
ويتناول هذا الفصل العناوين التالية التي سنأتي عليها تباعا إن شاء الله.
المدن والحواضر النبطية والأنماط المعمارية وسماتها:
1- أهم المدن والحواضر النبطية:
أ - الواقعة في المملكة الأردنية الهاشمية: البتراء، قرى ومستوطنات وادي موسى، وادي رم، خربة أم الجمال، إيلة (العقبة)، الحميمة، سيق البارد (البتراء الصغيرة )، خربة فينان مواقع أخرى في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية.
ب - المواقع النبطية في أراضي المملكة العربية السعودية: الحجر "مدائن صالح"، دومة الجندل، تيماء، العلا، ميناء لوكي كومي " أم لج".
ج – منطقة حوران: بصرى، السويداء "سوادا"، سيعا، صلخد " صرخد"، مواقع أخرى.
د – منطقة النقب الفلسطيني: الخلصة، كرنب، عبودة، نصتان.
2 – أنماط المساكن والأبنية:
1-2: بيوت الشعر أو الخيام.
2-2: المغاور والكهوف.
3-2: حجرات ومنازل الحجارة الغشيمة.
4-2: البيوت الطينية.
5-2: البيوت الحجرية المهندسة، أبنية عامة، معابد، مساكن.
6-2: البيوت المنحوتة في الصخر، معابد، أبنية عامة، مقابر.
3- أنماط العمارة النبطية وسماتها العامة:
1-3: العمارة الدينية.
2-3: العمارة السكنية.
3- 3: العمارة العامة.
4- 3: العمارة الجنائزية.
4 – السمات العامة للعمارة النبطية:
1- 4: من حيث المواد المستخدمة.
2- 4: من حيث الفنون المعمارية.
أولا- أهم المدن والحواضر النبطية:
انتشرت المدن والمستوطنات والقرى النبطية على مدى انتشار الجغرافيا النبطية، وهي رقعة واسعة بلا شك مثلما أسلفنا في الفصل الأول من هذا الكتاب، ولأجل تسهيل البحث والقراءة قمنا باعتماد التقسيم الجغرافي السياسي السائد حاليا في البحث عن المدن والمستوطنات النبطية. وقبل استعراض ما توفر من معلومات عن هذه المدن، نلفت الإنتباه أن بعضا من المستوطنات النبطية قد درست واختفت آثارها بحيث يصعب تصنيفها إن كانت مدينة أم قرية أم مستوطنة صغيرة، ثم إن أهم هذه المواقع وأكثرها يقع في أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، وإلى جانب الأردن ثمة مدن ومستوطنات نبطية في كل من أراضي الجمهورية العربية السورية، والمملكة العربية السعودية، وفي صحراء النقب من أراضي جنوب فلسطين، ومن المحتمل أيضا أن تكون النبطية في لبنان واحدة من المدن النبطية التي وصلها النفوذ النبطي، وفيما يلي استعراض لهذه المدن والمستوطنات وفق البلدان الحالية:
أولا- المدن والمستوطنات في المملكة الأردنية الهاشمية:
1- البتراء عاصمة مملكة الأنباط:
اسماها أصحابها الأنباط "رقيم"، وهذا الاسم السامي لها، وقبلا سماها الأدوميين "السلع" نسبة إلى الشق الصخري، ومن اسمائها الصخرة، والمدينة الوردية، والمدينة المفقودة الموجودة، والمدينة الضائعة، والمدينة العجيبة، والبترا، والبتراء، والمدينة المدهشة، وآخر اسماءها "العجيبة الثانية من عجائب الدنيا السبع الجديدة".
أدهشت البتراء كل من شاهدها وتأملها وتبصر في تاريخها الغني وفنها المعماري الفريد، واعترف العالم أخيرا بالبتراء كواحدة من عجائب الدنيا السبع بتاريخ 7/7/2007، واحتلت المركز الثاني بعد سور الصين العظيم، وقد بلغت شهرتها آفاق الأرض عبر السياحة والإعلام والدراسات الكثيرة التي صارت تعد بالمئات من كتب ومقالات ودراسات علمية.
