بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تاريخ اليهود ووعد الآخرة !
{ إذا كانت حركة التاريخ لدى اليهود دائرةً بين الإفساد في الأرض والعلوّ الكبير وبين العقاب بالمذلة والمسكنة والسبي والتدمير ، لتنتهي بالتلاشي والفناء وبئس المصير ! فإنّ حركة التاريخ لدينا كمسلمين قد دارت وتدور بين المدّ والجزر والثبات والتغيير ؛ لتُسْلم إلى المدّ التام الكبير والبقاء حتى اليوم الأخير ! }
" يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " (الصف:8ـ9)
" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً*فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً *ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الاسراء:4ـ7)
فلو جدفنا بقارب التاريخ عائدين للوراء حتى سنة (4000ق.م ) و حوالي 4600 قبل البعثة النبوية المحمدية ، لوجدنا مجدافنا وقد حط عند أعماق التاريخ الإنساني ، غير بعيد عن استواء سفينة نوح على الجودي ، زمن الطوفان ثم أولى الحضارات في وادي الرافدين ! حتى إذا رجعنا على الأثر قليلاً أشرفنا على ما يسمى بعصر التاريخ الإنساني ، وهو العصر الذي بدأت فيه النقوش والكتابة ما بين (3000 و 2500 ق.م) ويسميه علماء الآثار والتاريخ أيضاً بالعصر البرونزي القديم ، وفيه كان تواجد الكنعانيين العرب على أرض فلسطين ، وبهم كانت تسمى " أرض كنعان " حتى غزاهم الشعب الشمالي البحري " الفلستيون " الذين نزحوا من منطقة إيجة وجزيرة كريت حوالي عام ( 1185ق.م) واستوطنوا الساحل الذي سمي باسم قبيلتهم " فلستيا "ثم عربت إلى " فلسطين " بعد ذلك ! حتى إذا جاءت قبائل بني إسرائيل بقيادة يشوع أو " يوشع بن نون " حوالي (1170ق.م) راحوا يسمونها في لغتهم " أرض إسرائيل " ( eretz yisrael ) وسموا شرقي الأردن " عبر الأردن " (eber hayardan ) ! وبلغت حدودهم في فلسطين من "دان " ـ تل القاضي ـ حتى بئر السبع جنوباً ، بينما كانت كنعان تشمل سهول فلستيا وفينيقية " لبنان حالياً " على الساحل ، أما جنوباً فتمتد حتى عين قادش ووادي العريش !
وإسرائيل ـ اسم في العبرية معناه "عبد الله" ـ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) توءم لأخيه العيص الذي نزل قبله فكانت له البكورية التي أخذها منه يعقوب بقصة ينسبونها إليه وهي مختلقة في الغالب !وقد رزقه الله اثني عشر ولداً من زوجتين وجاريتين ، ويسمون الأسباط الإثناعشر ، وكان أصغرهم يوسف وبنيامين من أمهما " راحيل " أما العشرة الآخرون فكما ذكرهم المسعودي في كتابه "مروج الذهب" هم : لاوي ويهوذا ويساخر وزبولون ودان ونفتالي وكان "جاد" وأشار وشمعون وروبين ، وقد كان الملك والنبوة في عقب أربعةٍ منهم : لاوي ويهوذا ويوسف وبنيامين .وقصة يوسف الصدّيق ودخوله بلاد مصر ولحاق أهله به واردة في التوراة ومبيّنة في القرآن الكريم أحسن تبيين!
ويذكر بعض رواة التاريخ أنّ نزوح يعقوب (عليه السلام) من أرض كنعان مع بنيه ودخوله مصر كان عام (1656ق.م) في عهد الأسرة السادسة عشرة ، بينما يعتقد البعض أنّ تواجد يوسف (عليه السلام) بمصر مع أهله كان زمن (أمينوفيس الرابع) وهو أخناتون الموحّد (1380 ـ 1358ق.م ) حتى خروجهم مع موسى (عليه السلام) أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد فالله تعالى أعلم ! وعلى كلا الحالين فقد عاش يوسف(عليه السلام ) ما يقرب من 110 أعوام وكان حفيظأً على خزائن مصر واقتصادها ، ومن نافلة القول أن نذكر أنه مع أبويه وإخوته وبنيهم كانوا مسلمين على الحنيفية ملة إبراهيم ؛إذ لم تكن الديانة اليهودية معروفة حتى ظهور موسى (عليه السلام) في الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وذلك زمن الفرعون (رعمسيس الثاني) وابنه (منفتاح) (1300ـ 1210ق.م) وإذ يقول الله تعالى :" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133)
بدء التاريخ اليهودي
ـ الخروج من مصر والدخول إلى فلسطين ـ
وهكذا يبدأ تاريخ اليهود منذ عهد موسى مع قومه من بني إسرائيل الذين سمّوا ب (يهود) نسبةً إلى (يهوه) وهو الله الواحد بلغتهم وكما ورد في التوراة (كتاب عهدهم القديم ) الذي أنزله الله على موسى (عليه السلام) والعهد الجديد هو الإنجيل ويسميان معاً بالكتاب المقدس ( holy bible ) ويذكر اليهود مع النصارى في القرآن الكريم بأهل الكتاب ؛ يقول الله تعالى :" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) *هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 65ـ67)
وفي الآيات إشارة واضحة إلى أنّ الديانة اليهودية ما عرفت إلا بعد نزول التوراة على موسى (عليه السلام) ، وكل من تبع اليهودية التوراتية بعد ذلك سموا "يهوداً" ! إلا أنّ بعض كهنتهم بعد العودة من السبي البابلي إلى فلسطين (539ق.م) قاموا ـ حفظاً لنقاء الدين والدم كما يزعمون ، ومنعاً من اندماجهم بالغير ـ بوضع قوانين صارمة تحرّم الزواج من غير يهوديات ، فتمت عمليات الطلاق من نساء أشدوديات وأمونيات ومؤابيات ظناً منهم بذلك أنهم يصونون اليهودية من كل رافد أجنبي .. في محاولة لتكوين شعب واحد أضفوا عليه صفة "شعب الله المختار" الموعود بالأرض المقدسة دون غيره من الشعوب ! لكنّ ذلك لم يدم طويلاً حتى انضاف إليهم الكثير ممن تبع ديانتهم في الشرق والغرب مثل يهود الخزر ذوي الأصل التتري ،ويهود أثيوبيا الذين عرفوا بيهود "الفلاشا" والأشكناز الأوربيون من ذوي الأصل الروماني أو الغالي أو الإسباني ، وهم في الغالب من قاموا بالدعوة الصهيونية الاستيطانية لإيجاد وطن ودولة لهم في فلسطين التي يسمونها أرض الميعاد !
