، والشعر، والحقيقة أثافي الحياة الراسخة؛ لا ترتكز مراجل الخير إلا عليها، ولكم بكى امرؤ القيس ضياع ملكه، ونسي أنه؛ إنما يبكي شخصيته، وانتماءه لأمة ما فتئت تقضم أصابعها ندماً على قتل الغيله، وبكاء الأندلسيات، وصراع الجنوب والشمال.
أي ضياع هذا الذي يعيشه الشّعر في زمن انفلشت فيه حدود المعقولية، وصار الإنسان مصاباً بداء الأزدواجيه، والمازوخية؛ وتحولت حركة الشعر ، والحياة إلى دائرة ضيقة تشبه الدائرة التي يدور فيها ثور العاقية.
لا أريد أن أتباكى على أطلال الشعر، فتلك سمة العاجزين، إنما أريد أن أقترح على الشّعراء، والمبدعين ألا يعطوا لأنفسهم ابتكارات مازالت في عالم الغيب ، ومشاريع لإشباع الفقراء، والجائعين لم تخطّط بعد.
إنّ تشكيل أي فضاء لأي نص شعري روحياً يحتاج إلى حركة إنسانية تستبعد شعراء الأنابيب أولا، والقصائد اللقيطة ثانياً، وفنون الأدب التي جاءت سفاحاً ثالثا. دون أن يكون هناك عقود أصالة شرعية.
لقد اتهم الجاهليون بالبساطة، والسذاجه ، لأنهم فهموا الأدب كما فهموا الصحراء، ونسينا نحن المتمرسين بفنّ إسقاط التهم، أن الغوغائية، والدعاوى غير الصادقة في الشعر، والواقع هي التي جرتنا إلى مسارح صراع الثيران، أو قل، إلى مكاشفة السحرة، والعّرافين إن الشّعر أصبح المفتاح السحري لمغالق الحياة. أية تهمة يمكن أن نلصقها بالأدب، وقد أطبق على شفاه الحقيقة، وصارت الأيدي الأرض مالها من قرار). نواقيس استجابة واقعة في زمن رديء المواقف، والمثل التي نعيشها. إن أمراض الجهاز العصبي للشعر، وعلاقة هذه الأمراض باضطراب لغة الحقيقة يجعل قسماً كبيراً من الشعراء مصابين باضطرابات اللغة التعبيرية ، واللغة الاستقبالية ، والاكتئاب الحسي، والنفسي والشعري؛ وبالتالي الوقوع تحت وطأة الفصام الوجداني.
لن أقول لكم كما يزعم البعض:
إن الكثير من شعراء هذا العصر يحتاجون إلى عيادات نفسية لردهم إلى سوية الحياة، أو يحتاجون إلى مصحات فكرية. بل أريد أن أقف مع صف الداعين إلى ضرورة الخروج من المراهقة الشعرية، والأدبية وأدعو بأعلى صوتي إلى تحمل المسؤوليات بكل إخلاص وأمانه مسؤولية الاطلاع على صناعة الأدب، ومسؤولية حمل أمانة الكلمة التي عجزت عنها السموات والأرض والجبال، لأن الكلمة الصادقة المخلصة الأمينة هي عده الأديب وسلاحه في مواجهة العبثية والانفلاشية والسفسطة والغوغائية والادعائية.
و(مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرفعها في السّماء، ومثل كلمة خبيثة، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
هل تحّول الشعر إلى مومياء؟
لست أشك ولا أظن أحداً من الأدباء أو المتأدبين – يشكّ – أن الشعر في أزمة عنيفة، وأكاد منذ البداية أجزم أن شعرنا المعاصر مصاب بالصرع، والعصاب وهو ممعود، وأقصد بالشعر المعاصر ما كتب في العصر الحديث بأي شكل كان أو بأي صورة جاء. وإنه لمن نافلة القول أن أشير إلى أن سبب هذا التردي هو لغة المجاملات التي أتقن فنّها نقادنا في العصر الحديث، والتي أخذت تكيل الألقاب، والمدائح للكثير ممن لا يستحق حتى لقب /شعرور/، وكأني بالنقاد قد أصبحوا فنانين في تحنيط جثث قصائد الشعر المعاصر.
لقد أسهم الفرز الاجتماعي والسياسي في الوطن العربي على ظهور طبقة من سماسرة ترويج القضايا منذ بداية هذا القرن، وأصبح الكثير من المبدعين الحقيقيين بين مطرقة السلطة، وسندان الواقع المرَ. ولم يطفُ على السطح إلا كلّ موتور، أو حاقد، أو منافق، وفي أفضل الأحيان من يحاول إخفاء الحقيقة وراء ستار من الوهم.
لقد التقيت بكثير ممن يحبّ الأدب، بل ويعشقه وحاورت الكثير من يقرض هذا الشعر، وراسلت ممن له علم ودراية في فن القول. فلم أعثر على رأي يرى أن التطور الذي أصاب الشعر كان إلى أعلى، لقد تغيرت الأشكال والألوان، والبنى النفسية، والجسمية للشعر إلى الأسوأ.
وإذا كان دعاة الحداثة قد أغروا الناشئين بضرورة الثورة على القديم إلا أنهم أوقعوهم في شراك التخبط والوهم والغموض، والقفز فوق سرك الشعر الموهوم.
لا أعتقد – كما لا يعتقد الكثير من دارسي الشعر – أن شعرنا في عافية، وأن أدبنا أدب حياة، وتطور، وإذا كانت هناك عوامل سياسية، واجتماعية قدأسهمت بفعل هذا الشعر، وإعاقة تحركه فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الشعراء أولاً والنقاد ثانياً.
ولو أنا حاولنا استعراض بعض هذا الشعر من المنهجين التقليدي، والحداثي لوجدنا أن معظم هذه التجارب جاء تعبيراً عن واقع هذه الأمة المريض، ورؤيتها العشواء، ومحاولة تعويض النقص عند الكثيرين ممن لا يرى في نفسه أهلاً لذلك.
لقد زعم علي أحمد سعيد – أدونيس – (أن الحداثة تختزل أحياناً لتصبح لعباً شكلياً)، وإن كان يشير أن الحداثة في رأيه هي التخلص من ثقل الفكر التقليدي المهيمن على الحياة العربية، والتركيز على الابداعية من جهة ثانية؛ ومتى كان الموروث العربي مجرد عائق في وجه الحداثة؟ وهل الحداثة هي الخروج من موروث لم يعد مناسباً على حد زعمه والوقوع في أسر حداثة مشوهة وغير مفهومة؟.