وإذا كان الصينيون يرددون على مسامع ضيوفهم القول "أن من لم يزر سور الصين العظيم كأنما لم يزر الصين". فإنه لمن الحق القول "أن من لم يزر البتراء لم يزر الأردن" أو "أن من لم يزر البتراء أو لم يقرأ عنها، فقد فاته الكثير عن التاريخ والفن والحضارة والمغامرة". ومن نافلة القول أن القراءة عن البتراء لا تغني شيئاً عن زيارتها والتمعن الطويل بآثارها الغنية وعيش التجربة حية بدخول السيق الشهير الذي مرت منه آلاف وربما مئات الآلاف من القوافل التجارية التي كانت تحمل البضائع والأسرار والحكايا الغريبة التي كانت تدور منذ مطلع تاريخ هذه المنطقة.
كان لموقع البتراء أثر مهما في دورها العسكري والتجاري والحضاري لمنطقة الشرق الأدنى منذ عصور مبكرة، وقد تم إدراك هذا الدور وتقديره من كل القوى السياسية التي كانت تقوم في المنطقة مما جعل البتراء ومحيطها ساحة خصبة للكثير من الأحداث ومنطلقا وملتقى في الوقت نفسه للكثير من الأفكار.
يرتفع الموقع 2700 قدم فوق سطح البحر، وترتفع التلال المحيطة 1000 قدم فوق أرضية الوادي والتي بلغ عرضها ميلاً واحداً تقريبا. ويقع الموقع على خط طول 73-37 وخط عرض N 30-19، وتقع إلى جنوب القدس ب 95 ميلاً و60 ميلا شمال العقبة، وهي إلى الجنوب من عمان 250 كم عبر الطريق الصحراوي مرورا بمحاذاة الكرك والطفيلة والشوبك.
تمتاز البتراء بمنعتها الدفاعية الطبيعية ضد الأخطار المحيطة، وتتمثل هذه المنعة بالمرتفعات العالية التي تحيط بالموقع من الجهات كافة، ولا سبيل للدخول إليها إلا من خلال الممر الإجباري المسمى السيق، وهو شق صخري عظيم ينفلج نصفين محدثا هذا الممر الذي يبلغ حوالي الميل قبل مواجهه واجهة المدينة المتمثلة في الخزنة الرائعة الجمال التي اشتهرت باعتبارها واجهة المدينة.
وغالبا ما يتساءل الزائر للبتراء الكثير من الأسئلة عن المدينة وتاريخها وتراثها وحضارتها وأهميتها وسكانها..إلخ. ومن ذلك مثلا: كيف تعرف الأنباط إلى موقع المدينة ولماذا أصبحت المدينة مركز هذه المملكة المترامية الأطراف ؟ وكيف عاشوا فيها وكيف أداروها ؟ وهل كانت حقا مركزا سكنيا أم مركزا إداريا وسياسيا وتجاريا أم مركزا عسكريا وغير ذلك من الأسئلة ؟
إن الأبحاث والدراسات - على كثرتها – عن البتراء خصوصا والأنباط عموما لا زالت تفتقد إلى اليقين في الكثير من الاجابات على الكثير من التساؤلات، لكن هذه الدراسات استطاعت أن تقدم لنا معلومات وفيرة عن الخطوط العامة لحضارة المدينة كما لتاريخ الأنباط وحضارتهم عموما، بل ووفرت لنا الحفريات الأثرية معلومات مفصلة ومحددة عن الكثير من مناحي الحياة في المدينة منذ أن عرفت الاستيطان في العهد الأدومي مرورا بالأنباط وما داخل ذلك من مراحل حضارية مختلفة.
