"النسخ القرآني في الفكر الاستشراقي":
إن مسألة النسخ في النص القرآني الكريم من المسائل التي كانت ، و لا تزال موقع جدل بين علماء المسلمين ، كما أنها كانت و لا تزال محط أنظار أعداء الإسلام الذين اتخذوا من النسخ مدخلا للطعن في سلامة القرآن الكريم. يقول "حسن أيوب" في مؤلفه "الحديث في علوم القرآن و الحديث": «إن أعداء الإسلام من ملاحدة و مبشرين ، و مستشرقين قد اتخذوا النسخ في الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة ، طعنوا بها في صدر الدين الحنيف ، و نالوا من قدسية القرآن الكريم ، و لقد أحكموا شراك شبهاتهم. و اجتهدوا في ترويج مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم و الدين من المسلمين ، فجحدوا وقوع النسخ ، و هو واقع ، و أمعنوا في هذا الجحود الذي ركبوا له المراكب من تمحلات ساقطة و تأويلات غير سائغة».
إن حكمة الله تبارك و تعالى في إيراد النسخ في النص القرآني الكريم جليلة و عظيمة ، و لعل يستنتجه المتتبع لأطوار الدعوة الإسلامية هو انسجام هذه الأحكام المنسوخة و هذه الأطوار ، و أن هذه المعرفة بهذه الأحكام الواردة في كتاب الله تعالى ، و تجلي الغموض عن كل ما آثاره و يثيره الحاقدون على هذا الدين الحنيف من شكوك و شبهات غير مؤسسة ، و هو «أن الله تعالى نسخ بالإسلام الأديان كلها ، ذلك أن تشريعه أكمل تشريع بني بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها ، و بعد أن بلغت أشدها و استوت، ذلك أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة ، و لكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره…و من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متآلفة لهم ، متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا ، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا ، متمشية مع الإلف و المران و الأحداث الجادة عليهم…».
إن الخلاف الذي دار بين علماء المسلمين حول مسألة النسخ ، وقع نتيجة اختلاف وجهات النظر في فهم معنى قوله تعالى: «¯مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ¯». و الاختلاف هنا لا يتعدى وجود أو عدم وجود النسخ ، و لا نود الخوض فيه بعمق لأن المجال لا يسع لذلك.
و الجدير بالإشارة ، هو أن النسخ يجيء على معان على الدارس لكتاب الله تعالى الإحاطة بها ليتمكن من إدراك حكمة الله تعالى فيه ، و يعلم أسراره ليقف على حقيقة ما فيه من إعجاز.
و النسخ في الشرع و اللغة قد يأتي في النص القرآني الكريم بمعنى المحو و لإزالة كما في قوله تعالى: «¯و َمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ و لا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ و اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم¯».
و يجيء في موضع آخر يحمل معنى التبديل كما في قوله تعالى: «¯وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ¯». و قد يأتي بمعنى النقل من موضع إلى آخر. و منه نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر.. قالوا: و لا يقع هذا المعنى من النسخ في القرآن..إذا نقلت الآية أو الآيات من كتاب إلى كتاب لا يسمى نسخا بالمعنى الذي يفهم منه إزالة حكم الآية أو تلاوتها…».
و الجدير بالإشارة إليه كذلك هو «أن العلماء قد اختلفوا في تعريف النسخ ، و تباينت آراءهم في إمكانية نسخ السنة للقرآن ، و هو ما منعه الإمام الشافعي ، و غيره مع جواز نسخ القرآن بالقرآن أو نسخ القرآن للسنة. و أما نسخ القرآن بالقرآن ، فهو على أنواع ثلاثة: إما أن ينصب النسخ على الحكم و التلاوة جميعا. و إما أن ينصب النسخ على الحكم دون التلاوة ، أو أن ينصب النسخ على التلاوة دون الحكم مع عدم موافقتنا على النوع الثالث ، و هو النسخ الذي ينصب على التلاوة دون الحكم».
إن منع جواز نسخ السنة للقرآن كما عند الإمام الشافعي ، و أهل الظاهر مرده إلى أن دور السنة يكمن في بيان و توضيح ما جاء في القرآن كما نص على ذلك النص القرآني صراحة يبرئ الرسول (صلى الله عليه و سلم) من قدرة على تبديل أو نسخ القرآن. قال الله تعالى في محكم تنزيله: «¯وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ¯». و قال أيضا: «¯يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ¯».
و في النص القرآني آيات تحمل المعنى نفسه. و حول هذا الرأي يقول "الغزالي" (رحمه الله): «فإن قيل قال "الشافعي" رحمه الله لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة …».
لقد تناول المستشرقون مسألة النسخ في النص القرآني ، و صبوا انطلاقا منها سهام التشكيك ، و أقاموا شبهاتهم عليها للطعن في هذا الدين الحنيف. و لو أنهم لم يحملوا في دراساتهم لكتاب الله تعالى أحكاما مسبقة مسمومة لأدركوا حكمة الله تبارك و تعالى في نسخ آياته في كتابه المحكم التنزيل خاصة ، و أنه أنزله منجما ، و لعلموا أن الله عز و جل حفظ كتابه من كل تحريف أو تزييف أزلا(ماضيا و حاضرا و مستقبلا). قال الله تعالى: «¯إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ¯».
و من أولئك المستشرقين الذين استغلوا مسألة النسخ الواردة في النص القرآني للطعن في مصدره الإلهي ، ما أورده المستشرق "مونتجمري وات" في مؤلفه "محمد" حيث ذكر فيه «أن ثقة النبي بألوهية الوحي المنزل عليه لم يمنعه من تنظيم هذا الوحي و ترتيبه زيادة أو نقصانا. و نجد في القرآن ، إشارة إلى أن الله قد أنسى نبيه بعض الآيات. و إن دراسة عميقة للنص القرآني لا تدع مجالا للشك في الاعتقاد بان هناك كلمات و جملا و مقاطع أضيفت إلى القرآن ، و من الطبيعي أن هذه الزيادات ليست من صنع محمد (صلى الله عليه و سلم) ، و من المؤكد أن لديه طريقة معينة للإصغاء إلى الوحي الذي يكشف له ما يفكر فيه ، و لا يصح النص إلا بعد تلقيه الوحي الذي يصوبه…».
أما المستشرق "رودنسون" Rodinson ، فقد أشار في مؤلفه "محمد" إلى تلك الآراء التي صرح بها "ريتشارد بل" R . Bell حيث قال: «إن القرآن الموجود بين أيدينا قد تعرض إلى مراجعات عديدة ، و التي حسب رأيه تبين أنها خضعت لدراسة قامت على وثائق مكتوبة ، و أن هذا العمل قد أنجز تحت رعاية محمد ؛ إن لم يكن قد قام به من تلقاء نفسه…».