هذا ويقدّر تاريخ ميلاد موسى (عليه السلام) ما بين (1280و 1270ق.م ) وكان لجوؤه إلى مدين قرب الثلاثين من عمره حيث تزوج من ابنة شيخ مدين ومكث عنده عشر سنوات ليبلغ سن الأربعين فيعود لمصر للقاء فرعون وتبليغه رسالة ربه مع أخيه (هارون) .. ثم خروجه ببني إسرائيل من مصر وعبورهم البحر ناجين وقد أغرق الله "جلت قدرته " فرعون الذي تبعه وجنوده ، وكان ذلك حسب تاريخ وفاة (رعمسيس الثاني ) عام (1224ق.م) أما حسب تاريخ وفاة ابنه " منفتاح" الفرعون الذي تلاه ويُظن أنه الفرعون المُغرق ، فيكون الخروج حوالي عام (1210ق.م) لتحصل لهم الآيات المذكورة في القرآن الكريم إلى أن يأمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وهي" فلسطين " فيجبنوا فيحرّمها الله عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض ـ جنوب صحراء سيناء والنقب ـ " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة:22)
" قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26)
ويتوفّى الله موسى قبل أن يتحقق لهم دخولها إلى أن يتم ذلك على يد فتاه الكاهن (يوشع بن نون) تقديراً ما بين (1170و1160 ق.م ) ثم ليستوطنوا القسم الشرقي من فلسطين ويسموه " أرض إسرائيل " ! ثم تدور الحرب سجالاً بينهم وبين الفلستيين وقبائل كنعان دون أن يتمكنوا من الغلبة عليهم نهائياً ، حتى يبعث الله لهم طالوت ملكاً ، وهو شاؤل في التوراة ، فيقاتل الفلستيين مع الكنعانيين حوالي عام (1025 ق.م ) وكان في جيشه غلام اسمه "داود " استطاع بمقلاعه أن يقتل " جالوت " ملك الفلستيين الذين أخلوا ساحة القتال بعد مقتله وتم النصر لبني إسرائيل ! (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)
مملكة داود وسليمان (عليهما السلام) [1010ـ 935 ق.م ]
وهكذا ملك داود (عليه السلام) على بني إسرائيل بعد موت طالوت في إحدى المعارك اللاحقة مع الفلستيين حوالي عام (1010 ق.م ) وفي ذلك العام اتجه إلى حبرون " الخليل " حيث بايعه بنو إسرائيل ملكاً على جميع أسباطهم وبعد أعوام قليلة دخل مدينة القدس واتخذ جبل صهيون مسكناً له وأعلنها عاصمةً لمملكته ! وكانت حينئذٍ مع اليبوسيين سكان المنطقة الأصليين وهم إحدى قبائل كنعان وكانت تسمى " يابوس " وكان الكنعانيون قبل ذلك بألفي عام يسكنون أواسط وغرب وشمال فلسطين ، وكان الفلستيون يسكنون الساحل غرباً . هذا وإن كان علماء الآثار وحتى اليهود منهم ـ مثل "رافاييل جرينبرغ" و" إسرائيل فنكلشتاين " عالم الآثار بجامعة تل أبيب ـ يشكّون في دخول داود القدس ؛ إذ يؤكدون عدم العثور على قطعة أثرية واحدة تشير إلى (داود) "عليه السلام" برغم الحفريات المركزة التي تقوم في حي سلوان بالقدس منذ عام 2007م !
وقد توفّي داود (عليه السلام) حوالي 970 ق.م ليرث النبوة والملك من بعده ابنه " سليمان " الذي عرف بسليمان الحكيم (970 ـ 935 ق.م ) ووهب الله له ملكاً خاصاً حيث سخّر له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والجن والشياطين جنودا وبنّائين وصانعين ، وذلكّ بعد دعوةٍ دعا بها ربه أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده !وقصته مع ملكة سبأ وإسلامها على دين اليهودية معه معروفة في القرآن الكريم ـ انظر سورة النمل ـ ويقال أنه أقام المعبد الذي يعرف باسم "هيكل سليمان " ويذكر أنه توفّي عام (922ق.م ) وقد ناهز الثانية والخمسين من العمر ! وهناك بحث آخر ـ ربما هو الأصح ـ يفيد بأنّ وفاته كانت عام (935ق.م ) ولتنقسم مملكته إثر وفاته إلى جزئين :يهودا في الجنوب وعاصمتها أورشليم "القدس" وإسرائيل في الشمال وعاصمتها شكيم "نابلس" ثم السامرة !
سبي وتدمير
بعد انقسام مملكة سليمان إلى يهودا والسامرة " إسرائيل" نشأ الخلاف بين الدويلتين وانتشر الفساد حتى غزا الملك الأشوري "سرجون الثاني" دويلة إسرائيل في الشمال (722ق.م) فقضى عليها وسبى أهلها فيما سمي بالسبي الإسرائيلي الأول ، واستبدل سكانها بسكان جدد من الكوثيين والذين عرفوا بعد ذلك بالسماريين . وجاء الكلدانيون على أنقاض امبراطورية آشور فاقتسموا البلاد مع الميديين ، وكان من نصيبهم سورية وفلسطين التي غزاها ملكهم "نبوخذنصر" عام (597ق.م) وأخذ معه إلى بابل ملك يهودا وعشرة آلاف من أهم السكان ومنهم النبي "حزقيال" كرهائن ،مبقياً على مملكتهم كتابعة لإمبراطوريته .. أما النبي "أرميا" فقد لجأ مع من لجأ منهم إلى مصر ! إلا أنّ ملك يهودا الجديد المعيّن من قبل "نبوخذنصر" قام بثورة ، فعاد مرةً أخرى وحطّم أورشاليم "القدس " نهائياً وهدم الهيكل وسبى كثيراً من سكانها فيما سمي بالسبي الثاني أو السبي البابلي ! وكان ذلك عام (586ق.م) وأثناء سبيهم في بابل وضعوا ما يسمى بالتلمود البابلي ، واعتبروه جزءاًً من التوراة بل قدموه عليها في شريعتهم!
وقد يحلو للبعض أن يفسر السبي الأول والثاني الذي حدث لبني إسرائيل بعد انقسام مملكتهم بمرة الإفساد الأولى المشار إليها في القرآن الكريم :" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً*فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً (الإسراء 4ـ5) وربما صح ذلك بغير كثير من الخلاف ؛ لكننا لو نظرنا في مدى الإفساد وصورته هنا ، وهو انقسام المملكة أو الثورة على الغازين لم نجده إفساداً في الأرض بالمعنى الدقيق للكلمة .. كما أنّ غزو سرجون الثاني ثم نبوخذنصر لهم لم يكن مجرد جوس خلال الديار ، بل كان إزالة لمملكة إسرائيل أولاً ثم تحطيماً للقدس وهدماً للهيكل وحرقاً للبيوت وسبياً مذلاً لبني إسرائيل ثانياً ! زد على ذلك أنّ الكرّة لم تعد لهم على هؤلاء مطلقاً ! وإنما يخبرنا التاريخ أن قد أعيد جزءٌ منهم من السبي البابلي بعدما استعطفوا الملك الفارسي "كورش" ليفتتح لهم أول وطن قومي يهودي في فلسطين وذلك عام (539ق.م) ! فلا بدّ أن يصدر عنهم فساد أعظم في الأرض يصل إلى تكذيب الأنبياء المرسلين وقتلهم أو محاولة ذلك كما سنرى ! ويكون العقاب في مرة الإفساد الأولى جوساً من العباد خلال ديارهم وإخراجهم منها بغير حرق أو تدمير ، ثم تردّ لهم الكرّة على من يفعل ذلك بهم؛ لسبب وحكمة من الله جلت حكمته ، لكنهم يسيئون ويستعلون ويهلكون الحرث والنسل ويدمرون البيوت على أهلها ويفسدون في الأرض مرةً ثانية فيبعث الله عباده المؤمنين الأقوياء ليس فقط بالجوس هذه المرة ، بل ليسوءوا وجوههم كما أساءوا ويهلكوهم كما أهلكوا .. تحقيقاً لقول الله تعالى:" ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الاسراء:6ـ7)
عودة من السبي وثورات وشتات
بعد عودة اليهود من سبي بابل طالبوا ببناء الهيكل الثاني فسمح لهم الإمبراطور الفارسي بذلك حتى أكملوا بناءه عام (515 ق.م) وأقاموا ببيت المقدس إلى أن غلبت عليهم الروم فلم تقم لهم بعد ذلك قائمة ! على أنهم قاموا أثناء ذلك بعدة ثورات كان مآلها إما التصدع أو الفشل !
1ـ الثورة المكابية (167ق.م) وكانت بقيادة "مكابيوس" ضد الحكم اليوناني السلوقي ، حيث أمكن إقامة حكم وراثي لأسرة "مكابيوس" إلا أنّ هذا الحكم تصدع بعد فترة وجيزة نتيجة للخلافات فيما بينهم وتكرار هجمات الأنباط العرب الذين بسطوا سيطرتهم على جنوبي فلسطين حتى مدائن صالح .. وانتهت دولة المكابيين بسيطرة الرومان على فلسطين عام (63ق.م) وبالضبط عام (40ق.م) عندما عينت روما على اليهود ملكاً من غيرهم هو (هيرود الأدومي) الموالي لها ! وقد حضر هذا ميلاد المسيح في آخر سنةٍ من حكمه (4ق.م) ولعله أو من تلاه الملك الذي قدّم رأس يحيى (عليه السلام) على طبق ، تلبيةً لطلب ابنة أخيه "هيروديا" التي أراد أن يتزوجها ، فأفتى يحيى بحرمة ذلك الزواج فكان رأسه مهراً لها ! وكان هذا بدء إفساد جديد لليهود ، صحبه أو تلاه قتلهم زكريا (عليه السلام) فتكذيبهم المسيح عيسى (عليه السلام) ومحاولة صلبه ! وغير ممكن اعتبار هذه مرة الإفساد الأولى ؛ لأن العقاب عليها كما سيجيء أيضاً كان أكثر بكثير من الجوس خلال الديار ! ولا الثانية ؛ لأنّ الكرّة لم تُردّ قبلها لبني إسرائيل على من غزاهم كما تشير الآية الكريمة !
