أسلمة النقـد
ضرورة النقد
النقد ارتقاء وسموّ ينهض بالإنسان نحو الأفضل وهو أحد ضرورات الحياة الإنسانية والأدبية ، ولا مناص لنا من الالتجاء إليه.
وإذا كان البعض يعتقد أن النقد ليس إلا ترفاً، وأنه لا ضرورة له، وأن الأدب أصلاً فن اللغو، واللهو، والتسلية، وأن الأدباء لا مبرر لوجودهم ناسين، أو متناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قد أشار إلى أن : "من البيان لسحراً ، وإن من الشعر لحكمة(1)؛ وإن القرآن الكريم قد خصص سورة كاملة باسم أهم فنون الأدب – الشعر – وسمّاها (سورة الشعراء)؛ وإذا كان يحلو للبعض أن يقرأ منها فقط ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ الشعراء: ٢٢٤ ، فإنما يتغافل عن الاستثناء الوارد فيها .. ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ الشعراء: ٢٢٧ وهذا يعني ، أن الشعر مذموم ؛ إذا خرج عن حدود العقيدة، أو لما فيه من هزل ، أو سخف، أو هجاء مقذع، أو سب ، أو كذب، أو باطل؛ وأن الشعراء مذمومون لأن أحوالهم غير جميلة؛والآيات القرآنية من سورة الشعراء تشير إلى قضية مترابطةﭧ ﭨ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٧ وإذا كان على حدّ زعمهم: أنه لا ضرورة للأدب؛ فمن باب أولى أن لا تكون هناك ضرورة للنقد؛ وإذا كان النقد أحد ضروريات الحياة، فإنه يتناول جميع مقوماتها سياسياً، واجتماعياً ، وعلمياً، فيصلح ما فسد، ويُساعد على التطور.
ولقد كان الخلفاء الراشدون – رضي الله عنهم – شعراء، وكان الفاروق عُمر ناقداً معجباً بشعر زهير لأنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه ؛ وإذا كان النقد لا يهتم بالجانب الأيديولوجي – سابقاً ، فإنه حديثاً يولي هذا الجانب اهتماماً كبيراً ، لأنه لا يمكن الفصل بشكل دقيق بين معتقد الأديب،وأدبه، وهما عنصران متلازمان تلازم الروح للجسد. إن النقد السياسي على سبيل المثال يستمد مقاييسه من القيم السيّاسية السَّائدة ، ومن القوانين والأعراف الدولية، كما أن النقد الاجتماعي يُعرفْ من تقاليد الأمة.
لقد كان لنشوء الفن كضرورة حياتية أثر في نشوء النقد كضرورة أدبية تُسهم في صُنع القيم، وتطويرها، ورقي الإنسان، وبلوغه درجة الإنسانية الحقة. وإن كون النقد يحمل بين جوانحه جوانب إنسانية، واجتماعية على الأقل يسهم في كونه جزءاً من الإنسان؛ لأن هذا النقد أداته اللغة، وهي إنسانية وموجّهة إلى إنسان يحمل أنماطاً من السلوك، وألواناً من القيم، كما أن هذه اللغة ظاهرة اجتماعية تتوافق عليها الجماعات الإنسانية بالإضافة إلى أن الحياة الاجتماعية لأمةٍ ما لا تُعرفُ، إلا من خلال آراء النقاد فيها ، لأن النقاد يرُوّنَ ما لا يراه الكتّاب ، ويسبرون أعماق النفس، والنقد الأدبي ضرورة اجتماعية لا غنى عنها مادام الإنسان مدنياً بطبعه، وهذا النقد يفيد الأدباء الكبار، والصغار، ويُساعد الناشئينَ، والقرَّاءَ، وذلك إذا كان موضوعياً غير متحيز لعاطفة، أو لعرق أو لجنس. إنه مفيد للأدب ، والأدباء من حيث: إنه يُفسر آثارهم، وطُرق فهمها، ويقوّم الأدب، والأدباء، ويوضح للأدباء آراء الآخرين بهم؛ كما أنه يمتّن الأدب، ويقويّه على اعتبار أن النقاد يتعقّبونَ هذا الأدب ؛ بالإضافة إلى تجاوز النقد للمحاسن ، والمساوئ إلى اقتراحات توسع آفاق هذا الأدب.
إن النقد على اعتبار أنه يعتمد على الذوق أولاً، وآخراً؛ فإنه يحمل من مقاييس العلم ، والمنطق بحيث يُشكِلُ على دارسيه، وهو يؤثر في متلقّيهِ التأثير الحقَ، وكلّ من يدعو إلى تهميش دور النقد إنما يبصر بعيون عشواء ، ويفكر بأسس هشّةٍ ؛ لأن النقد أحد عناصر الحياة الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها.
وإنه لولا هذا النهر المتدفق من الملاحظات التي تطل من هنا، وهناك بين عصر، وآخر ولولا هذا التراكم من النقد، لما كان هناك ارتقاء، وتطور، واختصار لحركة الحياة ولا يعني قولنا ضرورة النقد : هو فقط الاحتراف بمعناه الدقيق، إذ أنّ كل ما يقوله الأدباء أنفسهم ، وما يقومون به من تقويم، وتقييم لأعمالهم ، وأعمال غيرهم هو النقد بحدّ ذاته ، لأنه يندرج تحت باب التصحيح، والاصطفاء ، والنقد حقيقة هو تصويب، واصطفاء للقيم، والجمال ، والأسلوب.
إن سلّم القيم التي يتبناها الإنسان، إنما تأتي مما يختاره الإنسان نفسه، وليس الاختيار إلا نقداً لمعاني الخير، والجمال، والمثل؛ ومن هنا دخل الأدب تحت تأثير النقد، وأصبح للنقد ضرورته التي تسهم في رفع سوية الإنسان على هذا الكوكب.
دواعي نظرية النقد
ليس النقد الأدبي ، كما هو معروف قول على قول : (أو خطاب على خطاب، أو ميتا خطاب، بتعبير المناطقة)(1) ، فحسب، لأنه مرتبط بالأدب، وإن ، أخذ يستقل عنه، ويكوّن لنفسه خطاً مستقلاً له خصائصه المميزة، وهو متميز عن الأدب ، وعن التاريخ الأدبي على الرغم من التفاعل معهما، ومع الأجناس الأدبية الأخرى.
وإن نظرية النقد المستقل تستدعيها ضرورات النص الأدبي نفسه، سواء أكان نصاً شعرياً، أو قصصياً ، أو روائياً، أو مسرحياً، أو مقالياً؛ لأن النص الأدبي يفتح للنقد آفاقاً ينظر إليها لغوياً، وتاريخياً ، وعلمياً، واجتماعياً ، وفلسفياً، وأسطورياً، وسياسياً ، ودينياً.
وعناصر النقد الأدبي نفسه تتفاعل لتشكل علاقة دراسية للنص حيث ، تكشف عن حقائقه و ميزاته؛ وليس من المنطق أن نبحث عن حقائق نقدية مطلقه، لأن النقد ما يزال فناً يستقي قواعده من العلوم، والمعارف الإنسانية، والعلمية، ويستند إلى أسس اجتماعية، وإنسانية، نفسية؛ على أن لا نغفل أن موضوع النقد الأدبي هو – الحقيقة الأدبية -، وإن كانت تختلط بالعقيدة، والفكر لدى الأديب. وليس من الدّقة بمكان أن نصف المبدع أنه أول ناقد لعمله الأدبي، لأن الرؤية الأخرى هي التي تحدد قيمة العمل الأدبي، وتعطيه أبعاده الحقيقة. صحيح أن مبدع النص الأدبي نفسه يعرف درجة قبول نصه، ولكنّهُ يبقى آخر من يحكم على نصه.
إن دواعي وجود – نظرية نقدية – مستقلة ذات أهمية كبيرة في هذا الزمن؛ ولكنها مرتبطة بشكل، أو بآخر بوجود نظرية أدبية مستقلة لكل جنس من أجناس الأدب.
لا أريد أن أتحدث عن ضرورات نقدية عربية قبل أن أتحدث عن ضرورات أدبية عربية لنظرية الأدب – أستثني من ذلك النظرية الشعرية – وإن كانت هذه لم تتبلور عناصرها بشكل كامل. وثمة نقطة أخرى يجب أن أشير إليها ههنا هي؛ علاقة النقد بالإبداع، وإن كنت أعتقد أن الحدود الفاصلة بينهما ما تزال موجودة .
إن النقد الحقيقي جزء من الإبداع من حيث كونه إضافة جديدة إلى التراكم المعرفي لدى الإنسانية.
(1) – أحمد اليابوري – النقد العربي المعاصر أوهام الحدود
وحدود الأوهام /مجلة الوحدة / عدد /49/ تشرين الأول
–1988- صفر 1409 هـ - ص5
لقد ظهرت على الساحة الأدبية منذ الثلاثينات آراء، وأفكار، ومهاترات قولية ليس للنقد علاقة بها لأنها كانت تحمل نزعات كتاب يحاول كل واحد منهم أن يُرِيَ جمهوره وجمهور غيره أن منافسَه في الأديولوجيا لا يثبت أمام نقده. لا أريد أن أسمي أشخاصاً بأعينهم أو حركات ذات اتجاهات سياسية حتى لا أزيد الانقسام شرخاً. لأن صراعنا في الساحة العربية ما يزال صراعاً سياسياً يرتدي ثياب النقد الأدبي حيناً، والفلسفة حيناً آخر، والأدب أحياناً أخرى.
وكل ما أريده من أدبائنا أولاً، ومن نقادنا ثانياً أن يعوا الخط الذي يسيرون فيه وعياً عقلياً، ومعرفياً حتى لا ينزلق أدبهم ، أو نقدهم مزالق لا تحمد عقباها، أو لا بدَّ سيسقطون من حسابات التاريخ الصحيح.
وبناءاً على ذلك أود أن أؤكد أنه لا بد لنا كأدباء ، وكنقاد أن نطرح كل النزعات غير الإنسانية التي تقوم بإعاقة حركة التطور، ومن ثم الانطلاق لصنع حركة الأدب، والنقد بشكلها الصحيح.
لن ننادي بأدب ذي صفات محددة أو بنقد ذي مواصفات خاصة، لأننا لا نكتب ورقة عمل، ولكننا نقترح أن نحرر أنفسنا أصلاً من كل ما يحاكم شخص الأديب، أو الناقد، وأن نحكم على نصه بمقاييس حقيقية واقعية إنسانية.
لقد ظهرت على مرّ العصور ابتداءً من أرسطو حتى يومنا هذا نزعات أدبية ، ونقدية ذات مساس مع الفلسفات ، والسياسات، والعقائد التي عايشتها، وبقي الأدب، والأدباء منخرطين في بوتقة تلك الاتجاهات، والسياسات، والفلسفات، وبقي النقاد منشغلين في مناقشة تلك النصوص الأدبية التي توازت مع تلك النظريات الفلسفية، والسياسية، والعقائدية، وليس في ذلك حرج إنما المخيف، والمرعب أن تنخرط الاتجاهات النقدية في بوتقة سياسات موجهه تستبعد كل ما يسهم في بناء روح الإنسان، وتصطفي كل ما يسهم في إفراغ الإنسان من مضمونه.
لسنا في مواجهة( السريالية) في (حلما وطفولتها) ؛ ولا في مواجهة( الوجودية) في( تحديد مسؤولية الأديب)، و(المطالبة بحريته)، ولا في مواجهة( الفرويدية) في نسبة (الدوافع النفسية )التي تكمن وراء سلوك الأديب هذا المسلك، أو ذاك فأدبنا الإسلامي والعربي زاخر بالمعطيات الفاعلة ؛ إنما نحن في مواجهة هذه المذاهب الأدبية، والنقدية في سعيها إلى تحطيم كل موروث يربط الإنسان (ماضيه ومستقبله وحاضره)، أو يحاول تمزيق مؤسسته (الدين والأسرة والوطن) كما نادى بعض السرياليين، أو يدعو الإنسان إلى العبثية ، ورفض وجود مدبر عظيم للكون كما هو عند بعض الوجوديين، أو يدعو إلى اتخاذ السلوك المنحرف أنموذجا للسلوك بطريقة تتسمى تارة باسم السادية، أو المازوخية، أو الأوديبية .... الخ. إننا في حالةِ عقدِ معاهدات محبة مع قيمةٍ يحملها الأدب، والنقد باتجاه بناء الإنسان، وفي مواجهة ضد كل ما يسهم في جعل الإنسان حيواناً ناطقاً أو كمبيوتر عمل، أو ساعة غير منفعلة بالزمن الذي ترسمه.
إن أدباءنا اليوم ، ونحن نواجه أعتا حملة صهيونية تجاه فكرنا ومقدساتنا مطالبون بتجييش المعطيات الفكرية والشعورية للدين الإسلامي لمقامة كل ما يعيق حركة التطور والنقد أهم هذه الأسلحة وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اهجهم حسان وروح القدس معك ).
شروط النقد الموضوعي
في البحث عن الحقيقة الكونية، من خلال الحقيقة الأدبية تبرز الضرورات المنطقية الباحثة عن الشروط المطلقة الساعية إلى بلورة حقيقة من الحقائق، والنقد كأحد الفنون المعرفية، أو المعارف الفنية يعدّ من أدق المعارف لأنه يناقش أعقد القضايا في حياة الإنسان، وهي قضية الإحساس والتعبير، والإحساس حتى يومنا هذا لا مقياس حقيقي له، وكيف يمكن أن نقيس درجة الإحساس، ونحن مازلنا نشتعل في لحظة ضعف أحياناً، ونتبلّد في لحظة أخرى، ونفرح في ساعة ما، ونترح في ساعات أخر؛ والإحساس الأدبي أعصاب دقيقة تبحث عن ديمومتها من خلال انفعالها بقضايا قد تكون ذات أهمية في عصر ما، وقد تكون تافهة في عصر آخر، وقد لا نحتاجها في زمن؛ بينما هي ضرورة في عصرها.
ومن هنا نعتبر أنه إذا كان النقد ثمرة حقيقية لشيئين هما: (دراسة موضوعية للأدب، وتقرير شخصي للناقد)، فإنه من الواجب عند الحديث عن النقد الموضوعي أن نتحدث عن شروط الناقد الحق الصحيح المعافى من الميول، والأهواء، والذاتية ، والشخصانية، والأنانية على أن يفهم هذا الناقد من النص المنقود الغاية التي يريد أن يتوصل إليها الأديب، وإن دقت، ولا يكون ذلك إلا بفهم الجزئيات المتعلقة بعلوم اللغة، والتي تعين على سبر عمق عقل الأديب، وتاريخ أفكاره وإنشاءاته، وفهم جزئيات علوم البلاغة، وطرق تأدية العبارة بشكل ملفت للانتباه، والناقد الحق من كان ذا معرفة، وخبره، وذكاء، واطلاع على فنون الأدب، والحياة، ومقاييس المنطق، والعلم، ومناهجه. ذا قدرة على النفاذ إلى عمق الأديب نفسياً، وعقلياً دون التعصب لجنس ، أو لون ، أو فكر ، أو اتجاه أو طريقة على أن يكون ذا ملكة نقدية تُسهم في كشف أدق الأسس الجمالية، والمعرفية التي يحملها النص، وإذا كان هناك من مهمة تقع على عاتق الناقد الأدبي؛ فإنما هي نابعة من كونه مسؤولاً عن رفع مستوى الذوق، والفهم عند القارئ، والأديب، وكم من رواية ، أو قصة ، أو قصيدة كشف النقاد عن آفاق الجمال، والمعرفة فيها.
إن مهنة الغربلة التي يمتهنها الناقد، إنما هي جزء من مهمة النقد على أن تكون هذه الغربلة للآثار الأدبية، لا لأصحابها كما فعل البعض. لقد كان الآمدى في موازنته بين الطائيين يحاول أن يُنصف كليهما، ويعطيه حقه من خلال عرضه لحجج الفريقين المناصرين لكلا الشاعرين، وإن مال أحياناً إلى أحدهما على حساب الآخر.
ونحن لو استعرضنا أحكام النقاد منذ القديم وحتى يومنا هذا عربياً وأوربياً لوجدنا أن معظم الأحكام النقدية التي حكمت على شاعر بعينه، أو على نص بذاته، أو على حقبة، أو عصر أدبي بكامله أحكامُ جائزة وغير محققه لشروط النقد الموضوعي التي تجرد الناقد من كل النزعات المسبقة، في مواجهتة مع النص فقط. وباستثناء الحكم النقدي الذي أطلقته (أم جندب زوج امرئ القيس) في مقارنتها بين قصيدتين ذات وزن واحد، وقافية واحدة، وموضوع واحد بين شاعرين هما (امرؤ القيس زوجها وعلقمة الفحل) إن صحّت الرواية، وترجيح قصيدة علقمة. تبقى الكثير من الأحكام النقدية بحاجة إلى مراجعة وخاصة تلك التي تحدثت عن شعراء، وأدباء كانوا مقربين من البلاط الأموي، والعباسي...
إن النقد الأدبي، باعتباره وظيفة اجتماعية يُسهم على مرّ العصور في تكوين ذوقٍ إنساني ، ويرتفع به نحو الكمال، بل يجعله إنساناً متحضّراً؛ على أساس أن عملية النقد بحدّ ذاتها ارتقاء نحو الأفضل، وبحثٌ عن الكمال، وتنميةٌ لملكة التغيير، وفتحٌ لآفاق النفسِ، وتهذيب للغرائز ، وتقوية للعقل.
لقد دخلت الفلسفات القديمة والحديثة ، والأفكار المجردة والمحسة عمق النقد وأصبح على النقد بعد أن كان فعالية تابعة لفعالية الأدب أن يرسم أطره، وقوانينه، ومناهجه، وأهدافه، ووظائفه بل أصبح من مهماته أن يكون لنفسه محوراً أفقياً، وعمودياً تتمحور حوله كل المعارف، والأفكار التي تظهر حديثاً.
لا أريد أن أدخل في تفاصيل دقيقه، فالحديث سيأخذ مجراه في كل فصل، وباب بحسب معطيات الباب، أو الفصل نفسه؛ ولكنني أريد أن أؤكد على دور النقد الحقيقي، ودخوله في كل باب ، ولا يمكن لأي أدب مهما كان أن يحافظ على شبابه، وحيويته إلا بإسهام النقد. لا أقصد أي نقد، إنما أقصد النقد الفعّال، النقد الهادف، النقد الصحيح، النقد المبرمج، النقد الموضوعي، النقد القائم على أسس دقيقة، وركائز صحيحة.
وطالما نصّ النقاد الأدب ونص الأدباء النقد ونص الفلاسفة النقاد والأدباء على أنه يبقى أن نؤكد على أهمية النقد، ودخوله في ساحة الأدب خاصة، والحياة بكل تفاصيلها عامة، وما كان للمتنبي أن يبرز على حقيقته أمام قارئيه لولا المعارك النقدية التي دارت حوله، وما كان لإليوت أن تثمر شجرة الشعر لديه لولا وقوف النقد (أحد جوانب شخصيته) خلف شخصيته الأدبية.
إن المفاهيم النقدية ليس كما يعتقد البعض مصطلحات تضفي على أي نص عناصر المدح، أو الذم، ولا هي براءات اختراع. إنها أفكار وفلسفات ومعتقدات العصر الذي تعيشه إنها روح الحياة الإنساني لديه.
إن العصر الذي نعيشه – عصر المعلومات السريعة في كل المجالات – يجعل من النقد العنصر الأهم، والأسمى في رصد حركة التطور.
أليس الأدب هو الإنسان ؟! أليس الأدب هو العمق الروحي؟! إذاً كيف يكون هناك أدب روحي، وعمق روحي لولا وجود النقد؟.
لا أريد أن أدلل على أهمية النقد بالنسبة للأدب، فالثمرة الناضجة يعرف طعمها من يمضغها، والثمرة الفجة كذلك، والإنساني العادي لا يحتاج إلى تعليل سبب طيب هذه الثمرة الناضجة، أو الفجة. ولكن الذي يأخذ بتلابيب حركة الحياة، وتطورها لا بدّ له أن يضع الأمور في نصابها، وأن يعلل أسباب الجمال، والقبح، والكمال، والجلال في كل ما يطلع عليه، وأن يضع الموازين الدقيقة من أجل تصحيح العلوم، وبناء القيم، ورصد حركة الحياة، والسمو بمستوى الروح الإنساني.
إن ديناميكية النقد، والأدب تتأتى من خلال البحث الحقيقي عن مثل الخير، والحق، والعدل، والجمال، ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ إبراهيم: ٢٤ - ٢٦
وسياسة الأدب وترويضه عملية معقدة، وذات أبعاد حساسة؛ إذْ أن الأدب قد يتحول بفعل السياسة، أو النقد على حدٍّ سواء إلى اتجاهات ذات أبعاد منحرفة إذا شاءت السياسة ، أو النقد ذلك؛ أو إلى اتجاهات ذات أبعاد بنّاءة إن أريد له ذلك؛ خاصة وأن من الأدباء من تجرّه نرجسيته، وذاتيته باتجاه النفعية والمصلحية، وإذا تحول الأدب إلى نفعية فعلى الذوق السلام.
لن ندخل منذ البداية إلى ساحة الصراع بين القديم، والجديد، وبين الحداثة، والتقليد، وبين الأصالة والتنطع، وبين الشكلية، والمضمون؛ لأننا سنفرد لذلك أبحاثاً تؤطر عملية الهدم، والبناء في أدبنا على يد أبناء ينظر إليهم على أنهم أجلاّء؛ ولكننا سنؤكد على نقطة حساسة في عملية النقد هي البحث عن (إكسير وروح الأدب) الذي نعتبره بحق لبّ العملية النقدية، وسننظر إلى العملية النقدية على أنها محور من محاور تطور الأدب، لا من خلال الكلام الفارغ، ولكن من خلال التطبيق العملي في عملية فرز نوعي، وكيفي للأدباء الذين أسهموا في بناء الأمة، ومنهجة فنونها البناءة، ومحاربة فنونها الهدامة. ونحن في عملنا هذا لن نتعرض إلى أفضل شاعر في المدح ، أو الهجاء، أو الغزل كما كان يصنع نفادنا القدماء، بل سننظر إلى الأدب على أنه اتجاهات ، ومحاور، وظواهر نشأت بفعل عوامل متعددة، ومتشعبة، وأن هذا الأديب ، أو ذاك أسهم في تلك الظاهرة، أو أسس لها، لأن مسألة المذاهب الأدبية مسألة دخيلة بالنسبة لأدبنا، وليست من نسيج بنائه. ولو أنا حاولنا استعراض ظواهر الأدب العربي لوجدنا بوناً شاسعاً بين ما يتحدث عن الواقع، وبين ما يفترض فيه أن يكون نظرية لأدب أسسّ بنيانه منذ أكثر من ألف، وستماية عام؛ وفي حديثنا عن أدبنا هذا، وعن أدبائنا الذين يسهمون في عنونته، وبناء قواعده، وتأطير أشكاله، وتعميق أجناسه سنتعرض إلى الغث، والسمين؛ النافع، والضار، والقبيح ؛ والخيالي ، والواقعي؛ العلمي ، والنظري لندرك منذ البداية أننا واعون لما يجري في الساحة العالمية.
