عامر بن الظرب العدواني
حياته وآثاره
المقدمة:
أنجبت امة العرب رجالا أفذاذا قادوها نحو التميز والعلو والرفعة، وسموا بها عن باقي الأمم. فكانت وما تزال خير امة أخرجت للناس. كانوا فرسانا شجعانا أبطالا حكماء، فضلا عن كونهم شعراء وخطباء وعلماء اثروا الأدب العربي. وحفلت الكتب الأدبية بالكثير من نتاجهم الأدبي والفكري الذي لا يزال مثار جدل بين محبي الأدب ودارسيه.
تميز العرب عن غيرهم من الأمم بالفصاحة والبلاغة وقوة الحجة وسرعة البديهة والذكاء. فارتقوا بشعرهم ونثرهم. وكان الشعر والنثر يحتل الصدارة في اهتماماتهم؛ شيوخا وشبابا، رجالا ونساء. عامة وخلفاء. فشجعوا الشعراء والخطباء وحفوهم بالعناية. بل وخصصوا لهم العطايا والهبات. وأقاموا لهم سوقا خاصا للتباري في الشعر والأدب. كان يجلس فيه الحكام ليحتكم إليهم الأدباء. ومن أشهر حكام العرب في (سوق عكاظ) عامر بن الظرب العدواني،شيخ قبيلة عدوان وحكمها وفارسها وشاعرها، الذي آثرنا أن تكون حياته وأثاره موضوع بحثنا هذا. وهو من أشهر رجال العرب، وله من السير والمآثر ما يشجع على الكتابة عنه.
تقدم البحث تعريف موجز بالشخصية موضوع البحث بدءا باسمه ونسبه، ومرورا بسيرته وآثاره، وتضمن بين طياته مجموعة من الشعر والحكم والأمثال والوصايا التي تركها لنا هذا الرجل،في محاولة جادة للرجوع إلى موروثنا العربي القديم،لننهل منه الكثير من الأمور التي من المؤكد أنها تخدمنا كثيرا في تسيير أمور حياتنا على اختلافها.
حاولنا في هذا البحث أن نلم قدر الإمكان بأدق تفاصيل حياة هذا الرجل ومسيرته وأثاره الأدبية. حسب ما وجدناه في المظان التي توفرت لدينا، آملين أن لا يكون قد فاتنا شيء يفيد هذه الدراسة.
اسمه ونسبه:
الظرب في اللغة:
الظرب من الحجار ما كان أصله ناتئا في جبل أو ارض حزنة ،وكان طرفه الناتئ محددا
عامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، وعامر منسوب، إلى جده الرابع عدوان،وعدوان هو الحارث بن عمرو بن قيس، ولقب بعدوان لأنه عدا على أخيه )فهم( فقتله.وفَهْم وعدوان يُقال لهما جديلة قيس، نسبة إلى أمهما جديلة بنت مُرّ بن أدّ، أخت تميم بن مُرّ. ومن قبائل عدوان بنو يشكر وبنو دوس ابنا عدوان، وهما قبيلتان مشهورتان
عرف عن هذه القبيلة كثرة العدد وعظم الشأن، وهي حقاً كذلك، لأنه من الصعوبة بمكان أن يكون عامر بن الظرب حكماً في العرب، وقاضياً لهم، ونافذ القول فيهم، في الجاهلية، ما لم يكن منتمياً إلى قبيلة عظيمة الشأن، كثيرة الأبناء متسعة الأفخاذ والبطون. وروي أن لعدوان ما يزيد على أربعين ألف غلام، وفي رواية أخرى سبعين ألف غلام.
وكان عامر بن الظرب يفتخر بانتمائه لهذه القبيلة العظيمة الشأن، ففي قصيدة جميلة مدح قبيلته عدوان قائلا.
أولئك قوم شيد الله فخرهم
فما فوقه فخر وان عظم الفخر
أناس إذا ما الدهر اظلم وجهه
فأيديهم بيض وأوجههم زهر
يصونون أحسابا ومجدا مؤثلا
ببذل اكف دونها المزن والبحر
سموا في المعالي رتبة
أحلتهم حيث النعائم والنسر
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت
لنورهم الشمس المنيرة والبدر
فلو لامس الصخر الأصم اكفهم
لفاض ينابيع الندى ذلك الصخر
شكرت لهم آلاءهم وبلاءهم
وما ضاع معروف يكافئه شكر
ولو كان في الأرض البسيطة منهم
لمغتبط عاف لما عرف الفقر
سيرته وأثاره:
حكيم، خطيب، رئيس من الجاهليين. كان إمام مضر وحكمها في سوق عكاظ، وفارسها. وممن حرم الخمر في الجاهلية, وكانت العرب لاتعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما. وهو احد المعمرين في الجاهلية ولم يدرك الإسلام
قيل انه عمر ثلاثمائة سنه أو أكثر وقال في ذلك.
تقول ابنتي لـما رأتني كأنني سليم أفاع ليلـة غير مـودع
وما الموت أفناني ولكن تتابعت علي سنون من مصيف ومربع
ثلاث مئين قد مـررن كوامــلا وها انا هذا ارتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له : قع
اخبر أخبار القرون التي مضت ولابد يوما أن يطار بمصرعي
لقب بـ(ذي الحلم) لسعة علمه وحلمه وفهمه. وكان حكما عادلا وهو رجل يعده الإخباريون من قدماء حكام العرب وأئمتهم، الذين تحاكم إليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها،وقد ذكرت الأخبار انه أول من قرعت له العصا،وكانوا يرون في تفسير ذلك،أنه كان قد كبر و هرم ،وكان الناس يأتون مع ذلك إليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف فقال له احد أولاده:(انك ربما اخطات في الحكم فيحمل عنك)فقال عامر:(فاجعلوا لي أمارة اعرفها،فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب،فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها،ونظن أنها رواية ضعيفة لأنه لم يذكر احد أن عامرا هذا كان له أولاد ذكور،أو ربما كانت إحدى بناته.
وفي هذا الشأن قال عنه المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الإنسان إلا لـيعلمـا
وفيه أيضا قال ذي الأصبع العدواني:
ومنـــهم حـــكم يقــضي فلا ينقـض مــا يقـضـي
ذاع سيطه واشتهر اسمه بين القبائل العربية لما عرف عنه من شدة ذكاء وعلم ونباهة وعدل في الأحكام.وكان يعتمد في أحكامه ،على ما يستشفه اجتهاده من التمعن في الأشياء، ورد الأمور إلى مشابهاتها،فأصدر أحكامه عن طبع وسليقة،أتت من غير تصنع ولا تزويق.ولهذا قبلت،لموافقتها للطبع ،وباتت سنة متبعة -علما أن بعض أحكامه ثبتها الإسلام- فكانوا يستدعونه للفصل في الخصومات وفض النزاعات وتهدئة الخلافات.وهو أول من حكم بين العرب في عكاظ ،واشتهر بين الجاهليين بـ (حاكم العرب) أو (قاضي العرب)، وهو آخر حكام العرب وقضاتهم وأئمتهم، قبل انتقال الإمامة من بني عدوان إلى بني تميم بن عكاظ.
ومع أن عامر بن الظرب لم يدرك الإسلام إلا أن المطلع على أحكامه واقواله ووصاياه إنما يجدها تصدر عن رجل موحد مؤمن بان ثمة خالقا عظيما وراء هذا الكون الواسع.
فالمطلع على وصيته لقومه عدوان يعتقد لأول وهلة أنها وصية كتبت في بدايات العصر الإسلامي.يتحدث فيها عن الخلق والخالق, وفلسفة الحياة والموت,وتقسيم الأرزاق وحكمة خلق السماوات والأرض ،وحقيقة الحياة السرمدية بعد الموت،واستخدم لذلك كالمعتاد الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل, فيتحدث إليهم قائلا:
( إن الذي أرسل الحيا انبت المرعى ثم قسمه، وكلأ لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون، ولن يرى ما اصف لكم إلا كل قلب واع ,ولكل مرعى راع,ولكل رزق ساع,ولكل خلق خلق,كيس أو حمق,وما رأيت شيئا قط إلا سمعت حسه,ووجدت مسه,وما رأيت شيئا خلق نفسه,وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا,وما رأيت جائيا إلا ذاهبا,ولا غانما إلا خائبا,ولا نعمة إلا ومعها بؤس,ولو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء)ومن ثم يختتمها بقوله: (حتى يرجع الميت حيا، ويعود لاشيء شيئا، ولذلك خلقت الأرض والسموات.).