يقول نزار قباني: (إن القصيدة العربية خرجت من بيت الطاعة واكتشفت صوتها الخاص بعد أن كانت مجموعة من العادات اللغوية والبلاغية)(1) وكأن نزار نفسه الذي عبّ من ينابيع الأسلاف، لم يعد يذكر امرأ القيس وعمر بن كلثوم وطرفة وعنترة وابن الرومي والبحتري والمتنبي وهل بنى نزار مجده الشعري، إلا من خلال هذه التركة العظيمة التي لم نستطع نحن أن نطورها.
إن محاولة الكثير من أصحاب الدعاوى المسيسة باتجاهات مشبوهة باءت بالفشل، وإنني أهيب بالقارئ العربي العام أولاً، والخاص ثانياً أن يعي تمام الوعي أن الكثير من كتابنا في الأدب ، والصحافة ، والفكر هم كتاب أجراء إما عند سلطة ما يروجون لها ملصقات إعلانات سياسية، أو عند مجلات، وجرائد مأجورة غايتها طمس الثقافة العربية الأصيلة التي تربط العربي بواقعه الحقيقي، وتكشف له عن مواطن الضعف في حركة التطور. لا أريد أن أبكي أطلال امرئ القيس، ودار جانين كما سماها نزار قباني في صراعه مع الناقد مارون عبود؛ ولكني أود أن أشير إلى أن الكلمة قد فقدت قدسيتها ، وبكارتها، وشرعيتها، وأن القلم الذي رفع القرآن من شأنه وأقسم به (نون والقلم وما يسطرون)(2) قد أصبحا أجيرين عند واهمٍ، ومخدوعٍ، ومغرورٍ، ومعتوه. لقد أراد الآخرون للأدب أن يكون من أجل التسلية، والمتعة، والخيال متعامين عن دور الكلمة العقيدي، والكفاحي، والتوجيهي؛ وكأن غاية الأدب أن يقول ما يقول من أجل جائزة نوبل، أو من أجل وقفه في إيوان كسرى من الأكاسرة، أو من أجل الفوز برضى قيصر من القياصره، لاهمَ له ولا غاية إلا الجيوب.
لقد عاب النقاد في الخمسينات والستينات من هذا القرن الشعر العربي لأنه تربى في أحضان الزعماء وهاهو اليوم يستمد قوانينه من وراء البحار ويوجّه برادارات بعيدة المدى غايته غير نزيه المرمى. وبذلك فقد القارئ العربي ثقته بأدبائه وأحس أنهم حقيقة مأجورون، وعزف عن الأدب، والشعر بشكل خاص، وتحول الشعر إلى مومياء محنطة في رفات الكتب.
هل الشاعر بوهيمي بطبعه؟!
كيفما استدرت تقف في وجهك؛ وأنت تقرأ الإنسان من الداخل – أقصد عندما تقرأه مشاعراً – العواطف التي هي لب الإنسان وعمقه الوجداني ومصدر حركاته وسكناته والباعث الحقيقي على الحب والكره والاستلطاف والاستكراه والتآلف والتعاطف وهي قضية فطرية وطبيعية لها وجودها وسيطرتها وحكمها، ولكن الشيء الخطر في هذه القضية عند الشاعر أن تفعل العواطف في نفسه بشكل مسرف فيهيم على وجهه، ويأخذ بأطراف الهيمان وتصبح الخيالات المميّعة دأبه ويتحول بالتالي إلى إنسان أخر، وما شاعرنا الراعي النميري أو الشعراء العذريون إلا نموذجاً لذلك. فأنا لا أشك ولو للحظة أن ما سماه نقادنا القدامى حباً عذرياً أو شعراً عذرياً ليس إلا هيمان في وديان الخيال بل هو مرض نفسي خطير فليس هناك قصص حب بين قيس ولبنى أو ليلى وإنما هناك حب في خيال الشاعر بين (المجنون) وشخصية (أمرأة) مفترضه من صنع خيال الشاعر نفسه. وهو ما نسميه بالدون كيشوتيه التي تقتل البعد الرابع(1) للشخصية الشاعرة وأقصد بالبعد الرابع (خيال الشاعر المتنامي باتجاه التلاشي) من هنا تبدو بوهيمية الشاعر أو تفكك أجزائه الأربعة السابقة وتحولها إلى سراب قاتل ووهم مريض.
ألم يكن المتنبي وديك الجن الحمصي ودوقلة المنبجي انعكاساً لهذه البوهيمية؟ وإذا لم يكونوا كذلك فما تراهم يكونون؟ إن موقف الكثير من الشعراء العرب من المرأة والذات يجعلهم باحثين عن البوهيمية بمعناها العريض باستثناء موقف المعري – الذي اعتبره يمتلك البعد الثالث وبعد الموقف تبقى مواقف الشعراء بوهيمية خارجة عن إطارها الصحيح.
إن ظاهرة شعراء المدح والقدح في أدبنا ظاهرة بوهيمية ناشرّة لا تعبر إلا عن خيال مريض غايته نبذ التوازن الداخلي في عمق الوجدان الخلاّق.
ولولا أن بعض أصحاب المراثي ممن سفحوا مراثيهم بفعل الصعقة الإنسانية العميقة لبقي أدبنا بلا روح ولبقي الكثير من أدبائنا بائعين جواليين على أعتاب مطابخ المتحكمين بمصائر الناس ونحن على عتبات الشعر العربي مطالبون بأن نكتب من عمق وجداننا الحقيقي ونخاطب أنفسنا أولاً والأخر ثانيـاً.
البعد الرابع: بعد خيالي مريض يتبع ثلاثة أبعاد هي العقل- بعد العاطفة – بعد الوقف . (المؤلف نفسه).
وأن نخرج من بوهيميتنا لنكون أدوات فاعلة في تغيير ما ترسب على قلب البشرية من صدأ قاتل كما عبر القرآن قائلاً (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) (1) أي تكريس حقيقية أزلية لم ينج منها إلا شعراء الموقف أو شعراء البعد الثالثﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ الشعراء: ٢٢٧.
الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية الكلمة بمعناها الإنساني ومن هنا تبدو عظمة الشعراء حين يخلعون بوهيمتهم ويرتدون دروع المواقف السابغة وقد عبر عن ذلك رسول الله حين قال لحسان بن ثابت (أهجهم حسان وردح القدس معك)(3).