لن نتغافل عن كون أدبنا، ونقدنا يعيش في مأزق في بعض جوانبه، وفي ردّة في بعض جوانبه الأخرى، وفي تقليد في مناحي آخر، ولكننا سنتعرض لنقطة هامة جداً تسهم في بناء الأدب أولاً؛ والنقد ثانياً.
كيف نؤسس لأدب عربي إنساني دعائمه الحق، والخير، والعدل، والجمال؟
وكيف نؤسس لنقد عربي يحقق للأدب ، ولأدباء أريحية رحبة؟
وما هي السبل الموصولة لذلك؟
أسئلة سنحاول في بحثنا هذا الولوج في أعماقها، والكشف عن أسرارها.
إنني لن أحاول الخروج بالنقد من مرحلة التأسيس الحقيقي إلى التنطع، والتزوير، واللعب على سرك الكلمات، وادعاء التمثل للثقافات الأجنبية، وإدخال كل غث، وسمين إلى نقدنا، وأدبنا ، فتلك سمات العاجزين الذين يعيشون بثقافتهم على أكتاف الآخرين، وهذا لا يعني ألا نستفيد من كل ما أبدعته الثقافات العالمية، والآداب الإنسانية، وإنما أريد التأصيل لكل ما يخدم ثقافتنا، وفكرنا، وواقعنا، وأمتنا دون أن يتعارض ذلك مع فكرنا الإسلامي الحنيف، وليس أدل على ذلك إلا المذاهب الأدبية ، والنقدية التي نشأت في غير عالمنا. صحيح أنها مذاهب نقدية، وأدبية فعالة، وحساسة تؤطر لحركة الفكر الإنساني؛ إلا أنها مستغله في بعض جوانبها من مفكرين غير أمينين على التراث الإنساني، بل هم عوامل هدم، وتدمير، وتخريب لكل ما هو جمالي، وخيري، وإنساني، ولكن بطرق دقيقة.
ولن أتوسع كثيراً في ذلك (فالوجودية والسريالية) كمذاهب أدبية حاولت الثورة على جمود الأدب، وسعت لتطويره، ولكن من خلال ذلك أدخلت السم بالدسم، فالوجودية مثلاً اعتبرت أن الإنسان محور الوجود، وأنه بعد الحرب الكونية التدميرية الأولى، والثانية كان على الإنسان أن يهتم بوجوده، وحبذا لو كان ذلك دون ا قتران برفض فكرة الألوهية والأديان، والموروث الإنساني.
كما أن السريالية نقلت الشعر نقله كبيرة بمحاولة الارتقاء به إلى التلقائية ، والعفوية ولكنها دمرت الأدباء والشعراء من ناحية ثانية بدعوتهم إلى استعمال المخدرات، والحشيش، والأفيون من أجل تحريض العقل الباطن على استنزاف ما يختبئ في تلافيفه من قضايا لم يستطع الإنسان إخراجها في وعيه الكامل.
لقد دعا الكثير من فلاسفة الشعر، والأدب إلى ضرورة الخروج بالأدب إلى سماء الجنون، وهذه قضية قديمة منذ أيام شياطين الشعر مدعين أن بين الأدب، والجنون قناة اتصال، ولكنهم نسوا، أو تناسوا أن الأدب هو اختراق للواقع، وصدام معه، ومحاولة لتغييره وبالتالي فهو يحمل لواء التغيير، وكل تغيير في عرف المجتمع جنون، الم يتّهم أهلُ مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون مرة، وبالشاعرية مرة أخرى، وبالكهانة مرة ثالثة. صحيح أن بين العبقرية والجنون قنوات اتصال ولكن ذلك لا يعني أن الأدب جنون.
مسؤوليات الناقد
ما تزال المناقشات دائرة بين معظم الأدباء على ضرورة وجود النقد بشكل عام، لأنه هو الذي يعطي للعمل الأدبي قيمته الحقيقية، ولكنّ نقاط الخلاف بينهم تتمحور حول:
كيف يكون النقد موضوعياً ؟ وما مسؤوليات الناقد التي يجب أن ينطلق منها النقد حتى يكون منصفاً؟ وما من شك أن وجود التداخل بين فعاليتي النقد، والأدب جعل مقاييس النقد، ومسؤوليات الناقد مضطربه ، ومتداخله، ومتكاملة؛ فوجود نص عظيم يعني وجود نقد عظيم، ووجود أدباء عظماء يعني وجود نقاد عظماء؛ وإن مسؤولية النقد تجاه الأدب لا تعني أن يكون الناقد شرطياً يحمل عصاً تكيل الضرب للأديب إن هو أخطأ في رؤيةٍ من رؤياه، أو خرج على المألوف، وأبدع فكرة جديدة ، كما أن الناقد ليس موزعاً للجوائز إن رأى أن الأديب قد وافق فكره، أو هدفاً يؤمن به.
من هنا ، فإنه لا بد للناقد المنصف أن يتصف بمجموعة صفات على رأسها خصيصتان هامتان.
الأولى: أن يكون ذا ذوق نقدي "ملكة" تؤهله لتذوق النصوص
الجميله، وكشف النصوص الرديئة.
والثانية: أن يمتلك ثقافة أدبية ، ومعرفية، وعلمية تؤهله في
معرفة الغثّ من السمين، وتساعده في التفسير،
والتحليل، والتقويم، والمقارنة، والتقييم
ومن ثم لا بد أن تتوافر في الناقد مجموعة من الشروط حين يريد أن ينقد أي نص أدبي هي:
1- الحياد: وهذه أولى شروط النقد الموضوعي الصادق،
لأن حياديتة تجعله منصفاً في الحكم على أي
عمل أدبي بحيث يعطي النص المنقود وضعه
الطبيعي، وما أصعب أن تتحكم الأهواء فـي
عملية النقد، لأنها تودي بالأديب، والناقد إلى
الموت التاريخي.
2- الإبداع: بحيث يستطيع هذا الناقد أن يرفع الستار عن
نص لم يسبقه إليه أحـد، ويوضـح عناصـر
الجمال، والخلود فيه.
3- التوليد: بحيث يكشف عن حقائق الجمال، والحق،
والخير فيما ينقده، ويولد للأدباء آراء من
رصيده المعرفي.
4- الإرشاد: بحيث يرد إلى جادة الصواب أديباً لا يعرف
موقعه الحقيقي في ساحة الأدب.
5- البحث عن الحقيقة ذاتها التي هي غاية الناقد، والأديب، والفيلسوف؛ لا لغرض ، إلا لأنها الحقيقة.
6- الابتعاد عن التلقين، وإسداء النصائح بشكل مباشر ، لأن مهمة الناقد كما أشرنا البحث عن مواطن الحق، والخير ، والجمال من غير دعوة فاضحة.
7- الابتعاد عن التزمت تجاه مذهب فكري، أو أدبي، أو سياسي، أو اتجاه نقدي.
8- تجنب التعميم في الأحكام، أو الجزم بها على أنه لا يمكن لنا أن نعمّم أحكامنا على أدب برمته؛ فكيف بنا أن نعمم الحكم على أديب ما، أو نجزم بجمالية نص ما؟
فكم من الأدباء يمتلكون نصوصاً متباينة. فقد يعثر النقد على نص جميل، ويحمل من المواصفات الصحيحة ما يحمله.
9- الإشارة إلى مواطن الجودة ، ومواطن الضعف في النص نفسه، لأن كل نص مهما كان جميلاً؛ لا بد له أن يحمل بعض جوانب القبح، وإن كانت دقيقة، وتحتاج إلى دقة في كشفها ، وكذلك أي نص قبيح؛ إذا جاز لنا التعبير عن ذلك لا بدّ أن يحمل عناصر الجمال التي تحتاج إلى دقة في الكشف عنها.
10-سعة الصدر: وتعني ألاّ يتأفف الناقـد مـن كثـرة
النصوص المنشورة، وألا يستخفَّ بها. بل لابد له أن يوجه عملية الإبداع، وينظمها على ألا ينظر لهذه المسؤوليات أنها أحكام ثابتة، وصارمة، ؛ فالنقد كما هو معروف- وما زالت أصر على ذلك – فن أكثر من هو علم له قواعده الثابتة ، والناقد فيه لا يسير على خطاً مقيدة. لأن النص الأدبي نص ذوقي ، فلا بد أن يكون الناقد متذوقاً، كغيره، ولكن تذوقه من نوع خاص – وما زلت أصر كذلك على أن للذوق أهمية عظيمة في ذلك – لأن الناقد الفذ من استطاع في نقده أن يضع اليد على الجرح كما يقولون، وأن يكشف عن عوامل الإبداع في النص المفقود، وأن يضع الأديب في طبقته المناسبة وبين أقرانه.
رؤيا المنهج الاجتماعي في دراسة النقد
يبدو أن للتأثير الاجتماعي في الكثير من جوانب الإنسان أبعاداً لا يمكن تجاوزها، خاصة في مجالي الأدب ، والنقد؛ وليس هناك من شك في أن الأدب يحيا تحت تأثير المنظورات الاجتماعية، وبما أن الأدب يأخذ بعض جوانبه من تأثيرات المجتمع، فلا بد للنقد أن يعتمد في حكمه على النظر في هذه المفهومات . وإذا نظرنا بشكل متفحص نجد أن المفهومات النقدية مأخوذة من المقاييس الاجتماعية.
لا نريد أن نمضي مع الفيلسوف الايطالي" فيكو" فنفسّر الإنتاج الأدبي تفسيراًماديايرتكز على العلاقةالحميمةبينه وبين المجتمع على أن لا يفهم من كلامنا أنّا لا نولي الجانب الاجتماعي في النقد والأدب أهمية ما؛ وإنما نريد أن نقول: إن تأثيرات المجتمع في النقد، والأدب تأثيرات هامة تتوافق مع التأثيرات النفسية، واللغوية ، والنفسية؛ فالنقد كما يقول (رولان بارط) لحظة في هذا التاريخ الذي ندخله ، والذي يقودنا إلى الوحدة إلى حقيقة الكتابة.
وما دراسة الأدباء وفق تمايزاتهم الجسمية والخلقية ، والعقلية وحياتهم الاجتماعية ، والعائلية ، والمادية إلا تطبيقاً للمنهج الاجتماعي النقدي. وهذا يدل على تأثيرات الجنس، والبيئة والعصر على فكر الإنسان، ونقده ، وأدبه.
لا نريد أن نطبق على أدبنا ما يطبق على الآداب الأوربية، فلكل أدب خصائص مستقلة، وإن كانت الآداب لها مواصفات عامة. وإنما نريد أن نشير إلى أن التأثيرات.
الاجتماعية على الآداب تدرس من خلال المضمون الاجتماعي كوثيقة وككيفية يظهر من خلالها العمل الأدبي.
وما الأعراف النقدية الأدبية ، إلا انعكاس للأعراف الاجتماعية لأن جمالية الأدب مستمدة من جماليات المجتمع، والناقد هو الذي يحكم على حقائق هذه الجماليات.
ولو حاولنا استعراض الدراسات الاجتماعية للأدب كدراسات – السيد ياسين – في كتابه (التحليل الاجتماعي للأدب) ودراسات – غالي شكري – (سيكولوجيا النقد العربي الحديث)، على سبيل المثال ، وغيرها من دراسات نقدية لوجدنا أن معظم ما كتب في النقد الاجتماعي كان تطبيقاً لنظريات أوربية وأجنبية على أدب عربي له مقاييس مخالفة.
ذلك أن لكل بيئة اجتماعية عناصرها المكونة لها ، ومشاكلها الخاصة بها، وحلولها المناسبة لها وليس من المعقول أن يستورد الإنسان مقاييسه من مجتمعات أخرى ويطبقها على مجتمعه.
لقد عاش المجتمع العربي تقلبات كثيرة نشأ على أكتافها تغيرات سياسية جاءت قهراً وحملت المجتمعات على نهج طرق جديدة في التفكير وأدباؤنا ونقادنا بحاجة إلى فهم الواقع فهماً صحيحاً ومن ثم معالجته معالجة فعالة لقد كتب بعض الأدباء العرب عن وجودية مجتمعاتهم في الخمسينات والستينات مع أن هذه المجتمعات لم تعش اللحظة الوجودية بمفهومها السارتري بحيث تشعر أن هذه الأفكار الوجودية هي قناعات أديب بعينه لا قناعات مجتمعات مازالت مرتبطة بمبادئ مختلفة تماماً.
لا نريد أن ننقل الحديث من القضايا الأدبية إلى القضايا الفكرية وإن كان الأدب أحد جوانب الفكر بقدر ما نريد أن نشير إلى أهمية فهم الطروحات الاجتماعية التي يعيشها أدباؤنا. لقد عالج الشاعر نزار القباني مشاعر المرأة من وجهة نظر (جنسيه) ولم يعالجها من وجهة نظر إنسانية إنه يتحدث عن المرأة السيدة العاشقة الباحثة عن اللذة ولم يتحدث عن المرأة المقهورة إنسانياً المستلبه حقوقاً.
وكذلك تحدث الأدب المسمى بالماركسي عن شيوعية وسائل الإنتاج ونسي أو تناسى فطرية الإنسان في حب التملك والتي أكد عليها الإسلام ورعاها حق الرعاية.
صحيح أن بعض الآداب الأجنبية أسهمت في التغييرات الاجتماعية في بلدانها من خلال التمهيد لهذه التغيرات بطروحات اجتماعية جديدة من خلال الأدب إلا أن أدبنا مايزال قاصراً عن إحداث تبدلات اجتماعية تمضي بالإنسان نحو الحق والعدل والخير.
وإن المتفحص لحركة الأدب في بلادنا يجد أن هناك انحساراً في دور الأدب الاجتماعي الذي طالما نشدناه نبراساً مضيئاً في ليلنا المظلم ولو استعرضنا ديوان الشعر العربي الحديث لوجدنا نصفه يتجه باتجاه (الموقف الحسي من المرأة) ونصفه الآخر يبدو (كزوبعة في صحراء لا تحدث إلا غباراً وضياعاً) وبقدر ما يتحسس الأديب واقعه الاجتماعي بقدر ما يكون قريباً من الآخرين حبيباً إليهم. وإن أية رؤيا اجتماعية لا تحقق للمجتمع تغيراً باتجاه الأفضل هي رؤيا فاشلة تقود صاحبها إلى السفسطة والكلام الفارغ والأدب رسالة اجتماعية فاعلة غايتها التغيير والتبديل.
أين يضع النقد الأدبي أقدامه؟
النقد إبداع، وكشف لحركة الحياة ، والنفس من خلال الكشف عن حركة الأدب الداخلية، والمجتمع الذي يرتقي إلى مرحلة الاهتمام بالنقد الأدبي يكون قد اجتاز ممرات كثيرة لأن النقد الأدبي بحد ذاته أعراف جمالية تستقي من المجتمع نفسه، وقد استطاع أجدادنا أن يورثوا لنا تراثاً نقدياً كبيراً من خلال مناقشة حركة الأدب المفرزة بطبيعة الحال عن حركة إنسانية. وفي هذا الزمن الصعب بمفاهيمه. وأدبه ورجاله يقف النقد حائراً أين يضع أقدامه؟ وكيف يمكن له أن يتحرك في زحمة من النصوص، والأجناس الأدبية التي تبحث عمن يكشف أفاقها، وأبعادها، وفضاءاتها؟
ولا شك أن النقد الأدبي فعالية مازالت مرتبطة بالأدب، على الرغم من نزوعها إلا الاستقلال عنه، فهو خطاب على خطاب وتربطه بالأدب علاقة جدلية علاقة تأثر، وتأثير ديالكتيك، وإذا كان نقادنا القدامى ينظرون إلى النقد على أنه (تمييز جيد الأدب من رديئه).
فإن النقاد المحدثين يرون في النقد الأدبي المعاصر آفاقاً أخرى، لأن النص الأدبي الحديث يتيح لنا رؤى "نقدية، متغيرة، ومتنوعة نفسية، واجتماعية، ولغوية، وأسطورية بحسب ثقافة الأديب أولاً، ورؤية الناقد الثقافية ثانياً، ذلك أن النقد الحديث طموح إلى إبراز وإظهار الحقائق المطلقة، فهو بحث عن الجمال، عن الفن، عن الفكر، عن المعاناة، والتجربة. وتزول من خلال هذا البحث عن جمال الحقيقة الحدود بين ما هو عقيدي، وبين ما هو نقدي، وتلغى نظرية (الفن للفن) .... أو (الأدب للأدب) ، ويصبح الفصل بين الأدب ، والأخلاق؛ أو العقيدة والأدب ضرب من المستحيل، ووهم خادع، وتتلاشى الحواجز بين الإبداع والنقد الذي ليس مجرد تمييز لجيد الأدب من رديئه بل هو فهم، وتفسير، وتحليل، وتقويم، وتقسيم، وتوجيه. لقد تطور النقد، وخرج من حدود الانطباعية إلى نظرية معرفيه تدخل فيها مختلف فروع المعرفة؛ وبتقديري: إن النقد لم يخرج عن كونه فناً إلى نظرية معرفيه متكاملة تخدمها مختلف العلوم الإنسانية بشكل تام.
لا أريد أن أسرد مفهومات النقد السابقة بل سأكتفي بالإشارة إلى أن مفهوم النقد قد طرأ عليه تحول، وتبدل، وتغير، وأصبح للنقد علائق كثيرة.
ولا مراء أن العلاقة القائمة بين الناقد، والأديب. حالياً هي علاقة غير مرضية، وإن كنت أرى أن بعض الأدباء يتمردون على أحكام النقاد، وهذا بالتالي يؤسس علاقة سقيمة مريضة فلا الأدب في موقع الاتهام، ولا النقد يستطيع أن يزعم أنه وصي على الأدباء. لقد ولّى عصر الوصايات لأن حركة التحضر، والتطور، والفكر تحتاج إلى تعاون، وتعاضد، وبرمجه.
وإذا لم يتحد الناقد، والأديب، فلن يكون هناك أدب، والخاسر الوحيد في ذلك هو (المتلقي القارئ) الذي يبحث عن نافذة تطور في زحمة الكون، والحياة. والناقد الحقيقي هو من أنصف نفسه أولاً فلم ينصّب نفسهُ قاضياً لأن مهمته أولاً، وأخيراً كشف عناصر الإبداع في النص الأدبي، كما أنه يفترض في الأدباء أن يستفيدوا من حركة النقد لأنها الخميرة الفعالة في بلورة الحركة الأدبية الإنسانية.
وإنني أهيب بالناقد الذي يرى في النص الأدبي المرجعية الأولى، والأخيرة، فلا يحكم على النص من خلال صاحبه، بل من خلال معطيات النص نفسه.
والحقيقة أن الساحة العربية مغرقة بنتاج أدبي كبير يحتاج إلى من يكشف عن بعض معطياته، ولكن النقد كالأدب يعاني من بعض القصور فإشكاليات النقد الثلاث (المنهج. الرؤيا. المصطلح) لم تحل حتى الآن.
ولم نجد من يحاول أن يؤسس لها بالشكل الصحيح إضافة إلى أن نقادنا لم يؤسسوا حتى يومنا هذا – نظرية للنقد – الأدبي العربي الحديث؛ صحيح أن نقادنا القدامى قد فرغوا من وضع أسس لنظرية (عمود الشعر)، و(نهج القصيدة العربية) وأسسوا لهيكلية وبنية القصيدة العربية، إلا أن نقدنا الحديث أمام تطورات جديدة في الحياة، والأدب والمعارف، والأجناس الأدبية كما أنه أمام تأثيرات مذاهب أدبية وافدة ، ومذاهب نقدية مستورده وأمام تداخل في النصوص العربية، والأجنبية، ولا يمكن لأي حركة نقدية أن تنهض إلا بعد أن ترى على الأقل الأدب في عافية.
وأعترف أن أدبنا ليس في عافية، فقسم كبير منه مقلد، إما للغرب، وإما للشرق، وأنا أرى أنه يجب أن يعاد النظر في كثير من الأسماء التي تعتقد أنها وصلت ذروة الأدب.
هؤلاء الذين يظنون أنهم عمالقة الأدب ،لأن كثيراً منهم لم ينهض إلا بفعل أيدٍ غريبة أو أفكار مأجورة أو أحزاب سقيمة أو انتحال لأدب الآخرين وذلك بترجمته وسرقته. لن أتباكى على النقد، والأدب كما يفعل الآخرون، ويصورون، ولكني أدعو إلى ضرورة الجد، والعمل، والتعاون للكشف أولاً عن جوانب الإبداع فيه، وجوانب الضعف ثانياً.
فالشعر مثلاًَ استطاع في عصوره السابقة أن يكون المرآة الصادقة لواقع، وهموم الإنسان، وقد كانت الغنائية في تلك العصور هي الطاغية ، ولكن واقع الحال أن الزمن الحاضر قد تغير بمفاهيمه، ومعارفه وطرق تعبيره، وأدواته، ووسائله، ولم يعد الشاعر يقف على تلة يتكئ على عصاً، وينشد معلقته والقوم ينظرون فيه نظر السقيم إلى وجوه العوّدِ ذلك أن مهمة الشاعر قد طرأ عليها الكثير من المتغيرات؛ فالشاعر صاحب عقيدة أولاً، وإن كان بعض الشعراء قد خلعوا عقائدهم أمام أبواب السلاطين، وصاحب كلمة ثانياً، وصاحب رؤيا واستبصار ثالثاً، والمغير لكثير من القيم الفاسدة رابعاً. والمنسق لقيم الخير، والحق، والجمال، والعدل خامساً، وكم من الشعراء ساهموا في صنع قيم مجتمعاتهم. لقد كان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وكعب بن مالك شعراء الدعوة الإسلامية، ساهموا مساهمة فعالة في الدفاع عن هذه الدعوة والعقيدة، واستطاعوا أن يحمّلوا شعرهم المضامين العقيدية الحقة، ولكن بعض شعرائنا اليوم يرون في الشعر فنّ اللهو بالكلمات، واللعب بسرك الشعر ركبوا موجة الغموض، وأبحروا وراء شعر الغرب، وتحللوا من القواعد الحقة للشعر، وزعموا أن الشعر تغير، وأن الحياة تبدلت، وأنه كما يدّعون على الشعراء أن يخرجوا على قانون الشعر. لقد بعض زعم المحدثين من الشعراء أنهم يريدون الخروج من دائرة التقليد للشعراء العرب القدامى، ولكنهم وقعوا في دائرة التقليد للشعراء الأوربيين.