ثم يخرج في قوله باستنتاجين متباينين ، فيعلن: «إن هذه المراجعات لم تكن خالية من الأخطاء و النتائج السيئة. فالله يعيد وحيه و يعدله…و لكن الله أجاب بأنه يملك الحرية المطلقة في فعل ما يشاء و تعديل رسالته كيفما يبتغي.
ألم تكن حكمة الله اقتضت مراعاة الضعف الذي يعتري البشر ، فيخفف من الواجبات الملقاة عليهم، و ذلك بنسخها ، و إحلال أحكام أخرى أخف منها لمصلحتهم؟».
ما يستنتجه الدارس و المتمحص لما ذكره هذان المستشرقان ، و غيرهما هو اعتبارهم أن النسخ إنما هو أداة أو وسيلة استغلها الرسول (صلى الله عليه و سلم) لتغيير أحكام كان قد أصدرها ، ثم ما لبث أن أدرك عدم مسايرتها للأوضاع الجديدة، و كذا عدم فاعليتها في حل المشاكل المستجدة ، و الأخطر من ذلك كله أن هؤلاء المستشرقين يهيئون القارئ المفترض لتقبل شكوكهم و شبهاتهم حول المصدر الإلهي للآيات الناسخة ، و بالتالي النص القرآني كله. فحسب زعمهم لا يمكن أن تصدر هذه الأحكام و الشرائع من عند الله عالم الغيب أزلا ، الذي يعلم مسبقا عدم ملاءمتها للأوضاع المستقبلة ليصدر أحكاما و شرائع أخرى.
فإصدار أحكام و شرائع ثم العدول عنها بإصدار أحكام و شرائع أخرى ، لا يليق بعظمة الله عالم الغيب. و هو ما يهيئ للقارئ استنتاج بشرية هذا العمل (النسخ) مما يؤدي في نهاية الأمر إلى القول ببشرية النص القرآني.
إن ادعاءات المستشرقين باطلة طالما أنهم تناولوا مسألة النسخ في النص القرآني بمقدمات تحمل أحكاما باطلة مسبقا. فلو تتبع هؤلاء أحكام النسخ في النص القرآني الكريم ، لأدركوا أنها تتماشى و التطورات الحاصلة في المجتمع من حالة إلى حالة أخرى مغايرة ، و أن الحكمة منها تسهيل استيعاب أحكامه و شرائعه، و تقبلها بكل قناعة ، و ذلك بالتدرج في إصدارها مكتملة أزلا ، ذلك لأنه من الصعوبة ــ و الله أعلم بذلك ــ تقبل الناس أحكاما و شرائع نهائية مكتملة دفعة واحدة.
و لذلك كانت حكمة الله تعالى أن يتدرج بأحكامه و شرائعه لطـفا بعباده و رحمة بهم و الله أعلم بهذه المراحل ماضيا و حاضرا و مستقبلا. و هو الأعلم بتركيبة عباده و طبائعهم.
و كل هذه الأمور و غيرها مما نعلم أو مما لا نعلم معلومة و مسطرة أزلا يقول في ذلك "زكي الدين شعبان" في مؤلفه "أصول الفقه الإسلامي": «إن حكمة النسخ تبقى الأساس المتين لمشروعيته ، و تأكيد حصوله ، هذه الحكمة التي تتجلى في تحقيق مصالح الناس التي هي المقصود الأصلي في تشريع الأحكام ، لأن هذه المصالح قد تختلف باختلاف الأحوال و الأزمان. فإذا شرع حكما لتحقيق مصلحة ، ثم زالت تلك المصلحة كان المناسب لذلك أن ينتهي الحكم الذي شرع لها». و لذلك فليس في النص القرآني ما يمكن تسميته تناقض الأحكام ، أو تنافرها كما يدعي الجاهلون بأحكام النسخ في النص القرآني من المستشرقين.
و أما أن النسخ دليل عند بعض المستشرقين على بشرية النص القرآني ، فهو افتراء فاسد لأنه مبني على دليل فاسد ، هو أنه لما كان الوحي في النص القرآني الكريم متغيرا خارج الزمان ، و تابع لتطور المجتمع عبر مراحل التاريخ ، فهو ليس من عند الله إذ الوحي حسب زعمهم ثابت لا يتغير بتغير الزمان و تطور الأوضاع فيه.
و واضح من هذا الادعاء أن هناك تجاهل حقيقة هامة في مسألة النسخ ، و هي: «أنه يعني إزالة حكم سابق بحكم لاحق نظرا لتغير الظروف ، و لاشتداد عصبة الأمة و تحقيق تربية الوحي للجنس البشري. ذلك أن الشرع و القانون ليسا ثابتين ، بل إنهما يواكبان تطور المجتمعات و تغيير الواقع. لأن الواقع يفرض نفسه على الفكر و المصلحة تفرض نفسها على القانون ، و التطور يفرض نفسه على الثبات ، و من هنا كان خطل الرأي الذي يتصور الوحي الإلهي خارج الزمان ، و التشريع خارج تطور المجتمعات».
و لـ "الزركشي" في هذه مسألة ما يقوله تلك الشبهات التي أطلقها المستشرقون طعنا في إلهية النص القرآني بتناولهم المسألة نفسها ، و قد ذكرنا بعضها آنفا يقول: «قيل في قوله تعالى: «¯مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير¯». و لم يقل "من القرآن" لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب ، و ليس يأتي بعده ناسخ له ، و ما فيه من ناسخ و منسوخ ، فمعلوم و هو قليل ، بين الله ناسخه عند منسوخه ، كنسخ الصدقة عنده مناجاة الرسول (صلى الله عليه و سلم) و العدة ، و الفرار في الجهاد ، و نحوه ، و أما غير ذلك فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ، و منه ما يرجع لبيان لحكم المجمل…و كل ما في القرآن مما يدعي نسخة بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم القرآن الكريم. قال الله تبارك و تعالى: «¯بِالبَيِّنَاتِ و َالزُّبُرِ و َأَنْزَلْنا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكرُونَ¯». و هذا ما غاب على ذهن هؤلاء المستشرقين».
ثم يفسر ما اختلط في ذهن المفسرين في المسألة نفسها دون تمحيص ، فيقول: «و أما بالقرآن ما ظنه كثير من المفسرين فليس بنسخ ، و إنما هو نسأ و تأخير ، أو مجمل أخر بيانه لوقت الحاجة ، أو خطاب قد حال بينه و بين أوله خطاب غيره ، أو مخصوص من عموم ، أو حكم عام لخاص ، أو لمداخلة معنى في معنى. و أنواع الخطاب كثيرة ، فظنوا ذلك نسخا و ليس به ، و أنه الكتاب المهيمن على غيره ، و هو في نفسه متعاضد».