كانت البتراء قبل ظهور الأنباط موقعا هامشيا من مواقع الأدوميين، لا نعرف تماما إن كانت قرية أم مدينة أم غير ذلك، ومن المؤكد أن الأدوميين عاشوا فيها فترة طويلة من الزمن وجابوا فيها الكثير من الكهوف قبل أن ينتشر الأنباط في المنطقة ويصبغوها بطابعهم الخاص منذ القرن الرابع قبل الميلاد على الأقل بحيث لا نستطيع تمييز أي أثر أدومي فيها باستثناء كسر الفخار الذي وجد في الطبقات الترابية المطمورة في منطقة أم البيارة في البتراء، وتنقل لنا التوراة ومفسروها تلميحات مهمة عن تاريخ المنطقة قبل الأدوميين ،إذ أن عيصو بن إسحق كان قد لجأ إلى المنطقة عقب خلافه مع أخيه يعقوب (إسرائيل) واتخذ من جبال الشراة- سعير مأوى له، ويفترض أغلب هؤلاء المفسرين أن جبال الشراة هي المعادل لمنطقة آدوم أو سعير اللتين يتكرر ذكرهما كثيرا في الأسفار (التكوين، تثنية الاشتراع، يشوع)، ومع أننا نتحفظ على معادلة سعير بجبال الشراة، وليس هنا المجال لشرح ذلك، فإن أرض أدوم كانت جبال الشراة هي نواتها الرئيسية مثلما تؤكد الكثير من الشواهد الأثرية، في حين أن الاجتهادات التأريخية التي تقوم أكثر ما تقوم على تفسيرات التوراة تشير إلى أن الحوريين كانوا هم الأقوام السابقة على الأدوميين في جبال الشراة، ومنها بالطبع مدينة البتراء. ويقول (وليم ليبي وفرانكلين هوسكنر) أنه إذا كان الحوريون هم سكان الكهوف حقا، وأنهم قطنوا جبال سعير، فإنهم لا بد من أنهم اتخذوا من البتراء مسكنا ومعاقل لهم في أيامهم الأولى، حتى لو لم نعثر على أثر يدل على هؤلاء القوم، فإن مواصفات المنطقة وطبيعتها تتطابق مع أوصاف حياتهم الأولى، خاصة وأنه لا يوجد مكان آخر في جبال سعير "الشراة " يتطابق مع هذه المميزات ما عدا البتراء(1).
وحتى وقت طويل متأخر من تدمير مملكة الأدوميين أواسط القرن السادس قبل الميلاد وعاصمتها "بصرة" التي هي قرب الطفيلة اليوم باسم "بصيرة"، فقد ظلت البتراء غير ذات شأن إلى أن تنبه الأنباط لها وبدؤوا باستيطانها إلى جانب سكانها الأصليين من الأدوميين الذين ظلوا يمارسون الزراعة مهنتهم الأساسية التي برعوا بها إلى جانب اشتغالهم في قيادة القوافل التجارية وتقديم الخدمات لها شأن الأنباط من بعدهم. غير أنهم – أغلب الظن – خسروا مكانتهم التجارية بعد أن فقدوا ثقة الدولة الأشورية العظمى آنذاك دولة البابليين الجدد نظرا لفشلهم في حماية مصالحهم التجارية على الأغلب. وهكذا بدأ الأنباط بتولى هذه المهمة الخطيرة ليثبتوا بها جدارة عالية استخدموا فيها خبراتهم السابقة التي صقلوها قبل نزوحهم إلى المنطقة.
ولما عظم شأن الأنباط منذ مطلع الفترة اليونانية وتعاظمت تجارتهم ونمت زراعتهم بفضل جدهم واجتهادهم واستيعابهم للمتغيرات السياسية والعسكرية التي تدور من حولهم، صار شأن البتراء يتعاظم مع الوقت، ولا نعرف تماما إذا ما كان الأنباط قد قرروا منذ البداية اتخاذ البتراء عاصمة لهم أو غير ذلك، غير أنه لا يرد ما يشير إلى غير ذلك، أي لا يوجد موقع آخر سبق البتراء في أهميته. لكن هاموند Hammond يقترح أن البتراء قد تكون في محل محطة للتصنيع ومركز للعمليات التجارية أكثر من أن تكون محطة لتجارة البهارات والعطور المتجهه إلى العالم الغربي، وهي قد تكون مركزا مهما لتجارة السيراميك بالجملة والمفرد، ويفترض أن تكون أيضا محطة لتجهيز القوافل ومدها بالعتاد اللازم، ثم بحراستها ضد الطامعين(2)، وهاموند إنما يتحدث عن مرحلة متأخرة من عمر البتراء، وتحديدا عن فترة الازدهار التي بدأت في القرن الأول قبل الميلاد، لكننا نعرف من خلال المباني الكثيرة في البتراء، سواء المنحوتة في الصخر أم المبنية أن المدينة كانت تعج بالحياة، ونعرف من خلال سترابو أن المدينة كانت تغص بالقصور والفلل التي تحيط بها الحدائق المزروعة بالأشجار، ونعرف أيضا من خلال نظامها المائي أن هذه الشبكة إنما هيأت لمجتمع حيوي يمارس الحياة بمختلف جوانبها كما نعرفها في أفخم العواصم وفق السياق التاريخي بالطبع. ونعرف من خلال المدرج أنه كان يتسع لثلاثة آلاف شخص(3)، ومثل هذا العدد لا بد أنه لمدينة كبيرة حتى بمقاييس أيامنا هذه، وقدر البعض عدد سكان البتراء خلال فترة الازدهار بثلاثين ألف نسمة(4).