وفي يقيني أن حركة التطور فاعلة لا محالة، ولكن ليس بشكل عشوائي، وما يفعله عدد من الشعراء المأجورين في سبيل الاتجاه بحركة الشعر إلى الانفلاش، والبعثرة، والتشتت، والتشرذم مدعين أن ذلك إنما هو خدمة لتطوير الشعر العربي، إنما يسهم في هدم حركة الشعر العربي، لا أريد أن أدافع عن القديم أو الحديث، هذه مسألة لن تحسم إلى الأبد، فالشعر عندي هو ما حقق شروط الفن الجمالي، والهدف القيمي سواء كتب على الطريقة الحديثة أم على الطريقة القديمة.
نقدية ثابتة، وفهم روح العصر، وما نتج عنه من ظهور لأديولوجيات كان لها الأثر بوجود تيارات أدبية، وفهم عوامل التطور التي تُساعد على ابتكار طرائق جديدة في الأداء الفني وتكوين الوعي النقدي بالتفكير النظري، والتدريب العملي من خلال مقارنات، وأسس نظرية، وعملية لا تحيد عن الأسس الجمالية أولاً. وفهم مظاهر التجديد وتقويمها من خلال التعمُق
المذاهب النقدية والمذاهب الأدبية
لا أشك أن تيار النقد الأدبي الحديث مازال يمشي بخطاً وئيدة عند العرب. وأكاد أجزم أن ما كتب في النقد عندنا لا يشكل مدرسة مستقلة لها أسسها ، وقواعدها، ومنطلقاتها النقدية، وإن كنت أرى أن أدبنا القديم، قبل عصر النهضة قد استقرّ على منهج (النقد الجمالي)؛ وإذا كان من عيب وقع فيه نقادنا هو هذه النظرات السطحية التي لم تمس إلا قشور الأدب. لأنها لم تحاول أن تتعمق في وجدان الأمة لتبحث عن الدوافع الدفينه، وراء مفرزات النفس الإنسانية، وإذا كان منهج القصيدة العربية، وعمود الشعر العربي قد استوعبا لفترةٍ كبيرةٍ خطا الشعراء، فإن العصر الذي نعيشه يحمل في طياته بذور أدبية جديدة، لابدّ أن يتبعها تيارات نقديـة جديـدة،(ولقد كانت الحداثة العربية في فترة ما جزءاً من الحداثة الأوربية) . كما يقول شكري عيّاد، وإن لم تتطابق معها كمّاً وكيفاً، وهذا يجعل الأدباء كما قلت، يعيشون على فتات موائد الثقافة المستوردة من أوربا في فترة ما، ومن أمريكا في فترة أخرى ومن لا يدري، فقد تكون الثقافة الجديدة مستوردة من ألمانيا، أو اليابان، أو روسيا القيصرية الجديدة. لقد بشّر أدباؤنا كما بشر نقادنا، وللأسف بمدارس أدبية، ونقدية حديثة، لا أريد أن أسميها لأن الكلّ يعرفها ولكنّها جميعها لم تصمد أمام واقع الجمال العربي لأنها كانت مستوردة ، ولم تعبِّر بالشكل الحقيقي عن معاناة الإنسان العربي الحقيقية، لقد تغنّى محمد عبد الوهاب بحياة الفلاح عام /1930/: (محلاها عيشة الفلاح) في حين كان الفلاح العربي في تلك الفترة يُعاني بحيث لا يحسدُ على حياته، وعيشته عيشةُ الذل والقهر، فكيف بالمذهب الوجودي السارتري يغزو ثقافتنا، ومثقفينا في الخمسينات دون أن يمسّ واقع الشارع العربي الذي كان يبحث عن حلٍ سياسي لا عن حل فلسفي ناهيك عن المذهب السريالي وأندريه بريتون الذي غرس أنيابه في جسد المثقف العربي الذي يُريد أن يعرض عضلاته لا أن يُصارع ، وكيف بمواطن يعيش حالة ما فوق الواقعية في زمن تفرض عليه الظروف أن يعيش في عمق الواقع وفي وجدانه.
لقد اعتمد بعض نقادنا على الغربلة، أو الأدب المهموس أو الثورة على الشكل والمضمون، ولكنهم نسوا أن أدبنا ليس جثة ميتة بحاجة إلى تشريح لمعرفة سبب موته، وإنما هو روح نابض بحاجة إلى من يدرس ظواهر الغربلة فيه، والتشرذم، والضعف، والمرض، وكيف يمكن لهذا الأدب أن يتماثل إلى الشفاء ، ويتابع مسيرته المستقبلية، وهذه ليست صيحة في وجه الأدب بقدر ما هي واقع يجب أن نعيشه.
ولن نرجع إلى الحاتمي، أو حازم القرطاجي، أو الأمدي، أو ابن المعتز، أو قدامه، أو ابن سلاّم إلا مستأنسين لأننا نريد أن نعيش واقع الحياة وواقع الأدب كي نصل إلى حالة متوازنة، كما أننا لا نريد أن نستورد أفكاراً أو مذاهب أوروبية، أو نقدية لا علاقة لها بحياتنا، وإن كان هناك من حاجةٍ ما ، فإنما هي حاجتنا للتأطير الحقيقي، لا الوهمي ، والخيالي. ولقد أطلق لفظ تيارات أدبية على أدبنا العربي الحديث، بينما أطلق لفظ مذاهب على الآداب الأجنبية، ذلك أن المذهب الأدبي الغربي وحدةٌ متلاحمة شكلاً، ومضموناً مبنيٌّ على جملةٍ من المبادئ جمالية وأخلاقية وفلسفية وحياتية متضامنه. ساعد على بلورتها نقاد، وأدباء موهوبون ، بينما التيار الأدبي الحديث عند العرب لم يخضع لهذه الأمور، ولم يكن بالدرجة العقلانية العالية، كما أن المذاهب الأدبية الغربية كانت في ولادتها ، وتطورها، وموتها وليدة ضرورات تاريخية، كظهور طبقة اجتماعية، ونزول طبقة أخرى. فالرومانسية وجدت على سبيل المثال بسبب نمو الطبقة البرجوازية، والواقعية صعدت بأفول الطبقة البرجوازية ؛ وإذا كانت المذاهب الأدبية الأوربية قد حَررت الأديب من الإلهام الشخصي، وعفويته، ومن الإبداع الفردي، واعتمدت على قواعد، وضوابط مهمتها الارتقاء لمرتبة الكمال؛ فإن أدباءنا، ونقادنا لم يتحرروا من عفوية الإلهام، والإبداع، وإن تحديد فترات متمايزة لظهور مذاهب أدبية عندنا لا وجود له في حياتنا. إذْ أنها وفدت علينا دفعة واحدة بعد هزيمة العثمانيين وحلول الأوربيين بدلاً منهم. وفي حالة كحالة أدبنا المحاكي للآداب الأجنبية جعل نقادنا ينهلون من معين هذه الآداب، والمذاهب، ويطبقونها على أدبنا الحديث لكشف سماته وتمييز سبله واستكناه العلاقة القائمة فيه بين المستوى النظري، والعملي. فعلى الصعيد النظري هناك جملة من الخواطر تفرض نفسها من خلال الحرص على العمق في التعرف على هذه التيارات ، والعناية بالنظريات الخصبة لتحديد سمات المذاهب الأدبية انطلاقاً من أهمية الآثار الشعرية المتولدة بتأثيرها، ومن الفائدة من المناقشات المثارة حول ذلك ثم توضيح هذا الفكر النظري، وتبنيه من خلال بلورة أفكار النقاد، وما طرأ عليها من تلوين جديد، وتسليط العقل على عمل الفنان ليقترب عمله من الموضوعية، ومن ثم ربط النظريات الفنية بالأدبية على اعتبار أن الصّلة وثيقة بين الفن والأدب، والحياة والإنسان. وعلى الصعيد العملي هناك ضرورة التنبيه إلى حركة دينامية الإنتاج الشعري الحديث، إذا أن حركة الصراع بين القديم والحديث بشكل جدلي تؤدي إلى تطور الأدب، وقد تبلورت هذه الحركة في أمور من مثل ظهور اتجاهات فنية جديدة فردية أحياناً، وجماعية أحياناً أخرى، وظهور فئتين من الشعراء:
أصحاب القديم ذوو الشخصية العربية المستقلة المفتونة بمقومات القديم اللفظية، والأسلوبية، وأصحاب الجديد المتمثلون للشعر الغربي، وأنماطه ، وصوره، وأساليبه مستلهمين نماذج القصيدة الأوربية المتحررة، ومن ثم تجديد المضمون عند أصحاب القديم والجديد بعد أن شعرت الفئتان بضرورة التفاعل مع الواقع والحياة والموضوعات المستحدثة . وإنه لمن نافلة القول أن أشير إلى أنّ البحث في المذاهب والتيارات الأدبية جاء نتيجة ارتباط الابتكار الفني بالتراث الإنساني، وفقدان النظريات الجامعة المؤسسه على مناهج بالمذاهب الغربية ورصد ما أحدثته في مجتمعاتها، والوقوف على الأسس الجمالية المؤثرة بنقدنا الحديث، ورصد حركة النقد العربي الحديث، والكشف عن علاقتها بالإنتاج الأدبي لأن النقد أداة لتطور الأدب والأدب هو ابن الحياة يخضع لقوانينها وظواهرها وأسبابها.
النقد ليس مصطلحات جوفاء
لم يفهم النقد بمعناه التطبيقي العملي كما فهمه أسلافنا الجاهليون، ولم يفلسف النقد بمعناه النظري كما فلسفه الأوروبيون حديثاً، وبين الفلسفة النظرية للنقد الأوروبي، والتطبيق العملي لنقدنا في الجاهلية ضاع المبدع العربي، وتاه به السبيل وتوزعت موهبته بين مجاراة النظره العملية للخطاب النقدي، وتمثل الشبكة لهذا الخطاب، ومن هنا بدا النقد من وجهة نظر الكثير من الناس هذراً لا طائل تحته وكلاماً لافائدة منه وأنت عندما تستعرض أسماء الكتب النقدية المؤلفة حول الأدب تلمس جيلاً من المصطلحات يكوّن عبئاً على الأدب نفسه، ويحوله إلى جنازة فجائعيه يندب أصابها ضياع إكسير الأدب، وهم معتقدون أنهم إنما يزفون لهذا الأدب عروسه الضائع.
فبين الألسينه والبنيوية والأسلوبية والذرائعية والرمزية والسرياليه والرومانسيه والدادائيه تشظت شخصية الأديب وتاهت رؤيته الشعرية وأصبحت نصوصه الإبداعيه نهب الضياع والتشرد والهلوسه وأصيب الأدب بنوع من الهلع وتحول إلى نوع من الأشباح السوداء القاتلة وزاد الطين بله ما رسمه النقاد من أطر جديدة استمدوها من معطيات معرفيه نظريه لو قسناها بمقياس الواقع لخرجت بالأدب عن حدوده الحقيقية لأن ما ينشده القارىْ أصبح في هذا الزمن غير ما ينشده المبدع وغير ما ينشده الناقد وهذه الثلاثيه جعلت الأدب جنازة صامتة فقضايا الجمهور (القارئ) قضايا الحرية والمساواة والعدل والحق والخير والجمال والأدباء لا يستطيعون ملامسة هذه القضايا لأنها على تماس مباشر مع السلطة والنقاد يتفلسفون بمفهومات هائمة غائمة معظمها مستورد من مفاهيم نبتت في تربة غير تربتنا من جهة ويوجهون الأدباء من جهةثانية ويفوزون برضى السلطات من جهة أخرى وهذا ما جعل النقد أعرافاً عائمة لا وجود لها على أرض الواقع.
إن مهمة النقد لم تعد إيجاد تعاريف ومصطلحات جوفاء لا جذور لها في الواقع وإنما أصبحت مهمته خلق جيل من الأدباء يعون واقع أمتهم ويفهمون عمق مشاكلها حتى يستطيعوا حل تلك المشكلات، وخلق جيل من القراء يفهمون الأدب على حقيقته، ويجسدون ذلك الفهم وعياً فاعلاً في دفع حركة الحضارة باتجاه الأحسن، والأجدى، والأعمق حتى يصل الإنسان إلى منشده المطلوب الحق، والعدل والخير والجمال. إذ أن القارئ والأديب لا يهمه من النقد مصطلحاته بقدر ما يهمه أن يدفعه نحو الوعي الفاعل أما تفسير الظواهر فلا إشكال فيه، ولا غبار عليه، وأما تعليقها فمسألة مهمة، وغاية فاعلها، وأما إيجاد نقد موجه، ومبرمج للأحسن، والأجدى فغاية الغايات لأن مهمة الفنون الإمتاع والإقناع ، ولا فن بلا نقد ولا نقد بلا هدف.
الذائقة النقدية
لا يمكن لأي أديب في هذا العالم أن ينسى أن النقد في مجملهِ أولاً وأخيراً يعتمد على الذوق السليم والمعافى ، وأن تحليل العملية النقدية إنما هو في حقيقتهِ تحليل للذائقة نفسها التي تتألف من عنصرين أساسيين :
أولهما: رهافة دقيقة ورقة في تحسس الجمال وعناصر تكوينه في الأشياء المحيطة إذ أنّهُ لا يمكن لأي ناقد أن يدّعي النقد دون أن تتوافر له موازين الجمال أو أدوات اكتشاف عناصر الجمال وليس كل من لديه قدرة على التذوق الأدبي لديه القدرة على التذوق النقدي فكلا الذائقتين منفصل عن الآخر وإن كانتا متداخلتين في عملية اكتشاف عبقرية الأديب ولا أعتقد أن رهافة الإحساس وحدها تكفي في الحكم عليها فالذائقة النقدية أوسع دائرة من الذائقة الأدبية وأشمل منها وأكثر دقة في التوصيف منها.
ثانيهما: ثقافة ومخزون معرفي كبير من خلالهِ يضع الناقد يدهُ على الكثير من القضايا الكونية والإنسانية وعلى رأسها قواعد علم الجمال الحياتي والكوني والإنساني ولا أعتقد أن أي ناقد
يستطيع أن يؤطر عملية نقدية ولو لجملة أدبية دون أن تختمر غريزتهُ النقدية بمعارف عصره والعصور السابقة لهُ والعلوم والمعارف الإنسانية متعاضدة ومتداخلة نتائج بعضها ينعكس على البعض الآخر .
والناقد الحق من يتحسس عمق وبعد الجملة مهما دقت وخفت من خلال ذائقته الغريزية والمكتسبة ويصدر عليها حكماً ما .
ولو أردنا أن نتحقق من عمق الذائقة وبعدها الفاعل في كشف عناصر الجمال فما علينا إلا أن نضع النص الأدبي في فرن الشاعر لندرك المعادن النفيسة فيه والمعادن الخسيسة ولنعلم أن العملية النقدية عملية صهر للنصوص وحرارة الناقد وحدها القادرة على كشف جماليات هذه النصوص .
إن كلمة الذائقة المرتبطة جملةً وتفصيلاً بالذوق الذي هو كشف لمختلف الطعوم في النصوص الأدبية إنما هي العامل الحاسم في كشف مغاليق النص وأبعاده ورؤى صحابهِ وقدرتهِ الاستبصارية
ومخزونه المعرفي الثقافي. ولو أن هذه الذائقة ليست قائمة في عمق الناقد لما استطاع الناقد توصيف عناصر الجمال في النصوص الأدبية القديمة والمعاصرة . ناهيك عن أن هذه الذائقة النقدية هي ذات مستويات متباينة أو لنقل إن لكل ناقد ذائقته الخاصة به والتي تحتل مكاناً خاصاً ومنزلة متميزة عمقاً وبعداً عن ذائقة ناقد أخر ونقاد الأدب والنقد مختلفون منزلة وحكماً على مر العصور من خلال تعاملهم مع مفرزات عصرهم وإبداعاتهِ .
من هو الناقد الرديء
إذا كان النقد بمضمونهِ الحقيقي وروحهِ الصافية هو الكشف عن إكسير الأدب وروحهُ الإنساني وبعدهُ العميق فإن الناقد الناجح والجيد هو الناقد الباحث بين طيات النص الأدبي عن روح الأدب ولفتاتهِ الطريفة إلى نقطة الاستلاب التي يبحث عنها المتلقي والتي هي أولاً وأخراً إشباع الروح بجمال العبارة معنى ومبنى وكل أدب لا يسعى ( لإشباع الروح يبقى أسير النزعات الوهمية ، وإذا كان هَم الناقد البحث في النصوص الأدبية عن سلامة اللّغة وإقامة القواعد النقدية والبحث عن لفظ رائق وكلام فائق أو معنى غامض أو صورة غريبة أو موقف مشاكس وترك طرافة الموضوع ومتانة النسيج وعمق الفكر وامتلاء المعاني وإشباع الموضوع المطروق وتمكن الأديب من أدواتهِ النقدية فإنهُ يحشر نفسهُ في زمرة الملقنين الذين يقفون أمام النصوص دون أن يدخلوا إلى عمقها ويكتفون من الأدب بقشوره دون أن يصلوا إلى لبه . وكل عملية نقدية لا تقتحم النص وصاحبه وعلاقاتهِ بالنص أجدر بها ألا تدخل في باب النقد ومن هنا كانت الأحكام النقدية في بعض مراحلها تنصب عندنا على الشكل دون العمق وتقف عل شاطئ النص دون الغوص بهِ إلى أعماقهِ .
وفي تقديري لو أنّا أردنا أن نرتقي بالنقد فما علينا إلا الخروج بهِ من التوصياتِ إلى الأحكامِ بعد رصد حركة بنائهِ وتطلعاتهِ وآفاقهِ إذ أن العلاقة بين الناقد الجيد والأديب الجيد علاقة تكاملية تسهم إسهاماً حقيقياً في رقي حركة الإنسان نحو الأفضل إن نقاد المتنبي وشكسبير لم يصلوا إلى عبقرية هذين الرجلين حتى سبروا أعماق نصوصهما وكشفوا عن عمق إكسير الأدب فيهما وإذا كانت العملية النقدية عملية تشريحية لجسم النص التي تظل ترفرفُ فوقهُ مظللة على القارئ سحابة من الجمال والحسن والتوازن.
هل حوّل النقاد الأدب
إلى جنازة فجائية ؟
لم يُفهم النقد بمعناهُ التطبيقي العملي كما فهمهُ أسلافُنا الجاهليون ، ولم يفلسف النقد بمعناه النظري كما فلسفهُ الأوربيون حديثاً ، وبين الفلسفة النظرية للنقد الأوربي ، والتطبيق العملي لنقدنا في الجاهلية ضاع المبدع العربيّْ ، وتاهتْ بهِ السبيل وتوزعتْ موهبتهُ بين مُجارة النظرية العملية للخطاب النقدي ، وتمثيل الشبكة النظرية لهذا الخطاب ، ومن هُنا بدأ النقد من وجهةِ نظرِ الكثيرِ مِنَ الناس هذراً لا طائلَ تَحتهُ وكلاماً لا فائدة مِنهُ وأنتَ عندما تستعرض أسماء الكتب النقدية المؤلفة حول الأدب تلتمس جيلاً من المُصطلحاتِ يكوّن عبئاً على الأدبِ نَفسهُ ، ويحولُهُ إلى جنازة فجائية يندب أصحابُها ضياع إكسير الأدب ، وهم معتقدون أنهم إنما يزفونَ لهذا الأدب عروسهُ الضائعْ ،
فبينَ الألسنةِ والبنيويةِ والأسلوبِ والذرائعيةِ والرمزية والسريانيةِ والرومانسيةِ والدادائيةِ تشظت شخصيةُ الأديب وتاهت رؤيتهُ الشعريةِ وأصبحت نصوصهُ الإبداعيةِ نَهبْ الضياعِ والتشردِ والهلوسةِ وأصيب الأدبُ بنوع من الهلعِ وتحول إلى نوع من الأشباحِ السوداء القاتلةِ وزاد الطينَ بلةٍ ما رسمهُ النقّادُ من أطر جديدة استمدوها من مُعطياتِ معرفيةِ نظريةِ لو قسناها بمقياسِ الواقعِ لخرجتْ بالأدبِ عن حدودهِ الحقيقيةِ لأنَ ما ينشدهُ القارئ أصبحَ في هذا الزمانِ غيرَ ما ينشدهُ المبدعُ وغيرُ ما يُنشدهُ الناقدْ وهذهِ الثلاثيةِ جعلتْ الأدب جنازة صامتة فقضايا الجمهور ( القارئ ) قضايا الحرية والمساواة والعدل والحق والخير والجمال؛ والأدباء لا يستطيعونَ ملامسةِ هذهِ القضايا لأنها على تماس مباشر مع السلطة والنقاد يتفلسفونَ بمفهوماتِ هائمة لأنها غائمة في معظمها مستوردة من مفاهيم معرفية نبتت في تربة أدب غير أدبنا ظناً منهم أنهم يرضونَ الجمهور من جهة أخرى وهذا ما جعلَ النقد أعرافاً غائمة لا وجودَ لها على أرض الواقع .
إن مهمة النقد لم تعد إيجاد تعاريف ومصطلحاتِ جوفاء لا جذورَ لها في الواقع وإنما أصبحت مهمتهُ خلقْ جيل من الأدباء يعون واقعْ أمتهمْ ويفهمونَ عمق مشاكلها حتّى يستطيعوا حل تلك المشكلات وخلق جيل من القراء يفهمون الأدب على حقيقتهِ ، ويجسّدونَ ذلكَ الفهمْ وعياً فاعلاً في دفع حركةِ الحضارة باتجاهِ الأحسنْ والأجدى والأعمق حتى يصل الإنسان إلى منشده المطلوب (الحق والعدل والخير والجمال ). إذ أن القارئ والأديب لا يهمهُ من النقد إلا ما يدفعهُ نحو الوعي الفاعل ، وأما إيجاد نقد موجهُ مبرمج للأحسن ، والأجدى فغاية الغايات لأن مهمة الفنون الامتاع والإقناع ، ولا فن بلا نقد ولا نقد بلا هدف...
معمارية النص الأدبي
لا يمكن لأي نص أدبي أن يُحقق مستوى معمارياً مناسباً دونَ أن يحقق الحد الأعلى من المبادلات التوافقية بين الألفاظ والمعاني التي تعبر عنها هذه الألفاظ ، وإذا كانت الألفاظ هي ثياب المعاني ، فإن المعمارية البنائية للنص تقتضي أن تضع هذه الألفاظ الوضع الذي يقتضيه المستوى النحوي لهذه الألفاظ ضمن سياق الجمل والتراكيب إذ أن اللغة مجموعة مبادلات لا مجموعة مفردات وألفاظ وإنهُ لا يمكن للمبدع أن يحقق معمارية النص إلا إذا كان هذا المبدع مستوعباً لقيم هذه المبادلات بين ألفاظ اللغة إذ أن المفردة أو اللفظة لا تنفصل قيمتها عن قيمة ما يجاورها من الألفاظ ولو أن معمارية أي نص تقف عند تحقيق المبدع لصحة المفردة أو لفصاحتها لكانت كل النصوص الأدبية متميزة معمارياً.