ولطالما نعي الشعراء أنفسهم هذا الهاجس الناشز الذي تحمله عربات الموت كنفايات شعرية يريد أن يتخلص منها الشاعر وأن يدفنها في عمق صحرائه القاتلة وما اختلاط الشعر بالجنون أو الكهانة أو السحر في العصور الأولى إلا الدليل القاطع على ذلك كأنّ مهمة الشاعر لم تكن التطريب فقط بل الخروج من دائرة المشاركة البسيطة إلى صنع المستقبل (الرؤى الاجتماعية) ومن هنا كان اتهام مشركي قريش للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالسحر والشعر والجنون والكهانة ذلك أنة أتى بما لا يستطيعه هؤلاء من بلاغة وفصاحة ونصوص غاية في السحر والجمال تحمل في طياتها الرؤى الحقيقة للحياة والكون والطبيعة. إن بوهيمية الشاعر الأولى التي ظهرت في بدايات تشكل الحياة الأدبية لازمت الكثير من الشعراء حديثاً وجعلتهم ينطلقون من نقطة الصفر الأولى حاملين على أكتافهم صخرة الحياة كما حمل سيزيف صخرته باحثين عن الفطرة الأولى التي ذهبت هباءً منثوراً وتحولت إلى شظايا قاتلة في حقل ألغام الحياة المشؤومة.
1- حديث شريف
حينما تصبح القصيدة أنثى
بعد اعترافات عصريه أدلت بها القصيدة العربية أمام أجفان امرأة ناعسة، وبعد ليل طويل من البنفسج المظلم وتعري الفضاء أمام قوس قزح أشرع جناحيه وبسط روحه فوق ذرات الماء المتساقطه وبعد غربلة عصرية كان المغربل فيها شعراء تركوا وراءهم طلمسات البحث خلف تمتمات العصور الناشرّة تحولت القصيدة إلى (انثى) من نوع آخر، وحتى لا يفهم كلامي على أنه ترجيح لطريقة شعريه على طريقة أخرى، أو أنه محاولة لخلق توازن في السوق الشعرية المعاصرة بعد الحرب الباردة بين أنصار (عمود الشعر) وأنصار (السطر الشعري)، فقد وضعت أسساً للقصيدة الأنثى والتي رأيتها تخرج بعباءتها العروبية من قصور المترفين إلى أكواخ البسطاء والسوق الشعرية العربية الحرة هي سوق المستهلكين البسطاء الباحثين عن ستر العورة ولو ببعض أوراق الشجر كما صنع أبونا آدم عليه السلام عندما طفق يخصف على عورتة من ورق الجنة، ولكن السؤال الذي أقض مضجعي وتركني على فراش من إبر أو كما قال النابغة
فبت كأن العائدات فرشن لي
هراساً به يعلو فراشي ويقشب
لم لم تتحول القصيدة العربية إلى الآن إلى انثى حقيقية إلى جانب الرجل لا تنحني أمامه؟! أقصد لم لا تتحول القصيدة العربية إلى أم تبحث عن حلول لأبنائها، ونحن نعلم أن شعرانا العرب في العصور السحيقة عالجوا مشاكل عصرهم وعبّروا عنها تعبيراً بيناً وطرحوا لها بعض الحلول، والصعلكة بمفهومها الشعري خير دليل على ذلك لأن الصعلكة كانت رد فعل اجتماعي على الخلل الذي أصاب المجتمع وأنا قد أكون مع المعري في رسمه للكثير من أفكار مجتمعه وتشخيص هذه الأفكار لكنني لست معه في مواجهته لهذه المشاكل بانزياحه عن المجتمع وهروبه ولزومه بيته. كما وأنني لست مع زهديات أبي العتاهية التي لم تكن إلا رداً سلبياً على الشرخ الذي حدث في بناء المجتمع فقسمه إلى قسمين قسم في الأعالي وقسم في قعر الوادي كما وأنني لست مع تحول الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري إلى (مداحة نواحة) بعد أن رفع راية الباحثين عن ستر العورة، وقد لا أوافق نزار قباني في الكثير من طروحاته التي حولت المرأة ليس إلى أنثى حقيقية وإنما إلى (بائعة هوى) تبحث عن حلول لنزواتها الجنسية وإن كنت لا أنكر على المرأة ما تعيشه من (ظلم أنثوي) فقدت فيه أنوثتها الحقيقية؛ على أنني في الوقت ذاته أنعى الكثير من شعراء هذا العصر الذين ماتوا قبل أن يولدوا وخاصة أولئك الذين يعيشون همهم الشعري الوحيد الباحث عن الظهور المتسرع دون أن يعوا لم نكتب وكيف نكتب؟ وماذا نكتب؟ حتى يخلد شعرنا المعاصر. وعندما نتحدث عن هذه القضية لابد لنا أن نضرب مثلين:
الأول: حالة الشعر العربي وقضاياه القديمة والمعاصرة.
الثاني: حالة الشعر الأوروبي وقضاياه القديمة والمعاصرة.
وليخلع القارئ المنصف عن عينيه النظارة السوداء ليرى بأم عينه أنهم اختلسوا ما كنا نبنيه.
وحتى تصبح القصيدة أنثى كما قلنا لابد لنا أن نؤسس أنفسنا على استلهام القيم الإنسانية والقضايا العصرية التي تجعل من الأدب معول بناء لا معول هدم وكل ذلك لا يتأتى إلا في حال بناء جيل من الشعراء الباحثين عن (قضية) ما في شعرهم لا أخص أي قضية بعينها وفي الوقت نفسه يفترض أن تكون القضية إنسانية لا شخصية ومن هنا سما بالشعر والأدب شكسبير وإليوت وسيرفانتس والعشماوي ومحمد إقبال وعزيز نيسن وتولستوي والشابي ... إلخ.
ولست أشك أن أي أدب إنساني لابد له من تناول مشاكل العصر ومعالجتها بوجهها الصحيح وبعث القيم الإنسانية الرفيعة ممتزجة بهذا الأدب على ألا نحتكم إلى غيرنا في تغيير مراكب الشعر بحسب المياه التي نبحر فيها والمحيطات التي نجتازها.
إن أمتنا اليوم أكثر ما تحتاجه أدب صادق مخلص يدافع عن الأمة نفسها بلغة عصرية واحدة.
وكيف يكون ذلك والأمة مهزومة بمبادئها وفلسفتها وأن قوانينها أصبحت من صنع أفراد لا من صنع مؤسسات وتجمعات كبيرة تحمل حقيقة المشكلة وتعالجها بأكثر من عين واحدة وأكثر من فكر واحد ولم تعد حالتها إلا كما قيل:
أتسمو أمة من غير فكـر
وترقى دون وعي في المجميعِ
وتحمل راية الحق ابتهاجاً
إذا هي لم تر أصـل الفـروعِ
أتبقى جمعها يمضي بعيداً
مضيَّ الناشزات من القطيـع(1)
(1) الأبيات من نظم الدارس.