إذا كان هذا حال المفسرين الذين عملوا بإخلاص و صدق و أمانة في الكشف عن أحكام النسخ الوارد في النص القرآني الكريم فيما بعد ، و ما زال يحتاج إلى دراسة عميقة و سيظل. فكيف يكون الحال عند أولئك المستشرقين الذين تناولوا المسألة بأحكام مسبقة ، و دراسات اتسمت بغياب المنهج العلمي ، زيادة على عدم إتقانهم لأسرار اللغة العربية ، و عدم معرفتهم بعلوم القرآن المتنوعة كأحكام النسخ في النص القرآني الكريم؟
فهذا مثلا المستشرق الانجليزي "آربري" قد تناول مسألة الناسخ و المنسوخ في النص القرآني ، و قد عمد إلى إدراج هذه المسألة في الفصل الخاص بـ "محمد و القرآن" ، مع أن المنهج العلمي كان يقتضي عليه أن يدرج هذه المسألة في الفصل الخاص بـ "تاريخ القرآن". ليتسنى له تتبع تطور الأحكام و الشرائع و تدرجها عبر مراحل الدعوة الإسلامية ، و لكن حكما سابقا كان قد فرض نفسه على تحليلات هذا المستشرق، فلم يكن ينشد البحث عن الحقيقة بقدر ما كان يهدف الطعن في سلامة النص القرآني (بشرية القرآن). يقول هذا المستشرق: «و القرآن نفسه يعترف بأن تغيرات وقعت في الوحي: «¯مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ¯». و «¯وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ¯». ثم إن هناك آية في سورة الحج تعطي تفسيرا آخر لتغيرات جرت في الوحي في قوله تبارك و تعالى: «¯وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ¯ لِيَجْعلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ القَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ¯». و هذا كله يثبت ما أصاب الوحي من تغيرات.
و تلك هي حجج هذا المستشرق غير المؤسسة في تناول مسألة الناسخ المنسوخ في النص الٌقرآني الكريم. و قد فند هذه الشبهة "محمد السعيد جمال الدين" في مقال له أسماه "الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم" حيث يقول: «إن الكاتب أقحم الآيات الواردة بسورة الحج في قضية الناسخ و المنسوخ ، و هي ليست منها ، فقوله تبارك و تعالى: «...فَيَنْسَخُ اللَّهُ…» المراد بها إزالة تأثير ما يلقي الشيطان ، و هو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام…و الكلام هنا يشمل الرسل و الأنبياء جميعا من أوتي منهم كتابا و من لم يؤت ، و لا تخص محمد (صلى الله عليه و سلم) وحده و من ثم لا يخص القرآن الكريم. و هو ما يعني أن ما يلقي الشيطان ، إنما هو خارج الوحي و ليس فيه». و قد وضحنا هذا المفهوم و أثبتنا بطلانه.
إن ما يدعيه المستشرق "آربري" ، و غيره من أن تغييرا قد أصاب الوحي(النص القرآني) في تناولهم للنسخ في كتاب الله ، و هو عندهم يثير شكوكا حول مصدره(بشرية القرآن) ، و هو عند المتحصن بمنهج علمي محايد للمسار الذي مر به التشريع الإسلامي منذ نزوله شيء طبيعي لا غرابة فيه. فالتحول الذي شمل هذا المسار في أطواره المتنوعة استدعى أن يتدرج به القرآن الكريم في تبليغ أحكامه حسب مقتضيات الأحوال و الظروف ، رحمة وتثبيتا لرسوله (صلى الله عليه و سلم) إذا علمنا أنه نزل منجما و رحمة بالعباد «و أما ادعاء الكاتب أن الرسول (صلى الله عليه و سلم) قد أنسي آيات تتضمن أحكاما ، و أوتي آيات خيرا منها…أما نسيان الرسول(صلى الله عليه و سلم) باعتباره بشرا يصيبه النسيان، فإن الله تبارك و تعالى قد ضمن أن ينحيه مسبقا من الوحي. قال تبارك و تعالى: «¯فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ¯». و لو كان النسيان متعلقا بالرسول(صلى الله عليه و سلم) كما يدعي هذا "آربري" لما كانت الحاجة إلى الإتيان بآيات أخرى بدل التي نسيها و استمر النسيان ، و لما كان هناك ناسخ و منسوخ أصلا.
إن بعض المستشرقين قد تناولوا مسألة الناسخ و المنسوخ في النص القرآني استنادا على "النظرية المعتزلية" ، و القائلة بالقبح و الحسن العقليين ، و مضمونهما أن النسخ يستلزم اجتماع الضدين ، وهذا الاجتماع أمر محال كون أن الأمر بشيء يقتضي أنه حسن و طاعة، و هو محبب إلى الله عز و جل. أما النهي عنه يقتضي أنه قبيح فيه معصية لله تعالى ، فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر و النهي.
لقد غاب على هؤلاء المستشرقين في شبهتهم هذه على أن المعتزلة أنفسهم يقرون بحقيقة أخرى هي أن الحسن و القبيح متعلقان بأحول الأشخاص المختلفة ، و كذا الزمن و نورد هذا الرد على هذه الشبهة لـ"عناية غازي" في قوله: «إن الحسن و القبح ليسا من صفة الفعل الذاتية حتى يكونا ثابتين فيها لا يتغيران ، بل هما تابعان لتعلق أمر الله و نهيه بالفعل. و على هذا يكون الفعل حسنا ، و مرغوبا فيه مادام مأمور به من الله تعالى. و كذلك يكون هذا الفعل نفسه قبيحا غير مرغوب فيه عند الله تعالى مادام منهيا عنه منه تعالى…و بهذا التأصيل ينتفي اجتماع الضدين ، لأن الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا غير الوقت الذي يكون فيه الفعل قبيحا. فلم يجتمع الحسن و القبيح في فعل واحد ، و لا في وقت واحد». و لذلك فشبهة هؤلاء المستشرقون باطلة من أساسها.
و أورد نفر آخر من المستشرقين اليهود و على رأسهم "جولدزيهر" شبهة أخرى حول مسألة النسخ ، و ذلك قولهم بأن شريعة موسى (عليه السلام) لم يتم نسخها من قبل الشريعة الإسلامية المحمدية ، و أن شريعة موسى باقية أبدية ، و أما حجتهم في ادعائهم هذا ما ورد في نصوص التوراة التي تقول: «هذه شريعة مؤبدة عليكم مادامت السماوات و الأرض» ، و هو ما يستدعي القول بأن شريعة محمد (صلى الله عليه و سلم) خاصة بالعرب وحدهم. و ليس للناس كافة. و هم يقرون بصحة ، و صدق شريعة محمد(صلى الله عليه و سلم)».
و يفهم من قولهم أن نصوص التوراة تعني كما ذكر في المثال أعلاه امتناع النسخ ، و هو دليل على أبدية شريعتهم وسلامتها على خلاف ما احتوى عليه النص القرآني الكريم عند المسلمين.