2ـ حتى إذا كان عام (66م ) أي بعد رفع المسيح بثلاثين عاماً تقريباً ثار اليهود ثانيةً على الحكم الروماني فجاءهم ملك رومية بابنه " تيطوس" ومعه جيشٍ كثيف ففتح أورشليم ودمر الهيكل وقتل من قتل وسبى من سبى غضباً للمسيح ! وكان ذلك عام (70م)
3ـ ثورة باركوخبا (132ـ135م) نسبةً إلى اسم قائد الحركة "باركوخبا" الذي أمكنه احتلال القدس وبعض الحاميات الرومانية .. لكن تم القضاء على هذه الثورة على يد هدريان الروماني الذي نكّل بهم أشدَّ تنكيل ودمر هيكلهم الثاني نهائياً عام (135م) وأقام مكان القدس مدينة وثنية سماها "إيليا كابيتولينا" وأقام هيكلاً وثنياً للجوبتر على نفس مكان الهيكل القديم ومنع اليهود من الظهور داخل المدينة !
4ـ ثورة السماريين وهم الكوثيون الذين أجبرهم اليهود على اعتناق اليهودية :
وقد ثاروا ثورة نهائية عام (529م) إلا أنّ دولة الغساسنة العربية في حوران والتي كانت تتبع البيزنطيين قهرتهم قهراً دموياً فخربت ديارهم وأجبرتهم على الدخول في المسيحية ، ولم يبق منهم إلا عدد قليل ! وبذلك انتهى تواجد بني إسرائيل المجتمعي ومن تهوّد معهم نهائيا في فلسطين ، وكانوا قد تشتتوا من قبل في مختلف أنحاء العالم : فمنهم من ذهب إلى الحبشة ، ومنهم من استوطن الحجاز "يثرب" ووادي القرى وتيماء وخيبر ، طامعين أن يكون النبي القادم المخلّص منهم ! ولكنّ الله تعالى يشاء أن ينهي دورهم الرسالي في الأرض فيجعله عربياً ! فكان أن بعث محمداً بن عبد الله بن عبد المطّلب من نسل إسماعيل بن إبراهيم ـ على المرسلين السلام ـ برسالة الإسلام خاتماً للأنبياء والمرسلين والرسالات ، وكافةً للناس أجمعين !
وهكذا لم نعلم أنّ الكرّة رُدّت لبني إسرائيل على من غزاهم من مصريين أو أشوريين أو بابليين أو فرس أو يونان أو أنباط أو رومان حتى نهاية وجودهم في فلسطين وشتاتهم في الأرض .. فما الذي حدث بعد ذلك ؟
صور من إفساد اليهود بالمدينة (يثرب) ووعد أولاهما
لما عرف اليهود بالمدينة أنّ النبوة خرجت عنهم أكلت الغيرة قلوبهم ونهش الحسد أجسادهم ، فراحوا ينشرون الفساد والإرجاف بالمدينة كعادتهم مثلما صنعوا مع المسيح (عليه السلام) ! وقد أشار الله تعالى إلى إفسادهم وإرجافهم ومكرهم وعصيانهم في أكثر من آية في القرآن الكريم إذ يقول بعد ذكر قصة البقرة معهم:" أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:75ـ 76) ويقول سبحانه:" مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ) (النساء:46) ويقول (جل من قائل) :" وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64)
وأولى الحادثات العملية لهذا الإفساد اليهودي بالمدينة ما كان من بني قينقاع من محاولة أحدهم إظهار سوءة إحدى نساء المسلمين فقتلهم المسلم الذي هب لنجدتها ، ومن ثم حاصرهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) : أربعمئة حاسر وثلاثمئة دارع ، وتدخل عبد الله بن أُبيّ بن سلول لأجل عدم قتلهم وكانوا موالي له ! فأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها ! وبعدها حاول بنو النضير قتل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتحصنوا بحصونهم ومعهم النبل والحجارة ، فأخرجهم المسلمون من ديارهم إلى أول الحشر ( خيبر وناحية جرش جنوب الشام ) وجاسوا خلال ديارهم دون تدمير أو حرق ، وقطعوا بعض نخيلهم وتركوا البعض . هذا ولم يعتبر من بقي من يهود بني قريظة بالمدينة بما جرى لمن قبلهم ، حتى ألّبوا القبائل على الرسول والمسلمين وخانوا عهده معهم وخذلوه في مواقف الضيق والحرج ، وذلك في غزوة الأحزاب ، حيث اتفق بنو قريظة مع كفار قريش على فتح الحصون من جهتهم ، وقطعوا المؤن عن المسلمين ، فاضطرّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى تأديبهم على خيانتهم وفسادهم بالقتل والسبي والإخراج من الديار !
وهكذا حقّ قول الله تعالى فيهم بعد إفسادهم ، فجاس عباد الله خلال ديارهم جوساً غير ما يعنيه التدمير أو الحرق .. فالغالب أنها مرة الإفساد الأولى لسببين :
الأول : أنّ مرات الإفساد السابقة اقترنت ليس فقط بالجوس خلال الديار ، بل بالتدمير والحرق وإنهاء الكيان المجتمعي ، وأحياناً بذبح الأبرياء كما فعل الصليبيون عند احتلالهم للقدس عام 1099م
الثاني : أنّ مرات الإفساد السابقة حدثت دون أن تُردّ الكرّة لليهود على أحدٍ ممن غزاهم ، بينما ردّت لهم الكرّة على العرب المسلمين بعد هذه المرة كما سنرى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعد الآخرة
يقول الله تعالى :" ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الإسراء:6ـ7)
ولو قلبنا صفحات التاريخ لما وجدنا الكرّة ردّت لبني إسرائيل على أحدٍ ممن دمرهم أو جاس ديارهم بعد إفسادٍ لهم ـ وقد زُوِّدوا بالمال والبنين وكثرة نفير الحرب ـ إلا في زماننا هذا ومنذ النكبة الفلسطينية عام (1948م ـ 1367ه) ونحن نؤمن بحكمة الله تعالى وقدره وصدق وعده إذ جاء بهم لفيفاً من كل أنحاء الأرض مؤازرين باليهود من غير جنسهم ،لتردّ لهم الكرة علينا؛ إذ يقول الله تعالى :" وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) (الإسراء:104) واللفيف في اللغة :الجمع العظيم من أخلاط شتى . وهي الصورة التي جاءوا بها إلى فلسطين في هذا الزمان ! ونؤمن بمجيء وعد الآخرة متى جمع وحشر جميع نسلهم من أسباطهم الإثني عشر من خلال هذا اللفيف الجامع ، وبلغ فسادهم وعلوّّهم أوجه في الأرض .. فهاهم وقد تمكنوا ـ بحبلٍ من الله و تحقيقاً لوعده ، وبحبلٍ من الناس ( الإنجليز والأمريكان) الذين ساعدوهم على الهجرة إلى فلسطين وأمدوهم بالسلاح ودربوا النفير الغفير منهم على القتال ـ من إيقاع الهزيمة بالجيوش العربية السبعة الذين جاءوا لنصرة إخوانهم في فلسطين ! ولا بدّ هذه المرة أننا نحن العرب المسلمين الذين فقدنا عامل التقوى والصلاح ، ودبت فينا مظاهر غير هيّنة من الفساد ، فسلطهم الله تعالى علينا وأحلهم ديارنا وأرضنا تحقيقاً لقوله تعالى :" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128) .. الأمر الذي لن يطول كما تفيدنا الآية السابعة من سورة الإسراء في خطابها لبني إسرائيل ، إذ تمضي محذّرةً إياهم من الإفساد مرةً أخرى متى مكّنهم الله تعالى من الغلبة والسيطرة ! الآية : " إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الإسراء:7) وهم لا بدّ أن يفسدوا ولا بدّ أن يجيء وعد الآخرة غير بعيد من زمن هذا الإفساد ، بدليل التعبير عن مستقبل المجيء بحرف الفاء الذي يفيد الترتيب مع التعقيب ،خلافاً للحرف " ثُمّ" الذي يفيد الترتيب مع التراخي ، فإذا جاء هذا الوعد بعث الله خَلَفَ عباده من المؤمنين الأقوياء الصالحين ؛ ليسوءوا وجوه المفسدين إذلالاً وتعريةً لمنهجهم الإفسادي في الأرض ويهلكوهم إهلاكاً ، وليدخلوا المسجد الأقصى دخول إذلال لهم و تحرير له من أيديهم ، كما دخلوه أول مرة زمن خلافة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان بأيدي الروم ، فجاء التعبير في الآية على سبيل التشبيه ـ كما دخلوه أول مرة ـ دون سابق ذكر لدخولهم ؛ إذ لم يكن المسجد بأيدي اليهود ليُذلّوا بهذا الدخول ! مما يبرز دليلاً آخر على أنّ مرة الإفساد الأولى هي التي كانت في صدر الإسلام زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى زمن خلافة الفاروق عمر الذي نفى اليهود من كل جزيرة العرب بعد تواصل أعمالهم الإفسادية في خيبر !