إعادة تشكيل الموقف من الشاعر
يكاد الزمن الذي يعيشه إنسان ما قبل عام /2000/أن يتحول إلى طاحون حجرية تطحن الإنسان طحناً ناعماً، وتحوله إلى علف لحركة الحياة المادية، فالمشاعر معلبة، والأحاسيس مدفونة، والعواطف مقتولة، ولا مكانة للقلب في خارطة التكوين الإنساني.
لم تعد هناك مكانة للمفهوم الإنساني بمعناه المجرد،لأن هذا الإنسان تحول إلى (قطع غيار) يمكن استبدالها بمواد بلاستيكية أو قل رجال آليين يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون أوامر الذبحة المادية التي تسيطر على روح الإنسان، ولو أن شاعراً كمجنون ليلى أو المتنبي أو المعري أو عمر الخيام استنسخ من جديد في عصرنا، لألقيناه من أعلى جبل التوباد، أو لوضعناه أمين مستودع أحذية بلاستيكية، أو بائع عطورات على أرصفة المدن المقتولة، ولو أن شاعرة كليلى الأخليلية، أو كولادة بنت المستكفي حملت نفسها، وزارت عصرنا الحاضر لوظفنا الأولى قابلة في مشافي الإجهاض النسائي، ولجعلنا من الثانية سكرتيرة فندقية لأعمال رجال نزلوا من كوكب الشهوائية السفلى.
من هنا يبدو أن لغة الشعر والمشاعر أصبحت قاسية ونادرة في الوقت نفسه، على الرغم من كثرة الشعراء في هذا الزمن المسخ فهم قلة (تعيرنا أنا قليل عبيدنا ، فقلت لها إن أصحاب المشاعر الإنسانية الصادقة هم قليل).
ولو أن عمرو بن كلثوم أو عنترة العبسي أو الحارث بن حِلّزه وضعوا رؤساء تحرير لبعض مجلاتنا، وجرائدنا لخرجت الصفحات الأدبية بيضاء كأحلام الفقراء، ولنصبوا المشانق لإعدام الكثير ممن يكتب دون علم أو دراية أو ثقافة ومعرفة.
إن الشعر اليوم يعاني ما يعانيه جراء أمراض العقم والفصام والصرع؛ ويحاصر محاصرة اقتصادية عنيفة بل ينساق مقيداً لينحني أمام أحلام المشدوهين بسحر السيطرة والاستعباد، وإن أعنف ما يعانيه الشعر – والقرن العشرون يلفظ آخر أنفاسه ويحشرج بالبقية الباقية من روحه – كثرة المدعين للشعر والذين أصبحوا يستلقون على أرصفة الصحف والمجلات والمطابع كما يستلقي المخمورون بالبطالة على أرصفة الطرقات يدعمهم من يتولى قيادة تلك الصفحات بنشر كل هذيان وسخف وباطل مما لا يعدو أن يكون إفرازات مهبليه من عقل باطن لمجانين حوّلوا الحياة إلى مشفى توليف مخمور بقهوة الجنون.
لقد أعلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من مكانة الشعر "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحر"(1) وتبعه أصحابه في ذلك وجعلوا من الشعر ديوان العرب ورفعوا من مكانة قائليه بحيث أصبح للشعر مكانة كبيرة تفوق من حيث الأهمية في عصرنا هيئة أمم متحدة ولكن عصرنا الحالي الذي يبدو ديناصوراً شرساً أخذ يدوس الأدب بأقدامه ويسجن الشعراء البرره المدافعين عن أمتهم أما الشعراء الصابونيون، أو شعراء الشامبو وزيت الخروع فإنهم ينزلجون تحت أقدام هذا الديناصور، ويبرمجون أنفسهم بحسب الظروف والأهواء، وفاتورة الحساب آخر السهرة بل قل إن إنسان عصرنا أصبح على خارطة الصراع المادي للحياة حبّة سمسم تعصرها ضاغطات المستثمرين كيما تستنزف آخر قطرة زيت فيها، ثم تلقى في سلة المهملات والمنسيات. لقد بكى الشعراء عصورهم بقصائد ساخنة الدموع ولكنهم لو قرؤوا عصرنا هذا لألقوا بأنفسهم من قمة (إفريست) هاربين من الموت داخل الحياة.
لقد أصبحت الكلمة بخيسة الثمن في هذا العصر، وأصبح قائلوا لحقيقة نياقاً جرباء يأنفها القطيع وتأباها الناس. من هنا كان لابد من إعادة تشكيل الموقف من الأدب والموقف من الشعر، فالشعراء أصبحوا باعة جوالين أمام عنابر ومطابخ السلاطين، والاتجاهات الحديثة عند المتلقي تتمحور حلول إشباع الغرائز والشهوات ووسائل نشر الأدب استنسخت قوانين طوطمية تحارب كل ما لايخدم الطوطمية وحركة الفكر تتجه إلى وادي الجحيم بحثاً عن الثعالب الهاربة، وأي موقف شعري يريد أصحابه أن يحققوا منه سلوكاً معقولاً خارجاً عن إطار العصر لا بد له أن يسير بحركة (السرطان) أقصد لابد أن يعاكس حركة العصر الحالي لأن حركة هذا العصر كما قلت هي حركة تقدم نحو الخلف والمسؤولية على عاتق الشعراء مسؤولية عظيمة فإذا فقدت الأمة ضميرها خسرت مصيرها وبناءً عليه:
(1) حديث نبوي شريف
أولاً- الشعر حركة إنسانية تسعى إلى دفع المجتمع باتجاه المحبة والخير والسلام مهمته بعث الأموات من القبور وطلاء جدران الحياة بالضوء ووخز المستبدين ذوي الجلود السميكة وتحريك المسيرة الإنسانية نحو الأفضل، والأجدى، والأنفع، ومناقشة المشكلات الإنسانية العالقة كمشكلة الفقر، والاستبداد، والمرأة والحريات والطفولة والمرض والجهل.
ثانياً- سلوك الشعراء المنحى الإنساني وعدم مخالفة اقوالهم لأفعالهم لأن الكثرة الكثيرة منهم (يقولون ما لا يفعلون) وفي ذلك بناء للشخصية الإنسانية بناءٍ سليماً معافى من المداهنة والنفاق والتزلف.