وللدخول إلى البتراء لا بد للزائر أن يمر أولا عبر وادي موسى، يقع هذا الوادي إلى الشرق من البتراء، كان هذا الوادي مستوطنة مهمة من مستوطنات الأنباط، ويبدو كأنه الضاحية الجديدة للبتراء مع أنه يقع خارجها، إلا أن كثرة المباني التي اكتشفت فيه وفخامة هذه الأبنية يدل على فترة مميزة من الازدهار، ويبدو أن البعض من الأنباط اختار البناء خارج البتراء لنفس الأسباب التي تجعل الناس الآن يبتعدون عن مراكز المدن الصاخبة بالحركة والناس، ومن ذلك التمتع بالهدوء والحصول على أراض أقل ثمنا من مركز المدينة خصوصا أن الأمن بات سيد الموقف بعد أن أحكمت السلطة قبضتها على مختلف الشؤون المعنية بها الدولة.
ويكتسب هذا الوادي أهميته من عناصر كثيرة أهمها وجود نبع الماء
(عين موسى) الذي لا يزال يغذي المنطقة بمائه العذب ويسقي بساتين الفاكهة من عنب وتين وزيتون(5)، وكان هذا النبع يجري في قنوات وأنابيب حتى يصل مدخل البتراء ليجري توزيعه عبر قنوات السيراميك إلى منازل البتراء وآبارها، ولا زالت هذه الأنابيب تشاهد على الجانب الأيمن للسيق، وإنك لتعجب أن تجد صناعة هذه الأيام لم تزد الكثير على صناعة الأنباط من أنابيب السيراميك.
في الجزء التالي – مدينة البتراء ومعالمها الباقية
المدن والحواضر النبطية والأنماط المعمارية وسماتها:
1- أهم المدن والحواضر النبطية:
أ - الواقعة في المملكة الأردنية الهاشمية: البتراء، قرى ومستوطنات وادي موسى، وادي رم، خربة أم الجمال، إيلة (العقبة)، الحميمة، سيق البارد (البتراء الصغيرة )، خربة فينان مواقع أخرى في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية.
ب - المواقع النبطية في أراضي المملكة العربية السعودية: الحجر "مدائن صالح"، دومة الجندل، تيماء، العلا، ميناء لوكي كومي " أم لج".
ج – منطقة حوران: بصرى، السويداء "سوادا"، سيعا، صلخد " صرخد"، مواقع أخرى.
د – منطقة النقب الفلسطيني: الخلصة، كرنب، عبودة، نصتان.
2 – أنماط المساكن والأبنية:
1-2: بيوت الشعر أو الخيام.
2-2: المغاور والكهوف.
3-2: حجرات ومنازل الحجارة الغشيمة.
4-2: البيوت الطينية.
5-2: البيوت الحجرية المهندسة، أبنية عامة، معابد، مساكن.
6-2: البيوت المنحوتة في الصخر، معابد، أبنية عامة، مقابر.
3- أنماط العمارة النبطية وسماتها العامة:
1-3: العمارة الدينية.
2-3: العمارة السكنية.
3- 3: العمارة العامة.
4- 3: العمارة الجنائزية.
4 – السمات العامة للعمارة النبطية:
1- 4: من حيث المواد المستخدمة.
2- 4: من حيث الفنون المعمارية.