صحيح أن هناك مفردات تحمل شفافية وجرساً وإيقاعاً وإيحاءً خاصاً إلا أن هذه الشفافية وذلك الإيقاع لا يؤديان المهمة الموكلة لهما إلا حين تظهر تلك المفردات ضمن سياق الجمل .
وإن أي وضع للألفاظ في الوضع الذي يقتضيهِ علم النحو دون أن يكونَ هناك لمسات فنية من حيث التقديم والتـأخير والخبر والإنشاء واستعمال الروابط بين الأفعال والأسماء استعمالاً دقيقاً لا يحقق المعمارية الحقة التي ينشدها المتلقي وإن كان لا يدرك عمق مبادلاتها ولا يسعى إليها من ليس لديهِ خبرة في علم النحوهذا من جهة وعلاقة المعاني بالألفاظ من جهة ثانية حتى إن جمال الصورة البيانية والبديعية لا يتحقق إلا من خلال المبادلات النحوية واللغوية التي من خلالها نحس بلطف المعاني وشفافيتها .
نحنُ لا نريد كلاماً مستقيماً فقط بل نريد كلاماً مستقيماً ذا معمارية ساحرة حسنة لأن تواصل الألفاظ إنما هو تواصل للمعاني والأفكار وتوالي لها وكم من كلام مستقيم لا يُعد من الإعجاز المعماري لأنهُ إماأن يأتي بشكل بسيط أو لأنهُ لا يحسن استخدام الروابط فبين الحال والصفة مفردات وجملاً فوارق دقيقة لا يدرك عمقها إلا معماري حذق وفي اعتقادي أن النص الأدبي إنما هو ولادة متكاملة للمعاني والألفاظ معاً ولا صحة للمقولة القائلة إن المعاني تولد أولاً ثم تليها الألفاظ وأن هذه الألفاظ هي تبع للمعاني إذا أن الجملة الأدبية إنما هي وحدة عضوية تولد ولادة كاملة وتظهر إلى الوجود بعد أن يفرغ الذهن المولد لها من إبداعها .
إن استقامة الكلام من حيث هو قواعد ( نحو ــ صرف ـ ... ) لا يشكل عملاً أدبياً مهما حاولنا ، اللهم إلا إذا كان صاحبُ هذا الكلام يملك بديهة لغوية غريزية تدرك حجم كل مفردة وما يمكن أن تؤديهِ من دور حين تتجاور مع غيرها أو أن تشترك معها في سياق معين . إن معمارية النص الأدبي هي بذاتها هندسة حقيقية لجينات الألفاظ حين ترتبط مع المعاني .
عمود الشعر العربي
واستمرارية الحكم النقدي
لم يضع الجرجاني أبو الحسن علي بن عبد العزيز –ت 392 هجري – نظريتهُ في عمود الشعر العربي ، إلا بعد أن تكون لدى العرب على مر العصور ، وكر الأزمان رصيد كبير من الشاعرية وأصبح الشعر كائناً نامياً ومستقلاً بفضل هيمنة الكثير من الشعراء على النص الشعري وإنتاجهم للكثير من النصوص المتفردة في صناعتها بعد إدراكهم لعناصر الجمال في الحياة والأدب ،
وقد قسم الجرجاني هذه العناصر إلى :
آ – شرف المعنى وهو مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبة المعنى للموضوع المطروق بحيث لو تحدث الشاعر عن الغزل كانت معانيه تمس شفافية الجمال الروحي الممزوج بجماليات العناصر الحسية إذا كان الشاعر واصفاً لحسن المحبوب ودماثتهِ ، أو كانت عاطفتهُ متقدة حارة إذا يتحدث عن لواعج الشوق والحرمان والبعد وهكذا في الأغراض الأخرى ، ولا يمكن لنا الحديث عن معاني شريفة بمعزل عن المواضيع المطروقة سواء أكانت عاطفية أو حسية أو معنوية أو إنسانية وما يعنينا من شرف المعنى هو ( سمو ) هذا المعنى المعروف من خلال النص وممارسة هذا المعنى لقيم الروح والنفس والعقل دون أن تصل إلى حد الإسراف أو أن تنزل إلى حضيض التفاهة في المعاني ونحن نعلم أن الشاعر أحد اثنين إما مقلد لمعاني تعبر عن قيم دونية يستمدها من توافق المجتمع المحيط بهِ ويعكسها في نصهِ الشعري إرضاءً للذوق العام المحيط بهِ ، وإما مبدع لمعاني جديدة تعبر عن مستوى الذوق العام وتوجه هذا الذوق العام باتجاه الأرفع والأحسن وعند ذلك تنماز شاعرية شاعر ما عن آخر ويقبل الباحثون على الأدب الحقيقي وعلى نصوصه بينما يبقى الشاعر صاحب المعاني الدونية أسير نصه ، بل يصبح محط أنظار واصفيه بالضعف والركاكة .
2- صحة المعنى : وهذه الصفة أكثر دقة من سابقتها إذا يقع الكثيرمن الشعراء في بؤرة وحلها بحيث نجد الكثير منهم يحاول الإتيان بالمعنى الطريف فيقع في شراك الغموض والمبالغة الممجوجة والبعد عن المنطق وعندي أن لكل معنى من المعاني نسق من المنطق بحيث يتمشى مع الجودة المبتغاة والحسن المطلوب الذي يجعل صاحب المعنى مثلاً أعلى من جنسهِ تسعى إليهِ عناصرُ القبول والرضا وكل انحياز عن منطقيه المعنى وقوع في الغلط و الخطأ ومن ثم ظهور هذا المعنى بأسلوب ممجوج ولا يكون ذلك إلا بسبب تلجلج المعاني في (لاوعي الشاعر ) وعدم وضوحها في مساحة الوعي عندهُ أو أن هذا الشاعر يريد أن يتفرد بوصفه صفة ما فلا يحسن توصيلهُ أو أنهُ يتحدث عن موضوع ذي معاني لم تختلط بدمائه ولم يعش عمقها في وجدانهِ .
إن صحة المعنى لا تعدو أن تكون المنطقية بحد ذاتها من النصوص المفرزة ولا تشكل لوحة متناسقة لأن المعاني غير المنطقية تلبس ألفاظاً أكبر من حجم عظامها أو أضيق منها ذلك أن رابطاً ما يربط بين فيزيولوجية المعنى و فيزيولوجية ألفاظهُ.
3- جزالة اللفظ : وهي ميزة عزيزة في الشعر بحيث تبدو الألفاظ ثياب للمعاني مفصلة لها تفصيلاً دقيقاً بحيث لا تكون معقدة غريبة بعيدة عن استعمال الناس لها ولا هي ضعيفة ركيكة يكثر العامة وغير المتذوقين من استعمالها . وليست الجزالة التي تربط في معناها الأول بقدرة ( جزل الغضا ) على التجمر حين إحراقهِ إلا المخزون المدفئ والمضيء للنفس من خلال تسابق الدلالات في ذهن المبدع وتوافق الدلالة مع اللفظ ، ولا يعني ذلك استعمال الشاعر لألفاظ معينة بدلالاتها إذا أن الشاعر يكوّن قاموسهُ اللفظي من خلال مُعايشتهِ لمجتمعهِ وقضاياهُ ولمبادلاتهِ الثقافية والحياتية ومعانيه لقضايا ومشاكل تكون من خلالها أداتهُ اللغوية ألفاظ معانيها إذ أن لكل عنصر لغتهُ ومعانيهِ وتعابيره ومقاييسهُ الجمالية في اختيار اللفظ ، ناهيك عن أن لكل موضوع معاني خاصة بهِ ولكلِ معنى ألفاظ متعلقة بهِ تعبر عن عمقهِ وروحه .
4- استقامة اللفظ : بحيث تكون مطواعة في أداء المعنى موحية في التعبير عنهُ أليفة في مواكبتة سهلة في رسم حدودهِ منطقية في سبر أغواره فلكل معنى من المعاني كما قلتُ ألفاظ تعبير عنهُ وتسير في ركبهِ وتصور روحهُ من خلال التزامهُ بقواعد العربية نحواً وصرفاً وسياقاً ، وكم من ألفاظ تبدو مستقلة مستقيمة في ذاتها ولكنّها حين تدخل في سياق الجملة والتركيب يظهر جفوها وغلظتها ونشاز طبعها وانحسار دلالتها أو انفلاش شفافيتها والشعر بطبعهِ كائن حساس لا يقبل من الألفاظ إلا ما يتناسب مع المعنى المعبر عنهُ ، وإن مقولة الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلّم " إن من البيانِ لسحر وإن من الشعرِ لحكمة " لتدل دلالة عظيمة وعميقة على بعد استقامة اللفظ إذا أنهُ لا بيان ساحر إلا إذا استقام اللفظ ولا حكمة لشعر إلا بتحكم اللفظ بالمعنى وانقياد لهُ .
ب – عناصر جمالية : وهي لمسات الشاعر الفنان التي يضعها كبصمات واضحة على جبين لوحتهِ الشعرية إذا أن لوحة حياتيةالشاعر يريد أن يعبر عنها إنما تتميز بجمالية ما ،لا بدّ للشاعر من وضع أنامل مخيلتهِ عليها حتى حين تراهُ يتحدث عن القبح إنما يبرز معكوس عناصر الجمال فيه ليبدو لنا في صورتهِ المُرادة.
إن جمالية النص الأدبي لا تظهر إلا بمقدار ما يمتلكهُ الشاعر البدع من قدرة على التخيل بقسميهِ الواقعي والوهمي واستطاعتهُ تسخير هذا الخيال في رسم النص ومطابقة هذه الصورة لمقياس الجمال عند المتلقي ويظهر من خلال :
1- الإصابة في الوصف من خلال محاكاة الشاعر للصورة التي يريد وصفها سواء أكانت من مخيلتهِ الواقعية أو الوهمية بحيث يظهر المعنى صورة مادية أو معنوية مجسدة أو متخيلة قادرة على اختراق عمق المتلقي والاستيلاء على روحهُ وإرضاء تشوقهُ لحب الجمال والبحث عنهُ.
إن مسألة الإصابة في الوصف مسألة حساسة لا يستطيعها إلا ( كاميرا ) آلة تصوير حساسة جداً بحيث تلتقط أدق الصفات في الموصوف سواء أكان محسوساً أم غير محسوس ولن أضرب أمثلة فالكثير الكثير من شعرائنا أصابوا كبد الحقيقة في أوصافهم واخترقوا عمق الوجدان في رسم موصفاتهم .
2- المقاربة في التمثيل بحيث يتلبس المشتبه بهِ وتبدوا الصورة متجانسة تجانساً طبيعياً فطرياً غير خارجة عن حدود المعقول من حيث العناصر الجمالية التي وضعها العقل والخيال والوجدان والنفس كميزان لهُ حين يريد أن يبلغ الذروة في المتعة ذلك أن الجمال متعة بحد ذاته وكل صورة لا تناسب فيها بين طرفي التشبيه هي صورة باهتة فاشلة في إيصال المطلوب للمتلقي ولا اعني بالتناسب إلا القدرة على التذوق والقبول وانبهار النفس والعقل والروح أمام هذه الصورة ولا يمكن للوصف أن يصيب إلا بوجود مقاربة للتشبيه .
ج- عناصر إنتاجية : وهي تتألف من عنصرين متعاضدين بحث يكون الثاني محققاً وجوده فلا تفرد في العقول بلا بديهة غريزية ولا غريزة بلا شفافية الإحساس :
1- البديهة الغريزية : وهي قدرة عظيمة على الارتجال لما يتداعى في الذهن بسبب ردود أفعال يكوّنها المبدع تجاه موقف من المواقف وتتصل بدقة الأعصاب وشفافية الوجدان وعمق الوجع الروحي وكلما كانت الغريزة متدفقة كانت الشاعرية مناسبة فياضة سريعة الاستجابة متعددة الموضوعات التي يطرحها الشاعر ولا أعتقد أن الشاعر الغليظ الغريزة يستطيع أن يعبر عن حاجاتهِ بتدفق مناسب .
2- كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة : وهو ما أدعوه بالتفرد بحيث يستطيع الشاعر من خلال موهبتهِ الفياضة أن يبدع ( سحراً مميزاً ) و(حكماً مطلقة البعد ) وكأنّما تبدو أبياتهُ محطات جماليةيتفيأ تحت ظلها المتلقي حين يشعر الشاعر بالتعب من أعباء الحياة وعناء الفكر وسقم النفوس .
إن ديوان الشعر العربي مليء بالنصوص الشعرية ولكنهُ قليل النصوص المميزة أقصد التي تخص التفرد ومن هُنا كانت يتيمات الشعر نادرة ولكنها في الوقت نفسهُ باهرة ومميزة وتحمل فتيل الصعقة الجمالية .
لماذا ندرس الأدب
سؤال يقذف بنفسه أمام كل ساحة أدبية , و يشرع آفاقه بحثا عن جواب شاف , و قبل الإجابة عن هذا السؤال يحسن بنا أن نعرف
ما أهمية الأدب ؟
و ما علاقته بالإنسان؟
وما مدى بصره و قربه من النفس؟
ومتى يستطيع صاحبه أن يلمس عمق
الوجدان الداخلي ؟
وهل هو ضروري في مسيرة الإنسان؟
وهل نستطيع أن نعيش حياتنا دون أدب؟
أو بالأحرى هل وجود الأدب في حياتنا يخلق توازنا داخليا؟
وهل يمكن لنا أن نطرح نظرية المعادل النفسي للأدب بشكل مواز لنظرية المعادل الوضعي التي طرحها أليوت الشاعر الانكليزي المعروف؟
إذن نحن أمام مواجهة صعبة تكمن في تفسير مفهوم الأدب الذي تعدى أن يكون (الكلام الجميل) و المعتمد في صناعته على قضية استعمال اللغة إلى أن يكون (النص الواعد) الذي يلامس روح الإنسان و يصعق بفعل تأثيره هذا الروح الإنساني ويحولها نحو التلذذ بالجمال الإنساني و تحمل موقفها تجاه الكون و الحياة و الإنسان وما عدى ذلك فهو محاولات لصناعة كلام جميل لا يحقق استمرارية الوجود
إذن ليس هناك مناص ونحن نحاول أن نوصل إلى المتلقين الأدب من أن نوجد علاقة حميمية بين النص و بين المتلقي وهذه العلاقة لا يمكن لها أن تكون عميقة الأواصر إلا إذا كانت النصوص التي يدرسها (المتلقي) هي جزء من روحه و بعض نفسه بل هي التي تكشف عن عمق وجدانه ونحن نعرف جميعا أن المتلقي يخزن سلم وجدانه منذ السنين الأولى وحتى العشرين من عمره وكيف يمكن لمتلقي يدرس نصوص هي غاية في القدم و تعالج قضايا هي ليست بنت عصرها و لا تعالج مشاكل المتلقي في هذا العصر لأن لابن هذا العصر مشاكله الخاصة و قضاياه الخاصة و رؤاه الخاصة ومن هناك كان لا بد لمن يمنهج للعملية الأدبية أقصد من يضع النصوص كنقاط دراسة و محاورة أدبية أن يختار النصوص الموافقة لحاجات المتلقي كما و أني أؤكد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أهمية دراسة كل الأجناس الأدبية بما فيها الشعر و التي تعالج كل ما يتعلق بهذا المتلقي نحن ندرس الأدب حتى يتفاعل مع أعماقنا ولا يمكن لهذا الأدب أن يتفاعل مع الأعماق حتى يحقق مجموعة عناصر هامة :
1- اختيار النصوص التي تعالج مشاكل و قضايا الإنسان المعاصرة سواء أكانت دينية أم سياسية أم اجتماعية أم نفسية .
2- مراعاة اللغة الحية النابضة التي جاء النص بها فنحن لا نريد أن ندرس نصوص نحتاج لعلماء لغة حتى نستطيع فهمها.
3- التركيز على نصوص تراعي مختلف العصور الأدبية دون مراعاة الترتيب الزمني (تاريخ الأدب) على أن تكون هذه النصوص ملتصقة بعصرها أولا و متداخلة مع عصرنا ثانيا.
4- أن تكون هذه النصوص محققة للجانب المعرفي و القيمي و الفني و النفسي و الفكري دون تحيز لاتجاه من الاتجاهات
5- الا نركز على النصوص المكتوبة بالغة العربية فقط إذ أن هناك نصوصا غير عربية تحمل في عمقها الكثير من القيم و الفكر الذي يعالج ما يتعلق بحياة الإنسان بشكل عام.
كيف ندرس الأدب
إذا كان الأدب بمفهومه الحقيقي هو البحث عن إعادة تشكيل الروح الإنساني بشكل صحيح فإن طريق إيصاله إلى الأخر تحتاج إلى تقنية خاصة يمكن من خلالها إعادة بناء منظومة الجمال والخير والحق إذ أن الأدب يشكل مجموعة من مستويات إذا ما اجتمعت تستطيع أن تصنع أمام الإنسان بوصلة حقيقية ترشده إلى شمال الخير و المحبة و العطاء خاصة و أن طريقة تدريس الأدب حاليا مجموعة عوائق تجعل المتلقي ينفر من الأدب و اللغة ويقف منها موقف المعاند فلا النصوص ولا مستوياتها اللغوية والقيمية لدى هذا المتلقي تستطيع أن تجذبه وتحمله إلى جسر الخلاص إلا إذا كانت ذات بعد جمالي أخاذ وخاصة أن النصوص المدروسة تعبر عن عقول ومشاعر و نفس أصحابها
وهي بالتالي تعبر عن عقلية العصر الذي قيلت فيهومن هنا لا بد من النظر من جديد في طريقة تدريس الأدب و خاصة أننا صرنا في القرن الحادي و العشرين وما زلنا ندرس العقلية الجاهلية عل أنها تمثل النموذج الأمثل ــ صحيح أن هذه النصوص تبلغ الذروة من حيث الصناعة ولكن فكرها لم يتجاوز حدود الجاهلية و بالتالي فإن المستوى اللغوي ينمو على حساب المستوى العقلي والقيمي وهذا يعني أننا سنترك المتلقي يتحدث في القرن الحادي و العشرين ويعيش القرن الأول للميلاد .
ونحن بحاجة أن نطور جميع المستويات المعرفية و اللغوية و القيمية بسوية واحدة بحيث تنمو في عقل المتلقي بنسق بنياني واحد .
ومن هنا كان لا بد من توفر مجموعة شروط في أي نص أدبي نصغه بين أيدي المتلقي .
/1/ أن يحقق النص المدروس نموذجا أمثلا في المعرفة العصرية
/2/ أن يحقق هذا النص نموذجا أمثلا في البناء الفني و الجمالي المعاصر .
/3/ أن يتناغم ماضي النص مع عمق فكر ووجدان المتلقي المعاصر .
/4/ أن يغرس هذا النص أهدافا قيمية معاصرة إسلامية و اجتماعية وخلقية وإنسانية حفاظا على هوية أمتنا .
/5/ أن يحمل النص رؤية عصرية لقضايا الإنسان والكون والحياة .
على أنه ينبغي أن ندرك أن تحقيق هذه الشروط يحتاج إلى نصوص ذات مستوى مختلف وهذا ما نسعى لتحقيقه إذ أن النقد يسعى للوصول بالمتلقي إلى دائرة أكثر من دائرة الكم 0
المدرس ومادة الأدب
تتطلب مهنة تدريس الأدب إلى جانب الإعداد الأكاديمي و التربوي (وذلك من وجهة نظر خاصة)مدرسا ينبع من أعماق المادة بحيث يكون ملما إلماما تاما بأبعاد و قضايا الأدب المطروقة قديما و حديثا و كذلك يشترط أن يكون ممارسا فعليا لهذا النشاط الإنساني.
ولعلنا هنا نقترح أن يكون اختيار مدرس مادة الأدب مشابه لاختيار مدرس مادة التربية الفنية لأن الأدب لا يعتمد فقط على الطرح والمعالجة النابعة من المعرفة وإنما من المدرسة كأن يكون شاعرا أو قاصا أو كاتبا أو أديبا ممارسا للنقد مثلا .
ويكمن السبب في حدوث الفجوة الإبداعية التذوقية في تلقي الأدب من قبل الطلاب في كون المدرس الذي يتعامل مع الموضوعات الأدبية بعيدا كل البعد عن عمق ورؤية الأدب وليس له أي علاقة سوى المعلومات التي يحتفظ بها بعد تخرجه من الجامعة وهذا الأمر يتطلب إيجاد شروط معينة ومعايير لاختيار المدرس قبل شروعه بدراسة الأدب لأن فقدانه للإحساس بهذا الجانب (خاصة وأن الأدب مادة إبداعية تختلف عن بقية المواد) يجعله ينقل محتويات منهج الأدب نقلا سطحيا ويعكس بدوره عدم اندماج المتلقي مع هذه المادة حتى بأقل النسب فالتدريس في مجال الأدب لا يختصر فقط بالعرض و النظر و إنما بالممارسة سواء ممارسة الإنتاج أم ممارسة التلقي أو التذوق الحقيقية 00وتطرح معظم المناهج الخاصة بتدريس هذه المادة مدرسين جاهزين لا علاقة لهم بالأدب ويعتمدون بالتالي على إيصال المعلومات على قوالب جاهزة ومؤطرة بأطر قديمة وهذا ما يجعل قضايا النقد و التذوق لدىالمتلقي غائبة أو مفقودة تماما تبنى شخصيته حسب شخصية مدرسه وهذا يتضح جليا في مادة الأدب و دراسة النصوص الشعرية و الإبداعية الأخرى .
فالمدرس حين يفقد هذه الخاصة يفقد السيطرة على المادة ويبدأ بتكرار الأساليب و اجترار المفاهيم والطرق التي يعرض بها مادته سواء ما يتعلق بتكوين جيل من المتعلمين لا يعرف من النقد الأدبي إلا الشرح ومن البلاغة و الأسلوب إلا التشبيه ومعاني المفردات و تراجم الأدباء وهذا لا يمكن أن يحقق أهدافه ولم يكن هناك توافق والتصاق فاعل بين الطالب ومادته و تذوقه لما تطرحه أدبيا تذوقا صحصحا وهذا لا يتم إلا من خلال المدرس .
ولدى بعض مدرسي الأدب القدرة الفائقة على ربط ذهن الطالب بما يحتويه المنهج من خلال تعامله وإحساسه الخاص الذي يشعر المتلقي به فيبدأ إما بتقليد مدرسه في إلقاء النصوص أو نقدها أو نقده للمفردات الشعرية بطريقة شعرية أيضا والعكس صحيح حيث ينتج عن المعلم البعيد عن الإحساس بقيمة الإبداع الأدبي متلقين بعيدين عن هذا الإحساس مما يجعل مادة الأدب تبدو جافة وهامشية لا تحقق حضورها الإنساني والجمالي التي بنيت عليه إلا في حدود ضيقة جيدة لا يمكن النظر إليها .
فلا بد إذن من التركيز عل اختيار المعلم الذي ينقل مثل هذه المواد إلى المتلقين لأنها إبداع و الإبداع يتطلب ممارسة وعلما وليس علما فقط00
ضرورة النقد
النقد ارتقاء وسموّ ينهض بالإنسان نحو الأفضل وهو أحد ضرورات الحياة الإنسانية والأدبية ، ولا مناص لنا من الالتجاء إليه.