إن اشتمال شبهتهم هذه على اعتراف بصدق الشريعة الإسلامية ، هو أعظم رد على هذه الشبهة ؛ ذلك أن هذا الاعتراف يستلزم التصديق بكل ما جاءت به هذه الشريعة ، و ليس بجزء دون سواه. و قد ورد في شريعة محمد (صلى الله عليه و سلم) أنها عامة و لكافة الناس ، و أنها ناسخة للشرائع السماوية السابقة. و شريعة موسى (عليه الصلاة و السلام) الذين يدعون أزليتها هي جزء منها. قال الله تعالى: «¯وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ منَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجًا وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيرَاتِ إِلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون¯». و قال أيضا: «¯وَ مَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ في الآخرَةِ منَ الخَاسِرِينَ ¯».
فكيف يؤمن هؤلاء اليهود بشريعة محمد (صلى الله عليه و سلم) ، و يكذبون نسخها لشريعة موسى؟! و ذا دليل آخر يثبت بطلان شبهتهم. كما أن التأبيد و هو لفظ كثير الاستعمال عند اليهود لا يصلح دليلا في القول بامتناع النسخ في التوراة ذلك لأن هذا الاستعمال هو في كثير من الأحيان معدول عن حقيقته مثلما جاء في شأن البقرة التي أمروا بذبحها "هذه سنة لكم أبدا" ، و ما ورد في القربان "قربوا كل يومين خروفين قربانا دائما" ، و هذان الحكمان منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم. فلما هذا التناقض؟!
أما شبهة جماعة من النصارى من أمثال "رجيس بلاشير" ، فإنها ترى أن شريعة عيسى(عليه السلام) مؤبدة ، و لم تنسخ ، أما حجتهم في ذلك هو ما ورد في نصوص من الإنجيل منها: «أن المسيح(عليه السلام) قال: «السماء و الأرض تزولان ، و كلامي لا يزول». و هذا ما دفعهم إلى القول بامتناع النسخ سمعا أي شرعا.
و أما ادعاؤهم بأن ما ورد في هذا النص من الإنجيل يدل على امتناع النسخ مطلقا فهو فهم خاطئ. إذ ما ورد في هذا النص يدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح (عليه السلام) فقط و دون تعميم. و ما نفي النسخ عن الإنجيل ،هو مغالطة كبرى إذ ورد في إنجيل "متى": «إلى طريق أمم لا تمضوا ، و مدينة للسامريين لا تدخلوا ، بل اذهبوا بالجري إلى خراف بني إسرائيل الضالة». و هو إثبات لخصوصية رسالة المسيح (عليه السلام) إلى بني إسرائيل ، و د ورد ما ينسخ مثل هذه النصوص كما جاء في إنجيل "مرقص" قال: «اذهبوا إلى العالم أجمع و أكرزوا بالإنجيل للخليقة» ، فهذا القول ناسخ للنص الوارد آنفا في إنجيل "متى".
فلو تحلى هؤلاء ، و غيرهم من المستشرقين بالمنهج العلمي المحايد ما أنكروا النسخ في كتبهم مع ثبوته ، و هذا يدحض شبهاتهم ، و دراساتهم المشبوهة. يضاف إلى ذلك أن النصوص التي يستندون عليها من الإنجيل ، ليست نصوصا أصلية يمكن الوثوق من صحتها لما أصاب هذا الكتاب (الإنجيل) من تحريف بالزيادة أو النقصان ، مما يجعل ادعاءاتهم باطلة ، سواء فيما يخص شمولية الرسالة التي حملها المسيح (عليه السلام) ، أو عدم نسخ نصوصها و تأبيدها.
إن الذي اعترى مسألة النسخ ، و ذلك الخلط بينها و بين نوع آخر يختلف تماما عن الأول ، و هو التخصيص قد يحرف الكلام ، و المقصد منه عن موضعه الحقيقي الذي وضعه الخالق عز وجل في محكم تنزيله. فهذا "أبو مسلم الأصفهاني" قد سلك الطريق الخاطئ في تفسير قوله تعالى: «¯لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّن حَكيمٍ حَمِيدٍ¯» بقوله: أن لا نسخ في النص القرآني استنادا إلى الآية السالفة الذكر ، و هي الآية (اثنان و أربعون) من سورة فصلت ، فالنسخ عنده من خلالها يفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، و النسخ فيه يعني إبطال لحكم سابق ، و لذلك فهو يطلق على النسخ اسم التخصيص، و كان تفسيره هذا خطأ فادحا خالف به جمهور علماء المسلمين.
و قد تصدى علماء المسلمين لـ"أبي مسلم الأصفهاني" ، و بذلك كان أن فرقوا بين النسخ و التخصيص و لكن ردهم شابه من المغالاة مما أدى إلى اشتباه بين النسخ و البداء ، و بين النسخ و الإنساء، و بين نسخ الأحكام و نسخ الأخبار ، و غيرها من الأمور التي أزمت المسألة.
في ذلك يقول "عناية غازي": «إن معنى الآية هو أن عقائد القرآن موافقة للعقـل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، و أخباره مطابقة للواقع ، و ألفاظه محفوظة من التغيير و التبديل ، و الخطأ لا يمكن أن يتطرق إلى ساحته مصداقا لقوله تعالى: «¯إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ¯» الآية (تسعة) من سورة الحجر.
كما أن المقصود بالباطل في الآية (اثنين و أربعين) من سورة فصلت هو خالق الحق. و النسخ حق. و أما إطلاق التخصيص على النسخ ، فهو تسمية لغير صحيح ، و الفرق بين النسخ و التخصيص كبير.
و قد قال المعترضون على رأي "أبي مسلم" و المجيزون للنسخ: «أن كلا من النسخ و التخصيص قد وقعا في النص القرآني الكريم ، و أبرزوا أوجه الاختلاف بينهما كما يلي:
1 ـ التخصيص: هو قصر العام على بعض أفراده مع بقاء الحكم.أما النسخ ، فهو إزالة كاملة للحكم بحيث يكون الخطاب غير متعلق بأحد من المكلفين.
2 ـ النسخ: النسخ لا يكون إلا بالقرآن و السنة ، أما التخصيص فيكون بهما ، و بغيرهما كالحس و العقل ، و مثال التخصيص قوله تعالى: «¯ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ¯». فقد خصصه قوله (صلى الله عليه و سلم) بقوله: «لا قطع إلا في ربع دينا». و الحديث أخرجه أصحاب السنن. و غيره كثير. و لهذه الاعتراضات فإن رأي "أبي مسلم" لا يمكن الأخذ به خاصة و أنه قد جاء بعد إجماع العلماء على جواز النسخ».