والآن .. وقد وضحت لدينا الأمور وضوح الشمس في رابعة النهار ! وكان ردُّ الكرّة لبني إسرائيل ، ومجيئهم في لفيف من يهود آخرين ليزداد بهم نفير الحرب ، ثم إساءتهم وإفسادهم في الأرض إذا ردت لهم الكرّة وسيطروا ، هو قضاءٌ من الله تعالى ليجيء بعد ذلك وعن قريب وعد الآخرة الذي تساء فيه وجوههم ويهلكون على يد العباد الذين أسيء إليهم .. فليسيئوا اليوم إلينا ما أساءوا : ليقتلوا الأطفال الآمنين والشيوخ العزل .. وليقيموا المذابح كلما قدروا على ذلك .. وليهدموا البيوت على أهلها.. وليحرثوا الأرض بزروعها وأشجارها،وليعمقوا مستوطناتهم فيما حرثوا وسلبوا من أرض . وليرفعوا شاهقاتهم في جنبات القدس وعلى أنقاض البيوت التي أخرجوا أهلها منها.. وليقيموا الجدر التي تخترق مزارعنا وبيوتنا ويظنون أنها مانعتهم .. وليستعلوا على تطبيق القرارات ، ولينقضوا العهود ولا يلتزموا بالاتفاقيات .. ليقتلوا .. ليسلبوا .. ليستعلوا .. فسيجيء عما قريب من يسوء وجوههم التي علت وتصعّرت بالصلف والكبرياء ، في وجه كل حوار أو مفاوضة أو نداء ! سيجيء من يعلو شاهقاتهم بالهلاك والتدمير ، ويدخل المسجد ويحرر القدس، دخول إذلال وتحرير تطهير ! إنهم عباد الله القادمون مع وعد الآخرة.. إنهم المرابطون .. إنهم المجاهدون .. إنهم الصالحون !إيفاءً لما كتب الله جل جلاله ووعد بقوله : "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105) وقوله :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحتى مجيء الوعد ..
والآن .. وقد عرفنا ! ولا يظننّ أحدٌ أنّ اليهود على غير علم أو معرفة أو أنّ هذا الأمر هو سرٌّ من الأسرار التي يجب كتمانها عنهم حتى يفاجأوا بها ! كلا فإنّ قدر الله نافذ .. علموا ذلك أم لم يعلموا .. جهلوا أم تجاهلوا ! فليُعدّوا ونحن نُعدّ ، ووعد الله تعالى هو الوعد ، والله غالبٌ على أمره . وإنما علينا أن نتعرف موقفنا وواجبنا حتى مجيء هذا الوعد .. وما هو دورنا المرحلي على درب المسيرة والدعوة ، ومن خلال موقع الزمان والمكان وواقع الحال والإمكان ؟
هل هو موقف التصبّر والانتظار ؟ أم واجب الدعاء على بساط من الكسل وإبطال الجهاد ونبذ العمل ، بينما هم يبنون ويتوسعون ويعدّون ويستعدون ويزيدون في علوهم وإفسادهم ويرتفعون ؟ والله تعالى يقول لنا :" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... " (الأنفال من الآية60) ويقول :" وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...) (الحج من الآية 78) ويقول :" وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105) ويقول :" قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام:135)
أم نصمّ الآذان ونطبق الأجفان ، ونتخذ طريق العجزة والعميان ؟ والله تعالى ينبهنا ويقول :" وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) (الفرقان:73)
إذن فهو عملٌ وجهادٌ مستمر .. أو جهاد وعمل دائب على منهج وطريقة وعين وعون من الله تعالى .. فعلينا إذن ـ والمعركة غير بعيدة من زماننا ، وأنهم في مرحلة " الكرّة لهم" والإفساد والعلوّ ـ أن نعدّ للمعركة القادمة ، ونستعد بما يلزم من عدة واستعداد وعمل وجهاد .. وعلينا أولاً أن نعتني بتنشئة وإعداد الجيل المحمدي القرآني الذي يحمل الراية ويواصل المسيرة ، فعساه يكون الجيل الظاهر على الحق القاهر لعدوه الصابر على البلاء، حتى يأتي أمر الله ! فيشبك الأيدي ويعانق الرايات مع أولئك القادمين مع وعد الآخرة ، عباداً لله داخلين المسجد محققين النصر مستعيدين الحق بإذن الله وتحقيقاً لوعده ، إنه لا يخلف الميعاد ! ثم علينا ثانياً : أن نكون على وعي ويقظة بما يدور حولنا ، مؤثّرين فيه بالكلمة الأدبية والسياسية التي تنمو وتتطور إلى درجة التأثير المباشر على الحكومات والقوى المتصرفة في الموازين الدولية .. ولا يكون ذلك فاعلاً مثمراً إلا بتكتل أصحاب المنهج المقصود وتوحدهم ..
وأخيراً ليس آخراً ـ ومن واقع مرحلتنا ، وانطلاقاً من طبيعة جغرافيتنا كمسرح للحدث وميدان للمعركة القادمة ، ومركز للقضية ـ علينا أن نستمر في جانب الدفع الجهادي القوي الذي لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ! وتحقيقاً لقوله تعالى :
" .. وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(التوبة: من الآية120)
هذا وقد يبطئ النصر مع هذا الجانب حتى يأتي أمر الله .. وقد لا يتحقق به شيءٌ ملموسٌ ظاهر ! ولكنه بلا شك يحقق بعض الأهداف القريبة ، فضلاً عن أنه يقع في جملة ما يغيظ العدو من موقف ، ويقضّ مضجعه بحيث لا يدعه ينام هادئ البال مستمتعاً بما اكتسب ، متوسعاً ممتداً فينا .. تحقيقاً لآماله الخائبة في بناء دولته الكبرى ! وفضلاً عن أنه يغرس الشعور الدائم لدى الخصم باستمرار تواجد من يحدّ من طغيانه وعناده ؛ فلا يتمادى في علوه وإفساده !!
إعداد :أ. رفيق أحمد علي
غزة في 15/1/2010م .......... 29 محرم 1431ه
المصادر :
1ـ القرآن الكريم
2ـ ملف إسرائيل ـ دراسة للصهيونية السياسية ... روجيه جارودي
3ـ المزاعم الصهيونية في فلسطين .......... فتحي عبد المعطي
4ـ تاريخ فلسطين القديم ................... ظفر الإسلام خان
5ـ تاريخ فلسطين الحديث............. د. عبد الوهاب الكيالي
6ـ ملامح تاريخ اليهود السياسي ...... محمد جلال عناية
7ـ زوال إسرائيل 2022م .............. بسام جرار
8 ـ الوحي ونقيضه .....................د. بهاء الأمير
9ـ قصص الأنبياء ...................... ابن كثير
10ـ قصص الأنبياء .................... عبد الوهاب النجار
تاريخ اليهود ووعد الآخرة !