وإذا كان البعض يعتقد أن النقد ليس إلا ترفاً، وأنه لا ضرورة له، وأن الأدب أصلاً فن اللغو، واللهو، والتسلية، وأن الأدباء لا مبرر لوجودهم ناسين، أو متناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قد أشار إلى أن : "من البيان لسحراً ، وإن من الشعر لحكمة(1)؛ وإن القرآن الكريم قد خصص سورة كاملة باسم أهم فنون الأدب – الشعر – وسمّاها (سورة الشعراء)؛ وإذا كان يحلو للبعض أن يقرأ منها فقط ﭽ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭼ الشعراء: ٢٢٤ ، فإنما يتغافل عن الاستثناء الوارد فيها .. ﭽ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ الشعراء: ٢٢٧ وهذا يعني ، أن الشعر مذموم ؛ إذا خرج عن حدود العقيدة، أو لما فيه من هزل ، أو سخف، أو هجاء مقذع، أو سب ، أو كذب، أو باطل؛ وأن الشعراء مذمومون لأن أحوالهم غير جميلة؛والآيات القرآنية من سورة الشعراء تشير إلى قضية مترابطةﭧ ﭨ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٧ وإذا كان على حدّ زعمهم: أنه لا ضرورة للأدب؛ فمن باب أولى أن لا تكون هناك ضرورة للنقد؛ وإذا كان النقد أحد ضروريات الحياة، فإنه يتناول جميع مقوماتها سياسياً، واجتماعياً ، وعلمياً، فيصلح ما فسد، ويُساعد على التطور.
ولقد كان الخلفاء الراشدون – رضي الله عنهم – شعراء، وكان الفاروق عُمر ناقداً معجباً بشعر زهير لأنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه ؛ وإذا كان النقد لا يهتم بالجانب الأيديولوجي – سابقاً ، فإنه حديثاً يولي هذا الجانب اهتماماً كبيراً ، لأنه لا يمكن الفصل بشكل دقيق بين معتقد الأديب،وأدبه، وهما عنصران متلازمان تلازم الروح للجسد. إن النقد السياسي على سبيل المثال يستمد مقاييسه من القيم السيّاسية السَّائدة ، ومن القوانين والأعراف الدولية، كما أن النقد الاجتماعي يُعرفْ من تقاليد الأمة.
لقد كان لنشوء الفن كضرورة حياتية أثر في نشوء النقد كضرورة أدبية تُسهم في صُنع القيم، وتطويرها، ورقي الإنسان، وبلوغه درجة الإنسانية الحقة. وإن كون النقد يحمل بين جوانحه جوانب إنسانية، واجتماعية على الأقل يسهم في كونه جزءاً من الإنسان؛ لأن هذا النقد أداته اللغة، وهي إنسانية وموجّهة إلى إنسان يحمل أنماطاً من السلوك، وألواناً من القيم، كما أن هذه اللغة ظاهرة اجتماعية تتوافق عليها الجماعات الإنسانية بالإضافة إلى أن الحياة الاجتماعية لأمةٍ ما لا تُعرفُ، إلا من خلال آراء النقاد فيها ، لأن النقاد يرُوّنَ ما لا يراه الكتّاب ، ويسبرون أعماق النفس، والنقد الأدبي ضرورة اجتماعية لا غنى عنها مادام الإنسان مدنياً بطبعه، وهذا النقد يفيد الأدباء الكبار، والصغار، ويُساعد الناشئينَ، والقرَّاءَ، وذلك إذا كان موضوعياً غير متحيز لعاطفة، أو لعرق أو لجنس. إنه مفيد للأدب ، والأدباء من حيث: إنه يُفسر آثارهم، وطُرق فهمها، ويقوّم الأدب، والأدباء، ويوضح للأدباء آراء الآخرين بهم؛ كما أنه يمتّن الأدب، ويقويّه على اعتبار أن النقاد يتعقّبونَ هذا الأدب ؛ بالإضافة إلى تجاوز النقد للمحاسن ، والمساوئ إلى اقتراحات توسع آفاق هذا الأدب.
إن النقد على اعتبار أنه يعتمد على الذوق أولاً، وآخراً؛ فإنه يحمل من مقاييس العلم ، والمنطق بحيث يُشكِلُ على دارسيه، وهو يؤثر في متلقّيهِ التأثير الحقَ، وكلّ من يدعو إلى تهميش دور النقد إنما يبصر بعيون عشواء ، ويفكر بأسس هشّةٍ ؛ لأن النقد أحد عناصر الحياة الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها.
وإنه لولا هذا النهر المتدفق من الملاحظات التي تطل من هنا، وهناك بين عصر، وآخر ولولا هذا التراكم من النقد، لما كان هناك ارتقاء، وتطور، واختصار لحركة الحياة ولا يعني قولنا ضرورة النقد : هو فقط الاحتراف بمعناه الدقيق، إذ أنّ كل ما يقوله الأدباء أنفسهم ، وما يقومون به من تقويم، وتقييم لأعمالهم ، وأعمال غيرهم هو النقد بحدّ ذاته ، لأنه يندرج تحت باب التصحيح، والاصطفاء ، والنقد حقيقة هو تصويب، واصطفاء للقيم، والجمال ، والأسلوب.
إن سلّم القيم التي يتبناها الإنسان، إنما تأتي مما يختاره الإنسان نفسه، وليس الاختيار إلا نقداً لمعاني الخير، والجمال، والمثل؛ ومن هنا دخل الأدب تحت تأثير النقد، وأصبح للنقد ضرورته التي تسهم في رفع سوية الإنسان على هذا الكوكب.
دواعي نظرية النقد
ليس النقد الأدبي ، كما هو معروف قول على قول : (أو خطاب على خطاب، أو ميتا خطاب، بتعبير المناطقة)(1) ، فحسب، لأنه مرتبط بالأدب، وإن ، أخذ يستقل عنه، ويكوّن لنفسه خطاً مستقلاً له خصائصه المميزة، وهو متميز عن الأدب ، وعن التاريخ الأدبي على الرغم من التفاعل معهما، ومع الأجناس الأدبية الأخرى.
وإن نظرية النقد المستقل تستدعيها ضرورات النص الأدبي نفسه، سواء أكان نصاً شعرياً، أو قصصياً ، أو روائياً، أو مسرحياً، أو مقالياً؛ لأن النص الأدبي يفتح للنقد آفاقاً ينظر إليها لغوياً، وتاريخياً ، وعلمياً، واجتماعياً ، وفلسفياً، وأسطورياً، وسياسياً ، ودينياً.
وعناصر النقد الأدبي نفسه تتفاعل لتشكل علاقة دراسية للنص حيث ، تكشف عن حقائقه و ميزاته؛ وليس من المنطق أن نبحث عن حقائق نقدية مطلقه، لأن النقد ما يزال فناً يستقي قواعده من العلوم، والمعارف الإنسانية، والعلمية، ويستند إلى أسس اجتماعية، وإنسانية، نفسية؛ على أن لا نغفل أن موضوع النقد الأدبي هو – الحقيقة الأدبية -، وإن كانت تختلط بالعقيدة، والفكر لدى الأديب. وليس من الدّقة بمكان أن نصف المبدع أنه أول ناقد لعمله الأدبي، لأن الرؤية الأخرى هي التي تحدد قيمة العمل الأدبي، وتعطيه أبعاده الحقيقة. صحيح أن مبدع النص الأدبي نفسه يعرف درجة قبول نصه، ولكنّهُ يبقى آخر من يحكم على نصه.
إن دواعي وجود – نظرية نقدية – مستقلة ذات أهمية كبيرة في هذا الزمن؛ ولكنها مرتبطة بشكل، أو بآخر بوجود نظرية أدبية مستقلة لكل جنس من أجناس الأدب.
لا أريد أن أتحدث عن ضرورات نقدية عربية قبل أن أتحدث عن ضرورات أدبية عربية لنظرية الأدب – أستثني من ذلك النظرية الشعرية – وإن كانت هذه لم تتبلور عناصرها بشكل كامل. وثمة نقطة أخرى يجب أن أشير إليها ههنا هي؛ علاقة النقد بالإبداع، وإن كنت أعتقد أن الحدود الفاصلة بينهما ما تزال موجودة .
إن النقد الحقيقي جزء من الإبداع من حيث كونه إضافة جديدة إلى التراكم المعرفي لدى الإنسانية.
(1) – أحمد اليابوري – النقد العربي المعاصر أوهام الحدود
وحدود الأوهام /مجلة الوحدة / عدد /49/ تشرين الأول
–1988- صفر 1409 هـ - ص5
لقد ظهرت على الساحة الأدبية منذ الثلاثينات آراء، وأفكار، ومهاترات قولية ليس للنقد علاقة بها لأنها كانت تحمل نزعات كتاب يحاول كل واحد منهم أن يُرِيَ جمهوره وجمهور غيره أن منافسَه في الأديولوجيا لا يثبت أمام نقده. لا أريد أن أسمي أشخاصاً بأعينهم أو حركات ذات اتجاهات سياسية حتى لا أزيد الانقسام شرخاً. لأن صراعنا في الساحة العربية ما يزال صراعاً سياسياً يرتدي ثياب النقد الأدبي حيناً، والفلسفة حيناً آخر، والأدب أحياناً أخرى.
وكل ما أريده من أدبائنا أولاً، ومن نقادنا ثانياً أن يعوا الخط الذي يسيرون فيه وعياً عقلياً، ومعرفياً حتى لا ينزلق أدبهم ، أو نقدهم مزالق لا تحمد عقباها، أو لا بدَّ سيسقطون من حسابات التاريخ الصحيح.
وبناءاً على ذلك أود أن أؤكد أنه لا بد لنا كأدباء ، وكنقاد أن نطرح كل النزعات غير الإنسانية التي تقوم بإعاقة حركة التطور، ومن ثم الانطلاق لصنع حركة الأدب، والنقد بشكلها الصحيح.
لن ننادي بأدب ذي صفات محددة أو بنقد ذي مواصفات خاصة، لأننا لا نكتب ورقة عمل، ولكننا نقترح أن نحرر أنفسنا أصلاً من كل ما يحاكم شخص الأديب، أو الناقد، وأن نحكم على نصه بمقاييس حقيقية واقعية إنسانية.
لقد ظهرت على مرّ العصور ابتداءً من أرسطو حتى يومنا هذا نزعات أدبية ، ونقدية ذات مساس مع الفلسفات ، والسياسات، والعقائد التي عايشتها، وبقي الأدب، والأدباء منخرطين في بوتقة تلك الاتجاهات، والسياسات، والفلسفات، وبقي النقاد منشغلين في مناقشة تلك النصوص الأدبية التي توازت مع تلك النظريات الفلسفية، والسياسية، والعقائدية، وليس في ذلك حرج إنما المخيف، والمرعب أن تنخرط الاتجاهات النقدية في بوتقة سياسات موجهه تستبعد كل ما يسهم في بناء روح الإنسان، وتصطفي كل ما يسهم في إفراغ الإنسان من مضمونه.
لسنا في مواجهة( السريالية) في (حلما وطفولتها) ؛ ولا في مواجهة( الوجودية) في( تحديد مسؤولية الأديب)، و(المطالبة بحريته)، ولا في مواجهة( الفرويدية) في نسبة (الدوافع النفسية )التي تكمن وراء سلوك الأديب هذا المسلك، أو ذاك فأدبنا الإسلامي والعربي زاخر بالمعطيات الفاعلة ؛ إنما نحن في مواجهة هذه المذاهب الأدبية، والنقدية في سعيها إلى تحطيم كل موروث يربط الإنسان (ماضيه ومستقبله وحاضره)، أو يحاول تمزيق مؤسسته (الدين والأسرة والوطن) كما نادى بعض السرياليين، أو يدعو الإنسان إلى العبثية ، ورفض وجود مدبر عظيم للكون كما هو عند بعض الوجوديين، أو يدعو إلى اتخاذ السلوك المنحرف أنموذجا للسلوك بطريقة تتسمى تارة باسم السادية، أو المازوخية، أو الأوديبية .... الخ. إننا في حالةِ عقدِ معاهدات محبة مع قيمةٍ يحملها الأدب، والنقد باتجاه بناء الإنسان، وفي مواجهة ضد كل ما يسهم في جعل الإنسان حيواناً ناطقاً أو كمبيوتر عمل، أو ساعة غير منفعلة بالزمن الذي ترسمه.
إن أدباءنا اليوم ، ونحن نواجه أعتا حملة صهيونية تجاه فكرنا ومقدساتنا مطالبون بتجييش المعطيات الفكرية والشعورية للدين الإسلامي لمقامة كل ما يعيق حركة التطور والنقد أهم هذه الأسلحة وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اهجهم حسان وروح القدس معك ).
شروط النقد الموضوعي
في البحث عن الحقيقة الكونية، من خلال الحقيقة الأدبية تبرز الضرورات المنطقية الباحثة عن الشروط المطلقة الساعية إلى بلورة حقيقة من الحقائق، والنقد كأحد الفنون المعرفية، أو المعارف الفنية يعدّ من أدق المعارف لأنه يناقش أعقد القضايا في حياة الإنسان، وهي قضية الإحساس والتعبير، والإحساس حتى يومنا هذا لا مقياس حقيقي له، وكيف يمكن أن نقيس درجة الإحساس، ونحن مازلنا نشتعل في لحظة ضعف أحياناً، ونتبلّد في لحظة أخرى، ونفرح في ساعة ما، ونترح في ساعات أخر؛ والإحساس الأدبي أعصاب دقيقة تبحث عن ديمومتها من خلال انفعالها بقضايا قد تكون ذات أهمية في عصر ما، وقد تكون تافهة في عصر آخر، وقد لا نحتاجها في زمن؛ بينما هي ضرورة في عصرها.
ومن هنا نعتبر أنه إذا كان النقد ثمرة حقيقية لشيئين هما: (دراسة موضوعية للأدب، وتقرير شخصي للناقد)، فإنه من الواجب عند الحديث عن النقد الموضوعي أن نتحدث عن شروط الناقد الحق الصحيح المعافى من الميول، والأهواء، والذاتية ، والشخصانية، والأنانية على أن يفهم هذا الناقد من النص المنقود الغاية التي يريد أن يتوصل إليها الأديب، وإن دقت، ولا يكون ذلك إلا بفهم الجزئيات المتعلقة بعلوم اللغة، والتي تعين على سبر عمق عقل الأديب، وتاريخ أفكاره وإنشاءاته، وفهم جزئيات علوم البلاغة، وطرق تأدية العبارة بشكل ملفت للانتباه، والناقد الحق من كان ذا معرفة، وخبره، وذكاء، واطلاع على فنون الأدب، والحياة، ومقاييس المنطق، والعلم، ومناهجه. ذا قدرة على النفاذ إلى عمق الأديب نفسياً، وعقلياً دون التعصب لجنس ، أو لون ، أو فكر ، أو اتجاه أو طريقة على أن يكون ذا ملكة نقدية تُسهم في كشف أدق الأسس الجمالية، والمعرفية التي يحملها النص، وإذا كان هناك من مهمة تقع على عاتق الناقد الأدبي؛ فإنما هي نابعة من كونه مسؤولاً عن رفع مستوى الذوق، والفهم عند القارئ، والأديب، وكم من رواية ، أو قصة ، أو قصيدة كشف النقاد عن آفاق الجمال، والمعرفة فيها.
إن مهنة الغربلة التي يمتهنها الناقد، إنما هي جزء من مهمة النقد على أن تكون هذه الغربلة للآثار الأدبية، لا لأصحابها كما فعل البعض. لقد كان الآمدى في موازنته بين الطائيين يحاول أن يُنصف كليهما، ويعطيه حقه من خلال عرضه لحجج الفريقين المناصرين لكلا الشاعرين، وإن مال أحياناً إلى أحدهما على حساب الآخر.
ونحن لو استعرضنا أحكام النقاد منذ القديم وحتى يومنا هذا عربياً وأوربياً لوجدنا أن معظم الأحكام النقدية التي حكمت على شاعر بعينه، أو على نص بذاته، أو على حقبة، أو عصر أدبي بكامله أحكامُ جائزة وغير محققه لشروط النقد الموضوعي التي تجرد الناقد من كل النزعات المسبقة، في مواجهتة مع النص فقط. وباستثناء الحكم النقدي الذي أطلقته (أم جندب زوج امرئ القيس) في مقارنتها بين قصيدتين ذات وزن واحد، وقافية واحدة، وموضوع واحد بين شاعرين هما (امرؤ القيس زوجها وعلقمة الفحل) إن صحّت الرواية، وترجيح قصيدة علقمة. تبقى الكثير من الأحكام النقدية بحاجة إلى مراجعة وخاصة تلك التي تحدثت عن شعراء، وأدباء كانوا مقربين من البلاط الأموي، والعباسي...
إن النقد الأدبي، باعتباره وظيفة اجتماعية يُسهم على مرّ العصور في تكوين ذوقٍ إنساني ، ويرتفع به نحو الكمال، بل يجعله إنساناً متحضّراً؛ على أساس أن عملية النقد بحدّ ذاتها ارتقاء نحو الأفضل، وبحثٌ عن الكمال، وتنميةٌ لملكة التغيير، وفتحٌ لآفاق النفسِ، وتهذيب للغرائز ، وتقوية للعقل.
لقد دخلت الفلسفات القديمة والحديثة ، والأفكار المجردة والمحسة عمق النقد وأصبح على النقد بعد أن كان فعالية تابعة لفعالية الأدب أن يرسم أطره، وقوانينه، ومناهجه، وأهدافه، ووظائفه بل أصبح من مهماته أن يكون لنفسه محوراً أفقياً، وعمودياً تتمحور حوله كل المعارف، والأفكار التي تظهر حديثاً.
لا أريد أن أدخل في تفاصيل دقيقه، فالحديث سيأخذ مجراه في كل فصل، وباب بحسب معطيات الباب، أو الفصل نفسه؛ ولكنني أريد أن أؤكد على دور النقد الحقيقي، ودخوله في كل باب ، ولا يمكن لأي أدب مهما كان أن يحافظ على شبابه، وحيويته إلا بإسهام النقد. لا أقصد أي نقد، إنما أقصد النقد الفعّال، النقد الهادف، النقد الصحيح، النقد المبرمج، النقد الموضوعي، النقد القائم على أسس دقيقة، وركائز صحيحة.
وطالما نصّ النقاد الأدب ونص الأدباء النقد ونص الفلاسفة النقاد والأدباء على أنه يبقى أن نؤكد على أهمية النقد، ودخوله في ساحة الأدب خاصة، والحياة بكل تفاصيلها عامة، وما كان للمتنبي أن يبرز على حقيقته أمام قارئيه لولا المعارك النقدية التي دارت حوله، وما كان لإليوت أن تثمر شجرة الشعر لديه لولا وقوف النقد (أحد جوانب شخصيته) خلف شخصيته الأدبية.
إن المفاهيم النقدية ليس كما يعتقد البعض مصطلحات تضفي على أي نص عناصر المدح، أو الذم، ولا هي براءات اختراع. إنها أفكار وفلسفات ومعتقدات العصر الذي تعيشه إنها روح الحياة الإنساني لديه.
إن العصر الذي نعيشه – عصر المعلومات السريعة في كل المجالات – يجعل من النقد العنصر الأهم، والأسمى في رصد حركة التطور.
أليس الأدب هو الإنسان ؟! أليس الأدب هو العمق الروحي؟! إذاً كيف يكون هناك أدب روحي، وعمق روحي لولا وجود النقد؟.
لا أريد أن أدلل على أهمية النقد بالنسبة للأدب، فالثمرة الناضجة يعرف طعمها من يمضغها، والثمرة الفجة كذلك، والإنساني العادي لا يحتاج إلى تعليل سبب طيب هذه الثمرة الناضجة، أو الفجة. ولكن الذي يأخذ بتلابيب حركة الحياة، وتطورها لا بدّ له أن يضع الأمور في نصابها، وأن يعلل أسباب الجمال، والقبح، والكمال، والجلال في كل ما يطلع عليه، وأن يضع الموازين الدقيقة من أجل تصحيح العلوم، وبناء القيم، ورصد حركة الحياة، والسمو بمستوى الروح الإنساني.
إن ديناميكية النقد، والأدب تتأتى من خلال البحث الحقيقي عن مثل الخير، والحق، والعدل، والجمال، ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭼ إبراهيم: ٢٤ - ٢٦
وسياسة الأدب وترويضه عملية معقدة، وذات أبعاد حساسة؛ إذْ أن الأدب قد يتحول بفعل السياسة، أو النقد على حدٍّ سواء إلى اتجاهات ذات أبعاد منحرفة إذا شاءت السياسة ، أو النقد ذلك؛ أو إلى اتجاهات ذات أبعاد بنّاءة إن أريد له ذلك؛ خاصة وأن من الأدباء من تجرّه نرجسيته، وذاتيته باتجاه النفعية والمصلحية، وإذا تحول الأدب إلى نفعية فعلى الذوق السلام.
لن ندخل منذ البداية إلى ساحة الصراع بين القديم، والجديد، وبين الحداثة، والتقليد، وبين الأصالة والتنطع، وبين الشكلية، والمضمون؛ لأننا سنفرد لذلك أبحاثاً تؤطر عملية الهدم، والبناء في أدبنا على يد أبناء ينظر إليهم على أنهم أجلاّء؛ ولكننا سنؤكد على نقطة حساسة في عملية النقد هي البحث عن (إكسير وروح الأدب) الذي نعتبره بحق لبّ العملية النقدية، وسننظر إلى العملية النقدية على أنها محور من محاور تطور الأدب، لا من خلال الكلام الفارغ، ولكن من خلال التطبيق العملي في عملية فرز نوعي، وكيفي للأدباء الذين أسهموا في بناء الأمة، ومنهجة فنونها البناءة، ومحاربة فنونها الهدامة. ونحن في عملنا هذا لن نتعرض إلى أفضل شاعر في المدح ، أو الهجاء، أو الغزل كما كان يصنع نفادنا القدماء، بل سننظر إلى الأدب على أنه اتجاهات ، ومحاور، وظواهر نشأت بفعل عوامل متعددة، ومتشعبة، وأن هذا الأديب ، أو ذاك أسهم في تلك الظاهرة، أو أسس لها، لأن مسألة المذاهب الأدبية مسألة دخيلة بالنسبة لأدبنا، وليست من نسيج بنائه. ولو أنا حاولنا استعراض ظواهر الأدب العربي لوجدنا بوناً شاسعاً بين ما يتحدث عن الواقع، وبين ما يفترض فيه أن يكون نظرية لأدب أسسّ بنيانه منذ أكثر من ألف، وستماية عام؛ وفي حديثنا عن أدبنا هذا، وعن أدبائنا الذين يسهمون في عنونته، وبناء قواعده، وتأطير أشكاله، وتعميق أجناسه سنتعرض إلى الغث، والسمين؛ النافع، والضار، والقبيح ؛ والخيالي ، والواقعي؛ العلمي ، والنظري لندرك منذ البداية أننا واعون لما يجري في الساحة العالمية.