وثمة أحكام لابن الظرب سنَّها في الجاهلية، فجاء الإسلام، فوافقها، منها مثلاً، أنه حكم في الخنثى حكماً جرى الإسلام به. كما كان خلعه لابنته (عمرة) من زوجها عامر ابن الحارث، أول خلع في العرب ، جاء الإسلام فثبَّته
وروى ابن حزم أن عامراً هو أول من قضى بأول دية، مقدارها مئة من الإبل. وكان ذلك بعد أن قتل زيد بن بكر بن هوازن أخاه معاوية بن بكر بن هوازن،كما انه حرم الخمر، وفي تحريمه إياه على نفسه أولا ثم على الناس يقول.
سآلة للفتى ما ليس في يده ذهابه بعقول القوم والمال
أقسمت بالا اسقيها واشربها حتى يفرق ترب القبر أوصالي
مورثة لقوم إضغانا بلا إحن مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي
نجد شيخ عدوان في أبياته الشعرية يستخدم صيغة المبالغة في وصف حال شارب الخمر. وكأننا به يريد التأكيد على نبذه لها . ومدى أضرارها ليس بشاربها حسب بل بالمجتمع كاملا فيأتي بالكلمات ( سآلة ، ذهابه).وهو باستخدامه هذه الألفاظ أجاد أيما إجادة في وصفه لشارب الخمر.
جاء الإسلام ليقر اغلب أحكام هذا الرجل وأقواله ووصاياه. فتحريم الخمر والتوحيد والخلق والخالق وتقسيم الأرزاق وما إلى ذلك من أمور ذكرها شيخ عدوان في وصاياه وحكمه.
وقد ذهب الدكتور محمد نايف الدليمي صاحب كتاب (جمهرة وصايا العرب) إلى أن عامرا هذا كان من الأحناف :" ولم يقل احد على ما اعلم انه كان من الأحناف. غير إنني أرى ذلك...". وقد استدل على ذلك من أقوال عامر وأفعاله،" كنت ذكرت في مقدمة حديثي عن هذا الرجل أن أحدا لم يذكر انه كان من الأحناف غير أنني اذهب هذا المذهب. إذ ثمة وصية أخرى أوصى بها قبيلته. تحدث فيها عن الخلق والخالق, ودعا قومه إلى التوحيد، فقد لمس هذا الرجل من ماديات الحياة ما جعله يتيقن كل اليقين أن هذا العالم بما فيه لم يكن ليخلق نفسه، ولابد من خالق, وان الميت سعود حيا, وان اللا شيء سيكون شيئا ومن اجل ذلك خلقت السموات والأرض... هذه الدلائل والمؤشرات تجعلني أميل إلى أن أخا عدوان كان من الأحناف كقيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهم ممن عرف طريق الصواب بالملموس والمحسوس".
لم تطلعنا كتب الأخبار على طفولة هذا الرجل وصباه ،وذكرت انه متزوج من امرأة تدعى ماوية بنت عوف بن فهر.
لم يذكر احد أن عامرا هذا كان لديه أبناء ذكور ولكن ذكر أن له بنات إحداهن خصيلة بنت عامر وهي إحدى حاكمات العرب، والثانية عمرة التي خصها بوصية عند هداءها.فضلا عن زينب وليلى وآمنة وعاتكة.
كانت العرب تأخذ من علمه وحكمه ما استطاعت، فقد كان يجمع بين الشعر والخطابة،وهذا قليل عند العرب، فذكر انه اجتمع مع حممة بن رافع الدوسي عند ملك من ملوك حمير فقال : تساءلا حتى اسمع ما تقولان : فقال عامر لحممة: أين تحب أن تكون أياديك؟ فقال : عند ذي الرثية العديم، وعند ذي الخلة الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم، قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصوال، والعيي القوال، قال: فمن أحق الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكاند، والمستميد الحاسد، والملحف الواجد. قال: فمن أجدر الناس بالصيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح. قال: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهرة جشع، وباطنه طبع. قال: فمن أحلم الناس؟ قال:من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظفر، قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من اخذ رقاب الأمور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب دبر أذنيه. قال: فمن اخرق الناس؟ قال: من ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار ، قال: من أجود الناس؟ قال: من بذل المجهود، ولم يأس على المعهود. قال: فمن ابلغ الناس؟ قال: من جلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز, قال : من انعم الناس عيشا؟ قال:من تحلى بالعفاف،ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى مالا يخاف قال:فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النعم، وسخط على القسم، واستشعر الندم، على فوت ما لم يحتم . قال: من أغنى الناس؟ قال: من استشعر اليأس ، واظهر التجمل للناس، واستكثر قليل النعم ، ولم يسخط على القسم، قال: فمن احكم الناس؟ قال: من صمت فادكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر. قال: فمن اجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما, والتجاوز مغرما.
ويمكن أن تعد هذه المناظرة كوثيقة لكيفية التعامل مع الناس ومعرفتهم وتصنيفهم.من خلال الأسئلة المنتقاة بذكاء وعلم ونباهة وقصد، والإجابة الكافية الوافية الموجزة الواضحة المعاني
ولم يكن عامر حكماً فحسب: بل كان حكيماً أيضاً، والصلة بين الاثنين وثيقة. فقد قال الجاحظ: "ومن الخطباء العرب والبلغاء أكْثَم بن صَيْفي، وربيعة بن حذار، وعامر بن الظرب.."
ومن بعض أقواله وحكمه التي أغنت الأدب والفكر العربي:
-دعوا الرأي يغب حتى يختمر،وإياكم والرأي الفطير
(يريد الأناة في الرأي والتثبت فيه)
-في بيته يؤتى الحكم
-مافجر غيور قط
-أجمل القبيح الطلاق(وفي الإسلام ابغض الحلال عند الله الطلاق)
-الرأي نائم والهوى يقظان ،فمن هناك يغلب الهوى الرأي.
-رب زارع لنفسه حاصد سواه.
-من طلب شيئا وجده.
-رب أكلة تمنع أكلات.
-ليس على الرزق فوت ،وغنم من نجا من الموت،ومن لا ير باطنا يعش واهنا.
ومن بلاغته قوله في إحدى المناسبات وكأننا به يبحث عن إجابة لمن يسمعه:
(أليس الرأي من حزب العقل وأوليائه؟ فكيف غلب مع علو مكانه، وشرف موضعه؟ وما معنى قول الآخر من الأوائل:العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع؟ ماسبب هذه الصداقة مع هذا العقوق؟وما سبب تلك العداوة مع تلك المتابعة؟وهل يرى هذا حقائق الأمور معكوسة منكوسة،فان الظاهر خارج عن حكم الواجب،جار على غير النظام الراتب؟
بالعودة إلى ما وجدناه من آثار ادبية تركها عامر بن الظرب، نجدها تدل على خبرة نادرة وثقافة واسعة, وحكمة. وجل إبداعه كان في وصاياه الثلاث التي اختص اثنتان منهما بقومه_قبيلة عدوان_ وكانت الثالثة لابنته عمرة عند هداءها.