{ إذا كانت حركة التاريخ لدى اليهود دائرةً بين الإفساد في الأرض والعلوّ الكبير وبين العقاب بالمذلة والمسكنة والسبي والتدمير ، لتنتهي بالتلاشي والفناء وبئس المصير ! فإنّ حركة التاريخ لدينا كمسلمين قد دارت وتدور بين المدّ والجزر والثبات والتغيير ؛ لتُسْلم إلى المدّ التام الكبير والبقاء حتى اليوم الأخير ! }
" يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ " (الصف:8ـ9)
" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً*فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً *ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الاسراء:4ـ7)
فلو جدفنا بقارب التاريخ عائدين للوراء حتى سنة (4000ق.م ) و حوالي 4600 قبل البعثة النبوية المحمدية ، لوجدنا مجدافنا وقد حط عند أعماق التاريخ الإنساني ، غير بعيد عن استواء سفينة نوح على الجودي ، زمن الطوفان ثم أولى الحضارات في وادي الرافدين ! حتى إذا رجعنا على الأثر قليلاً أشرفنا على ما يسمى بعصر التاريخ الإنساني ، وهو العصر الذي بدأت فيه النقوش والكتابة ما بين (3000 و 2500 ق.م) ويسميه علماء الآثار والتاريخ أيضاً بالعصر البرونزي القديم ، وفيه كان تواجد الكنعانيين العرب على أرض فلسطين ، وبهم كانت تسمى " أرض كنعان " حتى غزاهم الشعب الشمالي البحري " الفلستيون " الذين نزحوا من منطقة إيجة وجزيرة كريت حوالي عام ( 1185ق.م) واستوطنوا الساحل الذي سمي باسم قبيلتهم " فلستيا "ثم عربت إلى " فلسطين " بعد ذلك ! حتى إذا جاءت قبائل بني إسرائيل بقيادة يشوع أو " يوشع بن نون " حوالي (1170ق.م) راحوا يسمونها في لغتهم " أرض إسرائيل " ( eretz yisrael ) وسموا شرقي الأردن " عبر الأردن " (eber hayardan ) ! وبلغت حدودهم في فلسطين من "دان " ـ تل القاضي ـ حتى بئر السبع جنوباً ، بينما كانت كنعان تشمل سهول فلستيا وفينيقية " لبنان حالياً " على الساحل ، أما جنوباً فتمتد حتى عين قادش ووادي العريش !
وإسرائيل ـ اسم في العبرية معناه "عبد الله" ـ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) توءم لأخيه العيص الذي نزل قبله فكانت له البكورية التي أخذها منه يعقوب بقصة ينسبونها إليه وهي مختلقة في الغالب !وقد رزقه الله اثني عشر ولداً من زوجتين وجاريتين ، ويسمون الأسباط الإثناعشر ، وكان أصغرهم يوسف وبنيامين من أمهما " راحيل " أما العشرة الآخرون فكما ذكرهم المسعودي في كتابه "مروج الذهب" هم : لاوي ويهوذا ويساخر وزبولون ودان ونفتالي وكان "جاد" وأشار وشمعون وروبين ، وقد كان الملك والنبوة في عقب أربعةٍ منهم : لاوي ويهوذا ويوسف وبنيامين .وقصة يوسف الصدّيق ودخوله بلاد مصر ولحاق أهله به واردة في التوراة ومبيّنة في القرآن الكريم أحسن تبيين!
ويذكر بعض رواة التاريخ أنّ نزوح يعقوب (عليه السلام) من أرض كنعان مع بنيه ودخوله مصر كان عام (1656ق.م) في عهد الأسرة السادسة عشرة ، بينما يعتقد البعض أنّ تواجد يوسف (عليه السلام) بمصر مع أهله كان زمن (أمينوفيس الرابع) وهو أخناتون الموحّد (1380 ـ 1358ق.م ) حتى خروجهم مع موسى (عليه السلام) أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد فالله تعالى أعلم ! وعلى كلا الحالين فقد عاش يوسف(عليه السلام ) ما يقرب من 110 أعوام وكان حفيظأً على خزائن مصر واقتصادها ، ومن نافلة القول أن نذكر أنه مع أبويه وإخوته وبنيهم كانوا مسلمين على الحنيفية ملة إبراهيم ؛إذ لم تكن الديانة اليهودية معروفة حتى ظهور موسى (عليه السلام) في الربع الأخير من القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وذلك زمن الفرعون (رعمسيس الثاني) وابنه (منفتاح) (1300ـ 1210ق.م) وإذ يقول الله تعالى :" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133)
بدء التاريخ اليهودي
ـ الخروج من مصر والدخول إلى فلسطين ـ
وهكذا يبدأ تاريخ اليهود منذ عهد موسى مع قومه من بني إسرائيل الذين سمّوا ب (يهود) نسبةً إلى (يهوه) وهو الله الواحد بلغتهم وكما ورد في التوراة (كتاب عهدهم القديم ) الذي أنزله الله على موسى (عليه السلام) والعهد الجديد هو الإنجيل ويسميان معاً بالكتاب المقدس ( holy bible ) ويذكر اليهود مع النصارى في القرآن الكريم بأهل الكتاب ؛ يقول الله تعالى :" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) *هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 65ـ67)
وفي الآيات إشارة واضحة إلى أنّ الديانة اليهودية ما عرفت إلا بعد نزول التوراة على موسى (عليه السلام) ، وكل من تبع اليهودية التوراتية بعد ذلك سموا "يهوداً" ! إلا أنّ بعض كهنتهم بعد العودة من السبي البابلي إلى فلسطين (539ق.م) قاموا ـ حفظاً لنقاء الدين والدم كما يزعمون ، ومنعاً من اندماجهم بالغير ـ بوضع قوانين صارمة تحرّم الزواج من غير يهوديات ، فتمت عمليات الطلاق من نساء أشدوديات وأمونيات ومؤابيات ظناً منهم بذلك أنهم يصونون اليهودية من كل رافد أجنبي .. في محاولة لتكوين شعب واحد أضفوا عليه صفة "شعب الله المختار" الموعود بالأرض المقدسة دون غيره من الشعوب ! لكنّ ذلك لم يدم طويلاً حتى انضاف إليهم الكثير ممن تبع ديانتهم في الشرق والغرب مثل يهود الخزر ذوي الأصل التتري ،ويهود أثيوبيا الذين عرفوا بيهود "الفلاشا" والأشكناز الأوربيون من ذوي الأصل الروماني أو الغالي أو الإسباني ، وهم في الغالب من قاموا بالدعوة الصهيونية الاستيطانية لإيجاد وطن ودولة لهم في فلسطين التي يسمونها أرض الميعاد !