لن نتغافل عن كون أدبنا، ونقدنا يعيش في مأزق في بعض جوانبه، وفي ردّة في بعض جوانبه الأخرى، وفي تقليد في مناحي آخر، ولكننا سنتعرض لنقطة هامة جداً تسهم في بناء الأدب أولاً؛ والنقد ثانياً.
كيف نؤسس لأدب عربي إنساني دعائمه الحق، والخير، والعدل، والجمال؟
وكيف نؤسس لنقد عربي يحقق للأدب ، ولأدباء أريحية رحبة؟
وما هي السبل الموصولة لذلك؟
أسئلة سنحاول في بحثنا هذا الولوج في أعماقها، والكشف عن أسرارها.
إنني لن أحاول الخروج بالنقد من مرحلة التأسيس الحقيقي إلى التنطع، والتزوير، واللعب على سرك الكلمات، وادعاء التمثل للثقافات الأجنبية، وإدخال كل غث، وسمين إلى نقدنا، وأدبنا ، فتلك سمات العاجزين الذين يعيشون بثقافتهم على أكتاف الآخرين، وهذا لا يعني ألا نستفيد من كل ما أبدعته الثقافات العالمية، والآداب الإنسانية، وإنما أريد التأصيل لكل ما يخدم ثقافتنا، وفكرنا، وواقعنا، وأمتنا دون أن يتعارض ذلك مع فكرنا الإسلامي الحنيف، وليس أدل على ذلك إلا المذاهب الأدبية ، والنقدية التي نشأت في غير عالمنا. صحيح أنها مذاهب نقدية، وأدبية فعالة، وحساسة تؤطر لحركة الفكر الإنساني؛ إلا أنها مستغله في بعض جوانبها من مفكرين غير أمينين على التراث الإنساني، بل هم عوامل هدم، وتدمير، وتخريب لكل ما هو جمالي، وخيري، وإنساني، ولكن بطرق دقيقة.
ولن أتوسع كثيراً في ذلك (فالوجودية والسريالية) كمذاهب أدبية حاولت الثورة على جمود الأدب، وسعت لتطويره، ولكن من خلال ذلك أدخلت السم بالدسم، فالوجودية مثلاً اعتبرت أن الإنسان محور الوجود، وأنه بعد الحرب الكونية التدميرية الأولى، والثانية كان على الإنسان أن يهتم بوجوده، وحبذا لو كان ذلك دون ا قتران برفض فكرة الألوهية والأديان، والموروث الإنساني.
كما أن السريالية نقلت الشعر نقله كبيرة بمحاولة الارتقاء به إلى التلقائية ، والعفوية ولكنها دمرت الأدباء والشعراء من ناحية ثانية بدعوتهم إلى استعمال المخدرات، والحشيش، والأفيون من أجل تحريض العقل الباطن على استنزاف ما يختبئ في تلافيفه من قضايا لم يستطع الإنسان إخراجها في وعيه الكامل.
لقد دعا الكثير من فلاسفة الشعر، والأدب إلى ضرورة الخروج بالأدب إلى سماء الجنون، وهذه قضية قديمة منذ أيام شياطين الشعر مدعين أن بين الأدب، والجنون قناة اتصال، ولكنهم نسوا، أو تناسوا أن الأدب هو اختراق للواقع، وصدام معه، ومحاولة لتغييره وبالتالي فهو يحمل لواء التغيير، وكل تغيير في عرف المجتمع جنون، الم يتّهم أهلُ مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون مرة، وبالشاعرية مرة أخرى، وبالكهانة مرة ثالثة. صحيح أن بين العبقرية والجنون قنوات اتصال ولكن ذلك لا يعني أن الأدب جنون.
مسؤوليات الناقد
ما تزال المناقشات دائرة بين معظم الأدباء على ضرورة وجود النقد بشكل عام، لأنه هو الذي يعطي للعمل الأدبي قيمته الحقيقية، ولكنّ نقاط الخلاف بينهم تتمحور حول:
كيف يكون النقد موضوعياً ؟ وما مسؤوليات الناقد التي يجب أن ينطلق منها النقد حتى يكون منصفاً؟ وما من شك أن وجود التداخل بين فعاليتي النقد، والأدب جعل مقاييس النقد، ومسؤوليات الناقد مضطربه ، ومتداخله، ومتكاملة؛ فوجود نص عظيم يعني وجود نقد عظيم، ووجود أدباء عظماء يعني وجود نقاد عظماء؛ وإن مسؤولية النقد تجاه الأدب لا تعني أن يكون الناقد شرطياً يحمل عصاً تكيل الضرب للأديب إن هو أخطأ في رؤيةٍ من رؤياه، أو خرج على المألوف، وأبدع فكرة جديدة ، كما أن الناقد ليس موزعاً للجوائز إن رأى أن الأديب قد وافق فكره، أو هدفاً يؤمن به.
من هنا ، فإنه لا بد للناقد المنصف أن يتصف بمجموعة صفات على رأسها خصيصتان هامتان.
الأولى: أن يكون ذا ذوق نقدي "ملكة" تؤهله لتذوق النصوص
الجميله، وكشف النصوص الرديئة.
والثانية: أن يمتلك ثقافة أدبية ، ومعرفية، وعلمية تؤهله في
معرفة الغثّ من السمين، وتساعده في التفسير،
والتحليل، والتقويم، والمقارنة، والتقييم
ومن ثم لا بد أن تتوافر في الناقد مجموعة من الشروط حين يريد أن ينقد أي نص أدبي هي:
1- الحياد: وهذه أولى شروط النقد الموضوعي الصادق،
لأن حياديتة تجعله منصفاً في الحكم على أي
عمل أدبي بحيث يعطي النص المنقود وضعه
الطبيعي، وما أصعب أن تتحكم الأهواء فـي
عملية النقد، لأنها تودي بالأديب، والناقد إلى
الموت التاريخي.
2- الإبداع: بحيث يستطيع هذا الناقد أن يرفع الستار عن
نص لم يسبقه إليه أحـد، ويوضـح عناصـر
الجمال، والخلود فيه.
3- التوليد: بحيث يكشف عن حقائق الجمال، والحق،
والخير فيما ينقده، ويولد للأدباء آراء من
رصيده المعرفي.
4- الإرشاد: بحيث يرد إلى جادة الصواب أديباً لا يعرف
موقعه الحقيقي في ساحة الأدب.
5- البحث عن الحقيقة ذاتها التي هي غاية الناقد، والأديب، والفيلسوف؛ لا لغرض ، إلا لأنها الحقيقة.
6- الابتعاد عن التلقين، وإسداء النصائح بشكل مباشر ، لأن مهمة الناقد كما أشرنا البحث عن مواطن الحق، والخير ، والجمال من غير دعوة فاضحة.
7- الابتعاد عن التزمت تجاه مذهب فكري، أو أدبي، أو سياسي، أو اتجاه نقدي.
8- تجنب التعميم في الأحكام، أو الجزم بها على أنه لا يمكن لنا أن نعمّم أحكامنا على أدب برمته؛ فكيف بنا أن نعمم الحكم على أديب ما، أو نجزم بجمالية نص ما؟
فكم من الأدباء يمتلكون نصوصاً متباينة. فقد يعثر النقد على نص جميل، ويحمل من المواصفات الصحيحة ما يحمله.
9- الإشارة إلى مواطن الجودة ، ومواطن الضعف في النص نفسه، لأن كل نص مهما كان جميلاً؛ لا بد له أن يحمل بعض جوانب القبح، وإن كانت دقيقة، وتحتاج إلى دقة في كشفها ، وكذلك أي نص قبيح؛ إذا جاز لنا التعبير عن ذلك لا بدّ أن يحمل عناصر الجمال التي تحتاج إلى دقة في الكشف عنها.
10-سعة الصدر: وتعني ألاّ يتأفف الناقـد مـن كثـرة
النصوص المنشورة، وألا يستخفَّ بها. بل لابد له أن يوجه عملية الإبداع، وينظمها على ألا ينظر لهذه المسؤوليات أنها أحكام ثابتة، وصارمة، ؛ فالنقد كما هو معروف- وما زالت أصر على ذلك – فن أكثر من هو علم له قواعده الثابتة ، والناقد فيه لا يسير على خطاً مقيدة. لأن النص الأدبي نص ذوقي ، فلا بد أن يكون الناقد متذوقاً، كغيره، ولكن تذوقه من نوع خاص – وما زلت أصر كذلك على أن للذوق أهمية عظيمة في ذلك – لأن الناقد الفذ من استطاع في نقده أن يضع اليد على الجرح كما يقولون، وأن يكشف عن عوامل الإبداع في النص المفقود، وأن يضع الأديب في طبقته المناسبة وبين أقرانه.
رؤيا المنهج الاجتماعي في دراسة النقد
يبدو أن للتأثير الاجتماعي في الكثير من جوانب الإنسان أبعاداً لا يمكن تجاوزها، خاصة في مجالي الأدب ، والنقد؛ وليس هناك من شك في أن الأدب يحيا تحت تأثير المنظورات الاجتماعية، وبما أن الأدب يأخذ بعض جوانبه من تأثيرات المجتمع، فلا بد للنقد أن يعتمد في حكمه على النظر في هذه المفهومات . وإذا نظرنا بشكل متفحص نجد أن المفهومات النقدية مأخوذة من المقاييس الاجتماعية.
لا نريد أن نمضي مع الفيلسوف الايطالي" فيكو" فنفسّر الإنتاج الأدبي تفسيراًماديايرتكز على العلاقةالحميمةبينه وبين المجتمع على أن لا يفهم من كلامنا أنّا لا نولي الجانب الاجتماعي في النقد والأدب أهمية ما؛ وإنما نريد أن نقول: إن تأثيرات المجتمع في النقد، والأدب تأثيرات هامة تتوافق مع التأثيرات النفسية، واللغوية ، والنفسية؛ فالنقد كما يقول (رولان بارط) لحظة في هذا التاريخ الذي ندخله ، والذي يقودنا إلى الوحدة إلى حقيقة الكتابة.
وما دراسة الأدباء وفق تمايزاتهم الجسمية والخلقية ، والعقلية وحياتهم الاجتماعية ، والعائلية ، والمادية إلا تطبيقاً للمنهج الاجتماعي النقدي. وهذا يدل على تأثيرات الجنس، والبيئة والعصر على فكر الإنسان، ونقده ، وأدبه.
لا نريد أن نطبق على أدبنا ما يطبق على الآداب الأوربية، فلكل أدب خصائص مستقلة، وإن كانت الآداب لها مواصفات عامة. وإنما نريد أن نشير إلى أن التأثيرات.
الاجتماعية على الآداب تدرس من خلال المضمون الاجتماعي كوثيقة وككيفية يظهر من خلالها العمل الأدبي.
وما الأعراف النقدية الأدبية ، إلا انعكاس للأعراف الاجتماعية لأن جمالية الأدب مستمدة من جماليات المجتمع، والناقد هو الذي يحكم على حقائق هذه الجماليات.
ولو حاولنا استعراض الدراسات الاجتماعية للأدب كدراسات – السيد ياسين – في كتابه (التحليل الاجتماعي للأدب) ودراسات – غالي شكري – (سيكولوجيا النقد العربي الحديث)، على سبيل المثال ، وغيرها من دراسات نقدية لوجدنا أن معظم ما كتب في النقد الاجتماعي كان تطبيقاً لنظريات أوربية وأجنبية على أدب عربي له مقاييس مخالفة.
ذلك أن لكل بيئة اجتماعية عناصرها المكونة لها ، ومشاكلها الخاصة بها، وحلولها المناسبة لها وليس من المعقول أن يستورد الإنسان مقاييسه من مجتمعات أخرى ويطبقها على مجتمعه.
لقد عاش المجتمع العربي تقلبات كثيرة نشأ على أكتافها تغيرات سياسية جاءت قهراً وحملت المجتمعات على نهج طرق جديدة في التفكير وأدباؤنا ونقادنا بحاجة إلى فهم الواقع فهماً صحيحاً ومن ثم معالجته معالجة فعالة لقد كتب بعض الأدباء العرب عن وجودية مجتمعاتهم في الخمسينات والستينات مع أن هذه المجتمعات لم تعش اللحظة الوجودية بمفهومها السارتري بحيث تشعر أن هذه الأفكار الوجودية هي قناعات أديب بعينه لا قناعات مجتمعات مازالت مرتبطة بمبادئ مختلفة تماماً.
لا نريد أن ننقل الحديث من القضايا الأدبية إلى القضايا الفكرية وإن كان الأدب أحد جوانب الفكر بقدر ما نريد أن نشير إلى أهمية فهم الطروحات الاجتماعية التي يعيشها أدباؤنا. لقد عالج الشاعر نزار القباني مشاعر المرأة من وجهة نظر (جنسيه) ولم يعالجها من وجهة نظر إنسانية إنه يتحدث عن المرأة السيدة العاشقة الباحثة عن اللذة ولم يتحدث عن المرأة المقهورة إنسانياً المستلبه حقوقاً.
وكذلك تحدث الأدب المسمى بالماركسي عن شيوعية وسائل الإنتاج ونسي أو تناسى فطرية الإنسان في حب التملك والتي أكد عليها الإسلام ورعاها حق الرعاية.
صحيح أن بعض الآداب الأجنبية أسهمت في التغييرات الاجتماعية في بلدانها من خلال التمهيد لهذه التغيرات بطروحات اجتماعية جديدة من خلال الأدب إلا أن أدبنا مايزال قاصراً عن إحداث تبدلات اجتماعية تمضي بالإنسان نحو الحق والعدل والخير.
وإن المتفحص لحركة الأدب في بلادنا يجد أن هناك انحساراً في دور الأدب الاجتماعي الذي طالما نشدناه نبراساً مضيئاً في ليلنا المظلم ولو استعرضنا ديوان الشعر العربي الحديث لوجدنا نصفه يتجه باتجاه (الموقف الحسي من المرأة) ونصفه الآخر يبدو (كزوبعة في صحراء لا تحدث إلا غباراً وضياعاً) وبقدر ما يتحسس الأديب واقعه الاجتماعي بقدر ما يكون قريباً من الآخرين حبيباً إليهم. وإن أية رؤيا اجتماعية لا تحقق للمجتمع تغيراً باتجاه الأفضل هي رؤيا فاشلة تقود صاحبها إلى السفسطة والكلام الفارغ والأدب رسالة اجتماعية فاعلة غايتها التغيير والتبديل.
أين يضع النقد الأدبي أقدامه؟
النقد إبداع، وكشف لحركة الحياة ، والنفس من خلال الكشف عن حركة الأدب الداخلية، والمجتمع الذي يرتقي إلى مرحلة الاهتمام بالنقد الأدبي يكون قد اجتاز ممرات كثيرة لأن النقد الأدبي بحد ذاته أعراف جمالية تستقي من المجتمع نفسه، وقد استطاع أجدادنا أن يورثوا لنا تراثاً نقدياً كبيراً من خلال مناقشة حركة الأدب المفرزة بطبيعة الحال عن حركة إنسانية. وفي هذا الزمن الصعب بمفاهيمه. وأدبه ورجاله يقف النقد حائراً أين يضع أقدامه؟ وكيف يمكن له أن يتحرك في زحمة من النصوص، والأجناس الأدبية التي تبحث عمن يكشف أفاقها، وأبعادها، وفضاءاتها؟
ولا شك أن النقد الأدبي فعالية مازالت مرتبطة بالأدب، على الرغم من نزوعها إلا الاستقلال عنه، فهو خطاب على خطاب وتربطه بالأدب علاقة جدلية علاقة تأثر، وتأثير ديالكتيك، وإذا كان نقادنا القدامى ينظرون إلى النقد على أنه (تمييز جيد الأدب من رديئه).
فإن النقاد المحدثين يرون في النقد الأدبي المعاصر آفاقاً أخرى، لأن النص الأدبي الحديث يتيح لنا رؤى "نقدية، متغيرة، ومتنوعة نفسية، واجتماعية، ولغوية، وأسطورية بحسب ثقافة الأديب أولاً، ورؤية الناقد الثقافية ثانياً، ذلك أن النقد الحديث طموح إلى إبراز وإظهار الحقائق المطلقة، فهو بحث عن الجمال، عن الفن، عن الفكر، عن المعاناة، والتجربة. وتزول من خلال هذا البحث عن جمال الحقيقة الحدود بين ما هو عقيدي، وبين ما هو نقدي، وتلغى نظرية (الفن للفن) .... أو (الأدب للأدب) ، ويصبح الفصل بين الأدب ، والأخلاق؛ أو العقيدة والأدب ضرب من المستحيل، ووهم خادع، وتتلاشى الحواجز بين الإبداع والنقد الذي ليس مجرد تمييز لجيد الأدب من رديئه بل هو فهم، وتفسير، وتحليل، وتقويم، وتقسيم، وتوجيه. لقد تطور النقد، وخرج من حدود الانطباعية إلى نظرية معرفيه تدخل فيها مختلف فروع المعرفة؛ وبتقديري: إن النقد لم يخرج عن كونه فناً إلى نظرية معرفيه متكاملة تخدمها مختلف العلوم الإنسانية بشكل تام.
لا أريد أن أسرد مفهومات النقد السابقة بل سأكتفي بالإشارة إلى أن مفهوم النقد قد طرأ عليه تحول، وتبدل، وتغير، وأصبح للنقد علائق كثيرة.
ولا مراء أن العلاقة القائمة بين الناقد، والأديب. حالياً هي علاقة غير مرضية، وإن كنت أرى أن بعض الأدباء يتمردون على أحكام النقاد، وهذا بالتالي يؤسس علاقة سقيمة مريضة فلا الأدب في موقع الاتهام، ولا النقد يستطيع أن يزعم أنه وصي على الأدباء. لقد ولّى عصر الوصايات لأن حركة التحضر، والتطور، والفكر تحتاج إلى تعاون، وتعاضد، وبرمجه.
وإذا لم يتحد الناقد، والأديب، فلن يكون هناك أدب، والخاسر الوحيد في ذلك هو (المتلقي القارئ) الذي يبحث عن نافذة تطور في زحمة الكون، والحياة. والناقد الحقيقي هو من أنصف نفسه أولاً فلم ينصّب نفسهُ قاضياً لأن مهمته أولاً، وأخيراً كشف عناصر الإبداع في النص الأدبي، كما أنه يفترض في الأدباء أن يستفيدوا من حركة النقد لأنها الخميرة الفعالة في بلورة الحركة الأدبية الإنسانية.
وإنني أهيب بالناقد الذي يرى في النص الأدبي المرجعية الأولى، والأخيرة، فلا يحكم على النص من خلال صاحبه، بل من خلال معطيات النص نفسه.
والحقيقة أن الساحة العربية مغرقة بنتاج أدبي كبير يحتاج إلى من يكشف عن بعض معطياته، ولكن النقد كالأدب يعاني من بعض القصور فإشكاليات النقد الثلاث (المنهج. الرؤيا. المصطلح) لم تحل حتى الآن.
ولم نجد من يحاول أن يؤسس لها بالشكل الصحيح إضافة إلى أن نقادنا لم يؤسسوا حتى يومنا هذا – نظرية للنقد – الأدبي العربي الحديث؛ صحيح أن نقادنا القدامى قد فرغوا من وضع أسس لنظرية (عمود الشعر)، و(نهج القصيدة العربية) وأسسوا لهيكلية وبنية القصيدة العربية، إلا أن نقدنا الحديث أمام تطورات جديدة في الحياة، والأدب والمعارف، والأجناس الأدبية كما أنه أمام تأثيرات مذاهب أدبية وافدة ، ومذاهب نقدية مستورده وأمام تداخل في النصوص العربية، والأجنبية، ولا يمكن لأي حركة نقدية أن تنهض إلا بعد أن ترى على الأقل الأدب في عافية.
وأعترف أن أدبنا ليس في عافية، فقسم كبير منه مقلد، إما للغرب، وإما للشرق، وأنا أرى أنه يجب أن يعاد النظر في كثير من الأسماء التي تعتقد أنها وصلت ذروة الأدب.
هؤلاء الذين يظنون أنهم عمالقة الأدب ،لأن كثيراً منهم لم ينهض إلا بفعل أيدٍ غريبة أو أفكار مأجورة أو أحزاب سقيمة أو انتحال لأدب الآخرين وذلك بترجمته وسرقته. لن أتباكى على النقد، والأدب كما يفعل الآخرون، ويصورون، ولكني أدعو إلى ضرورة الجد، والعمل، والتعاون للكشف أولاً عن جوانب الإبداع فيه، وجوانب الضعف ثانياً.
فالشعر مثلاًَ استطاع في عصوره السابقة أن يكون المرآة الصادقة لواقع، وهموم الإنسان، وقد كانت الغنائية في تلك العصور هي الطاغية ، ولكن واقع الحال أن الزمن الحاضر قد تغير بمفاهيمه، ومعارفه وطرق تعبيره، وأدواته، ووسائله، ولم يعد الشاعر يقف على تلة يتكئ على عصاً، وينشد معلقته والقوم ينظرون فيه نظر السقيم إلى وجوه العوّدِ ذلك أن مهمة الشاعر قد طرأ عليها الكثير من المتغيرات؛ فالشاعر صاحب عقيدة أولاً، وإن كان بعض الشعراء قد خلعوا عقائدهم أمام أبواب السلاطين، وصاحب كلمة ثانياً، وصاحب رؤيا واستبصار ثالثاً، والمغير لكثير من القيم الفاسدة رابعاً. والمنسق لقيم الخير، والحق، والجمال، والعدل خامساً، وكم من الشعراء ساهموا في صنع قيم مجتمعاتهم. لقد كان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وكعب بن مالك شعراء الدعوة الإسلامية، ساهموا مساهمة فعالة في الدفاع عن هذه الدعوة والعقيدة، واستطاعوا أن يحمّلوا شعرهم المضامين العقيدية الحقة، ولكن بعض شعرائنا اليوم يرون في الشعر فنّ اللهو بالكلمات، واللعب بسرك الشعر ركبوا موجة الغموض، وأبحروا وراء شعر الغرب، وتحللوا من القواعد الحقة للشعر، وزعموا أن الشعر تغير، وأن الحياة تبدلت، وأنه كما يدّعون على الشعراء أن يخرجوا على قانون الشعر. لقد بعض زعم المحدثين من الشعراء أنهم يريدون الخروج من دائرة التقليد للشعراء العرب القدامى، ولكنهم وقعوا في دائرة التقليد للشعراء الأوربيين.