ثالثاً- التكسب بالشعر والوقوف أمام مطابخ السلاطين ظاهرة مرضية لا يشفى صاحبها إلا بفهم غايات وأهداف الأدب لا أقصد بذلك شعر المدح بمعناه الصريح الواضح كما لمسناه في العصور السابقة فحسب ولكن أقصد من يروّج لفكرة هدامة على أساس المتعة والمصلحة وملء الجيوب بالعطايا.
رابعاً- إبعاد الصراعات القبلية والمذهبية عن روح الشعر وتبني الشاعر لفكرة الدفاع عن الإنسان ضد الاستغلال والقهر والعبودية ضمن إطار عقيدي صالح غايته سامية وراقية.
خامساً: عدم الانبهار انبهاراً كلياً بالثقافات الأخرى وتقمص شخصياتها تقمصاً تاماً وترك ما يرتبط بالثقافة المتأصلة للأمة لأن في شخصية الأفراد ما هو منقول عن شخصية الأمة التي أسست لنفسها على كر العصور ومر الأزمان وكل من يتخلى عن تراثه سيسقط في أحضان الآخرين أنا لا أقصد الوقوف عنده فقط إذ لابد من تمثله والاستفادة منه وتجاوزه إلى المعاصرة .
سادساً: الأخذ بكل ما هو جديد ونافع ومقنع مما أسسه الآخرون لأن في بعضه الفائدة فإذا وهنت حركة الأمة لابد من شحذ همتها من جديد ولا ضير فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها على ألا يلغي شخصيته تماماً وألا يترك ينابيع السلف وجذور الأصالة ويلقي بتراث الأمة عرض الحائط .
سابعاً: الحركة الشعرية المعاصرة حركة إنسانية بناءة يختبئ وراءها بعض المنتفعين والحاقدين الموتورين الذين يحاولون طمس معالم الأمة والتنكر لانجازاتها. والقضاء على أصالتها والأخذ بها نحو الهاوية وليس صحيحاً أن كل ما يكتب باسم المعاصرة يخدم الأمة ويدافع عن معتقداتها ويوطد لحياة جديدة، فكم من كاتب معاصر حاقد على أصالة أمتنا يريد تدمير كيانها لأنه لا يستطيع أن يعيش إلا مع تناقضات الآخرين وأمتنا دخلتها عناصر هدامة حاقدة تلفعت بأفكار شكلانية براقة خداعة وأضمرت أهدافاً حاقدة تريد وأد أصالتنا وطمس معالمنا والقضاء على شخصية الأمة ووضع الحواجز أمام مسيرتها.
ثامناً: الخروج من التقليد العقيم للشعر الذي قيل في العصور السابقة دون محاكمة اجتماعية إنسانية فنية فكم في دواوين الشعر العربي مما لا يستحق أن يسمى شعراً لأنه لم يخرج عن حدّ النظم وعلى حد قول المتنبي (أكل فصيح قال شعراً متيم) وهذا لا يعني بالضرورة نسف كل ما يتعلق بالشعر القديم لأن فيه نماذجاً آخذة بسحر الألباب وفيه شعراء كبار بذلوا جهوداً مضنية في سبيل رفع سوية القصيدة الشعرية وليست نظرية (عمود الشعر العربي) إلا ثماراً لجهود جبارة ارتقت بالشعر إلى المستوى الأرفع وما أحوجنا اليوم إلى نظرية شعرية عربية ترقى بالشعر إلى المستوى العالمي أقصد المستوى الرفيع فناً وهدفاً.
تاسعاً: هناك حركات شعرية معاصرة في ظاهرها ولكنها موجهة برادارات بث أجنبي يلهث أصحابها وراء (نوبل) ما أو ينساقون إلى خرق أسس الشعر والأدب مقابل دريهمات معدودة التقطتهم أيد أجنبية خبيثة وسخرتهم لمصلحتها وأمتنا بريئة منهم لأنهم عرفوا وحرّفوا وأخذوا وجحدوا هم بعيدون كل البعد عن أصالتنا لا يعيشون إلا في المستنقعات الآسنة ولا يتغذون إلا مع النباتات النتنة همومهم سطحية وأفكارهم همجية ودعواتهم خروجية. وعلى الشعراء والنقاد التصدي لهم ومحاربتهم وإبعادهم عن روح الأمة لأنهم سرطان محموم غايته تدمير خلايا الأمة الحية وجرثمة معتقداتها وفكرها وتلطيخ أجيالها بأفكار مسمومة.
عاشراً: الشعر الأصيل الذي قبل خارج عنابر المتسلطين وناقش مجمل العواطف والوجدان الصادق لعمق الفرد الذي أفرزته أقلام شعراء عرفوا الحياة حق المعرفة وخبروها تمام الخبرة وجربوها تجربة المضرس والذين ثقفوا صناعة الشعر وأطلعوا على ثقافة الحياة كمرتكز الأدب الحديث، لا يمكن تجاوزه دون الإفادة منه ولا يمكن اعتباره تراثاً سجين الكتب؛ وهو كنز الأمة الباقي ومادتها الخام التي لا مناص من الرجوع إليه وتمثله لأنه حركة التطور تقتضي ذلك.
حادي عشر: كل تجمعات شعرية أدبية توجه من قبل وزارات إعلام محدودة هي أبواق تنفخ في جراب مثقوب وتسيسها باتجاه (ما) هو قتل لحركة الأدب ووأد للفكر الحر وظلم للتراث الإنساني. لأن مسألة تسييس الأدب أقصد تبني الأدب لأفكار سياسية لها غايات نفعية ومشبوهة هو قتل للأدب وقضاء عليه، وكم هي التجمعات الشعرية والأدبية الغارقة حتى أذنيها في سياسات همجية تتريه تتزيا بأثواب إنسانية وتضع فوق قبعاتها شعارات خداعة براقة.
ثاني عشر: حشر الأدب والشعر ضمن مؤسسات ونقابات وروابط تستمد قوتها من هيئة ما أو جماعة ما هو تدمير لكيان الكلمة إذ لا حدود ولا قيود للأدب لأن الأديب المصباح الأخضر المضيء للأمة أو هو فسفور حركة التاريخ الإنساني في مسيرة الإنسانية المظلمة فإذا قدر له أن يؤجر على ذلك أو يوجه من قبل جماعة ما مدفوعة بفعل فاعله ضمير مستتر جوازاً أو وجوباً فإنما بفعلته ذلك يكون قد خرج عن حدوده الأدبية.