كما ذكرنا سلفا أن عامر بن الظرب العدواني هو حكيم وخطيب جاهلي ومن أشراف قومه, وكان القوم يأتونه ليفصل بينهم في الخصومات. لما عرف عنه من شدة ذكاء وعلم ونباهة في الحكم. وقد ذكرت الأخبار أن عدوان كانت قبيلة كبيرة تفرقت وتفانت وذلك أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني الحارث بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان. ونذرت بهم بنو عوف. فاقتتلوا, فقتل بنو ناج ثمانية نفر فيهم عمير بن مالك سيد بنو عوف, وقتلت بنو عوف رجلا منهم يقال له سنان بن جابر وتفرقوا على حرب وكان الذي أصابوه من بني وائلة بن عمرو بن عمرو بن عياذ، وكان سيدا فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها, ورضوا بذلك, وأبى جرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية, واعتزل هو وبنو أبيه, ومن أطاعهم ومن والاهم وتبعه على ذلك كرب بن خالد احد بني عبس بن ناج. فمشى إليها ذو الإصبع العدواني الشاعر والحكم المعروف, وسألهما قبول الدية, وقال: قد قتل منا ثمانية نفر فقبلنا الدية, وقتل منكم رجل فاقبلوا ديته, فأبيا ذلك, فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضا حتى تفانوا وتقطعوا .
هذه الحادثة أثرت كثيرا في نفس عامر بن الظرب العدواني كونه واحدا من هذه القبيلة, لا بل شيخها وخطيبها وحكمها فكان ألمه مريرا. ومعاناته كبيرة وهو ينظر إلى قومه يتحاربون . ويزهقون أنفسهم. لا على سبب يستحق, ولا يردعهم تنبيه. فرأى عامر أن الأمر يحتم عليه أن يحذرهم وينبههم إلى الخطأ الذي يرتكبونه وان يأخذ بأيديهم إلى طريق الخير والسلام.
وفي الوقت ذاته حضر إليه قومه ليطلبوا منه أن يوصيهم وينصحهم كأنهم أحسوا بمرارته. فأثلجوا صدره بطلبهم هذا, وفتحوا له الأبواب مشرعة. لينطلق لسانه. بما كان يحتبس في داخله من مرارة وألم, ونكاد نستشف هذا الألم والمرارة من مفتاح وصيته لهم حيث يقول:
( يا معشر عدوان كلفتموني تعبا, أن القلب لم يخلق، ومن لك بأخيك كله، إن كنتم شرفتموني فقد التمست ذلك منكم، واني قد أريتكم ذلك من نفسي, وأنى لكم مثلي..)
كما نرى فان الموصي يفتتح وصيته بخطاب مباشر لقومه " ..يا معشر عدوان..".
عمد الموصي إلى الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل. وتعطي معان ودلالات عميقة. يظهر في كلامه الاعتداد بالنفس (وأنى لكم مثلي)، يستخدم أسلوب الاستفهام الاستنكاري ليؤكد اعتداده بنفسه. وانه ليس في قومه رجل مثله.
(افهموا عني ما أقول لكم، من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به، وان الحق لم ينفر من الباطل ولم يزل الباطل ينفر من الحق).
(افهموا) فعل الأمر المباشر. لشد انتباه السامع. وفيه نوع من الزجر لسوء ما آلت إليه أحوال القبيلة بعد الاحتراب.
يعمد الموصي إلى استخدام أداة النفي (لم) لتأكيد النفي وجزمه. ومن المعلوم للجميع أن(لم) تقلب الزمن المضارع إلى الماضي. فالحق والباطل لم يجتمعا ولن يجتمعا في أي زمن من الأزمان. فنجد هنا رؤية مستقبلية. ولم يكن بإمكانه استخدام (لا) النافية لأنه هنا سيكون النفي غير مؤكد ودلالته على أن الحق والباطل قد يجتمعا تحت ظرف من الظروف. ثم كرر استخدام أداة النفي (لم) في قوله ( وان الحق لم يزل ينفر من الباطل )، ونلاحظ انه استخدم قبلها حرف التوكيد (أن). لزيادة التأكيد.
يعود الموصي لينهى قومه عن الالتفات إلى الأمور التافهة التي لاتروي من عطش ولا تسبل من جوع. باستخدام أسلوب النهي بلا الناهية والفعل المضارع. لأنها تجعل الفعل الماضي يستمر إلى المستقبل البعيد.
( لا تفرحوا بالعلق، ولا تشمتوا بالزلة، وبكل عيش يعيش الفقير، واعدوا لكل أمر قدره، قبل الرماء تملأ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، والعقوبة نكال وفيها ذمامه فلا تذموا العقوبة، واليد العليا معهما عافية، والقود راحة لا لك ولا عليك، وإذا شئت وجدت مثلك، إن عليك كما أن لك، وللكثرة الرعب، وللصبر الغلبة، من طلب شيئا وجده، وإلا يجده يوشك أن يقع قريبا منه)
يسرد الموصي مجموعة من الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل. يستثير من خلالها مواضيع مختلفة وكأننا به يريد تذكير قومه وتنبيههم إلى القيم والعادات والتقاليد التي شرعوا بنسيانها. ونجد تناغما بين ألفاظه باستخدام أسلوب النهي بلا الناهية والفعل المضارع ( لا تفرحوا، لا تشتموا).
اخذ الحديث عن الشر حيزا واسعا من وصيته. ويمكن أن يكون هذا بسبب الحادثة المذكورة سلفا، والظاهر من حديثه. أن ما ذكرته كتب الأخبار عن الحادثة ليس فيه من المبالغة شيء.
( فيا معشر عدوان، إياكم والشر، فان له باقية، وادفعوا الشر بالخير يغلبه، انه من دفع الشر بالشر رجع الشر عليه وليس في الشر أسوه،، ومن سبقكم إلى خير فاتبعوا أثره تجدوا فضلا، إن خالق الخير والشر وسعهما ولكل يد منهما نصيب)
يخرج من دائرة الشر ليعود إليها ثانية بأساليب مختلفة بعضها عن البعض الآخر. تارة مرغبا وأخرى مرهبا:
1- ادفعوا الشر بالخير
2- من دفع الشر بالخير يغلبه
3- من دفع الشر بالشر رجع الشر عليه
4- من سبقكم إلى الخير فاتبعوا أثره
5- من رأيتموه أصابه شر فإنما أصابه فعله.
في هذه الجمل التي ركز الموصي من خلالها على اجتناب الشر. يعمل بالنظرية القائلة أن الجزاء من جنس العمل. فمن اتبع الشر فجزاؤه مثله.
( إن الشر ميت، ومن اجتنب الشر لم يثب الشر عليه)
هنا يضفي الموصي صفة الإنسانية على الشر فيتحدث عنه وكأنه كائن حي ( ميت، يثب ) الموت نهاية لحياة الكائنات، والوثب صفة الأحياء لان الجماد لا حركة له.
( يا معشر عدوان، ربوا صغيركم، واعتبروا بالناس ولا يعتبر الناس بكم، وخذوا على أيدي سفهائكم تقلل جرائركم)
تتجسد هنا صورة الأب المربي الناصح من خلال صيغة الأمر بالأفعال ( ربوا، اعتبروا، خذوا، اصدقوا).يدعوهم إلى إتباع كل أمر فيه صلاحهم وخيرهم.
في الفقرة الأخيرة من الوصية يبرز عنصر الأنا. إذ ومن خلال ما رأيناه من سطور حياته. انه يظهر عنده الاعتداد بالنفس بشكل واضح وجلي. وهذا شيء طبيعي كونه حاكما وفارسا مشهورا بين القبائل.يطلب من أبناء عشيرته الاقتداء به والتزام طريقته إن أرادوا السيادة والرفعة لنفسهم.
كرر الموصي بعض الألفاظ لغرض التأكيد على قومه بإتباع طريقته. فنراه يكرر (واني وجدت، واني رأيت، واني والله...). وكذلك الفعل رأيت (رأيت للخير طرقا، ورأيت للشر طرقا). دلالة على شدة تأثر الموصي بما حدث لقبيلته من نزاع وشقاق.