إن الله أعلم بشؤون و مصالح عباده «و هذه المصالح تختلف بحسب الأحوال و الأزمان ، فقد يكون الحكم في وقت أو حال أصلح للعباد ، و يكون غيره في وقت ، أو حال أخرى أصلح ، و الله عليم حكيم». فقد أوجب الجهاد على عباده إذا لاقوا العدو. قال تبارك و تعالى: «¯يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ¯». فإن لم يغلبوا مائتين فليسوا بصابرين «¯إِن يَّكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَّغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ¯». هذا إيجاب ، لكن صار فيه مشقة…و مصابرة العدو واجبة حتى ، و إن كانت نسبة واحد إلى عشرة ، ثم بعد ذلك رحم الله العباد ، فقال: «¯الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَّغْلِبوا مائَتَيْنِ و َإِن يَّكُن مِّنْكُمْ أَلْفٌ يَّغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ و َاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ¯». فالعقل يقتضي وجوب النسخ إذا اقتضته الحكمة و الرحمة ، و الحكمة و الرحمة تتبعان المصالح. قال الله تعالى: «¯وَ إِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ¯». و قال: «¯أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سدًى¯». و قال أيضا: «¯وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ والأَرْضَ و َما بَيْنَهُما لاعِبِيْنَ¯».
إذا كانت مسألة النسخ قد أفاض فيها علماء مسلمون من أهل اللغة العربية ، و بالرغم من كل ذلك، فقد فاتهم ما فاتهم في فهم المعنى الحقيقي للنسخ في آيات النص القرآني ، فكيف يكون حال أولئك المستشرقين الذين لا يتقنون قواعد اللغة العربية ، و أسرارها البلاغية من مقاصد داخل سياقها؟! و أقبلوا على النص القرآني إقبالهم على الكتب الأخرى.
إن النسخ واقع في الشريعة الإسلامية بإجماع جمهور العلماء المسلمين إلا "أبي مسلم الأصفهاني" و غيره. و قد قدموا لذلك أدلة عديدة نذكر منها:
أ ـ النص القرآني الصريح الذي يعلن إمكانية النسخ قال تعالى: «¯ما نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ¯».
ب ـ وقوع النسخ فعلا فقد نسخ الله تعالى حكم التوجه إلى بيت المقدس و حولت القبلة إلى بيت الله الحرام بعد الهجرة بقوله عز من قائل: «¯ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحرَامِ وَ حَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و َإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ¯».
الخاتمة:
و منه تفاديا لسوء فهم يبعد الدارس عن جادة الصواب في فهم كتاب الله تبارك و تعالى ، و يوقعه في منعطفات خطيرة تجاه النص القرآني المنزه عنها ، فإن جمهور العلماء و الأئمة أوجبوا على الدارس لكتاب الله عز و جل التزود بعلوم القرآن ، و خاصة ما تعلق بالناسخ و المنسوخ ، فقالوا: «و لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ و المنسوخ ، و قد قال "علي بن أبي طالب" (رضي الله عنه) لـ "قاص": أتعرف الناسخ و المنسوخ ؟ قال: الله أعلم قال: هلكت و أهلكت».
الأستاذ: عثماني عبد المالك
العنوان: رقم 185 حي تنكرود ، بشار الجديد
ولاية بشار (08002) الجزائر.
رقم الهاتف: 0664947139
قائمة المصادر و المراجع:
أولا: العربية
1 ـ القرآن الكريم برواية ورش.
2 ـ أيوب حسن ـ الحديث في علوم القرآن و الحديث ـ دار السلام ـ القاهرة ـ مصر ـ ط1 ـ 2002.
3 ـ بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ـ البرهان في علوم القرآن ـ الجزء 2 ـ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار الجيل ـ بيروت ـ لبنان ـ 2003.
4 ـ حسن حنفي ـ دراسة إسلامية ـ دار التنوير العربي للطباعة و النشر ـ 1982.
5 ـ سالم الحاج ساسي ـ نقد الخطاب الاستشراقي ـ الجزء1 ـ دار الكتب الوطنية ـ ط1 ـ بنغازي ـ ليبيا ـ 2002.
6 ـ سالم الحاج ساسي ـ عقوبة الإعدام بين الإبقاء و الإلغاء ـ معهد الإنماء العربي ـ بنغازي ـ ليبيا ـ ط1 ـ 1988.
7 ـ شعبان زكي الدين ـ أصول الفقه الإسلامي ـ مطبعة دار التأليف ـ بيروت ـ لبنان ـ 1965.
8 ـ عبد الكريم الخطيب ـ إعجاز القرآن ( الإعجاز في دراسة السابقين) ـ دار الفكر العربي ـ دمشق ـ سوريا ـ ط1 ـ 1974.
9 ـ غازي عناية ـ شبهات حول القرآن الكريم و تفنيدها ـ دار مكتبة الهلال ـ بيروت ـ لبنان ـ ط1 ـ 1996.
10 ـ كافي منصور بن فضيل ـ المدخل إلى علوم القرآن ـ دار مدني للطباعة و النشر و التوزيع ـ رقم الإيداع القانون: 2004 . 2346 ـ ردمك 8 0337 . 1 . 9961 ـ البليدة ـ الجزائر.
11 ـ محمد بن صالح العثيمين ـ شرح الأصول من علم الأصول ـ تحقيق: أبو يعقوب نشأت بن كمال المصري ـ دار البصيرة ـ مصر ـ 1422 هـ .
12 ـ محمد الغزالي ـ المستصفى من علم الأصول ـ الجزء الأول ـ المطبعة الأميرية ـ القاهرة ـ مصر ـ ط1 ـ 1322 هـ .
ثانيا: المعربة
13 ـ مونتجمري وات ـ محمد في مكة ـ ترجمة: شعبان بركات ـ منشورات المكتبة العصرية ـ بيروت ـ لبنان ( بدون تاريخ ).
ثالثا: الأجنبية
14 ـ . 1968 ـ Paris ـ Mahomet ـ Rodinson (M)
رابعا: الإنترنت:
15 ـ جمال الدين محمد السعيد ـ الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم.(إنترنت)
اسم الموقع: com.www.imseer
إن مسألة النسخ في النص القرآني الكريم من المسائل التي كانت ، و لا تزال موقع جدل بين علماء المسلمين ، كما أنها كانت و لا تزال محط أنظار أعداء الإسلام الذين اتخذوا من النسخ مدخلا للطعن في سلامة القرآن الكريم. يقول "حسن أيوب" في مؤلفه "الحديث في علوم القرآن و الحديث": «إن أعداء الإسلام من ملاحدة و مبشرين ، و مستشرقين قد اتخذوا النسخ في الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة ، طعنوا بها في صدر الدين الحنيف ، و نالوا من قدسية القرآن الكريم ، و لقد أحكموا شراك شبهاتهم. و اجتهدوا في ترويج مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم و الدين من المسلمين ، فجحدوا وقوع النسخ ، و هو واقع ، و أمعنوا في هذا الجحود الذي ركبوا له المراكب من تمحلات ساقطة و تأويلات غير سائغة».