أولا- أهم المدن والحواضر النبطية:
انتشرت المدن والمستوطنات والقرى النبطية على مدى انتشار الجغرافيا النبطية، وهي رقعة واسعة بلا شك مثلما أسلفنا في الفصل الأول من هذا الكتاب، ولأجل تسهيل البحث والقراءة قمنا باعتماد التقسيم الجغرافي السياسي السائد حاليا في البحث عن المدن والمستوطنات النبطية. وقبل استعراض ما توفر من معلومات عن هذه المدن، نلفت الإنتباه أن بعضا من المستوطنات النبطية قد درست واختفت آثارها بحيث يصعب تصنيفها إن كانت مدينة أم قرية أم مستوطنة صغيرة، ثم إن أهم هذه المواقع وأكثرها يقع في أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، وإلى جانب الأردن ثمة مدن ومستوطنات نبطية في كل من أراضي الجمهورية العربية السورية، والمملكة العربية السعودية، وفي صحراء النقب من أراضي جنوب فلسطين، ومن المحتمل أيضا أن تكون النبطية في لبنان واحدة من المدن النبطية التي وصلها النفوذ النبطي، وفيما يلي استعراض لهذه المدن والمستوطنات وفق البلدان الحالية:
أولا- المدن والمستوطنات في المملكة الأردنية الهاشمية:
1- البتراء عاصمة مملكة الأنباط:
اسماها أصحابها الأنباط "رقيم"، وهذا الاسم السامي لها، وقبلا سماها الأدوميين "السلع" نسبة إلى الشق الصخري، ومن اسمائها الصخرة، والمدينة الوردية، والمدينة المفقودة الموجودة، والمدينة الضائعة، والمدينة العجيبة، والبترا، والبتراء، والمدينة المدهشة، وآخر اسماءها "العجيبة الثانية من عجائب الدنيا السبع الجديدة".
أدهشت البتراء كل من شاهدها وتأملها وتبصر في تاريخها الغني وفنها المعماري الفريد، واعترف العالم أخيرا بالبتراء كواحدة من عجائب الدنيا السبع بتاريخ 7/7/2007، واحتلت المركز الثاني بعد سور الصين العظيم، وقد بلغت شهرتها آفاق الأرض عبر السياحة والإعلام والدراسات الكثيرة التي صارت تعد بالمئات من كتب ومقالات ودراسات علمية.
وإذا كان الصينيون يرددون على مسامع ضيوفهم القول "أن من لم يزر سور الصين العظيم كأنما لم يزر الصين". فإنه لمن الحق القول "أن من لم يزر البتراء لم يزر الأردن" أو "أن من لم يزر البتراء أو لم يقرأ عنها، فقد فاته الكثير عن التاريخ والفن والحضارة والمغامرة". ومن نافلة القول أن القراءة عن البتراء لا تغني شيئاً عن زيارتها والتمعن الطويل بآثارها الغنية وعيش التجربة حية بدخول السيق الشهير الذي مرت منه آلاف وربما مئات الآلاف من القوافل التجارية التي كانت تحمل البضائع والأسرار والحكايا الغريبة التي كانت تدور منذ مطلع تاريخ هذه المنطقة.
كان لموقع البتراء أثر مهما في دورها العسكري والتجاري والحضاري لمنطقة الشرق الأدنى منذ عصور مبكرة، وقد تم إدراك هذا الدور وتقديره من كل القوى السياسية التي كانت تقوم في المنطقة مما جعل البتراء ومحيطها ساحة خصبة للكثير من الأحداث ومنطلقا وملتقى في الوقت نفسه للكثير من الأفكار.
يرتفع الموقع 2700 قدم فوق سطح البحر، وترتفع التلال المحيطة 1000 قدم فوق أرضية الوادي والتي بلغ عرضها ميلاً واحداً تقريبا. ويقع الموقع على خط طول 73-37 وخط عرض N 30-19، وتقع إلى جنوب القدس ب 95 ميلاً و60 ميلا شمال العقبة، وهي إلى الجنوب من عمان 250 كم عبر الطريق الصحراوي مرورا بمحاذاة الكرك والطفيلة والشوبك.
تمتاز البتراء بمنعتها الدفاعية الطبيعية ضد الأخطار المحيطة، وتتمثل هذه المنعة بالمرتفعات العالية التي تحيط بالموقع من الجهات كافة، ولا سبيل للدخول إليها إلا من خلال الممر الإجباري المسمى السيق، وهو شق صخري عظيم ينفلج نصفين محدثا هذا الممر الذي يبلغ حوالي الميل قبل مواجهه واجهة المدينة المتمثلة في الخزنة الرائعة الجمال التي اشتهرت باعتبارها واجهة المدينة.