يبدو أن عامر بن الظرب العدواني يعد لكل أمر عدته، وتسعفه بديهته في كل مناسبة. فنراه في وصيته لابنته حين خطبها إليه صعصعة بن معاوية. تظهر على كلامه آثار المرارة والحزن. في قوله ( قد جئت تشتري مني كبدي) إحساس بالفقدان من خلال الفعل ( تشتري). لان البضاعة المباعة يفقدها بائعها إلى الأبد. ويتجسد حزنه في قوله ( منعتك أو بعتك). يجسد الموصي إحساسه وحزنه برسم صورة لانفصال الجزء من الكل، في قوله ( تشتري مني كبدي) فالكبد جزء مهم من جسد الإنسان تغدو الحياة بفقدانه اقرب إلى العدم .وكذا حال الأب الحنون لفراق ابنته.
تكاد طريقة إيراد الجمل القصيرة المركزة المعنى التي تجري مجرى المثل لاتفارق أسلوب عامر بن الظرب في وصاياه جميعا. (النكاح خير من الأيمة، الحسب كفاء النسب، الزوج الصالح يعد أبا،...).
ينتقل الموصي فجأة بكلامه إلى قومه معشر عدوان، ليبث إليهم ألمه ففي قوله ( خرجت كريمتكم من بين أظهركم ) نجده في إيراد الفعل (خرجت) دون غيره تجسيد لإحساس الألم والحزن والفرقة وكأنه يريد أنها ذهبت بلا عودة.
نقف في وسط الوصية لنرى الموصي يؤمن بالقدر خيره وشره ويبين ذلك من خلال بعض الجمل ( من خط له شيء جاءه، ورب زارع لنفسه ما حاصده غيره، لولا قسم الحظوظ ما أدرك الآخر مع الأول شيئا يعيش به ). والمعروف أن هذا الرجل عمر في الجاهلية، ولم يدرك الإسلام إلا أن الظاهر في كلامه انه كان رجلا يؤمن بان هنالك خالقا لهذا الكون العظيم هو الذي يجري السحاب، ويقسم الأرزاق، وهو أمر واضح في وصاياه جميعا. ومنها قوله:
( أن الذي أرسل الحيا انبت المرعى ثم قسمه، وكلا لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون ولن يرى ما اصف لكم إلا كل قلب واع، ولكل رزق ساع، ولكل خلق خلق، كيس أو حمق)
عمد الموصي إلى استخدام أسلوب الحصر والقصر تارة بالنفي بـ ( ما ) + الاستثناء وأخرى بـ ( لا ) + ألا لتخصيص بعض الأمور والتأكيد على أهميتها وشدة إيمانه بها ( ما رأيت شيئا قط إلا استمعت حسه، ووجدت مسه، وما رأيت شيئا خلق نفسه، وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا ذاهبا، ولا غانما إلا خائبا، ولا نعمة إلا ومعها بؤس)
ثم يعود ليستخدم أداة التمني ( لو ) وهي حرف امتناع لامتناع. أيضا ليؤكد فكرة الخالق والكون. ( لو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء).
يختتم وصيته باستخدام أسلوب الاستفهام. الذي يرمي إلى نفس الفكرة التي دارت حولها اغلب فقرات الوصية, والملاحظ أن عامر بن الظرب العدواني يوظف الكثير من الأساليب اللغوية لخدمة الغرض الذي يرمي إليه. ويحاول التأكيد على الفكرة التي يصبوا إليها بتكرار الكلام عنها ولكن بأساليب وألفاظ مختلفة يظن القارئ أنها ترمي إلى فكرة أخرى.
وآخر وصية وصلتنا عن عامر بن الظرب العدواني هي وصيته لابنته عمرة عند هدائها الى ابن عمها. وفي هذه الوصية يجعل عامر بن الظرب زوجته - الأم- وسيطا بينه وبين ابنته، ونظن أن هذا من باب الحياء إذ أن ما في الوصية من كلام لا يجوز أن يقوله أب لابنته.
يبدأ وصيته كالمعتاد بـ (يا) النداء ويستخدم معها الفعل ( مري ) يأمر الأم لتأمر ألابنه. وكأننا نرى نوع من القسوة في الكلام قد تكون غير مقصودة، أو قد يكون الموصي يستخدم نوعا من الترهيب ليجعل ابنته تنفذ وصيته وهذا أمر لاجدل في صالحها. وكأن الموصي أحس بان ابنته لن تعمر في هذا الزواج. حيث ذكرت الأخبار أنها نفرت من زوجها ولم ترده. فأتى ابن أخيه فشكا له ذلك. فقال له عامر: يا ابن أخي، إنها وان كانت ابنتي فان لك نصيبا مني، فاصدقني، فانه لا رأي لمكذوب فان صدقتني صدقتك، إن كنت نفرتها فذعرتها فاخفض عصاك عن بكرتك تسكن، وان كانت نفرت من غير إنفار فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإلا يكن وفاق ففراق، وأجمل القبيح الطلاق، ولم تترك اهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها وهي فعلت ذلك بنفسها.
يركز الموصي على أمور معينه منها استخدام الماء بكثرة ( فلا تنزلن فلاة إلا ومعها ماء ) ثم يفسر فوائد الماء ويوضحها من خلال ما اعتدنا عليه في وصاياه من إيراد الجمل القصيرة المركزة المعنى.
ثم يسترسل في أمور دقيقة وخاصة للحياة الزوجية يأمر تارة وينهى تارة، يشد تارة ويرخي حينا، ليوضح هذه الأمور لابنته حتى تأخذها بشكل جدي ولاتستهين بها. فعمد إلى استخدام المتضادات اللغوية ( لا تمنعه عند شهوته، لا تكثر مضاجعته ) ( الرضا الإتيان عند اللذة، إن الجسد إذا مل مل القلب ).
الخاتمة:
من خلال ما استقرأناه من حياة عامر بن الظرب العدواني،خرجنا بمجموعة من النتائج :
1- إن العرب هم قوم منَ الله عليهم بنعم ميزتهم عن غيرهم من الأمم،فهم قوم الفصاحة والبلاغة والحكمة،فضلا عن الفروسية والشجاعة والنجدة،وأدبهم كان خير سجل لهم تحدثوا من خلاله عن كل ما يدعوا إلى فخرهم بأنهم عرب.
2- عامر بن الظرب العدواني هو احد أشهر رجال العرب في الجاهلية، وقبيلته عدوان من أشهر وأقوى القبائل العربية، فقد كانت تتميز بكثرة الأبناء، وقد كان للمكانة الكبيرة التي تتمتع بها قبيلته بين العرب دورا مهما في جعله حكما ترجع إليه القبائل العربية في شؤونها المختلفة.فضلا عن انه جمع بين الأدب والحكمة والفروسية، وقد اقر الإسلام اغلب أحكامه.
3- قد يصنف عامر بن الظرب العدواني ضمن الأحناف ولم تذكر الكتب الأدبية شيئا من هذا القبيل ،إلا أن المطلع على أحكامه وآثاره الأدبية،يظن هذا،فقد تحدث عن التوحيد، وقصة الخلق،فضلا عن عودة الحياة بعد الموت، والحياة السرمدية
4- إن أسلوب عامر بن الظرب العدواني كان له من الخصوصية ما يميزه عن غيره من الأدباء والحكماء العرب،فقد ابتعد كل البعد عن التزويق اللفظي واستخدام الألفاظ الغامضة التي تحتاج إلى تفسير قاموسي.كما انه عمد إلى الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل، وقد لجأ إلى الخطاب المباشر والموجه دون اللجوء إلى مقدمات،فضلا عن استخدامه أسلوب الترغيب والترهيب في بعض الأحيان.
ماذكرناه من أمور كانت هي أهم النقاط التي وجدناها عند عامر بن الظرب العدواني، وقد تكون غابت عنا أمور أخرى،أو فاتتنا على سبيل السهو أو الغفلة ولكننا حاولنا تغطية اكبر قدر ممكن من حياة هذا الرجل وآثاره الأدبية.