هذا ويقدّر تاريخ ميلاد موسى (عليه السلام) ما بين (1280و 1270ق.م ) وكان لجوؤه إلى مدين قرب الثلاثين من عمره حيث تزوج من ابنة شيخ مدين ومكث عنده عشر سنوات ليبلغ سن الأربعين فيعود لمصر للقاء فرعون وتبليغه رسالة ربه مع أخيه (هارون) .. ثم خروجه ببني إسرائيل من مصر وعبورهم البحر ناجين وقد أغرق الله "جلت قدرته " فرعون الذي تبعه وجنوده ، وكان ذلك حسب تاريخ وفاة (رعمسيس الثاني ) عام (1224ق.م) أما حسب تاريخ وفاة ابنه " منفتاح" الفرعون الذي تلاه ويُظن أنه الفرعون المُغرق ، فيكون الخروج حوالي عام (1210ق.م) لتحصل لهم الآيات المذكورة في القرآن الكريم إلى أن يأمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم وهي" فلسطين " فيجبنوا فيحرّمها الله عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض ـ جنوب صحراء سيناء والنقب ـ " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة:22)
" قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26)
ويتوفّى الله موسى قبل أن يتحقق لهم دخولها إلى أن يتم ذلك على يد فتاه الكاهن (يوشع بن نون) تقديراً ما بين (1170و1160 ق.م ) ثم ليستوطنوا القسم الشرقي من فلسطين ويسموه " أرض إسرائيل " ! ثم تدور الحرب سجالاً بينهم وبين الفلستيين وقبائل كنعان دون أن يتمكنوا من الغلبة عليهم نهائياً ، حتى يبعث الله لهم طالوت ملكاً ، وهو شاؤل في التوراة ، فيقاتل الفلستيين مع الكنعانيين حوالي عام (1025 ق.م ) وكان في جيشه غلام اسمه "داود " استطاع بمقلاعه أن يقتل " جالوت " ملك الفلستيين الذين أخلوا ساحة القتال بعد مقتله وتم النصر لبني إسرائيل ! (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)
مملكة داود وسليمان (عليهما السلام) [1010ـ 935 ق.م ]
وهكذا ملك داود (عليه السلام) على بني إسرائيل بعد موت طالوت في إحدى المعارك اللاحقة مع الفلستيين حوالي عام (1010 ق.م ) وفي ذلك العام اتجه إلى حبرون " الخليل " حيث بايعه بنو إسرائيل ملكاً على جميع أسباطهم وبعد أعوام قليلة دخل مدينة القدس واتخذ جبل صهيون مسكناً له وأعلنها عاصمةً لمملكته ! وكانت حينئذٍ مع اليبوسيين سكان المنطقة الأصليين وهم إحدى قبائل كنعان وكانت تسمى " يابوس " وكان الكنعانيون قبل ذلك بألفي عام يسكنون أواسط وغرب وشمال فلسطين ، وكان الفلستيون يسكنون الساحل غرباً . هذا وإن كان علماء الآثار وحتى اليهود منهم ـ مثل "رافاييل جرينبرغ" و" إسرائيل فنكلشتاين " عالم الآثار بجامعة تل أبيب ـ يشكّون في دخول داود القدس ؛ إذ يؤكدون عدم العثور على قطعة أثرية واحدة تشير إلى (داود) "عليه السلام" برغم الحفريات المركزة التي تقوم في حي سلوان بالقدس منذ عام 2007م !
وقد توفّي داود (عليه السلام) حوالي 970 ق.م ليرث النبوة والملك من بعده ابنه " سليمان " الذي عرف بسليمان الحكيم (970 ـ 935 ق.م ) ووهب الله له ملكاً خاصاً حيث سخّر له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والجن والشياطين جنودا وبنّائين وصانعين ، وذلكّ بعد دعوةٍ دعا بها ربه أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده !وقصته مع ملكة سبأ وإسلامها على دين اليهودية معه معروفة في القرآن الكريم ـ انظر سورة النمل ـ ويقال أنه أقام المعبد الذي يعرف باسم "هيكل سليمان " ويذكر أنه توفّي عام (922ق.م ) وقد ناهز الثانية والخمسين من العمر ! وهناك بحث آخر ـ ربما هو الأصح ـ يفيد بأنّ وفاته كانت عام (935ق.م ) ولتنقسم مملكته إثر وفاته إلى جزئين :يهودا في الجنوب وعاصمتها أورشليم "القدس" وإسرائيل في الشمال وعاصمتها شكيم "نابلس" ثم السامرة !
سبي وتدمير
بعد انقسام مملكة سليمان إلى يهودا والسامرة " إسرائيل" نشأ الخلاف بين الدويلتين وانتشر الفساد حتى غزا الملك الأشوري "سرجون الثاني" دويلة إسرائيل في الشمال (722ق.م) فقضى عليها وسبى أهلها فيما سمي بالسبي الإسرائيلي الأول ، واستبدل سكانها بسكان جدد من الكوثيين والذين عرفوا بعد ذلك بالسماريين . وجاء الكلدانيون على أنقاض امبراطورية آشور فاقتسموا البلاد مع الميديين ، وكان من نصيبهم سورية وفلسطين التي غزاها ملكهم "نبوخذنصر" عام (597ق.م) وأخذ معه إلى بابل ملك يهودا وعشرة آلاف من أهم السكان ومنهم النبي "حزقيال" كرهائن ،مبقياً على مملكتهم كتابعة لإمبراطوريته .. أما النبي "أرميا" فقد لجأ مع من لجأ منهم إلى مصر ! إلا أنّ ملك يهودا الجديد المعيّن من قبل "نبوخذنصر" قام بثورة ، فعاد مرةً أخرى وحطّم أورشاليم "القدس " نهائياً وهدم الهيكل وسبى كثيراً من سكانها فيما سمي بالسبي الثاني أو السبي البابلي ! وكان ذلك عام (586ق.م) وأثناء سبيهم في بابل وضعوا ما يسمى بالتلمود البابلي ، واعتبروه جزءاًً من التوراة بل قدموه عليها في شريعتهم!
وقد يحلو للبعض أن يفسر السبي الأول والثاني الذي حدث لبني إسرائيل بعد انقسام مملكتهم بمرة الإفساد الأولى المشار إليها في القرآن الكريم :" وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً*فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً (الإسراء 4ـ5) وربما صح ذلك بغير كثير من الخلاف ؛ لكننا لو نظرنا في مدى الإفساد وصورته هنا ، وهو انقسام المملكة أو الثورة على الغازين لم نجده إفساداً في الأرض بالمعنى الدقيق للكلمة .. كما أنّ غزو سرجون الثاني ثم نبوخذنصر لهم لم يكن مجرد جوس خلال الديار ، بل كان إزالة لمملكة إسرائيل أولاً ثم تحطيماً للقدس وهدماً للهيكل وحرقاً للبيوت وسبياً مذلاً لبني إسرائيل ثانياً ! زد على ذلك أنّ الكرّة لم تعد لهم على هؤلاء مطلقاً ! وإنما يخبرنا التاريخ أن قد أعيد جزءٌ منهم من السبي البابلي بعدما استعطفوا الملك الفارسي "كورش" ليفتتح لهم أول وطن قومي يهودي في فلسطين وذلك عام (539ق.م) ! فلا بدّ أن يصدر عنهم فساد أعظم في الأرض يصل إلى تكذيب الأنبياء المرسلين وقتلهم أو محاولة ذلك كما سنرى ! ويكون العقاب في مرة الإفساد الأولى جوساً من العباد خلال ديارهم وإخراجهم منها بغير حرق أو تدمير ، ثم تردّ لهم الكرّة على من يفعل ذلك بهم؛ لسبب وحكمة من الله جلت حكمته ، لكنهم يسيئون ويستعلون ويهلكون الحرث والنسل ويدمرون البيوت على أهلها ويفسدون في الأرض مرةً ثانية فيبعث الله عباده المؤمنين الأقوياء ليس فقط بالجوس هذه المرة ، بل ليسوءوا وجوههم كما أساءوا ويهلكوهم كما أهلكوا .. تحقيقاً لقول الله تعالى:" ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الاسراء:6ـ7)
عودة من السبي وثورات وشتات
بعد عودة اليهود من سبي بابل طالبوا ببناء الهيكل الثاني فسمح لهم الإمبراطور الفارسي بذلك حتى أكملوا بناءه عام (515 ق.م) وأقاموا ببيت المقدس إلى أن غلبت عليهم الروم فلم تقم لهم بعد ذلك قائمة ! على أنهم قاموا أثناء ذلك بعدة ثورات كان مآلها إما التصدع أو الفشل !
1ـ الثورة المكابية (167ق.م) وكانت بقيادة "مكابيوس" ضد الحكم اليوناني السلوقي ، حيث أمكن إقامة حكم وراثي لأسرة "مكابيوس" إلا أنّ هذا الحكم تصدع بعد فترة وجيزة نتيجة للخلافات فيما بينهم وتكرار هجمات الأنباط العرب الذين بسطوا سيطرتهم على جنوبي فلسطين حتى مدائن صالح .. وانتهت دولة المكابيين بسيطرة الرومان على فلسطين عام (63ق.م) وبالضبط عام (40ق.م) عندما عينت روما على اليهود ملكاً من غيرهم هو (هيرود الأدومي) الموالي لها ! وقد حضر هذا ميلاد المسيح في آخر سنةٍ من حكمه (4ق.م) ولعله أو من تلاه الملك الذي قدّم رأس يحيى (عليه السلام) على طبق ، تلبيةً لطلب ابنة أخيه "هيروديا" التي أراد أن يتزوجها ، فأفتى يحيى بحرمة ذلك الزواج فكان رأسه مهراً لها ! وكان هذا بدء إفساد جديد لليهود ، صحبه أو تلاه قتلهم زكريا (عليه السلام) فتكذيبهم المسيح عيسى (عليه السلام) ومحاولة صلبه ! وغير ممكن اعتبار هذه مرة الإفساد الأولى ؛ لأن العقاب عليها كما سيجيء أيضاً كان أكثر بكثير من الجوس خلال الديار ! ولا الثانية ؛ لأنّ الكرّة لم تُردّ قبلها لبني إسرائيل على من غزاهم كما تشير الآية الكريمة !