ثالث عشر: إيجاد زعامات فارغة وإعطاء ألقاب رنانة لشعراء وأدباء لم تنته الدراسات من تقويمهم حق التقويم من خلال استثمار سذاجة الصحافة والصحفيين أمر يجيب الوقوف عنده والتأني قبل الحكم عليه فلا أمير للشعر ولا وزير له وما كل ذلك إلا إرهاصات وجدانية حملتها أدمغة فارغة لأن الأدب بعيد كل البعد عن هذه النياشين البراقة.
رابع عشر: الأدب همو الخميرة الفعالة في حركة الصحافة وتطورها وهو صاحب زمام المبادرة في ذلك وليس العكس هو الصحيح فلا صحافة بلا أدب لأن الأدباء هم جنود الصحافة الأوفياء ولا يجوز أن يركب الأدب ويصبح تابعاً لآراء الصحافة بحيث تسيره هذه الصحافة بالاتجاه الذي تريده وما يفعله ممولو الصحافة من جرّ الأدب إلى حظائرهم ليس إلا خزعبلات ستنقرض بوجود أدباء غيورين على مصالح الأمة.
خامس عشر: الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص نهر يتدفق كل لحظة ولا يجد من الدراسات النقدية إلا اهتمامات بسيطة وسطحية لا تدخل أغواره العميقة لتكشف عن ماهيته وحقيقته ولا تضع الشعراء والأدباء في أمكنتهم المناسبة وعلى الحركة الأدبية المعاصرة أن تولي هذه القطيعة اهتماماً كبيراً.
سادس عشر: طريقة عرض الأدب والشعر بشكل خاص في المراحل التعليمية ابتداءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءاً بالمرحلة الجامعية طريقة بائسة على الدراسيين إعادة النظر فيها ووضع النصوص المناسبة لفهم واقع الأمة الرديء. وليست النماذج التي تدرس في معظم المراحل الدراسية إلا فئران تجارب تتناسب مع سياسات قبلية أكثر مما هي في صالح جمهور الناس وحركتها الإنسانية وحتى تقسيم العصور الأدبية لم يخرج عن نطاق حشر شعراء المدح في قوائم لا مقياس حقيقي لها وتزعّم بعض الشعراء لتلك العصور إنما جاء من خلال فكر مشوه يحمل طابع التأثر لا منهج البحث.
سابع عشر: الشاعرات النساء في العصر الحديث نزد يسير بالقياس إلى الشاعرات والأديبات في العصور السابقة وأصواتهن غير مسموعة على مختلف الأصعدة بل يكاد يكون مختفياً بحيث لا ترى منهن من يدافع عن الأمة وينهض بها نهوضاً صحيحاً عدا عن مشاكل المرأة المعاصرة التي مازالت لا تعالج من قبل الأدب النسائي معالجة صحيحة تفهم واقع المرأة وتنسف المفاهيم التي لا ترحم إنسانيتها وحرية تعبيرها وتفكيرها كما يؤطره التفكير السليم.
ثامن عشر: الأدباء والشعراء بالمقارنة مع المغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات والرياضيين، لا يجدون الرعاية الحقة من مجتمعاتهم ولا يلقون المساندة القوية من التجمعات الإنسانية ولا يكيل بصاعهم أحد بل على العكس من ذلك هم مبعدون عن الأضواء وأدوارهم مهمشة لأنهم أصحاب موقف غير محايد بينما غيرهم تفسح لهم الطرق وترفع لهم الرايات وتنحني لهم الصحافة رأسها وتقبل أيديهم افتخاراً على أنهم أبطال حقيقيون مع أنهم ليسوا إلا أبطالاً من ورق.
توصيات على هامش إعادة تشكيل الأدب (الشعر)
1-التوصية الأولى: الكلمة الشعرية ذات أهمية كبيرة في تغيير سلوك المجتمعات وعلى الشعراء أن يعوا خطورة استخدامهافلا تطور بلا كلمة نظيفة (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)(1). ولا تعبير بدون كلمة صادقة.
2- الشعراء الحقيقيون مصابيح خضراء تضيء للأمم والشعوب ليلها المظلم وأهمية دور الشعراء في الأمة تأتي من المهمة الصعبة الملقاة على عاتقهم فإذا خرج الشاعر عن الحدود المعقولة تحول إلى هائم في وديان الخيال المريض وأصبح كلامه هذراً ووقع في حيص بيص ذلك أن الشاعر الحقيقي هو ضمير الأمة الحاضر يدافع عن كل قضاياها بإخلاص ومحبة.
3- استبعاد شعراء الأنابيب واللقطاء والشعراء الذين جاءوا إلى ساحة الشعر سفاحاً على أن مكانتهم الطبيعية يجب أن تكون جوالين على أرصفة الطرقات أو متسكعين في المقاهي أو لاجئين في دور العناية.
4- إيجاد لقاءات شعرية عالمية وإنشاء مؤتمرات قمة للشعر حرة طليقة غير مقيدة بمؤسسات رسمية غايتها مراقبة تطور الشعر والدفاع عن الشعراء الحاملين لواء الإنسانية الحقة. وجعل الشعر مادة أساسية في تطور الفكر والسلوك الإنساني.
فإذا تم للشعر ذلك وتحقق للشعر ما يصبو إليه أصبح الأدب حقيقة الكواكب الكونية المشرقة بشحنة الحياة الفاعلة.
(1)- آية قرآنية.
النكوص الأدبي وتراجع القيم
بين الرجوع للموروث، وموالاة الثقافة الأدبية الأجنبيةوقع الاديب في حيرة عميقة وتشطت شخصيته الأدبية ومن خلال تقليد النماذج، سواء أكانت القديمة أو الحديثة رقص الأدب رقصته الأخيرة وخرّ صريعاً على حلبة السقوط.
وانطلاقاً من ضرورة التأسيس على بنى "سليمة، وأعمدة متينة، وحتى لا تبدو سماء الأدب ذات فروج واسعة أو حتى لا تُخترق طبقة الأوزون القيمية ، لابد لنا أن ننطلق من منطلقات راسخة رسوخ الجبال الراسيات باحثين عن أدب حقيقي نموذجي يغرس في أعماق شخصياتنا بعداً إنسانياً عظيماً، يلامس أرواحنا ملامسة البلبل للزهر. ملامسة الشفاة العظيمة للماء العذب. أقول ذلك لأنني أخذت ألمس من خلال ما يصدره الشعراء الشباب وجود أدب يبدو كشبكات عنكبوتية، واهية البناء، سقيمة المعنى، فارغة القيم، تعتمد على لعب بهلواني في توزيع الألفاظ والصور، أدب مقلد للموروث في سقمه، ونحن نعلم علم اليقين أن في أدبنا الموروث ما هو مصاب بالإيدز والسرطان والخمج الدماغي، وأدب مقلد للأدب الأجنبي في صياغته، وطروحاته وفي هذا الأدب ما هو مصاب بالصرع والهلوسة والنكوس القييمي، فإن كلا الأمرين يبعث في نفس المتلقي التقزز والنفور.