العراق جامعة الموصل
* مدرس مساعد / قسم الدراسات الاقتصادية والاجتماعية / مركز الدراسات الإقليمية
حياته وآثاره
المقدمة:
أنجبت امة العرب رجالا أفذاذا قادوها نحو التميز والعلو والرفعة، وسموا بها عن باقي الأمم. فكانت وما تزال خير امة أخرجت للناس. كانوا فرسانا شجعانا أبطالا حكماء، فضلا عن كونهم شعراء وخطباء وعلماء اثروا الأدب العربي. وحفلت الكتب الأدبية بالكثير من نتاجهم الأدبي والفكري الذي لا يزال مثار جدل بين محبي الأدب ودارسيه.
تميز العرب عن غيرهم من الأمم بالفصاحة والبلاغة وقوة الحجة وسرعة البديهة والذكاء. فارتقوا بشعرهم ونثرهم. وكان الشعر والنثر يحتل الصدارة في اهتماماتهم؛ شيوخا وشبابا، رجالا ونساء. عامة وخلفاء. فشجعوا الشعراء والخطباء وحفوهم بالعناية. بل وخصصوا لهم العطايا والهبات. وأقاموا لهم سوقا خاصا للتباري في الشعر والأدب. كان يجلس فيه الحكام ليحتكم إليهم الأدباء. ومن أشهر حكام العرب في (سوق عكاظ) عامر بن الظرب العدواني،شيخ قبيلة عدوان وحكمها وفارسها وشاعرها، الذي آثرنا أن تكون حياته وأثاره موضوع بحثنا هذا. وهو من أشهر رجال العرب، وله من السير والمآثر ما يشجع على الكتابة عنه.
تقدم البحث تعريف موجز بالشخصية موضوع البحث بدءا باسمه ونسبه، ومرورا بسيرته وآثاره، وتضمن بين طياته مجموعة من الشعر والحكم والأمثال والوصايا التي تركها لنا هذا الرجل،في محاولة جادة للرجوع إلى موروثنا العربي القديم،لننهل منه الكثير من الأمور التي من المؤكد أنها تخدمنا كثيرا في تسيير أمور حياتنا على اختلافها.
حاولنا في هذا البحث أن نلم قدر الإمكان بأدق تفاصيل حياة هذا الرجل ومسيرته وأثاره الأدبية. حسب ما وجدناه في المظان التي توفرت لدينا، آملين أن لا يكون قد فاتنا شيء يفيد هذه الدراسة.
اسمه ونسبه:
الظرب في اللغة:
الظرب من الحجار ما كان أصله ناتئا في جبل أو ارض حزنة ،وكان طرفه الناتئ محددا
عامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، وعامر منسوب، إلى جده الرابع عدوان،وعدوان هو الحارث بن عمرو بن قيس، ولقب بعدوان لأنه عدا على أخيه )فهم( فقتله.وفَهْم وعدوان يُقال لهما جديلة قيس، نسبة إلى أمهما جديلة بنت مُرّ بن أدّ، أخت تميم بن مُرّ. ومن قبائل عدوان بنو يشكر وبنو دوس ابنا عدوان، وهما قبيلتان مشهورتان
عرف عن هذه القبيلة كثرة العدد وعظم الشأن، وهي حقاً كذلك، لأنه من الصعوبة بمكان أن يكون عامر بن الظرب حكماً في العرب، وقاضياً لهم، ونافذ القول فيهم، في الجاهلية، ما لم يكن منتمياً إلى قبيلة عظيمة الشأن، كثيرة الأبناء متسعة الأفخاذ والبطون. وروي أن لعدوان ما يزيد على أربعين ألف غلام، وفي رواية أخرى سبعين ألف غلام.
وكان عامر بن الظرب يفتخر بانتمائه لهذه القبيلة العظيمة الشأن، ففي قصيدة جميلة مدح قبيلته عدوان قائلا.
أولئك قوم شيد الله فخرهم
فما فوقه فخر وان عظم الفخر
أناس إذا ما الدهر اظلم وجهه
فأيديهم بيض وأوجههم زهر
يصونون أحسابا ومجدا مؤثلا
ببذل اكف دونها المزن والبحر
سموا في المعالي رتبة
أحلتهم حيث النعائم والنسر
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت
لنورهم الشمس المنيرة والبدر
فلو لامس الصخر الأصم اكفهم
لفاض ينابيع الندى ذلك الصخر
شكرت لهم آلاءهم وبلاءهم
وما ضاع معروف يكافئه شكر
ولو كان في الأرض البسيطة منهم
لمغتبط عاف لما عرف الفقر
سيرته وأثاره:
حكيم، خطيب، رئيس من الجاهليين. كان إمام مضر وحكمها في سوق عكاظ، وفارسها. وممن حرم الخمر في الجاهلية, وكانت العرب لاتعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما. وهو احد المعمرين في الجاهلية ولم يدرك الإسلام
قيل انه عمر ثلاثمائة سنه أو أكثر وقال في ذلك.
تقول ابنتي لـما رأتني كأنني سليم أفاع ليلـة غير مـودع
وما الموت أفناني ولكن تتابعت علي سنون من مصيف ومربع
ثلاث مئين قد مـررن كوامــلا وها انا هذا ارتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له : قع
اخبر أخبار القرون التي مضت ولابد يوما أن يطار بمصرعي
لقب بـ(ذي الحلم) لسعة علمه وحلمه وفهمه. وكان حكما عادلا وهو رجل يعده الإخباريون من قدماء حكام العرب وأئمتهم، الذين تحاكم إليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها،وقد ذكرت الأخبار انه أول من قرعت له العصا،وكانوا يرون في تفسير ذلك،أنه كان قد كبر و هرم ،وكان الناس يأتون مع ذلك إليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف فقال له احد أولاده:(انك ربما اخطات في الحكم فيحمل عنك)فقال عامر:(فاجعلوا لي أمارة اعرفها،فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب،فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها،ونظن أنها رواية ضعيفة لأنه لم يذكر احد أن عامرا هذا كان له أولاد ذكور،أو ربما كانت إحدى بناته.
وفي هذا الشأن قال عنه المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الإنسان إلا لـيعلمـا
وفيه أيضا قال ذي الأصبع العدواني:
ومنـــهم حـــكم يقــضي فلا ينقـض مــا يقـضـي
ذاع سيطه واشتهر اسمه بين القبائل العربية لما عرف عنه من شدة ذكاء وعلم ونباهة وعدل في الأحكام.وكان يعتمد في أحكامه ،على ما يستشفه اجتهاده من التمعن في الأشياء، ورد الأمور إلى مشابهاتها،فأصدر أحكامه عن طبع وسليقة،أتت من غير تصنع ولا تزويق.ولهذا قبلت،لموافقتها للطبع ،وباتت سنة متبعة -علما أن بعض أحكامه ثبتها الإسلام- فكانوا يستدعونه للفصل في الخصومات وفض النزاعات وتهدئة الخلافات.وهو أول من حكم بين العرب في عكاظ ،واشتهر بين الجاهليين بـ (حاكم العرب) أو (قاضي العرب)، وهو آخر حكام العرب وقضاتهم وأئمتهم، قبل انتقال الإمامة من بني عدوان إلى بني تميم بن عكاظ.
ومع أن عامر بن الظرب لم يدرك الإسلام إلا أن المطلع على أحكامه واقواله ووصاياه إنما يجدها تصدر عن رجل موحد مؤمن بان ثمة خالقا عظيما وراء هذا الكون الواسع.
فالمطلع على وصيته لقومه عدوان يعتقد لأول وهلة أنها وصية كتبت في بدايات العصر الإسلامي.يتحدث فيها عن الخلق والخالق, وفلسفة الحياة والموت,وتقسيم الأرزاق وحكمة خلق السماوات والأرض ،وحقيقة الحياة السرمدية بعد الموت،واستخدم لذلك كالمعتاد الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل, فيتحدث إليهم قائلا:
( إن الذي أرسل الحيا انبت المرعى ثم قسمه، وكلأ لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون، ولن يرى ما اصف لكم إلا كل قلب واع ,ولكل مرعى راع,ولكل رزق ساع,ولكل خلق خلق,كيس أو حمق,وما رأيت شيئا قط إلا سمعت حسه,ووجدت مسه,وما رأيت شيئا خلق نفسه,وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا,وما رأيت جائيا إلا ذاهبا,ولا غانما إلا خائبا,ولا نعمة إلا ومعها بؤس,ولو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء)ومن ثم يختتمها بقوله: (حتى يرجع الميت حيا، ويعود لاشيء شيئا، ولذلك خلقت الأرض والسموات.).