2ـ حتى إذا كان عام (66م ) أي بعد رفع المسيح بثلاثين عاماً تقريباً ثار اليهود ثانيةً على الحكم الروماني فجاءهم ملك رومية بابنه " تيطوس" ومعه جيشٍ كثيف ففتح أورشليم ودمر الهيكل وقتل من قتل وسبى من سبى غضباً للمسيح ! وكان ذلك عام (70م)
3ـ ثورة باركوخبا (132ـ135م) نسبةً إلى اسم قائد الحركة "باركوخبا" الذي أمكنه احتلال القدس وبعض الحاميات الرومانية .. لكن تم القضاء على هذه الثورة على يد هدريان الروماني الذي نكّل بهم أشدَّ تنكيل ودمر هيكلهم الثاني نهائياً عام (135م) وأقام مكان القدس مدينة وثنية سماها "إيليا كابيتولينا" وأقام هيكلاً وثنياً للجوبتر على نفس مكان الهيكل القديم ومنع اليهود من الظهور داخل المدينة !
4ـ ثورة السماريين وهم الكوثيون الذين أجبرهم اليهود على اعتناق اليهودية :
وقد ثاروا ثورة نهائية عام (529م) إلا أنّ دولة الغساسنة العربية في حوران والتي كانت تتبع البيزنطيين قهرتهم قهراً دموياً فخربت ديارهم وأجبرتهم على الدخول في المسيحية ، ولم يبق منهم إلا عدد قليل ! وبذلك انتهى تواجد بني إسرائيل المجتمعي ومن تهوّد معهم نهائيا في فلسطين ، وكانوا قد تشتتوا من قبل في مختلف أنحاء العالم : فمنهم من ذهب إلى الحبشة ، ومنهم من استوطن الحجاز "يثرب" ووادي القرى وتيماء وخيبر ، طامعين أن يكون النبي القادم المخلّص منهم ! ولكنّ الله تعالى يشاء أن ينهي دورهم الرسالي في الأرض فيجعله عربياً ! فكان أن بعث محمداً بن عبد الله بن عبد المطّلب من نسل إسماعيل بن إبراهيم ـ على المرسلين السلام ـ برسالة الإسلام خاتماً للأنبياء والمرسلين والرسالات ، وكافةً للناس أجمعين !
وهكذا لم نعلم أنّ الكرّة رُدّت لبني إسرائيل على من غزاهم من مصريين أو أشوريين أو بابليين أو فرس أو يونان أو أنباط أو رومان حتى نهاية وجودهم في فلسطين وشتاتهم في الأرض .. فما الذي حدث بعد ذلك ؟
صور من إفساد اليهود بالمدينة (يثرب) ووعد أولاهما
لما عرف اليهود بالمدينة أنّ النبوة خرجت عنهم أكلت الغيرة قلوبهم ونهش الحسد أجسادهم ، فراحوا ينشرون الفساد والإرجاف بالمدينة كعادتهم مثلما صنعوا مع المسيح (عليه السلام) ! وقد أشار الله تعالى إلى إفسادهم وإرجافهم ومكرهم وعصيانهم في أكثر من آية في القرآن الكريم إذ يقول بعد ذكر قصة البقرة معهم:" أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:75ـ 76) ويقول سبحانه:" مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ) (النساء:46) ويقول (جل من قائل) :" وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة:64)
وأولى الحادثات العملية لهذا الإفساد اليهودي بالمدينة ما كان من بني قينقاع من محاولة أحدهم إظهار سوءة إحدى نساء المسلمين فقتلهم المسلم الذي هب لنجدتها ، ومن ثم حاصرهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) : أربعمئة حاسر وثلاثمئة دارع ، وتدخل عبد الله بن أُبيّ بن سلول لأجل عدم قتلهم وكانوا موالي له ! فأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها ! وبعدها حاول بنو النضير قتل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتحصنوا بحصونهم ومعهم النبل والحجارة ، فأخرجهم المسلمون من ديارهم إلى أول الحشر ( خيبر وناحية جرش جنوب الشام ) وجاسوا خلال ديارهم دون تدمير أو حرق ، وقطعوا بعض نخيلهم وتركوا البعض . هذا ولم يعتبر من بقي من يهود بني قريظة بالمدينة بما جرى لمن قبلهم ، حتى ألّبوا القبائل على الرسول والمسلمين وخانوا عهده معهم وخذلوه في مواقف الضيق والحرج ، وذلك في غزوة الأحزاب ، حيث اتفق بنو قريظة مع كفار قريش على فتح الحصون من جهتهم ، وقطعوا المؤن عن المسلمين ، فاضطرّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى تأديبهم على خيانتهم وفسادهم بالقتل والسبي والإخراج من الديار !
وهكذا حقّ قول الله تعالى فيهم بعد إفسادهم ، فجاس عباد الله خلال ديارهم جوساً غير ما يعنيه التدمير أو الحرق .. فالغالب أنها مرة الإفساد الأولى لسببين :
الأول : أنّ مرات الإفساد السابقة اقترنت ليس فقط بالجوس خلال الديار ، بل بالتدمير والحرق وإنهاء الكيان المجتمعي ، وأحياناً بذبح الأبرياء كما فعل الصليبيون عند احتلالهم للقدس عام 1099م
الثاني : أنّ مرات الإفساد السابقة حدثت دون أن تُردّ الكرّة لليهود على أحدٍ ممن غزاهم ، بينما ردّت لهم الكرّة على العرب المسلمين بعد هذه المرة كما سنرى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعد الآخرة
يقول الله تعالى :" ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الإسراء:6ـ7)
ولو قلبنا صفحات التاريخ لما وجدنا الكرّة ردّت لبني إسرائيل على أحدٍ ممن دمرهم أو جاس ديارهم بعد إفسادٍ لهم ـ وقد زُوِّدوا بالمال والبنين وكثرة نفير الحرب ـ إلا في زماننا هذا ومنذ النكبة الفلسطينية عام (1948م ـ 1367ه) ونحن نؤمن بحكمة الله تعالى وقدره وصدق وعده إذ جاء بهم لفيفاً من كل أنحاء الأرض مؤازرين باليهود من غير جنسهم ،لتردّ لهم الكرة علينا؛ إذ يقول الله تعالى :" وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) (الإسراء:104) واللفيف في اللغة :الجمع العظيم من أخلاط شتى . وهي الصورة التي جاءوا بها إلى فلسطين في هذا الزمان ! ونؤمن بمجيء وعد الآخرة متى جمع وحشر جميع نسلهم من أسباطهم الإثني عشر من خلال هذا اللفيف الجامع ، وبلغ فسادهم وعلوّّهم أوجه في الأرض .. فهاهم وقد تمكنوا ـ بحبلٍ من الله و تحقيقاً لوعده ، وبحبلٍ من الناس ( الإنجليز والأمريكان) الذين ساعدوهم على الهجرة إلى فلسطين وأمدوهم بالسلاح ودربوا النفير الغفير منهم على القتال ـ من إيقاع الهزيمة بالجيوش العربية السبعة الذين جاءوا لنصرة إخوانهم في فلسطين ! ولا بدّ هذه المرة أننا نحن العرب المسلمين الذين فقدنا عامل التقوى والصلاح ، ودبت فينا مظاهر غير هيّنة من الفساد ، فسلطهم الله تعالى علينا وأحلهم ديارنا وأرضنا تحقيقاً لقوله تعالى :" قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128) .. الأمر الذي لن يطول كما تفيدنا الآية السابعة من سورة الإسراء في خطابها لبني إسرائيل ، إذ تمضي محذّرةً إياهم من الإفساد مرةً أخرى متى مكّنهم الله تعالى من الغلبة والسيطرة ! الآية : " إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً) (الإسراء:7) وهم لا بدّ أن يفسدوا ولا بدّ أن يجيء وعد الآخرة غير بعيد من زمن هذا الإفساد ، بدليل التعبير عن مستقبل المجيء بحرف الفاء الذي يفيد الترتيب مع التعقيب ،خلافاً للحرف " ثُمّ" الذي يفيد الترتيب مع التراخي ، فإذا جاء هذا الوعد بعث الله خَلَفَ عباده من المؤمنين الأقوياء الصالحين ؛ ليسوءوا وجوه المفسدين إذلالاً وتعريةً لمنهجهم الإفسادي في الأرض ويهلكوهم إهلاكاً ، وليدخلوا المسجد الأقصى دخول إذلال لهم و تحرير له من أيديهم ، كما دخلوه أول مرة زمن خلافة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان بأيدي الروم ، فجاء التعبير في الآية على سبيل التشبيه ـ كما دخلوه أول مرة ـ دون سابق ذكر لدخولهم ؛ إذ لم يكن المسجد بأيدي اليهود ليُذلّوا بهذا الدخول ! مما يبرز دليلاً آخر على أنّ مرة الإفساد الأولى هي التي كانت في صدر الإسلام زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى زمن خلافة الفاروق عمر الذي نفى اليهود من كل جزيرة العرب بعد تواصل أعمالهم الإفسادية في خيبر !