إن حكمة الله تبارك و تعالى في إيراد النسخ في النص القرآني الكريم جليلة و عظيمة ، و لعل يستنتجه المتتبع لأطوار الدعوة الإسلامية هو انسجام هذه الأحكام المنسوخة و هذه الأطوار ، و أن هذه المعرفة بهذه الأحكام الواردة في كتاب الله تعالى ، و تجلي الغموض عن كل ما آثاره و يثيره الحاقدون على هذا الدين الحنيف من شكوك و شبهات غير مؤسسة ، و هو «أن الله تعالى نسخ بالإسلام الأديان كلها ، ذلك أن تشريعه أكمل تشريع بني بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها ، و بعد أن بلغت أشدها و استوت، ذلك أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة ، و لكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره…و من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متآلفة لهم ، متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا ، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا ، متمشية مع الإلف و المران و الأحداث الجادة عليهم…».
إن الخلاف الذي دار بين علماء المسلمين حول مسألة النسخ ، وقع نتيجة اختلاف وجهات النظر في فهم معنى قوله تعالى: «¯مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ¯». و الاختلاف هنا لا يتعدى وجود أو عدم وجود النسخ ، و لا نود الخوض فيه بعمق لأن المجال لا يسع لذلك.
و الجدير بالإشارة ، هو أن النسخ يجيء على معان على الدارس لكتاب الله تعالى الإحاطة بها ليتمكن من إدراك حكمة الله تعالى فيه ، و يعلم أسراره ليقف على حقيقة ما فيه من إعجاز.
و النسخ في الشرع و اللغة قد يأتي في النص القرآني الكريم بمعنى المحو و لإزالة كما في قوله تعالى: «¯و َمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ و لا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ و اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم¯».
و يجيء في موضع آخر يحمل معنى التبديل كما في قوله تعالى: «¯وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ¯». و قد يأتي بمعنى النقل من موضع إلى آخر. و منه نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر.. قالوا: و لا يقع هذا المعنى من النسخ في القرآن..إذا نقلت الآية أو الآيات من كتاب إلى كتاب لا يسمى نسخا بالمعنى الذي يفهم منه إزالة حكم الآية أو تلاوتها…».
و الجدير بالإشارة إليه كذلك هو «أن العلماء قد اختلفوا في تعريف النسخ ، و تباينت آراءهم في إمكانية نسخ السنة للقرآن ، و هو ما منعه الإمام الشافعي ، و غيره مع جواز نسخ القرآن بالقرآن أو نسخ القرآن للسنة. و أما نسخ القرآن بالقرآن ، فهو على أنواع ثلاثة: إما أن ينصب النسخ على الحكم و التلاوة جميعا. و إما أن ينصب النسخ على الحكم دون التلاوة ، أو أن ينصب النسخ على التلاوة دون الحكم مع عدم موافقتنا على النوع الثالث ، و هو النسخ الذي ينصب على التلاوة دون الحكم».
إن منع جواز نسخ السنة للقرآن كما عند الإمام الشافعي ، و أهل الظاهر مرده إلى أن دور السنة يكمن في بيان و توضيح ما جاء في القرآن كما نص على ذلك النص القرآني صراحة يبرئ الرسول (صلى الله عليه و سلم) من قدرة على تبديل أو نسخ القرآن. قال الله تعالى في محكم تنزيله: «¯وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ¯». و قال أيضا: «¯يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ¯».
و في النص القرآني آيات تحمل المعنى نفسه. و حول هذا الرأي يقول "الغزالي" (رحمه الله): «فإن قيل قال "الشافعي" رحمه الله لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة …».
لقد تناول المستشرقون مسألة النسخ في النص القرآني ، و صبوا انطلاقا منها سهام التشكيك ، و أقاموا شبهاتهم عليها للطعن في هذا الدين الحنيف. و لو أنهم لم يحملوا في دراساتهم لكتاب الله تعالى أحكاما مسبقة مسمومة لأدركوا حكمة الله تبارك و تعالى في نسخ آياته في كتابه المحكم التنزيل خاصة ، و أنه أنزله منجما ، و لعلموا أن الله عز و جل حفظ كتابه من كل تحريف أو تزييف أزلا(ماضيا و حاضرا و مستقبلا). قال الله تعالى: «¯إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ¯».
و من أولئك المستشرقين الذين استغلوا مسألة النسخ الواردة في النص القرآني للطعن في مصدره الإلهي ، ما أورده المستشرق "مونتجمري وات" في مؤلفه "محمد" حيث ذكر فيه «أن ثقة النبي بألوهية الوحي المنزل عليه لم يمنعه من تنظيم هذا الوحي و ترتيبه زيادة أو نقصانا. و نجد في القرآن ، إشارة إلى أن الله قد أنسى نبيه بعض الآيات. و إن دراسة عميقة للنص القرآني لا تدع مجالا للشك في الاعتقاد بان هناك كلمات و جملا و مقاطع أضيفت إلى القرآن ، و من الطبيعي أن هذه الزيادات ليست من صنع محمد (صلى الله عليه و سلم) ، و من المؤكد أن لديه طريقة معينة للإصغاء إلى الوحي الذي يكشف له ما يفكر فيه ، و لا يصح النص إلا بعد تلقيه الوحي الذي يصوبه…».
أما المستشرق "رودنسون" Rodinson ، فقد أشار في مؤلفه "محمد" إلى تلك الآراء التي صرح بها "ريتشارد بل" R . Bell حيث قال: «إن القرآن الموجود بين أيدينا قد تعرض إلى مراجعات عديدة ، و التي حسب رأيه تبين أنها خضعت لدراسة قامت على وثائق مكتوبة ، و أن هذا العمل قد أنجز تحت رعاية محمد ؛ إن لم يكن قد قام به من تلقاء نفسه…».
ثم يخرج في قوله باستنتاجين متباينين ، فيعلن: «إن هذه المراجعات لم تكن خالية من الأخطاء و النتائج السيئة. فالله يعيد وحيه و يعدله…و لكن الله أجاب بأنه يملك الحرية المطلقة في فعل ما يشاء و تعديل رسالته كيفما يبتغي.
ألم تكن حكمة الله اقتضت مراعاة الضعف الذي يعتري البشر ، فيخفف من الواجبات الملقاة عليهم، و ذلك بنسخها ، و إحلال أحكام أخرى أخف منها لمصلحتهم؟».
ما يستنتجه الدارس و المتمحص لما ذكره هذان المستشرقان ، و غيرهما هو اعتبارهم أن النسخ إنما هو أداة أو وسيلة استغلها الرسول (صلى الله عليه و سلم) لتغيير أحكام كان قد أصدرها ، ثم ما لبث أن أدرك عدم مسايرتها للأوضاع الجديدة، و كذا عدم فاعليتها في حل المشاكل المستجدة ، و الأخطر من ذلك كله أن هؤلاء المستشرقين يهيئون القارئ المفترض لتقبل شكوكهم و شبهاتهم حول المصدر الإلهي للآيات الناسخة ، و بالتالي النص القرآني كله. فحسب زعمهم لا يمكن أن تصدر هذه الأحكام و الشرائع من عند الله عالم الغيب أزلا ، الذي يعلم مسبقا عدم ملاءمتها للأوضاع المستقبلة ليصدر أحكاما و شرائع أخرى.