وثمة أحكام لابن الظرب سنَّها في الجاهلية، فجاء الإسلام، فوافقها، منها مثلاً، أنه حكم في الخنثى حكماً جرى الإسلام به. كما كان خلعه لابنته (عمرة) من زوجها عامر ابن الحارث، أول خلع في العرب ، جاء الإسلام فثبَّته
وروى ابن حزم أن عامراً هو أول من قضى بأول دية، مقدارها مئة من الإبل. وكان ذلك بعد أن قتل زيد بن بكر بن هوازن أخاه معاوية بن بكر بن هوازن،كما انه حرم الخمر، وفي تحريمه إياه على نفسه أولا ثم على الناس يقول.
سآلة للفتى ما ليس في يده ذهابه بعقول القوم والمال
أقسمت بالا اسقيها واشربها حتى يفرق ترب القبر أوصالي
مورثة لقوم إضغانا بلا إحن مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي
نجد شيخ عدوان في أبياته الشعرية يستخدم صيغة المبالغة في وصف حال شارب الخمر. وكأننا به يريد التأكيد على نبذه لها . ومدى أضرارها ليس بشاربها حسب بل بالمجتمع كاملا فيأتي بالكلمات ( سآلة ، ذهابه).وهو باستخدامه هذه الألفاظ أجاد أيما إجادة في وصفه لشارب الخمر.
جاء الإسلام ليقر اغلب أحكام هذا الرجل وأقواله ووصاياه. فتحريم الخمر والتوحيد والخلق والخالق وتقسيم الأرزاق وما إلى ذلك من أمور ذكرها شيخ عدوان في وصاياه وحكمه.
وقد ذهب الدكتور محمد نايف الدليمي صاحب كتاب (جمهرة وصايا العرب) إلى أن عامرا هذا كان من الأحناف :" ولم يقل احد على ما اعلم انه كان من الأحناف. غير إنني أرى ذلك...". وقد استدل على ذلك من أقوال عامر وأفعاله،" كنت ذكرت في مقدمة حديثي عن هذا الرجل أن أحدا لم يذكر انه كان من الأحناف غير أنني اذهب هذا المذهب. إذ ثمة وصية أخرى أوصى بها قبيلته. تحدث فيها عن الخلق والخالق, ودعا قومه إلى التوحيد، فقد لمس هذا الرجل من ماديات الحياة ما جعله يتيقن كل اليقين أن هذا العالم بما فيه لم يكن ليخلق نفسه، ولابد من خالق, وان الميت سعود حيا, وان اللا شيء سيكون شيئا ومن اجل ذلك خلقت السموات والأرض... هذه الدلائل والمؤشرات تجعلني أميل إلى أن أخا عدوان كان من الأحناف كقيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهم ممن عرف طريق الصواب بالملموس والمحسوس".
لم تطلعنا كتب الأخبار على طفولة هذا الرجل وصباه ،وذكرت انه متزوج من امرأة تدعى ماوية بنت عوف بن فهر.
لم يذكر احد أن عامرا هذا كان لديه أبناء ذكور ولكن ذكر أن له بنات إحداهن خصيلة بنت عامر وهي إحدى حاكمات العرب، والثانية عمرة التي خصها بوصية عند هداءها.فضلا عن زينب وليلى وآمنة وعاتكة.
كانت العرب تأخذ من علمه وحكمه ما استطاعت، فقد كان يجمع بين الشعر والخطابة،وهذا قليل عند العرب، فذكر انه اجتمع مع حممة بن رافع الدوسي عند ملك من ملوك حمير فقال : تساءلا حتى اسمع ما تقولان : فقال عامر لحممة: أين تحب أن تكون أياديك؟ فقال : عند ذي الرثية العديم، وعند ذي الخلة الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم، قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصوال، والعيي القوال، قال: فمن أحق الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكاند، والمستميد الحاسد، والملحف الواجد. قال: فمن أجدر الناس بالصيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح. قال: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهرة جشع، وباطنه طبع. قال: فمن أحلم الناس؟ قال:من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظفر، قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من اخذ رقاب الأمور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب دبر أذنيه. قال: فمن اخرق الناس؟ قال: من ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار ، قال: من أجود الناس؟ قال: من بذل المجهود، ولم يأس على المعهود. قال: فمن ابلغ الناس؟ قال: من جلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز, قال : من انعم الناس عيشا؟ قال:من تحلى بالعفاف،ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى مالا يخاف قال:فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النعم، وسخط على القسم، واستشعر الندم، على فوت ما لم يحتم . قال: من أغنى الناس؟ قال: من استشعر اليأس ، واظهر التجمل للناس، واستكثر قليل النعم ، ولم يسخط على القسم، قال: فمن احكم الناس؟ قال: من صمت فادكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر. قال: فمن اجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما, والتجاوز مغرما.
ويمكن أن تعد هذه المناظرة كوثيقة لكيفية التعامل مع الناس ومعرفتهم وتصنيفهم.من خلال الأسئلة المنتقاة بذكاء وعلم ونباهة وقصد، والإجابة الكافية الوافية الموجزة الواضحة المعاني
ولم يكن عامر حكماً فحسب: بل كان حكيماً أيضاً، والصلة بين الاثنين وثيقة. فقد قال الجاحظ: "ومن الخطباء العرب والبلغاء أكْثَم بن صَيْفي، وربيعة بن حذار، وعامر بن الظرب.."
ومن بعض أقواله وحكمه التي أغنت الأدب والفكر العربي:
-دعوا الرأي يغب حتى يختمر،وإياكم والرأي الفطير
(يريد الأناة في الرأي والتثبت فيه)
-في بيته يؤتى الحكم
-مافجر غيور قط
-أجمل القبيح الطلاق(وفي الإسلام ابغض الحلال عند الله الطلاق)
-الرأي نائم والهوى يقظان ،فمن هناك يغلب الهوى الرأي.
-رب زارع لنفسه حاصد سواه.
-من طلب شيئا وجده.
-رب أكلة تمنع أكلات.
-ليس على الرزق فوت ،وغنم من نجا من الموت،ومن لا ير باطنا يعش واهنا.
ومن بلاغته قوله في إحدى المناسبات وكأننا به يبحث عن إجابة لمن يسمعه:
(أليس الرأي من حزب العقل وأوليائه؟ فكيف غلب مع علو مكانه، وشرف موضعه؟ وما معنى قول الآخر من الأوائل:العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع؟ ماسبب هذه الصداقة مع هذا العقوق؟وما سبب تلك العداوة مع تلك المتابعة؟وهل يرى هذا حقائق الأمور معكوسة منكوسة،فان الظاهر خارج عن حكم الواجب،جار على غير النظام الراتب؟
بالعودة إلى ما وجدناه من آثار ادبية تركها عامر بن الظرب، نجدها تدل على خبرة نادرة وثقافة واسعة, وحكمة. وجل إبداعه كان في وصاياه الثلاث التي اختص اثنتان منهما بقومه_قبيلة عدوان_ وكانت الثالثة لابنته عمرة عند هداءها.