نحن إذاً نبحث عن أدب حقيقي، أدب غير مقلد، وذلك لا يتأتى إلا بوجود تحضّرٍ في المبادلات الاجتماعية ورقي في القيم الإنسانية وسعي نحو تعميق فكرة أنسنة الإنسان، وإبعاده عن الذئبية والثعلبية والعدوانية، ذلك أن الأدب ما وجد إلا لتهذيب الروح وصقلها وإظهار عناصر اللطف والدماثة فيها، والروح كما نعلم جزء من لطف الله وروحه وكلمة الله التي هذبت حركة الكواكب وأجرت الأنهار مطمئنة وسلخت الليل عن النهار دون أن يشعر كلاهما بوجود الآخر.
وقد يتساءل المرء في عمق ذاته عما جعله يبحر في بحر من الألغام اللاخلقية المفخخة والتي زرعها الإنسان ككمائن لاصطياد أخيه الإنسان حتى جعلت الآخر المظلوم يسوّد الآلاف والملايين من الصفحات تعبيراً عن ظلمه، وأي ظلم أبشع من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وما أحوج المظلوم أن يعبر عن قيمة تجاه ظالمة بأدب خالد، أدب فعال، أدب راسخ، أدب يسهم في بناء القيم.
نحن إذاً أمام توجه جديد يلغي هذا التكدس الأدبي ويحول الأديب من فنان يحقق وجوده الذاتي إلى داعية مسؤول يصرخ بأعلى صوته أمام كل نكوص قيمي.
وحتى يتحقق لأدب هذا الأديب أن يكون خالداً لابد له من:
1- نبذ النفعية الأدبية المنعكسة فقط على ذات الأديب.
2- إلغاء موضوعات شعر المدح بكافة أشكاله وإقصاء هذا الموضوع عن دائرة الأدب.
3- تبني قضايا الإنسان بكافة أجناسه على وجه الأرض ورفع شعار (الإنسان أولاً).
4- إبراز صورة المرأة ببعدها الإنساني لا ببعدها الجنسي واعتبار ذلك جزءاً مهماً من أدب النهوض والصحوة.
5- نبذ كل أدب يروج لسلطة من السلطات مهما كان هدفها.
6- تشكيل الصراع الإنساني بشكل غير عدواني ورفع قيم المحبة والخير والجمال.
7- الحرية الشخصية بمفهومها الخلقي والعدالة الإنسانية مطلبان ملحان ومن مهمة الأدب الرئيسية الدعوة لهما.
8- إبراز علاقة الإنسان بالكون والحياة علاقة محب وعاشق يسعى إلى صناعة العيش صناعة واعدة.
كل ذلك حتى ننهض بأدب يسهم في بناء الشخصية بناءً سليماً، وقد يعترض عليّ بعضهم ويسأل: أين هو الأدب الموروث المصاب بالإيدز والسرطان والخمج الدماغي؟! ناسياً أو متناسياً أن (أدب النقائض) عند جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم لم يخرج من دائرة الإيدز العقلي وكيف بأدب يستمر حوالي ستين عاماً وهو يبرز عورته وسوأته أمام الآخرين لقد سلخ شعراء النقائض أكثر من ثلثي أعمارهم في مستنقع الشتم والسب وكشف عورات الآخرين، على أن بعض جوانب الأدب الحديث لا تخلو من الصرع والهلوسة والنكوص القييمي وما أفرزه السرياليون بزعامة أندريه بريتون لايتعدى ذلك!
ومتى كان على الأديب أن يتناول المخدرات حتى يترك لعقله الباطني العنان للحديث عما (هب ودب) مما يختزنه عمق الإنسان من الغث والسمين وهل يبقى من الأدب شيء إن كان قائله قد خرج عن طوره الإنساني إلى حالة بهيمية . إن مشكلة فصل الأدب عن الأخلاق وأقصد بالأخلاق السلوك الإنساني الفاعل الإيجابي مشكلة خطيرة إن تركت دون تقييد بحيث تترك للأديب الباب مفتوحاً على مصراعيه ليصور لنا باسم الفن للفن أو الأدب للأدب ما يسهم في جعل الأدب أرضاً يباباً وبيتاً خراباً. أنا لا أنكر أن بعض نصوص الأدب تنقل لنا صورة جميلة أو مشاعر مشدودة ولكن على أن تكون هذه الصورة الجميلة أو المشاعر المشدودة خيّرة غايتها تنمية عناصر الحب والجمال والخير والعدل والمحبة حتى تبقى (هابيليه) الإنسان عنصر تقديم لا عنصر استلاب وحتى يتمتع الإنسان بما هو خير، لا بما هو محرك لنوازع الشر، والعدوان، وبحيث لا تبرز المرأة بصورتها الجنسية بل بصورتها الجمالية الخيرة، وبالتالي حتى لا تتراجع القيم من خلال فعل النكوص الأدبي.