والآن .. وقد وضحت لدينا الأمور وضوح الشمس في رابعة النهار ! وكان ردُّ الكرّة لبني إسرائيل ، ومجيئهم في لفيف من يهود آخرين ليزداد بهم نفير الحرب ، ثم إساءتهم وإفسادهم في الأرض إذا ردت لهم الكرّة وسيطروا ، هو قضاءٌ من الله تعالى ليجيء بعد ذلك وعن قريب وعد الآخرة الذي تساء فيه وجوههم ويهلكون على يد العباد الذين أسيء إليهم .. فليسيئوا اليوم إلينا ما أساءوا : ليقتلوا الأطفال الآمنين والشيوخ العزل .. وليقيموا المذابح كلما قدروا على ذلك .. وليهدموا البيوت على أهلها.. وليحرثوا الأرض بزروعها وأشجارها،وليعمقوا مستوطناتهم فيما حرثوا وسلبوا من أرض . وليرفعوا شاهقاتهم في جنبات القدس وعلى أنقاض البيوت التي أخرجوا أهلها منها.. وليقيموا الجدر التي تخترق مزارعنا وبيوتنا ويظنون أنها مانعتهم .. وليستعلوا على تطبيق القرارات ، ولينقضوا العهود ولا يلتزموا بالاتفاقيات .. ليقتلوا .. ليسلبوا .. ليستعلوا .. فسيجيء عما قريب من يسوء وجوههم التي علت وتصعّرت بالصلف والكبرياء ، في وجه كل حوار أو مفاوضة أو نداء ! سيجيء من يعلو شاهقاتهم بالهلاك والتدمير ، ويدخل المسجد ويحرر القدس، دخول إذلال وتحرير تطهير ! إنهم عباد الله القادمون مع وعد الآخرة.. إنهم المرابطون .. إنهم المجاهدون .. إنهم الصالحون !إيفاءً لما كتب الله جل جلاله ووعد بقوله : "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105) وقوله :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحتى مجيء الوعد ..
والآن .. وقد عرفنا ! ولا يظننّ أحدٌ أنّ اليهود على غير علم أو معرفة أو أنّ هذا الأمر هو سرٌّ من الأسرار التي يجب كتمانها عنهم حتى يفاجأوا بها ! كلا فإنّ قدر الله نافذ .. علموا ذلك أم لم يعلموا .. جهلوا أم تجاهلوا ! فليُعدّوا ونحن نُعدّ ، ووعد الله تعالى هو الوعد ، والله غالبٌ على أمره . وإنما علينا أن نتعرف موقفنا وواجبنا حتى مجيء هذا الوعد .. وما هو دورنا المرحلي على درب المسيرة والدعوة ، ومن خلال موقع الزمان والمكان وواقع الحال والإمكان ؟
هل هو موقف التصبّر والانتظار ؟ أم واجب الدعاء على بساط من الكسل وإبطال الجهاد ونبذ العمل ، بينما هم يبنون ويتوسعون ويعدّون ويستعدون ويزيدون في علوهم وإفسادهم ويرتفعون ؟ والله تعالى يقول لنا :" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... " (الأنفال من الآية60) ويقول :" وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...) (الحج من الآية 78) ويقول :" وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105) ويقول :" قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام:135)
أم نصمّ الآذان ونطبق الأجفان ، ونتخذ طريق العجزة والعميان ؟ والله تعالى ينبهنا ويقول :" وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) (الفرقان:73)
إذن فهو عملٌ وجهادٌ مستمر .. أو جهاد وعمل دائب على منهج وطريقة وعين وعون من الله تعالى .. فعلينا إذن ـ والمعركة غير بعيدة من زماننا ، وأنهم في مرحلة " الكرّة لهم" والإفساد والعلوّ ـ أن نعدّ للمعركة القادمة ، ونستعد بما يلزم من عدة واستعداد وعمل وجهاد .. وعلينا أولاً أن نعتني بتنشئة وإعداد الجيل المحمدي القرآني الذي يحمل الراية ويواصل المسيرة ، فعساه يكون الجيل الظاهر على الحق القاهر لعدوه الصابر على البلاء، حتى يأتي أمر الله ! فيشبك الأيدي ويعانق الرايات مع أولئك القادمين مع وعد الآخرة ، عباداً لله داخلين المسجد محققين النصر مستعيدين الحق بإذن الله وتحقيقاً لوعده ، إنه لا يخلف الميعاد ! ثم علينا ثانياً : أن نكون على وعي ويقظة بما يدور حولنا ، مؤثّرين فيه بالكلمة الأدبية والسياسية التي تنمو وتتطور إلى درجة التأثير المباشر على الحكومات والقوى المتصرفة في الموازين الدولية .. ولا يكون ذلك فاعلاً مثمراً إلا بتكتل أصحاب المنهج المقصود وتوحدهم ..
وأخيراً ليس آخراً ـ ومن واقع مرحلتنا ، وانطلاقاً من طبيعة جغرافيتنا كمسرح للحدث وميدان للمعركة القادمة ، ومركز للقضية ـ علينا أن نستمر في جانب الدفع الجهادي القوي الذي لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ! وتحقيقاً لقوله تعالى :
" .. وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(التوبة: من الآية120)
هذا وقد يبطئ النصر مع هذا الجانب حتى يأتي أمر الله .. وقد لا يتحقق به شيءٌ ملموسٌ ظاهر ! ولكنه بلا شك يحقق بعض الأهداف القريبة ، فضلاً عن أنه يقع في جملة ما يغيظ العدو من موقف ، ويقضّ مضجعه بحيث لا يدعه ينام هادئ البال مستمتعاً بما اكتسب ، متوسعاً ممتداً فينا .. تحقيقاً لآماله الخائبة في بناء دولته الكبرى ! وفضلاً عن أنه يغرس الشعور الدائم لدى الخصم باستمرار تواجد من يحدّ من طغيانه وعناده ؛ فلا يتمادى في علوه وإفساده !!
إعداد :أ. رفيق أحمد علي
غزة في 15/1/2010م .......... 29 محرم 1431ه
المصادر :
1ـ القرآن الكريم
2ـ ملف إسرائيل ـ دراسة للصهيونية السياسية ... روجيه جارودي
3ـ المزاعم الصهيونية في فلسطين .......... فتحي عبد المعطي
4ـ تاريخ فلسطين القديم ................... ظفر الإسلام خان
5ـ تاريخ فلسطين الحديث............. د. عبد الوهاب الكيالي
6ـ ملامح تاريخ اليهود السياسي ...... محمد جلال عناية
7ـ زوال إسرائيل 2022م .............. بسام جرار
8 ـ الوحي ونقيضه .....................د. بهاء الأمير
9ـ قصص الأنبياء ...................... ابن كثير
10ـ قصص الأنبياء .................... عبد الوهاب النجار