كما ذكرنا سلفا أن عامر بن الظرب العدواني هو حكيم وخطيب جاهلي ومن أشراف قومه, وكان القوم يأتونه ليفصل بينهم في الخصومات. لما عرف عنه من شدة ذكاء وعلم ونباهة في الحكم. وقد ذكرت الأخبار أن عدوان كانت قبيلة كبيرة تفرقت وتفانت وذلك أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني الحارث بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان. ونذرت بهم بنو عوف. فاقتتلوا, فقتل بنو ناج ثمانية نفر فيهم عمير بن مالك سيد بنو عوف, وقتلت بنو عوف رجلا منهم يقال له سنان بن جابر وتفرقوا على حرب وكان الذي أصابوه من بني وائلة بن عمرو بن عمرو بن عياذ، وكان سيدا فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها, ورضوا بذلك, وأبى جرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية, واعتزل هو وبنو أبيه, ومن أطاعهم ومن والاهم وتبعه على ذلك كرب بن خالد احد بني عبس بن ناج. فمشى إليها ذو الإصبع العدواني الشاعر والحكم المعروف, وسألهما قبول الدية, وقال: قد قتل منا ثمانية نفر فقبلنا الدية, وقتل منكم رجل فاقبلوا ديته, فأبيا ذلك, فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضا حتى تفانوا وتقطعوا .
هذه الحادثة أثرت كثيرا في نفس عامر بن الظرب العدواني كونه واحدا من هذه القبيلة, لا بل شيخها وخطيبها وحكمها فكان ألمه مريرا. ومعاناته كبيرة وهو ينظر إلى قومه يتحاربون . ويزهقون أنفسهم. لا على سبب يستحق, ولا يردعهم تنبيه. فرأى عامر أن الأمر يحتم عليه أن يحذرهم وينبههم إلى الخطأ الذي يرتكبونه وان يأخذ بأيديهم إلى طريق الخير والسلام.
وفي الوقت ذاته حضر إليه قومه ليطلبوا منه أن يوصيهم وينصحهم كأنهم أحسوا بمرارته. فأثلجوا صدره بطلبهم هذا, وفتحوا له الأبواب مشرعة. لينطلق لسانه. بما كان يحتبس في داخله من مرارة وألم, ونكاد نستشف هذا الألم والمرارة من مفتاح وصيته لهم حيث يقول:
( يا معشر عدوان كلفتموني تعبا, أن القلب لم يخلق، ومن لك بأخيك كله، إن كنتم شرفتموني فقد التمست ذلك منكم، واني قد أريتكم ذلك من نفسي, وأنى لكم مثلي..)
كما نرى فان الموصي يفتتح وصيته بخطاب مباشر لقومه " ..يا معشر عدوان..".
عمد الموصي إلى الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل. وتعطي معان ودلالات عميقة. يظهر في كلامه الاعتداد بالنفس (وأنى لكم مثلي)، يستخدم أسلوب الاستفهام الاستنكاري ليؤكد اعتداده بنفسه. وانه ليس في قومه رجل مثله.
(افهموا عني ما أقول لكم، من جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به، وان الحق لم ينفر من الباطل ولم يزل الباطل ينفر من الحق).
(افهموا) فعل الأمر المباشر. لشد انتباه السامع. وفيه نوع من الزجر لسوء ما آلت إليه أحوال القبيلة بعد الاحتراب.
يعمد الموصي إلى استخدام أداة النفي (لم) لتأكيد النفي وجزمه. ومن المعلوم للجميع أن(لم) تقلب الزمن المضارع إلى الماضي. فالحق والباطل لم يجتمعا ولن يجتمعا في أي زمن من الأزمان. فنجد هنا رؤية مستقبلية. ولم يكن بإمكانه استخدام (لا) النافية لأنه هنا سيكون النفي غير مؤكد ودلالته على أن الحق والباطل قد يجتمعا تحت ظرف من الظروف. ثم كرر استخدام أداة النفي (لم) في قوله ( وان الحق لم يزل ينفر من الباطل )، ونلاحظ انه استخدم قبلها حرف التوكيد (أن). لزيادة التأكيد.
يعود الموصي لينهى قومه عن الالتفات إلى الأمور التافهة التي لاتروي من عطش ولا تسبل من جوع. باستخدام أسلوب النهي بلا الناهية والفعل المضارع. لأنها تجعل الفعل الماضي يستمر إلى المستقبل البعيد.
( لا تفرحوا بالعلق، ولا تشمتوا بالزلة، وبكل عيش يعيش الفقير، واعدوا لكل أمر قدره، قبل الرماء تملأ الكنائن، ومع السفاهة الندامة، والعقوبة نكال وفيها ذمامه فلا تذموا العقوبة، واليد العليا معهما عافية، والقود راحة لا لك ولا عليك، وإذا شئت وجدت مثلك، إن عليك كما أن لك، وللكثرة الرعب، وللصبر الغلبة، من طلب شيئا وجده، وإلا يجده يوشك أن يقع قريبا منه)
يسرد الموصي مجموعة من الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل. يستثير من خلالها مواضيع مختلفة وكأننا به يريد تذكير قومه وتنبيههم إلى القيم والعادات والتقاليد التي شرعوا بنسيانها. ونجد تناغما بين ألفاظه باستخدام أسلوب النهي بلا الناهية والفعل المضارع ( لا تفرحوا، لا تشتموا).
اخذ الحديث عن الشر حيزا واسعا من وصيته. ويمكن أن يكون هذا بسبب الحادثة المذكورة سلفا، والظاهر من حديثه. أن ما ذكرته كتب الأخبار عن الحادثة ليس فيه من المبالغة شيء.
( فيا معشر عدوان، إياكم والشر، فان له باقية، وادفعوا الشر بالخير يغلبه، انه من دفع الشر بالشر رجع الشر عليه وليس في الشر أسوه،، ومن سبقكم إلى خير فاتبعوا أثره تجدوا فضلا، إن خالق الخير والشر وسعهما ولكل يد منهما نصيب)
يخرج من دائرة الشر ليعود إليها ثانية بأساليب مختلفة بعضها عن البعض الآخر. تارة مرغبا وأخرى مرهبا:
1- ادفعوا الشر بالخير
2- من دفع الشر بالخير يغلبه
3- من دفع الشر بالشر رجع الشر عليه
4- من سبقكم إلى الخير فاتبعوا أثره
5- من رأيتموه أصابه شر فإنما أصابه فعله.
في هذه الجمل التي ركز الموصي من خلالها على اجتناب الشر. يعمل بالنظرية القائلة أن الجزاء من جنس العمل. فمن اتبع الشر فجزاؤه مثله.
( إن الشر ميت، ومن اجتنب الشر لم يثب الشر عليه)
هنا يضفي الموصي صفة الإنسانية على الشر فيتحدث عنه وكأنه كائن حي ( ميت، يثب ) الموت نهاية لحياة الكائنات، والوثب صفة الأحياء لان الجماد لا حركة له.
( يا معشر عدوان، ربوا صغيركم، واعتبروا بالناس ولا يعتبر الناس بكم، وخذوا على أيدي سفهائكم تقلل جرائركم)
تتجسد هنا صورة الأب المربي الناصح من خلال صيغة الأمر بالأفعال ( ربوا، اعتبروا، خذوا، اصدقوا).يدعوهم إلى إتباع كل أمر فيه صلاحهم وخيرهم.
في الفقرة الأخيرة من الوصية يبرز عنصر الأنا. إذ ومن خلال ما رأيناه من سطور حياته. انه يظهر عنده الاعتداد بالنفس بشكل واضح وجلي. وهذا شيء طبيعي كونه حاكما وفارسا مشهورا بين القبائل.يطلب من أبناء عشيرته الاقتداء به والتزام طريقته إن أرادوا السيادة والرفعة لنفسهم.
كرر الموصي بعض الألفاظ لغرض التأكيد على قومه بإتباع طريقته. فنراه يكرر (واني وجدت، واني رأيت، واني والله...). وكذلك الفعل رأيت (رأيت للخير طرقا، ورأيت للشر طرقا). دلالة على شدة تأثر الموصي بما حدث لقبيلته من نزاع وشقاق.