بين ثقافة الجسد وأميّة اللغة
الفيلسوفه العجوز و البدوية النشوز
حينما تتماهى الراوية مع الشعر تبرز في ذاكرة الأدب رؤى صورية تجعل من الصعوبة بمكان أن نميز بين ما تفرزه الرواية و ما يفرزه الشعر جنسان أدبيان يحملان خيال الإنسان فوق أجنحة تبعث في النفس آفاق كونية شاسعة 0
و حينما يكون هذا الجنسان الأدبيان من إفراز الأنوثة تشتم منهما ورائحة قرمزية تحملك إلى واقع غير مرئي 0 الشعر و الرواية جنسان أدبيان ملتصقان بكينونة الأدب بشكل كبير و ين فلسفة الشعر و فلسفة الرواية يبرز العمق الإنساني الذي يحمل في تلافيف لاوعيه البعد الدرامي للنفس الإنسانية 0
بين ( الجنس و الموت) كما تشير الشاعرة المتهتكة جمانة حداد في حوار فضائية الحرة معها ثنائية تستدعي من الشاعرة أن تقف ملهوفة بين تناقضين خطيرين هذا ( الجنس ) يرتقي بالإنسان إلى أعلى درجات الرضى و ذاك
( الموت ) يهبط بالإنسان في وادي السخط و عدم القبول و لو كنت كاتباً كتاباً جديداً لأضفت إلى الشواعر المنتحرات الاثنتي عشرة شاعرة تتنبأ لنفسها لتكون الثالثة عشرة
وهذا يقود إلى فلسفة ذاتية تندرج تحت ضغط الذات المنفعلة بأحداث الحياة اليومية 0
ومن خلال ما دار من حوار في هذه الفضائية همست الشاعرة جمانة حداد معلنة أن اللغة العربية :لم تعد قادرة على التماهي مع الواقع الجديد مع أنها هي التي تقول في الحوارية ذاتها إنها لا تقيم النص الأدبي إلا من خلال الفنيات الحقيقية لهذا النص وهذا يعني أن الشاعرة تعي البنية الحقيقية للشعر و تتكئ عليه و لكنها لم توفق في توصيف هذه اللغة التي استطاعت أن تحمل على بساط ريحها كل المشاعر و العواطف الإنسانية التي عايشها الإنسان العربي منذ حبوه في مدارج هذه اللغة أضف إلى أن الروائية مريال الطحاوي التي تتهم اللغة أيضاً بأنها لا تستطيع أن تعبر عن ثقافة الجسد الأنثوي وكأنها غفلت أو تغافلت عن الموروث الذي تركه لنا النص القرآني المقدس في وصف الحالة الاستثنائية لامرأة العزيز التي رسمت الحالة الجسدية التي وصلت إليها في لقائها مع النبي العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام و الذي نقل لنا هذه الصورة بحذافيرها القرآن الكريم ليوصل إلينا صورة ( ثقافة الجسد التي تؤمن بها المرأة ) و التي إن سيطرت عليها جعلت المتلقي يستقرئ من حروفها رائحة الثقافة الجسدية وهذا ما حاولت أن ترسمه الروائية الطحاوية في روايتها ( الباذنجانة الزرقاء )و كأنها عميت أو تعامت عن أبعاد اللغة العربية التي يبدو فيها المجاز هو خيال هذه اللغة لأن ما يقوله المجاز في كثير من الأحيان لا يعبر عنه الصريح من القول وكم منا من يستعذب التلميح أكثر من التصريح وأنا أحيل كلا الأديبتين (الشاعرة والروائية )
إلى مجازات اللغة أولاً و إلى مجازات القرآن الكريم و البلاغة النبوية لتسقرآ ما تقدمه هذه اللغة من مجازات عظيمة تبعث في النفس العمق الحقيقي للمتعة في تلقي المعنى بشكله الإنساني لا بشكله الشهواني و إذا كانت الأديبتان تقصدان من ثقافة الجسد الأنثوي أن تستعمل لغة التصريح فهذا يعني أن فنيات الأدب قد فقدت بعدها الحقيقي فكم من مشهد نرمز إليه يثير فينا ما يثير من العواطف الإنسانية أكثر من استعمال التصريح في ذلك اللهم إلا إذا كان هناك شذوذ في تلقي همسات ذلك الجسد الدافئ
فالقرآن الكريم وصف لنا ما صنعته زليخة بكلمات قليلة لكنها عبرت عن مشهد عظيم من خلال قول القرآن الكريم في سورة يوسف ( هيت لك )
1. ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
2. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
3. وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
4. قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
5. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
6. فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
7. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
8. وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
9. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
10. قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ
11. قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ
12. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
و هذا يعني أن ثقافة الجسد كما عبرت عنها زليخة الفرعونية مع أبهى صورة تتمثل فيها المرأة أمام من تحب و لكنها العفة النبوية التي برزت في شخصية يوسف عليه السلام و التي ترفض أن يدخل إلى الكروم من أطرافها و أن تؤكل هذه الكروم بغير حقها و هذا هو سر الأديان التي قررتها السماء لأهل الأرض ناهيك عما قاله الرسول محمد صلى الله عليه و سلم في وصف المرأة التي تطلق ثلاثاً و التي يريد زوجها الأول أن يعيدها إلى أحضانه الأسرية بقوله إنها يجب أن تتزوج رجلا آخر ثم تذوق عسيلته ثم إن شاء طلقها فتزوجها الأول و قد عبر عن ثقافة الجسد بعبارة مجازية حملتها جملة ( تذوق عسيلته ) وما أبرع هذا التعبير الذي رسم ثقافة الجسد دون أن يخدش جمالية و حرمة هذا الجسد وهذا بحدّ ذاته يعني إضفاء قدسية على جسد المرأة الذي يجب أن لا يبذل إلا بحق الله ولنتأمل معنى( يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته) لندرك جمالية هذه العبارة
( 1 ) حدثنا أبو بكر قال نا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة { أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب , فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك )
وهذا يعني أيضاً أن المجاز يبرز أي ثقافة مهما كانت محرمة من خلال ما يرمز إليه وما يشير إليه دون أن يخدش حياء اللغة و هذا ما عبرت عنه الشاعرة جمانة حداد نفسها بشكل فاضح وفج في قولها ( نهداي مالحان ) إذ أن وراء هذه العبارة ما وراءها إنها ( اللبؤة التي لا يجرؤ أحد على الارتشاف من حليبها) و ما عبرت عنه الروائية الطحاوية من خلال عنوان روايتها
( الباذنجانة الزرقاء ) و كأنها تريد أن تشير إلى سمرة الرمال المصرية التي صبغت المرأة المصرية بلون الباذنجان والتي تحتاج إلى من يكتشف هذا الفضاء الأزرق في عمق المرأة الصحراوية0
أما إذا كنا غير قادرين على صناعة نص يحمل الأبعاد العميقة للمشاعر الإنسانية فإننا علينا أن نتهم أنفسنا لا أن نتهم اللغة فلغتنا أكثر اللغات حيوية و هي كائن حي يستطيع أن يتماهى مع كل المشاعر و لكننا في عصر يخرج فيه الكاتب و الشاعر من جلده ليتهم اللغة مع أنه لا يجيد مبادئها الأولية وكما قال المعري :
نعيب زماننا و العيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
إن أمية اللغة التي يعيشها بعض شعرائنا المعاصرين وروائيينا المعاصرين وعدم تمكنهم من الكشف عن أسرار اللغة العربية جعلتهم يتهمون اللغة مع أنه عليهم أن يكتشفوا أنفسهم أولا وقدرتهم ثانيا وأدواتهم الإبداعية ثالثا فمي زيادة وجبران خليل جبران ونسيب عريضة والشاعر القروي وغيرهم لم يتمكنوا من أدواتهم الإبداعية حتى ثقفوا النص القرآني أهم ركن من أركان الأدب وأنا أحيل الشاعرة والروائية لاكتشاف أبعاد النص القرآني