وغالبا ما يتساءل الزائر للبتراء الكثير من الأسئلة عن المدينة وتاريخها وتراثها وحضارتها وأهميتها وسكانها..إلخ. ومن ذلك مثلا: كيف تعرف الأنباط إلى موقع المدينة ولماذا أصبحت المدينة مركز هذه المملكة المترامية الأطراف ؟ وكيف عاشوا فيها وكيف أداروها ؟ وهل كانت حقا مركزا سكنيا أم مركزا إداريا وسياسيا وتجاريا أم مركزا عسكريا وغير ذلك من الأسئلة ؟
إن الأبحاث والدراسات - على كثرتها – عن البتراء خصوصا والأنباط عموما لا زالت تفتقد إلى اليقين في الكثير من الاجابات على الكثير من التساؤلات، لكن هذه الدراسات استطاعت أن تقدم لنا معلومات وفيرة عن الخطوط العامة لحضارة المدينة كما لتاريخ الأنباط وحضارتهم عموما، بل ووفرت لنا الحفريات الأثرية معلومات مفصلة ومحددة عن الكثير من مناحي الحياة في المدينة منذ أن عرفت الاستيطان في العهد الأدومي مرورا بالأنباط وما داخل ذلك من مراحل حضارية مختلفة.
كانت البتراء قبل ظهور الأنباط موقعا هامشيا من مواقع الأدوميين، لا نعرف تماما إن كانت قرية أم مدينة أم غير ذلك، ومن المؤكد أن الأدوميين عاشوا فيها فترة طويلة من الزمن وجابوا فيها الكثير من الكهوف قبل أن ينتشر الأنباط في المنطقة ويصبغوها بطابعهم الخاص منذ القرن الرابع قبل الميلاد على الأقل بحيث لا نستطيع تمييز أي أثر أدومي فيها باستثناء كسر الفخار الذي وجد في الطبقات الترابية المطمورة في منطقة أم البيارة في البتراء، وتنقل لنا التوراة ومفسروها تلميحات مهمة عن تاريخ المنطقة قبل الأدوميين ،إذ أن عيصو بن إسحق كان قد لجأ إلى المنطقة عقب خلافه مع أخيه يعقوب (إسرائيل) واتخذ من جبال الشراة- سعير مأوى له، ويفترض أغلب هؤلاء المفسرين أن جبال الشراة هي المعادل لمنطقة آدوم أو سعير اللتين يتكرر ذكرهما كثيرا في الأسفار (التكوين، تثنية الاشتراع، يشوع)، ومع أننا نتحفظ على معادلة سعير بجبال الشراة، وليس هنا المجال لشرح ذلك، فإن أرض أدوم كانت جبال الشراة هي نواتها الرئيسية مثلما تؤكد الكثير من الشواهد الأثرية، في حين أن الاجتهادات التأريخية التي تقوم أكثر ما تقوم على تفسيرات التوراة تشير إلى أن الحوريين كانوا هم الأقوام السابقة على الأدوميين في جبال الشراة، ومنها بالطبع مدينة البتراء. ويقول (وليم ليبي وفرانكلين هوسكنر) أنه إذا كان الحوريون هم سكان الكهوف حقا، وأنهم قطنوا جبال سعير، فإنهم لا بد من أنهم اتخذوا من البتراء مسكنا ومعاقل لهم في أيامهم الأولى، حتى لو لم نعثر على أثر يدل على هؤلاء القوم، فإن مواصفات المنطقة وطبيعتها تتطابق مع أوصاف حياتهم الأولى، خاصة وأنه لا يوجد مكان آخر في جبال سعير "الشراة " يتطابق مع هذه المميزات ما عدا البتراء(1).
وحتى وقت طويل متأخر من تدمير مملكة الأدوميين أواسط القرن السادس قبل الميلاد وعاصمتها "بصرة" التي هي قرب الطفيلة اليوم باسم "بصيرة"، فقد ظلت البتراء غير ذات شأن إلى أن تنبه الأنباط لها وبدؤوا باستيطانها إلى جانب سكانها الأصليين من الأدوميين الذين ظلوا يمارسون الزراعة مهنتهم الأساسية التي برعوا بها إلى جانب اشتغالهم في قيادة القوافل التجارية وتقديم الخدمات لها شأن الأنباط من بعدهم. غير أنهم – أغلب الظن – خسروا مكانتهم التجارية بعد أن فقدوا ثقة الدولة الأشورية العظمى آنذاك دولة البابليين الجدد نظرا لفشلهم في حماية مصالحهم التجارية على الأغلب. وهكذا بدأ الأنباط بتولى هذه المهمة الخطيرة ليثبتوا بها جدارة عالية استخدموا فيها خبراتهم السابقة التي صقلوها قبل نزوحهم إلى المنطقة.