يبدو أن عامر بن الظرب العدواني يعد لكل أمر عدته، وتسعفه بديهته في كل مناسبة. فنراه في وصيته لابنته حين خطبها إليه صعصعة بن معاوية. تظهر على كلامه آثار المرارة والحزن. في قوله ( قد جئت تشتري مني كبدي) إحساس بالفقدان من خلال الفعل ( تشتري). لان البضاعة المباعة يفقدها بائعها إلى الأبد. ويتجسد حزنه في قوله ( منعتك أو بعتك). يجسد الموصي إحساسه وحزنه برسم صورة لانفصال الجزء من الكل، في قوله ( تشتري مني كبدي) فالكبد جزء مهم من جسد الإنسان تغدو الحياة بفقدانه اقرب إلى العدم .وكذا حال الأب الحنون لفراق ابنته.
تكاد طريقة إيراد الجمل القصيرة المركزة المعنى التي تجري مجرى المثل لاتفارق أسلوب عامر بن الظرب في وصاياه جميعا. (النكاح خير من الأيمة، الحسب كفاء النسب، الزوج الصالح يعد أبا،...).
ينتقل الموصي فجأة بكلامه إلى قومه معشر عدوان، ليبث إليهم ألمه ففي قوله ( خرجت كريمتكم من بين أظهركم ) نجده في إيراد الفعل (خرجت) دون غيره تجسيد لإحساس الألم والحزن والفرقة وكأنه يريد أنها ذهبت بلا عودة.
نقف في وسط الوصية لنرى الموصي يؤمن بالقدر خيره وشره ويبين ذلك من خلال بعض الجمل ( من خط له شيء جاءه، ورب زارع لنفسه ما حاصده غيره، لولا قسم الحظوظ ما أدرك الآخر مع الأول شيئا يعيش به ). والمعروف أن هذا الرجل عمر في الجاهلية، ولم يدرك الإسلام إلا أن الظاهر في كلامه انه كان رجلا يؤمن بان هنالك خالقا لهذا الكون العظيم هو الذي يجري السحاب، ويقسم الأرزاق، وهو أمر واضح في وصاياه جميعا. ومنها قوله:
( أن الذي أرسل الحيا انبت المرعى ثم قسمه، وكلا لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، ترون ولا تعلمون ولن يرى ما اصف لكم إلا كل قلب واع، ولكل رزق ساع، ولكل خلق خلق، كيس أو حمق)
عمد الموصي إلى استخدام أسلوب الحصر والقصر تارة بالنفي بـ ( ما ) + الاستثناء وأخرى بـ ( لا ) + ألا لتخصيص بعض الأمور والتأكيد على أهميتها وشدة إيمانه بها ( ما رأيت شيئا قط إلا استمعت حسه، ووجدت مسه، وما رأيت شيئا خلق نفسه، وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا ذاهبا، ولا غانما إلا خائبا، ولا نعمة إلا ومعها بؤس)
ثم يعود ليستخدم أداة التمني ( لو ) وهي حرف امتناع لامتناع. أيضا ليؤكد فكرة الخالق والكون. ( لو كان يميت الناس الداء لأعاشهم الدواء).
يختتم وصيته باستخدام أسلوب الاستفهام. الذي يرمي إلى نفس الفكرة التي دارت حولها اغلب فقرات الوصية, والملاحظ أن عامر بن الظرب العدواني يوظف الكثير من الأساليب اللغوية لخدمة الغرض الذي يرمي إليه. ويحاول التأكيد على الفكرة التي يصبوا إليها بتكرار الكلام عنها ولكن بأساليب وألفاظ مختلفة يظن القارئ أنها ترمي إلى فكرة أخرى.
وآخر وصية وصلتنا عن عامر بن الظرب العدواني هي وصيته لابنته عمرة عند هدائها الى ابن عمها. وفي هذه الوصية يجعل عامر بن الظرب زوجته - الأم- وسيطا بينه وبين ابنته، ونظن أن هذا من باب الحياء إذ أن ما في الوصية من كلام لا يجوز أن يقوله أب لابنته.
يبدأ وصيته كالمعتاد بـ (يا) النداء ويستخدم معها الفعل ( مري ) يأمر الأم لتأمر ألابنه. وكأننا نرى نوع من القسوة في الكلام قد تكون غير مقصودة، أو قد يكون الموصي يستخدم نوعا من الترهيب ليجعل ابنته تنفذ وصيته وهذا أمر لاجدل في صالحها. وكأن الموصي أحس بان ابنته لن تعمر في هذا الزواج. حيث ذكرت الأخبار أنها نفرت من زوجها ولم ترده. فأتى ابن أخيه فشكا له ذلك. فقال له عامر: يا ابن أخي، إنها وان كانت ابنتي فان لك نصيبا مني، فاصدقني، فانه لا رأي لمكذوب فان صدقتني صدقتك، إن كنت نفرتها فذعرتها فاخفض عصاك عن بكرتك تسكن، وان كانت نفرت من غير إنفار فذلك الداء الذي ليس له دواء، وإلا يكن وفاق ففراق، وأجمل القبيح الطلاق، ولم تترك اهلك ومالك، وقد خلعتها منك بما أعطيتها وهي فعلت ذلك بنفسها.
يركز الموصي على أمور معينه منها استخدام الماء بكثرة ( فلا تنزلن فلاة إلا ومعها ماء ) ثم يفسر فوائد الماء ويوضحها من خلال ما اعتدنا عليه في وصاياه من إيراد الجمل القصيرة المركزة المعنى.
ثم يسترسل في أمور دقيقة وخاصة للحياة الزوجية يأمر تارة وينهى تارة، يشد تارة ويرخي حينا، ليوضح هذه الأمور لابنته حتى تأخذها بشكل جدي ولاتستهين بها. فعمد إلى استخدام المتضادات اللغوية ( لا تمنعه عند شهوته، لا تكثر مضاجعته ) ( الرضا الإتيان عند اللذة، إن الجسد إذا مل مل القلب ).
الخاتمة:
من خلال ما استقرأناه من حياة عامر بن الظرب العدواني،خرجنا بمجموعة من النتائج :
1- إن العرب هم قوم منَ الله عليهم بنعم ميزتهم عن غيرهم من الأمم،فهم قوم الفصاحة والبلاغة والحكمة،فضلا عن الفروسية والشجاعة والنجدة،وأدبهم كان خير سجل لهم تحدثوا من خلاله عن كل ما يدعوا إلى فخرهم بأنهم عرب.
2- عامر بن الظرب العدواني هو احد أشهر رجال العرب في الجاهلية، وقبيلته عدوان من أشهر وأقوى القبائل العربية، فقد كانت تتميز بكثرة الأبناء، وقد كان للمكانة الكبيرة التي تتمتع بها قبيلته بين العرب دورا مهما في جعله حكما ترجع إليه القبائل العربية في شؤونها المختلفة.فضلا عن انه جمع بين الأدب والحكمة والفروسية، وقد اقر الإسلام اغلب أحكامه.
3- قد يصنف عامر بن الظرب العدواني ضمن الأحناف ولم تذكر الكتب الأدبية شيئا من هذا القبيل ،إلا أن المطلع على أحكامه وآثاره الأدبية،يظن هذا،فقد تحدث عن التوحيد، وقصة الخلق،فضلا عن عودة الحياة بعد الموت، والحياة السرمدية
4- إن أسلوب عامر بن الظرب العدواني كان له من الخصوصية ما يميزه عن غيره من الأدباء والحكماء العرب،فقد ابتعد كل البعد عن التزويق اللفظي واستخدام الألفاظ الغامضة التي تحتاج إلى تفسير قاموسي.كما انه عمد إلى الجمل القصيرة المركزة التي تجري مجرى المثل، وقد لجأ إلى الخطاب المباشر والموجه دون اللجوء إلى مقدمات،فضلا عن استخدامه أسلوب الترغيب والترهيب في بعض الأحيان.
ماذكرناه من أمور كانت هي أهم النقاط التي وجدناها عند عامر بن الظرب العدواني، وقد تكون غابت عنا أمور أخرى،أو فاتتنا على سبيل السهو أو الغفلة ولكننا حاولنا تغطية اكبر قدر ممكن من حياة هذا الرجل وآثاره الأدبية.
العراق جامعة الموصل
* مدرس مساعد / قسم الدراسات الاقتصادية والاجتماعية / مركز الدراسات الإقليمية