فإصدار أحكام و شرائع ثم العدول عنها بإصدار أحكام و شرائع أخرى ، لا يليق بعظمة الله عالم الغيب. و هو ما يهيئ للقارئ استنتاج بشرية هذا العمل (النسخ) مما يؤدي في نهاية الأمر إلى القول ببشرية النص القرآني.
إن ادعاءات المستشرقين باطلة طالما أنهم تناولوا مسألة النسخ في النص القرآني بمقدمات تحمل أحكاما باطلة مسبقا. فلو تتبع هؤلاء أحكام النسخ في النص القرآني الكريم ، لأدركوا أنها تتماشى و التطورات الحاصلة في المجتمع من حالة إلى حالة أخرى مغايرة ، و أن الحكمة منها تسهيل استيعاب أحكامه و شرائعه، و تقبلها بكل قناعة ، و ذلك بالتدرج في إصدارها مكتملة أزلا ، ذلك لأنه من الصعوبة ــ و الله أعلم بذلك ــ تقبل الناس أحكاما و شرائع نهائية مكتملة دفعة واحدة.
و لذلك كانت حكمة الله تعالى أن يتدرج بأحكامه و شرائعه لطـفا بعباده و رحمة بهم و الله أعلم بهذه المراحل ماضيا و حاضرا و مستقبلا. و هو الأعلم بتركيبة عباده و طبائعهم.
و كل هذه الأمور و غيرها مما نعلم أو مما لا نعلم معلومة و مسطرة أزلا يقول في ذلك "زكي الدين شعبان" في مؤلفه "أصول الفقه الإسلامي": «إن حكمة النسخ تبقى الأساس المتين لمشروعيته ، و تأكيد حصوله ، هذه الحكمة التي تتجلى في تحقيق مصالح الناس التي هي المقصود الأصلي في تشريع الأحكام ، لأن هذه المصالح قد تختلف باختلاف الأحوال و الأزمان. فإذا شرع حكما لتحقيق مصلحة ، ثم زالت تلك المصلحة كان المناسب لذلك أن ينتهي الحكم الذي شرع لها». و لذلك فليس في النص القرآني ما يمكن تسميته تناقض الأحكام ، أو تنافرها كما يدعي الجاهلون بأحكام النسخ في النص القرآني من المستشرقين.
و أما أن النسخ دليل عند بعض المستشرقين على بشرية النص القرآني ، فهو افتراء فاسد لأنه مبني على دليل فاسد ، هو أنه لما كان الوحي في النص القرآني الكريم متغيرا خارج الزمان ، و تابع لتطور المجتمع عبر مراحل التاريخ ، فهو ليس من عند الله إذ الوحي حسب زعمهم ثابت لا يتغير بتغير الزمان و تطور الأوضاع فيه.
و واضح من هذا الادعاء أن هناك تجاهل حقيقة هامة في مسألة النسخ ، و هي: «أنه يعني إزالة حكم سابق بحكم لاحق نظرا لتغير الظروف ، و لاشتداد عصبة الأمة و تحقيق تربية الوحي للجنس البشري. ذلك أن الشرع و القانون ليسا ثابتين ، بل إنهما يواكبان تطور المجتمعات و تغيير الواقع. لأن الواقع يفرض نفسه على الفكر و المصلحة تفرض نفسها على القانون ، و التطور يفرض نفسه على الثبات ، و من هنا كان خطل الرأي الذي يتصور الوحي الإلهي خارج الزمان ، و التشريع خارج تطور المجتمعات».
و لـ "الزركشي" في هذه مسألة ما يقوله تلك الشبهات التي أطلقها المستشرقون طعنا في إلهية النص القرآني بتناولهم المسألة نفسها ، و قد ذكرنا بعضها آنفا يقول: «قيل في قوله تعالى: «¯مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير¯». و لم يقل "من القرآن" لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب ، و ليس يأتي بعده ناسخ له ، و ما فيه من ناسخ و منسوخ ، فمعلوم و هو قليل ، بين الله ناسخه عند منسوخه ، كنسخ الصدقة عنده مناجاة الرسول (صلى الله عليه و سلم) و العدة ، و الفرار في الجهاد ، و نحوه ، و أما غير ذلك فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ، و منه ما يرجع لبيان لحكم المجمل…و كل ما في القرآن مما يدعي نسخة بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم القرآن الكريم. قال الله تبارك و تعالى: «¯بِالبَيِّنَاتِ و َالزُّبُرِ و َأَنْزَلْنا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكرُونَ¯». و هذا ما غاب على ذهن هؤلاء المستشرقين».
ثم يفسر ما اختلط في ذهن المفسرين في المسألة نفسها دون تمحيص ، فيقول: «و أما بالقرآن ما ظنه كثير من المفسرين فليس بنسخ ، و إنما هو نسأ و تأخير ، أو مجمل أخر بيانه لوقت الحاجة ، أو خطاب قد حال بينه و بين أوله خطاب غيره ، أو مخصوص من عموم ، أو حكم عام لخاص ، أو لمداخلة معنى في معنى. و أنواع الخطاب كثيرة ، فظنوا ذلك نسخا و ليس به ، و أنه الكتاب المهيمن على غيره ، و هو في نفسه متعاضد».
إذا كان هذا حال المفسرين الذين عملوا بإخلاص و صدق و أمانة في الكشف عن أحكام النسخ الوارد في النص القرآني الكريم فيما بعد ، و ما زال يحتاج إلى دراسة عميقة و سيظل. فكيف يكون الحال عند أولئك المستشرقين الذين تناولوا المسألة بأحكام مسبقة ، و دراسات اتسمت بغياب المنهج العلمي ، زيادة على عدم إتقانهم لأسرار اللغة العربية ، و عدم معرفتهم بعلوم القرآن المتنوعة كأحكام النسخ في النص القرآني الكريم؟
فهذا مثلا المستشرق الانجليزي "آربري" قد تناول مسألة الناسخ و المنسوخ في النص القرآني ، و قد عمد إلى إدراج هذه المسألة في الفصل الخاص بـ "محمد و القرآن" ، مع أن المنهج العلمي كان يقتضي عليه أن يدرج هذه المسألة في الفصل الخاص بـ "تاريخ القرآن". ليتسنى له تتبع تطور الأحكام و الشرائع و تدرجها عبر مراحل الدعوة الإسلامية ، و لكن حكما سابقا كان قد فرض نفسه على تحليلات هذا المستشرق، فلم يكن ينشد البحث عن الحقيقة بقدر ما كان يهدف الطعن في سلامة النص القرآني (بشرية القرآن). يقول هذا المستشرق: «و القرآن نفسه يعترف بأن تغيرات وقعت في الوحي: «¯مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ¯». و «¯وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ¯». ثم إن هناك آية في سورة الحج تعطي تفسيرا آخر لتغيرات جرت في الوحي في قوله تبارك و تعالى: «¯وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ¯ لِيَجْعلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ القَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ¯». و هذا كله يثبت ما أصاب الوحي من تغيرات.