وفي يقيني أن حركة التطور فاعلة لا محالة، ولكن ليس بشكل عشوائي، وما يفعله عدد من الشعراء المأجورين في سبيل الاتجاه بحركة الشعر إلى الانفلاش، والبعثرة، والتشتت، والتشرذم مدعين أن ذلك إنما هو خدمة لتطوير الشعر العربي، إنما يسهم في هدم حركة الشعر العربي، لا أريد أن أدافع عن القديم أو الحديث، هذه مسألة لن تحسم إلى الأبد، فالشعر عندي هو ما حقق شروط الفن الجمالي، والهدف القيمي سواء كتب على الطريقة الحديثة أم على الطريقة القديمة.
نقدية ثابتة، وفهم روح العصر، وما نتج عنه من ظهور لأديولوجيات كان لها الأثر بوجود تيارات أدبية، وفهم عوامل التطور التي تُساعد على ابتكار طرائق جديدة في الأداء الفني وتكوين الوعي النقدي بالتفكير النظري، والتدريب العملي من خلال مقارنات، وأسس نظرية، وعملية لا تحيد عن الأسس الجمالية أولاً. وفهم مظاهر التجديد وتقويمها من خلال التعمُق
المذاهب النقدية والمذاهب الأدبية
لا أشك أن تيار النقد الأدبي الحديث مازال يمشي بخطاً وئيدة عند العرب. وأكاد أجزم أن ما كتب في النقد عندنا لا يشكل مدرسة مستقلة لها أسسها ، وقواعدها، ومنطلقاتها النقدية، وإن كنت أرى أن أدبنا القديم، قبل عصر النهضة قد استقرّ على منهج (النقد الجمالي)؛ وإذا كان من عيب وقع فيه نقادنا هو هذه النظرات السطحية التي لم تمس إلا قشور الأدب. لأنها لم تحاول أن تتعمق في وجدان الأمة لتبحث عن الدوافع الدفينه، وراء مفرزات النفس الإنسانية، وإذا كان منهج القصيدة العربية، وعمود الشعر العربي قد استوعبا لفترةٍ كبيرةٍ خطا الشعراء، فإن العصر الذي نعيشه يحمل في طياته بذور أدبية جديدة، لابدّ أن يتبعها تيارات نقديـة جديـدة،(ولقد كانت الحداثة العربية في فترة ما جزءاً من الحداثة الأوربية) . كما يقول شكري عيّاد، وإن لم تتطابق معها كمّاً وكيفاً، وهذا يجعل الأدباء كما قلت، يعيشون على فتات موائد الثقافة المستوردة من أوربا في فترة ما، ومن أمريكا في فترة أخرى ومن لا يدري، فقد تكون الثقافة الجديدة مستوردة من ألمانيا، أو اليابان، أو روسيا القيصرية الجديدة. لقد بشّر أدباؤنا كما بشر نقادنا، وللأسف بمدارس أدبية، ونقدية حديثة، لا أريد أن أسميها لأن الكلّ يعرفها ولكنّها جميعها لم تصمد أمام واقع الجمال العربي لأنها كانت مستوردة ، ولم تعبِّر بالشكل الحقيقي عن معاناة الإنسان العربي الحقيقية، لقد تغنّى محمد عبد الوهاب بحياة الفلاح عام /1930/: (محلاها عيشة الفلاح) في حين كان الفلاح العربي في تلك الفترة يُعاني بحيث لا يحسدُ على حياته، وعيشته عيشةُ الذل والقهر، فكيف بالمذهب الوجودي السارتري يغزو ثقافتنا، ومثقفينا في الخمسينات دون أن يمسّ واقع الشارع العربي الذي كان يبحث عن حلٍ سياسي لا عن حل فلسفي ناهيك عن المذهب السريالي وأندريه بريتون الذي غرس أنيابه في جسد المثقف العربي الذي يُريد أن يعرض عضلاته لا أن يُصارع ، وكيف بمواطن يعيش حالة ما فوق الواقعية في زمن تفرض عليه الظروف أن يعيش في عمق الواقع وفي وجدانه.
لقد اعتمد بعض نقادنا على الغربلة، أو الأدب المهموس أو الثورة على الشكل والمضمون، ولكنهم نسوا أن أدبنا ليس جثة ميتة بحاجة إلى تشريح لمعرفة سبب موته، وإنما هو روح نابض بحاجة إلى من يدرس ظواهر الغربلة فيه، والتشرذم، والضعف، والمرض، وكيف يمكن لهذا الأدب أن يتماثل إلى الشفاء ، ويتابع مسيرته المستقبلية، وهذه ليست صيحة في وجه الأدب بقدر ما هي واقع يجب أن نعيشه.
ولن نرجع إلى الحاتمي، أو حازم القرطاجي، أو الأمدي، أو ابن المعتز، أو قدامه، أو ابن سلاّم إلا مستأنسين لأننا نريد أن نعيش واقع الحياة وواقع الأدب كي نصل إلى حالة متوازنة، كما أننا لا نريد أن نستورد أفكاراً أو مذاهب أوروبية، أو نقدية لا علاقة لها بحياتنا، وإن كان هناك من حاجةٍ ما ، فإنما هي حاجتنا للتأطير الحقيقي، لا الوهمي ، والخيالي. ولقد أطلق لفظ تيارات أدبية على أدبنا العربي الحديث، بينما أطلق لفظ مذاهب على الآداب الأجنبية، ذلك أن المذهب الأدبي الغربي وحدةٌ متلاحمة شكلاً، ومضموناً مبنيٌّ على جملةٍ من المبادئ جمالية وأخلاقية وفلسفية وحياتية متضامنه. ساعد على بلورتها نقاد، وأدباء موهوبون ، بينما التيار الأدبي الحديث عند العرب لم يخضع لهذه الأمور، ولم يكن بالدرجة العقلانية العالية، كما أن المذاهب الأدبية الغربية كانت في ولادتها ، وتطورها، وموتها وليدة ضرورات تاريخية، كظهور طبقة اجتماعية، ونزول طبقة أخرى. فالرومانسية وجدت على سبيل المثال بسبب نمو الطبقة البرجوازية، والواقعية صعدت بأفول الطبقة البرجوازية ؛ وإذا كانت المذاهب الأدبية الأوربية قد حَررت الأديب من الإلهام الشخصي، وعفويته، ومن الإبداع الفردي، واعتمدت على قواعد، وضوابط مهمتها الارتقاء لمرتبة الكمال؛ فإن أدباءنا، ونقادنا لم يتحرروا من عفوية الإلهام، والإبداع، وإن تحديد فترات متمايزة لظهور مذاهب أدبية عندنا لا وجود له في حياتنا. إذْ أنها وفدت علينا دفعة واحدة بعد هزيمة العثمانيين وحلول الأوربيين بدلاً منهم. وفي حالة كحالة أدبنا المحاكي للآداب الأجنبية جعل نقادنا ينهلون من معين هذه الآداب، والمذاهب، ويطبقونها على أدبنا الحديث لكشف سماته وتمييز سبله واستكناه العلاقة القائمة فيه بين المستوى النظري، والعملي. فعلى الصعيد النظري هناك جملة من الخواطر تفرض نفسها من خلال الحرص على العمق في التعرف على هذه التيارات ، والعناية بالنظريات الخصبة لتحديد سمات المذاهب الأدبية انطلاقاً من أهمية الآثار الشعرية المتولدة بتأثيرها، ومن الفائدة من المناقشات المثارة حول ذلك ثم توضيح هذا الفكر النظري، وتبنيه من خلال بلورة أفكار النقاد، وما طرأ عليها من تلوين جديد، وتسليط العقل على عمل الفنان ليقترب عمله من الموضوعية، ومن ثم ربط النظريات الفنية بالأدبية على اعتبار أن الصّلة وثيقة بين الفن والأدب، والحياة والإنسان. وعلى الصعيد العملي هناك ضرورة التنبيه إلى حركة دينامية الإنتاج الشعري الحديث، إذا أن حركة الصراع بين القديم والحديث بشكل جدلي تؤدي إلى تطور الأدب، وقد تبلورت هذه الحركة في أمور من مثل ظهور اتجاهات فنية جديدة فردية أحياناً، وجماعية أحياناً أخرى، وظهور فئتين من الشعراء:
أصحاب القديم ذوو الشخصية العربية المستقلة المفتونة بمقومات القديم اللفظية، والأسلوبية، وأصحاب الجديد المتمثلون للشعر الغربي، وأنماطه ، وصوره، وأساليبه مستلهمين نماذج القصيدة الأوربية المتحررة، ومن ثم تجديد المضمون عند أصحاب القديم والجديد بعد أن شعرت الفئتان بضرورة التفاعل مع الواقع والحياة والموضوعات المستحدثة . وإنه لمن نافلة القول أن أشير إلى أنّ البحث في المذاهب والتيارات الأدبية جاء نتيجة ارتباط الابتكار الفني بالتراث الإنساني، وفقدان النظريات الجامعة المؤسسه على مناهج بالمذاهب الغربية ورصد ما أحدثته في مجتمعاتها، والوقوف على الأسس الجمالية المؤثرة بنقدنا الحديث، ورصد حركة النقد العربي الحديث، والكشف عن علاقتها بالإنتاج الأدبي لأن النقد أداة لتطور الأدب والأدب هو ابن الحياة يخضع لقوانينها وظواهرها وأسبابها.
النقد ليس مصطلحات جوفاء
لم يفهم النقد بمعناه التطبيقي العملي كما فهمه أسلافنا الجاهليون، ولم يفلسف النقد بمعناه النظري كما فلسفه الأوروبيون حديثاً، وبين الفلسفة النظرية للنقد الأوروبي، والتطبيق العملي لنقدنا في الجاهلية ضاع المبدع العربي، وتاه به السبيل وتوزعت موهبته بين مجاراة النظره العملية للخطاب النقدي، وتمثل الشبكة لهذا الخطاب، ومن هنا بدا النقد من وجهة نظر الكثير من الناس هذراً لا طائل تحته وكلاماً لافائدة منه وأنت عندما تستعرض أسماء الكتب النقدية المؤلفة حول الأدب تلمس جيلاً من المصطلحات يكوّن عبئاً على الأدب نفسه، ويحوله إلى جنازة فجائعيه يندب أصابها ضياع إكسير الأدب، وهم معتقدون أنهم إنما يزفون لهذا الأدب عروسه الضائع.
فبين الألسينه والبنيوية والأسلوبية والذرائعية والرمزية والسرياليه والرومانسيه والدادائيه تشظت شخصية الأديب وتاهت رؤيته الشعرية وأصبحت نصوصه الإبداعيه نهب الضياع والتشرد والهلوسه وأصيب الأدب بنوع من الهلع وتحول إلى نوع من الأشباح السوداء القاتلة وزاد الطين بله ما رسمه النقاد من أطر جديدة استمدوها من معطيات معرفيه نظريه لو قسناها بمقياس الواقع لخرجت بالأدب عن حدوده الحقيقية لأن ما ينشده القارىْ أصبح في هذا الزمن غير ما ينشده المبدع وغير ما ينشده الناقد وهذه الثلاثيه جعلت الأدب جنازة صامتة فقضايا الجمهور (القارئ) قضايا الحرية والمساواة والعدل والحق والخير والجمال والأدباء لا يستطيعون ملامسة هذه القضايا لأنها على تماس مباشر مع السلطة والنقاد يتفلسفون بمفهومات هائمة غائمة معظمها مستورد من مفاهيم نبتت في تربة غير تربتنا من جهة ويوجهون الأدباء من جهةثانية ويفوزون برضى السلطات من جهة أخرى وهذا ما جعل النقد أعرافاً عائمة لا وجود لها على أرض الواقع.
إن مهمة النقد لم تعد إيجاد تعاريف ومصطلحات جوفاء لا جذور لها في الواقع وإنما أصبحت مهمته خلق جيل من الأدباء يعون واقع أمتهم ويفهمون عمق مشاكلها حتى يستطيعوا حل تلك المشكلات، وخلق جيل من القراء يفهمون الأدب على حقيقته، ويجسدون ذلك الفهم وعياً فاعلاً في دفع حركة الحضارة باتجاه الأحسن، والأجدى، والأعمق حتى يصل الإنسان إلى منشده المطلوب الحق، والعدل والخير والجمال. إذ أن القارئ والأديب لا يهمه من النقد مصطلحاته بقدر ما يهمه أن يدفعه نحو الوعي الفاعل أما تفسير الظواهر فلا إشكال فيه، ولا غبار عليه، وأما تعليقها فمسألة مهمة، وغاية فاعلها، وأما إيجاد نقد موجه، ومبرمج للأحسن، والأجدى فغاية الغايات لأن مهمة الفنون الإمتاع والإقناع ، ولا فن بلا نقد ولا نقد بلا هدف.
الذائقة النقدية
لا يمكن لأي أديب في هذا العالم أن ينسى أن النقد في مجملهِ أولاً وأخيراً يعتمد على الذوق السليم والمعافى ، وأن تحليل العملية النقدية إنما هو في حقيقتهِ تحليل للذائقة نفسها التي تتألف من عنصرين أساسيين :
أولهما: رهافة دقيقة ورقة في تحسس الجمال وعناصر تكوينه في الأشياء المحيطة إذ أنّهُ لا يمكن لأي ناقد أن يدّعي النقد دون أن تتوافر له موازين الجمال أو أدوات اكتشاف عناصر الجمال وليس كل من لديه قدرة على التذوق الأدبي لديه القدرة على التذوق النقدي فكلا الذائقتين منفصل عن الآخر وإن كانتا متداخلتين في عملية اكتشاف عبقرية الأديب ولا أعتقد أن رهافة الإحساس وحدها تكفي في الحكم عليها فالذائقة النقدية أوسع دائرة من الذائقة الأدبية وأشمل منها وأكثر دقة في التوصيف منها.
ثانيهما: ثقافة ومخزون معرفي كبير من خلالهِ يضع الناقد يدهُ على الكثير من القضايا الكونية والإنسانية وعلى رأسها قواعد علم الجمال الحياتي والكوني والإنساني ولا أعتقد أن أي ناقد
يستطيع أن يؤطر عملية نقدية ولو لجملة أدبية دون أن تختمر غريزتهُ النقدية بمعارف عصره والعصور السابقة لهُ والعلوم والمعارف الإنسانية متعاضدة ومتداخلة نتائج بعضها ينعكس على البعض الآخر .
والناقد الحق من يتحسس عمق وبعد الجملة مهما دقت وخفت من خلال ذائقته الغريزية والمكتسبة ويصدر عليها حكماً ما .
ولو أردنا أن نتحقق من عمق الذائقة وبعدها الفاعل في كشف عناصر الجمال فما علينا إلا أن نضع النص الأدبي في فرن الشاعر لندرك المعادن النفيسة فيه والمعادن الخسيسة ولنعلم أن العملية النقدية عملية صهر للنصوص وحرارة الناقد وحدها القادرة على كشف جماليات هذه النصوص .
إن كلمة الذائقة المرتبطة جملةً وتفصيلاً بالذوق الذي هو كشف لمختلف الطعوم في النصوص الأدبية إنما هي العامل الحاسم في كشف مغاليق النص وأبعاده ورؤى صحابهِ وقدرتهِ الاستبصارية
ومخزونه المعرفي الثقافي. ولو أن هذه الذائقة ليست قائمة في عمق الناقد لما استطاع الناقد توصيف عناصر الجمال في النصوص الأدبية القديمة والمعاصرة . ناهيك عن أن هذه الذائقة النقدية هي ذات مستويات متباينة أو لنقل إن لكل ناقد ذائقته الخاصة به والتي تحتل مكاناً خاصاً ومنزلة متميزة عمقاً وبعداً عن ذائقة ناقد أخر ونقاد الأدب والنقد مختلفون منزلة وحكماً على مر العصور من خلال تعاملهم مع مفرزات عصرهم وإبداعاتهِ .
من هو الناقد الرديء
إذا كان النقد بمضمونهِ الحقيقي وروحهِ الصافية هو الكشف عن إكسير الأدب وروحهُ الإنساني وبعدهُ العميق فإن الناقد الناجح والجيد هو الناقد الباحث بين طيات النص الأدبي عن روح الأدب ولفتاتهِ الطريفة إلى نقطة الاستلاب التي يبحث عنها المتلقي والتي هي أولاً وأخراً إشباع الروح بجمال العبارة معنى ومبنى وكل أدب لا يسعى ( لإشباع الروح يبقى أسير النزعات الوهمية ، وإذا كان هَم الناقد البحث في النصوص الأدبية عن سلامة اللّغة وإقامة القواعد النقدية والبحث عن لفظ رائق وكلام فائق أو معنى غامض أو صورة غريبة أو موقف مشاكس وترك طرافة الموضوع ومتانة النسيج وعمق الفكر وامتلاء المعاني وإشباع الموضوع المطروق وتمكن الأديب من أدواتهِ النقدية فإنهُ يحشر نفسهُ في زمرة الملقنين الذين يقفون أمام النصوص دون أن يدخلوا إلى عمقها ويكتفون من الأدب بقشوره دون أن يصلوا إلى لبه . وكل عملية نقدية لا تقتحم النص وصاحبه وعلاقاتهِ بالنص أجدر بها ألا تدخل في باب النقد ومن هنا كانت الأحكام النقدية في بعض مراحلها تنصب عندنا على الشكل دون العمق وتقف عل شاطئ النص دون الغوص بهِ إلى أعماقهِ .
وفي تقديري لو أنّا أردنا أن نرتقي بالنقد فما علينا إلا الخروج بهِ من التوصياتِ إلى الأحكامِ بعد رصد حركة بنائهِ وتطلعاتهِ وآفاقهِ إذ أن العلاقة بين الناقد الجيد والأديب الجيد علاقة تكاملية تسهم إسهاماً حقيقياً في رقي حركة الإنسان نحو الأفضل إن نقاد المتنبي وشكسبير لم يصلوا إلى عبقرية هذين الرجلين حتى سبروا أعماق نصوصهما وكشفوا عن عمق إكسير الأدب فيهما وإذا كانت العملية النقدية عملية تشريحية لجسم النص التي تظل ترفرفُ فوقهُ مظللة على القارئ سحابة من الجمال والحسن والتوازن.
هل حوّل النقاد الأدب
إلى جنازة فجائية ؟
لم يُفهم النقد بمعناهُ التطبيقي العملي كما فهمهُ أسلافُنا الجاهليون ، ولم يفلسف النقد بمعناه النظري كما فلسفهُ الأوربيون حديثاً ، وبين الفلسفة النظرية للنقد الأوربي ، والتطبيق العملي لنقدنا في الجاهلية ضاع المبدع العربيّْ ، وتاهتْ بهِ السبيل وتوزعتْ موهبتهُ بين مُجارة النظرية العملية للخطاب النقدي ، وتمثيل الشبكة النظرية لهذا الخطاب ، ومن هُنا بدأ النقد من وجهةِ نظرِ الكثيرِ مِنَ الناس هذراً لا طائلَ تَحتهُ وكلاماً لا فائدة مِنهُ وأنتَ عندما تستعرض أسماء الكتب النقدية المؤلفة حول الأدب تلتمس جيلاً من المُصطلحاتِ يكوّن عبئاً على الأدبِ نَفسهُ ، ويحولُهُ إلى جنازة فجائية يندب أصحابُها ضياع إكسير الأدب ، وهم معتقدون أنهم إنما يزفونَ لهذا الأدب عروسهُ الضائعْ ،
فبينَ الألسنةِ والبنيويةِ والأسلوبِ والذرائعيةِ والرمزية والسريانيةِ والرومانسيةِ والدادائيةِ تشظت شخصيةُ الأديب وتاهت رؤيتهُ الشعريةِ وأصبحت نصوصهُ الإبداعيةِ نَهبْ الضياعِ والتشردِ والهلوسةِ وأصيب الأدبُ بنوع من الهلعِ وتحول إلى نوع من الأشباحِ السوداء القاتلةِ وزاد الطينَ بلةٍ ما رسمهُ النقّادُ من أطر جديدة استمدوها من مُعطياتِ معرفيةِ نظريةِ لو قسناها بمقياسِ الواقعِ لخرجتْ بالأدبِ عن حدودهِ الحقيقيةِ لأنَ ما ينشدهُ القارئ أصبحَ في هذا الزمانِ غيرَ ما ينشدهُ المبدعُ وغيرُ ما يُنشدهُ الناقدْ وهذهِ الثلاثيةِ جعلتْ الأدب جنازة صامتة فقضايا الجمهور ( القارئ ) قضايا الحرية والمساواة والعدل والحق والخير والجمال؛ والأدباء لا يستطيعونَ ملامسةِ هذهِ القضايا لأنها على تماس مباشر مع السلطة والنقاد يتفلسفونَ بمفهوماتِ هائمة لأنها غائمة في معظمها مستوردة من مفاهيم معرفية نبتت في تربة أدب غير أدبنا ظناً منهم أنهم يرضونَ الجمهور من جهة أخرى وهذا ما جعلَ النقد أعرافاً غائمة لا وجودَ لها على أرض الواقع .
إن مهمة النقد لم تعد إيجاد تعاريف ومصطلحاتِ جوفاء لا جذورَ لها في الواقع وإنما أصبحت مهمتهُ خلقْ جيل من الأدباء يعون واقعْ أمتهمْ ويفهمونَ عمق مشاكلها حتّى يستطيعوا حل تلك المشكلات وخلق جيل من القراء يفهمون الأدب على حقيقتهِ ، ويجسّدونَ ذلكَ الفهمْ وعياً فاعلاً في دفع حركةِ الحضارة باتجاهِ الأحسنْ والأجدى والأعمق حتى يصل الإنسان إلى منشده المطلوب (الحق والعدل والخير والجمال ). إذ أن القارئ والأديب لا يهمهُ من النقد إلا ما يدفعهُ نحو الوعي الفاعل ، وأما إيجاد نقد موجهُ مبرمج للأحسن ، والأجدى فغاية الغايات لأن مهمة الفنون الامتاع والإقناع ، ولا فن بلا نقد ولا نقد بلا هدف...
معمارية النص الأدبي
لا يمكن لأي نص أدبي أن يُحقق مستوى معمارياً مناسباً دونَ أن يحقق الحد الأعلى من المبادلات التوافقية بين الألفاظ والمعاني التي تعبر عنها هذه الألفاظ ، وإذا كانت الألفاظ هي ثياب المعاني ، فإن المعمارية البنائية للنص تقتضي أن تضع هذه الألفاظ الوضع الذي يقتضيه المستوى النحوي لهذه الألفاظ ضمن سياق الجمل والتراكيب إذ أن اللغة مجموعة مبادلات لا مجموعة مفردات وألفاظ وإنهُ لا يمكن للمبدع أن يحقق معمارية النص إلا إذا كان هذا المبدع مستوعباً لقيم هذه المبادلات بين ألفاظ اللغة إذ أن المفردة أو اللفظة لا تنفصل قيمتها عن قيمة ما يجاورها من الألفاظ ولو أن معمارية أي نص تقف عند تحقيق المبدع لصحة المفردة أو لفصاحتها لكانت كل النصوص الأدبية متميزة معمارياً.