ولما عظم شأن الأنباط منذ مطلع الفترة اليونانية وتعاظمت تجارتهم ونمت زراعتهم بفضل جدهم واجتهادهم واستيعابهم للمتغيرات السياسية والعسكرية التي تدور من حولهم، صار شأن البتراء يتعاظم مع الوقت، ولا نعرف تماما إذا ما كان الأنباط قد قرروا منذ البداية اتخاذ البتراء عاصمة لهم أو غير ذلك، غير أنه لا يرد ما يشير إلى غير ذلك، أي لا يوجد موقع آخر سبق البتراء في أهميته. لكن هاموند Hammond يقترح أن البتراء قد تكون في محل محطة للتصنيع ومركز للعمليات التجارية أكثر من أن تكون محطة لتجارة البهارات والعطور المتجهه إلى العالم الغربي، وهي قد تكون مركزا مهما لتجارة السيراميك بالجملة والمفرد، ويفترض أن تكون أيضا محطة لتجهيز القوافل ومدها بالعتاد اللازم، ثم بحراستها ضد الطامعين(2)، وهاموند إنما يتحدث عن مرحلة متأخرة من عمر البتراء، وتحديدا عن فترة الازدهار التي بدأت في القرن الأول قبل الميلاد، لكننا نعرف من خلال المباني الكثيرة في البتراء، سواء المنحوتة في الصخر أم المبنية أن المدينة كانت تعج بالحياة، ونعرف من خلال سترابو أن المدينة كانت تغص بالقصور والفلل التي تحيط بها الحدائق المزروعة بالأشجار، ونعرف أيضا من خلال نظامها المائي أن هذه الشبكة إنما هيأت لمجتمع حيوي يمارس الحياة بمختلف جوانبها كما نعرفها في أفخم العواصم وفق السياق التاريخي بالطبع. ونعرف من خلال المدرج أنه كان يتسع لثلاثة آلاف شخص(3)، ومثل هذا العدد لا بد أنه لمدينة كبيرة حتى بمقاييس أيامنا هذه، وقدر البعض عدد سكان البتراء خلال فترة الازدهار بثلاثين ألف نسمة(4).
وللدخول إلى البتراء لا بد للزائر أن يمر أولا عبر وادي موسى، يقع هذا الوادي إلى الشرق من البتراء، كان هذا الوادي مستوطنة مهمة من مستوطنات الأنباط، ويبدو كأنه الضاحية الجديدة للبتراء مع أنه يقع خارجها، إلا أن كثرة المباني التي اكتشفت فيه وفخامة هذه الأبنية يدل على فترة مميزة من الازدهار، ويبدو أن البعض من الأنباط اختار البناء خارج البتراء لنفس الأسباب التي تجعل الناس الآن يبتعدون عن مراكز المدن الصاخبة بالحركة والناس، ومن ذلك التمتع بالهدوء والحصول على أراض أقل ثمنا من مركز المدينة خصوصا أن الأمن بات سيد الموقف بعد أن أحكمت السلطة قبضتها على مختلف الشؤون المعنية بها الدولة.
ويكتسب هذا الوادي أهميته من عناصر كثيرة أهمها وجود نبع الماء
(عين موسى) الذي لا يزال يغذي المنطقة بمائه العذب ويسقي بساتين الفاكهة من عنب وتين وزيتون(5)، وكان هذا النبع يجري في قنوات وأنابيب حتى يصل مدخل البتراء ليجري توزيعه عبر قنوات السيراميك إلى منازل البتراء وآبارها، ولا زالت هذه الأنابيب تشاهد على الجانب الأيمن للسيق، وإنك لتعجب أن تجد صناعة هذه الأيام لم تزد الكثير على صناعة الأنباط من أنابيب السيراميك.
في الجزء التالي – مدينة البتراء ومعالمها الباقية