صحيح أن هناك مفردات تحمل شفافية وجرساً وإيقاعاً وإيحاءً خاصاً إلا أن هذه الشفافية وذلك الإيقاع لا يؤديان المهمة الموكلة لهما إلا حين تظهر تلك المفردات ضمن سياق الجمل .
وإن أي وضع للألفاظ في الوضع الذي يقتضيهِ علم النحو دون أن يكونَ هناك لمسات فنية من حيث التقديم والتـأخير والخبر والإنشاء واستعمال الروابط بين الأفعال والأسماء استعمالاً دقيقاً لا يحقق المعمارية الحقة التي ينشدها المتلقي وإن كان لا يدرك عمق مبادلاتها ولا يسعى إليها من ليس لديهِ خبرة في علم النحوهذا من جهة وعلاقة المعاني بالألفاظ من جهة ثانية حتى إن جمال الصورة البيانية والبديعية لا يتحقق إلا من خلال المبادلات النحوية واللغوية التي من خلالها نحس بلطف المعاني وشفافيتها .
نحنُ لا نريد كلاماً مستقيماً فقط بل نريد كلاماً مستقيماً ذا معمارية ساحرة حسنة لأن تواصل الألفاظ إنما هو تواصل للمعاني والأفكار وتوالي لها وكم من كلام مستقيم لا يُعد من الإعجاز المعماري لأنهُ إماأن يأتي بشكل بسيط أو لأنهُ لا يحسن استخدام الروابط فبين الحال والصفة مفردات وجملاً فوارق دقيقة لا يدرك عمقها إلا معماري حذق وفي اعتقادي أن النص الأدبي إنما هو ولادة متكاملة للمعاني والألفاظ معاً ولا صحة للمقولة القائلة إن المعاني تولد أولاً ثم تليها الألفاظ وأن هذه الألفاظ هي تبع للمعاني إذا أن الجملة الأدبية إنما هي وحدة عضوية تولد ولادة كاملة وتظهر إلى الوجود بعد أن يفرغ الذهن المولد لها من إبداعها .
إن استقامة الكلام من حيث هو قواعد ( نحو ــ صرف ـ ... ) لا يشكل عملاً أدبياً مهما حاولنا ، اللهم إلا إذا كان صاحبُ هذا الكلام يملك بديهة لغوية غريزية تدرك حجم كل مفردة وما يمكن أن تؤديهِ من دور حين تتجاور مع غيرها أو أن تشترك معها في سياق معين . إن معمارية النص الأدبي هي بذاتها هندسة حقيقية لجينات الألفاظ حين ترتبط مع المعاني .
عمود الشعر العربي
واستمرارية الحكم النقدي
لم يضع الجرجاني أبو الحسن علي بن عبد العزيز –ت 392 هجري – نظريتهُ في عمود الشعر العربي ، إلا بعد أن تكون لدى العرب على مر العصور ، وكر الأزمان رصيد كبير من الشاعرية وأصبح الشعر كائناً نامياً ومستقلاً بفضل هيمنة الكثير من الشعراء على النص الشعري وإنتاجهم للكثير من النصوص المتفردة في صناعتها بعد إدراكهم لعناصر الجمال في الحياة والأدب ،
وقد قسم الجرجاني هذه العناصر إلى :
آ – شرف المعنى وهو مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبة المعنى للموضوع المطروق بحيث لو تحدث الشاعر عن الغزل كانت معانيه تمس شفافية الجمال الروحي الممزوج بجماليات العناصر الحسية إذا كان الشاعر واصفاً لحسن المحبوب ودماثتهِ ، أو كانت عاطفتهُ متقدة حارة إذا يتحدث عن لواعج الشوق والحرمان والبعد وهكذا في الأغراض الأخرى ، ولا يمكن لنا الحديث عن معاني شريفة بمعزل عن المواضيع المطروقة سواء أكانت عاطفية أو حسية أو معنوية أو إنسانية وما يعنينا من شرف المعنى هو ( سمو ) هذا المعنى المعروف من خلال النص وممارسة هذا المعنى لقيم الروح والنفس والعقل دون أن تصل إلى حد الإسراف أو أن تنزل إلى حضيض التفاهة في المعاني ونحن نعلم أن الشاعر أحد اثنين إما مقلد لمعاني تعبر عن قيم دونية يستمدها من توافق المجتمع المحيط بهِ ويعكسها في نصهِ الشعري إرضاءً للذوق العام المحيط بهِ ، وإما مبدع لمعاني جديدة تعبر عن مستوى الذوق العام وتوجه هذا الذوق العام باتجاه الأرفع والأحسن وعند ذلك تنماز شاعرية شاعر ما عن آخر ويقبل الباحثون على الأدب الحقيقي وعلى نصوصه بينما يبقى الشاعر صاحب المعاني الدونية أسير نصه ، بل يصبح محط أنظار واصفيه بالضعف والركاكة .
2- صحة المعنى : وهذه الصفة أكثر دقة من سابقتها إذا يقع الكثيرمن الشعراء في بؤرة وحلها بحيث نجد الكثير منهم يحاول الإتيان بالمعنى الطريف فيقع في شراك الغموض والمبالغة الممجوجة والبعد عن المنطق وعندي أن لكل معنى من المعاني نسق من المنطق بحيث يتمشى مع الجودة المبتغاة والحسن المطلوب الذي يجعل صاحب المعنى مثلاً أعلى من جنسهِ تسعى إليهِ عناصرُ القبول والرضا وكل انحياز عن منطقيه المعنى وقوع في الغلط و الخطأ ومن ثم ظهور هذا المعنى بأسلوب ممجوج ولا يكون ذلك إلا بسبب تلجلج المعاني في (لاوعي الشاعر ) وعدم وضوحها في مساحة الوعي عندهُ أو أن هذا الشاعر يريد أن يتفرد بوصفه صفة ما فلا يحسن توصيلهُ أو أنهُ يتحدث عن موضوع ذي معاني لم تختلط بدمائه ولم يعش عمقها في وجدانهِ .
إن صحة المعنى لا تعدو أن تكون المنطقية بحد ذاتها من النصوص المفرزة ولا تشكل لوحة متناسقة لأن المعاني غير المنطقية تلبس ألفاظاً أكبر من حجم عظامها أو أضيق منها ذلك أن رابطاً ما يربط بين فيزيولوجية المعنى و فيزيولوجية ألفاظهُ.
3- جزالة اللفظ : وهي ميزة عزيزة في الشعر بحيث تبدو الألفاظ ثياب للمعاني مفصلة لها تفصيلاً دقيقاً بحيث لا تكون معقدة غريبة بعيدة عن استعمال الناس لها ولا هي ضعيفة ركيكة يكثر العامة وغير المتذوقين من استعمالها . وليست الجزالة التي تربط في معناها الأول بقدرة ( جزل الغضا ) على التجمر حين إحراقهِ إلا المخزون المدفئ والمضيء للنفس من خلال تسابق الدلالات في ذهن المبدع وتوافق الدلالة مع اللفظ ، ولا يعني ذلك استعمال الشاعر لألفاظ معينة بدلالاتها إذا أن الشاعر يكوّن قاموسهُ اللفظي من خلال مُعايشتهِ لمجتمعهِ وقضاياهُ ولمبادلاتهِ الثقافية والحياتية ومعانيه لقضايا ومشاكل تكون من خلالها أداتهُ اللغوية ألفاظ معانيها إذ أن لكل عنصر لغتهُ ومعانيهِ وتعابيره ومقاييسهُ الجمالية في اختيار اللفظ ، ناهيك عن أن لكل موضوع معاني خاصة بهِ ولكلِ معنى ألفاظ متعلقة بهِ تعبر عن عمقهِ وروحه .
4- استقامة اللفظ : بحيث تكون مطواعة في أداء المعنى موحية في التعبير عنهُ أليفة في مواكبتة سهلة في رسم حدودهِ منطقية في سبر أغواره فلكل معنى من المعاني كما قلتُ ألفاظ تعبير عنهُ وتسير في ركبهِ وتصور روحهُ من خلال التزامهُ بقواعد العربية نحواً وصرفاً وسياقاً ، وكم من ألفاظ تبدو مستقلة مستقيمة في ذاتها ولكنّها حين تدخل في سياق الجملة والتركيب يظهر جفوها وغلظتها ونشاز طبعها وانحسار دلالتها أو انفلاش شفافيتها والشعر بطبعهِ كائن حساس لا يقبل من الألفاظ إلا ما يتناسب مع المعنى المعبر عنهُ ، وإن مقولة الرسول صلى اللهُ عليهِ وسلّم " إن من البيانِ لسحر وإن من الشعرِ لحكمة " لتدل دلالة عظيمة وعميقة على بعد استقامة اللفظ إذا أنهُ لا بيان ساحر إلا إذا استقام اللفظ ولا حكمة لشعر إلا بتحكم اللفظ بالمعنى وانقياد لهُ .
ب – عناصر جمالية : وهي لمسات الشاعر الفنان التي يضعها كبصمات واضحة على جبين لوحتهِ الشعرية إذا أن لوحة حياتيةالشاعر يريد أن يعبر عنها إنما تتميز بجمالية ما ،لا بدّ للشاعر من وضع أنامل مخيلتهِ عليها حتى حين تراهُ يتحدث عن القبح إنما يبرز معكوس عناصر الجمال فيه ليبدو لنا في صورتهِ المُرادة.
إن جمالية النص الأدبي لا تظهر إلا بمقدار ما يمتلكهُ الشاعر البدع من قدرة على التخيل بقسميهِ الواقعي والوهمي واستطاعتهُ تسخير هذا الخيال في رسم النص ومطابقة هذه الصورة لمقياس الجمال عند المتلقي ويظهر من خلال :
1- الإصابة في الوصف من خلال محاكاة الشاعر للصورة التي يريد وصفها سواء أكانت من مخيلتهِ الواقعية أو الوهمية بحيث يظهر المعنى صورة مادية أو معنوية مجسدة أو متخيلة قادرة على اختراق عمق المتلقي والاستيلاء على روحهُ وإرضاء تشوقهُ لحب الجمال والبحث عنهُ.
إن مسألة الإصابة في الوصف مسألة حساسة لا يستطيعها إلا ( كاميرا ) آلة تصوير حساسة جداً بحيث تلتقط أدق الصفات في الموصوف سواء أكان محسوساً أم غير محسوس ولن أضرب أمثلة فالكثير الكثير من شعرائنا أصابوا كبد الحقيقة في أوصافهم واخترقوا عمق الوجدان في رسم موصفاتهم .
2- المقاربة في التمثيل بحيث يتلبس المشتبه بهِ وتبدوا الصورة متجانسة تجانساً طبيعياً فطرياً غير خارجة عن حدود المعقول من حيث العناصر الجمالية التي وضعها العقل والخيال والوجدان والنفس كميزان لهُ حين يريد أن يبلغ الذروة في المتعة ذلك أن الجمال متعة بحد ذاته وكل صورة لا تناسب فيها بين طرفي التشبيه هي صورة باهتة فاشلة في إيصال المطلوب للمتلقي ولا اعني بالتناسب إلا القدرة على التذوق والقبول وانبهار النفس والعقل والروح أمام هذه الصورة ولا يمكن للوصف أن يصيب إلا بوجود مقاربة للتشبيه .
ج- عناصر إنتاجية : وهي تتألف من عنصرين متعاضدين بحث يكون الثاني محققاً وجوده فلا تفرد في العقول بلا بديهة غريزية ولا غريزة بلا شفافية الإحساس :
1- البديهة الغريزية : وهي قدرة عظيمة على الارتجال لما يتداعى في الذهن بسبب ردود أفعال يكوّنها المبدع تجاه موقف من المواقف وتتصل بدقة الأعصاب وشفافية الوجدان وعمق الوجع الروحي وكلما كانت الغريزة متدفقة كانت الشاعرية مناسبة فياضة سريعة الاستجابة متعددة الموضوعات التي يطرحها الشاعر ولا أعتقد أن الشاعر الغليظ الغريزة يستطيع أن يعبر عن حاجاتهِ بتدفق مناسب .
2- كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة : وهو ما أدعوه بالتفرد بحيث يستطيع الشاعر من خلال موهبتهِ الفياضة أن يبدع ( سحراً مميزاً ) و(حكماً مطلقة البعد ) وكأنّما تبدو أبياتهُ محطات جماليةيتفيأ تحت ظلها المتلقي حين يشعر الشاعر بالتعب من أعباء الحياة وعناء الفكر وسقم النفوس .
إن ديوان الشعر العربي مليء بالنصوص الشعرية ولكنهُ قليل النصوص المميزة أقصد التي تخص التفرد ومن هُنا كانت يتيمات الشعر نادرة ولكنها في الوقت نفسهُ باهرة ومميزة وتحمل فتيل الصعقة الجمالية .
لماذا ندرس الأدب
سؤال يقذف بنفسه أمام كل ساحة أدبية , و يشرع آفاقه بحثا عن جواب شاف , و قبل الإجابة عن هذا السؤال يحسن بنا أن نعرف
ما أهمية الأدب ؟
و ما علاقته بالإنسان؟
وما مدى بصره و قربه من النفس؟
ومتى يستطيع صاحبه أن يلمس عمق
الوجدان الداخلي ؟
وهل هو ضروري في مسيرة الإنسان؟
وهل نستطيع أن نعيش حياتنا دون أدب؟
أو بالأحرى هل وجود الأدب في حياتنا يخلق توازنا داخليا؟
وهل يمكن لنا أن نطرح نظرية المعادل النفسي للأدب بشكل مواز لنظرية المعادل الوضعي التي طرحها أليوت الشاعر الانكليزي المعروف؟
إذن نحن أمام مواجهة صعبة تكمن في تفسير مفهوم الأدب الذي تعدى أن يكون (الكلام الجميل) و المعتمد في صناعته على قضية استعمال اللغة إلى أن يكون (النص الواعد) الذي يلامس روح الإنسان و يصعق بفعل تأثيره هذا الروح الإنساني ويحولها نحو التلذذ بالجمال الإنساني و تحمل موقفها تجاه الكون و الحياة و الإنسان وما عدى ذلك فهو محاولات لصناعة كلام جميل لا يحقق استمرارية الوجود
إذن ليس هناك مناص ونحن نحاول أن نوصل إلى المتلقين الأدب من أن نوجد علاقة حميمية بين النص و بين المتلقي وهذه العلاقة لا يمكن لها أن تكون عميقة الأواصر إلا إذا كانت النصوص التي يدرسها (المتلقي) هي جزء من روحه و بعض نفسه بل هي التي تكشف عن عمق وجدانه ونحن نعرف جميعا أن المتلقي يخزن سلم وجدانه منذ السنين الأولى وحتى العشرين من عمره وكيف يمكن لمتلقي يدرس نصوص هي غاية في القدم و تعالج قضايا هي ليست بنت عصرها و لا تعالج مشاكل المتلقي في هذا العصر لأن لابن هذا العصر مشاكله الخاصة و قضاياه الخاصة و رؤاه الخاصة ومن هناك كان لا بد لمن يمنهج للعملية الأدبية أقصد من يضع النصوص كنقاط دراسة و محاورة أدبية أن يختار النصوص الموافقة لحاجات المتلقي كما و أني أؤكد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أهمية دراسة كل الأجناس الأدبية بما فيها الشعر و التي تعالج كل ما يتعلق بهذا المتلقي نحن ندرس الأدب حتى يتفاعل مع أعماقنا ولا يمكن لهذا الأدب أن يتفاعل مع الأعماق حتى يحقق مجموعة عناصر هامة :
1- اختيار النصوص التي تعالج مشاكل و قضايا الإنسان المعاصرة سواء أكانت دينية أم سياسية أم اجتماعية أم نفسية .
2- مراعاة اللغة الحية النابضة التي جاء النص بها فنحن لا نريد أن ندرس نصوص نحتاج لعلماء لغة حتى نستطيع فهمها.
3- التركيز على نصوص تراعي مختلف العصور الأدبية دون مراعاة الترتيب الزمني (تاريخ الأدب) على أن تكون هذه النصوص ملتصقة بعصرها أولا و متداخلة مع عصرنا ثانيا.
4- أن تكون هذه النصوص محققة للجانب المعرفي و القيمي و الفني و النفسي و الفكري دون تحيز لاتجاه من الاتجاهات
5- الا نركز على النصوص المكتوبة بالغة العربية فقط إذ أن هناك نصوصا غير عربية تحمل في عمقها الكثير من القيم و الفكر الذي يعالج ما يتعلق بحياة الإنسان بشكل عام.
كيف ندرس الأدب
إذا كان الأدب بمفهومه الحقيقي هو البحث عن إعادة تشكيل الروح الإنساني بشكل صحيح فإن طريق إيصاله إلى الأخر تحتاج إلى تقنية خاصة يمكن من خلالها إعادة بناء منظومة الجمال والخير والحق إذ أن الأدب يشكل مجموعة من مستويات إذا ما اجتمعت تستطيع أن تصنع أمام الإنسان بوصلة حقيقية ترشده إلى شمال الخير و المحبة و العطاء خاصة و أن طريقة تدريس الأدب حاليا مجموعة عوائق تجعل المتلقي ينفر من الأدب و اللغة ويقف منها موقف المعاند فلا النصوص ولا مستوياتها اللغوية والقيمية لدى هذا المتلقي تستطيع أن تجذبه وتحمله إلى جسر الخلاص إلا إذا كانت ذات بعد جمالي أخاذ وخاصة أن النصوص المدروسة تعبر عن عقول ومشاعر و نفس أصحابها
وهي بالتالي تعبر عن عقلية العصر الذي قيلت فيهومن هنا لا بد من النظر من جديد في طريقة تدريس الأدب و خاصة أننا صرنا في القرن الحادي و العشرين وما زلنا ندرس العقلية الجاهلية عل أنها تمثل النموذج الأمثل ــ صحيح أن هذه النصوص تبلغ الذروة من حيث الصناعة ولكن فكرها لم يتجاوز حدود الجاهلية و بالتالي فإن المستوى اللغوي ينمو على حساب المستوى العقلي والقيمي وهذا يعني أننا سنترك المتلقي يتحدث في القرن الحادي و العشرين ويعيش القرن الأول للميلاد .
ونحن بحاجة أن نطور جميع المستويات المعرفية و اللغوية و القيمية بسوية واحدة بحيث تنمو في عقل المتلقي بنسق بنياني واحد .
ومن هنا كان لا بد من توفر مجموعة شروط في أي نص أدبي نصغه بين أيدي المتلقي .
/1/ أن يحقق النص المدروس نموذجا أمثلا في المعرفة العصرية
/2/ أن يحقق هذا النص نموذجا أمثلا في البناء الفني و الجمالي المعاصر .
/3/ أن يتناغم ماضي النص مع عمق فكر ووجدان المتلقي المعاصر .
/4/ أن يغرس هذا النص أهدافا قيمية معاصرة إسلامية و اجتماعية وخلقية وإنسانية حفاظا على هوية أمتنا .
/5/ أن يحمل النص رؤية عصرية لقضايا الإنسان والكون والحياة .
على أنه ينبغي أن ندرك أن تحقيق هذه الشروط يحتاج إلى نصوص ذات مستوى مختلف وهذا ما نسعى لتحقيقه إذ أن النقد يسعى للوصول بالمتلقي إلى دائرة أكثر من دائرة الكم 0
المدرس ومادة الأدب
تتطلب مهنة تدريس الأدب إلى جانب الإعداد الأكاديمي و التربوي (وذلك من وجهة نظر خاصة)مدرسا ينبع من أعماق المادة بحيث يكون ملما إلماما تاما بأبعاد و قضايا الأدب المطروقة قديما و حديثا و كذلك يشترط أن يكون ممارسا فعليا لهذا النشاط الإنساني.
ولعلنا هنا نقترح أن يكون اختيار مدرس مادة الأدب مشابه لاختيار مدرس مادة التربية الفنية لأن الأدب لا يعتمد فقط على الطرح والمعالجة النابعة من المعرفة وإنما من المدرسة كأن يكون شاعرا أو قاصا أو كاتبا أو أديبا ممارسا للنقد مثلا .
ويكمن السبب في حدوث الفجوة الإبداعية التذوقية في تلقي الأدب من قبل الطلاب في كون المدرس الذي يتعامل مع الموضوعات الأدبية بعيدا كل البعد عن عمق ورؤية الأدب وليس له أي علاقة سوى المعلومات التي يحتفظ بها بعد تخرجه من الجامعة وهذا الأمر يتطلب إيجاد شروط معينة ومعايير لاختيار المدرس قبل شروعه بدراسة الأدب لأن فقدانه للإحساس بهذا الجانب (خاصة وأن الأدب مادة إبداعية تختلف عن بقية المواد) يجعله ينقل محتويات منهج الأدب نقلا سطحيا ويعكس بدوره عدم اندماج المتلقي مع هذه المادة حتى بأقل النسب فالتدريس في مجال الأدب لا يختصر فقط بالعرض و النظر و إنما بالممارسة سواء ممارسة الإنتاج أم ممارسة التلقي أو التذوق الحقيقية 00وتطرح معظم المناهج الخاصة بتدريس هذه المادة مدرسين جاهزين لا علاقة لهم بالأدب ويعتمدون بالتالي على إيصال المعلومات على قوالب جاهزة ومؤطرة بأطر قديمة وهذا ما يجعل قضايا النقد و التذوق لدىالمتلقي غائبة أو مفقودة تماما تبنى شخصيته حسب شخصية مدرسه وهذا يتضح جليا في مادة الأدب و دراسة النصوص الشعرية و الإبداعية الأخرى .
فالمدرس حين يفقد هذه الخاصة يفقد السيطرة على المادة ويبدأ بتكرار الأساليب و اجترار المفاهيم والطرق التي يعرض بها مادته سواء ما يتعلق بتكوين جيل من المتعلمين لا يعرف من النقد الأدبي إلا الشرح ومن البلاغة و الأسلوب إلا التشبيه ومعاني المفردات و تراجم الأدباء وهذا لا يمكن أن يحقق أهدافه ولم يكن هناك توافق والتصاق فاعل بين الطالب ومادته و تذوقه لما تطرحه أدبيا تذوقا صحصحا وهذا لا يتم إلا من خلال المدرس .
ولدى بعض مدرسي الأدب القدرة الفائقة على ربط ذهن الطالب بما يحتويه المنهج من خلال تعامله وإحساسه الخاص الذي يشعر المتلقي به فيبدأ إما بتقليد مدرسه في إلقاء النصوص أو نقدها أو نقده للمفردات الشعرية بطريقة شعرية أيضا والعكس صحيح حيث ينتج عن المعلم البعيد عن الإحساس بقيمة الإبداع الأدبي متلقين بعيدين عن هذا الإحساس مما يجعل مادة الأدب تبدو جافة وهامشية لا تحقق حضورها الإنساني والجمالي التي بنيت عليه إلا في حدود ضيقة جيدة لا يمكن النظر إليها .
فلا بد إذن من التركيز عل اختيار المعلم الذي ينقل مثل هذه المواد إلى المتلقين لأنها إبداع و الإبداع يتطلب ممارسة وعلما وليس علما فقط00