و تلك هي حجج هذا المستشرق غير المؤسسة في تناول مسألة الناسخ المنسوخ في النص الٌقرآني الكريم. و قد فند هذه الشبهة "محمد السعيد جمال الدين" في مقال له أسماه "الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم" حيث يقول: «إن الكاتب أقحم الآيات الواردة بسورة الحج في قضية الناسخ و المنسوخ ، و هي ليست منها ، فقوله تبارك و تعالى: «...فَيَنْسَخُ اللَّهُ…» المراد بها إزالة تأثير ما يلقي الشيطان ، و هو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام…و الكلام هنا يشمل الرسل و الأنبياء جميعا من أوتي منهم كتابا و من لم يؤت ، و لا تخص محمد (صلى الله عليه و سلم) وحده و من ثم لا يخص القرآن الكريم. و هو ما يعني أن ما يلقي الشيطان ، إنما هو خارج الوحي و ليس فيه». و قد وضحنا هذا المفهوم و أثبتنا بطلانه.
إن ما يدعيه المستشرق "آربري" ، و غيره من أن تغييرا قد أصاب الوحي(النص القرآني) في تناولهم للنسخ في كتاب الله ، و هو عندهم يثير شكوكا حول مصدره(بشرية القرآن) ، و هو عند المتحصن بمنهج علمي محايد للمسار الذي مر به التشريع الإسلامي منذ نزوله شيء طبيعي لا غرابة فيه. فالتحول الذي شمل هذا المسار في أطواره المتنوعة استدعى أن يتدرج به القرآن الكريم في تبليغ أحكامه حسب مقتضيات الأحوال و الظروف ، رحمة وتثبيتا لرسوله (صلى الله عليه و سلم) إذا علمنا أنه نزل منجما و رحمة بالعباد «و أما ادعاء الكاتب أن الرسول (صلى الله عليه و سلم) قد أنسي آيات تتضمن أحكاما ، و أوتي آيات خيرا منها…أما نسيان الرسول(صلى الله عليه و سلم) باعتباره بشرا يصيبه النسيان، فإن الله تبارك و تعالى قد ضمن أن ينحيه مسبقا من الوحي. قال تبارك و تعالى: «¯فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ¯». و لو كان النسيان متعلقا بالرسول(صلى الله عليه و سلم) كما يدعي هذا "آربري" لما كانت الحاجة إلى الإتيان بآيات أخرى بدل التي نسيها و استمر النسيان ، و لما كان هناك ناسخ و منسوخ أصلا.
إن بعض المستشرقين قد تناولوا مسألة الناسخ و المنسوخ في النص القرآني استنادا على "النظرية المعتزلية" ، و القائلة بالقبح و الحسن العقليين ، و مضمونهما أن النسخ يستلزم اجتماع الضدين ، وهذا الاجتماع أمر محال كون أن الأمر بشيء يقتضي أنه حسن و طاعة، و هو محبب إلى الله عز و جل. أما النهي عنه يقتضي أنه قبيح فيه معصية لله تعالى ، فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه ، ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر و النهي.
لقد غاب على هؤلاء المستشرقين في شبهتهم هذه على أن المعتزلة أنفسهم يقرون بحقيقة أخرى هي أن الحسن و القبيح متعلقان بأحول الأشخاص المختلفة ، و كذا الزمن و نورد هذا الرد على هذه الشبهة لـ"عناية غازي" في قوله: «إن الحسن و القبح ليسا من صفة الفعل الذاتية حتى يكونا ثابتين فيها لا يتغيران ، بل هما تابعان لتعلق أمر الله و نهيه بالفعل. و على هذا يكون الفعل حسنا ، و مرغوبا فيه مادام مأمور به من الله تعالى. و كذلك يكون هذا الفعل نفسه قبيحا غير مرغوب فيه عند الله تعالى مادام منهيا عنه منه تعالى…و بهذا التأصيل ينتفي اجتماع الضدين ، لأن الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا غير الوقت الذي يكون فيه الفعل قبيحا. فلم يجتمع الحسن و القبيح في فعل واحد ، و لا في وقت واحد». و لذلك فشبهة هؤلاء المستشرقون باطلة من أساسها.
و أورد نفر آخر من المستشرقين اليهود و على رأسهم "جولدزيهر" شبهة أخرى حول مسألة النسخ ، و ذلك قولهم بأن شريعة موسى (عليه السلام) لم يتم نسخها من قبل الشريعة الإسلامية المحمدية ، و أن شريعة موسى باقية أبدية ، و أما حجتهم في ادعائهم هذا ما ورد في نصوص التوراة التي تقول: «هذه شريعة مؤبدة عليكم مادامت السماوات و الأرض» ، و هو ما يستدعي القول بأن شريعة محمد (صلى الله عليه و سلم) خاصة بالعرب وحدهم. و ليس للناس كافة. و هم يقرون بصحة ، و صدق شريعة محمد(صلى الله عليه و سلم)».
و يفهم من قولهم أن نصوص التوراة تعني كما ذكر في المثال أعلاه امتناع النسخ ، و هو دليل على أبدية شريعتهم وسلامتها على خلاف ما احتوى عليه النص القرآني الكريم عند المسلمين.
إن اشتمال شبهتهم هذه على اعتراف بصدق الشريعة الإسلامية ، هو أعظم رد على هذه الشبهة ؛ ذلك أن هذا الاعتراف يستلزم التصديق بكل ما جاءت به هذه الشريعة ، و ليس بجزء دون سواه. و قد ورد في شريعة محمد (صلى الله عليه و سلم) أنها عامة و لكافة الناس ، و أنها ناسخة للشرائع السماوية السابقة. و شريعة موسى (عليه الصلاة و السلام) الذين يدعون أزليتها هي جزء منها. قال الله تعالى: «¯وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ منَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجًا وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيرَاتِ إِلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون¯». و قال أيضا: «¯وَ مَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ في الآخرَةِ منَ الخَاسِرِينَ ¯».
فكيف يؤمن هؤلاء اليهود بشريعة محمد (صلى الله عليه و سلم) ، و يكذبون نسخها لشريعة موسى؟! و ذا دليل آخر يثبت بطلان شبهتهم. كما أن التأبيد و هو لفظ كثير الاستعمال عند اليهود لا يصلح دليلا في القول بامتناع النسخ في التوراة ذلك لأن هذا الاستعمال هو في كثير من الأحيان معدول عن حقيقته مثلما جاء في شأن البقرة التي أمروا بذبحها "هذه سنة لكم أبدا" ، و ما ورد في القربان "قربوا كل يومين خروفين قربانا دائما" ، و هذان الحكمان منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم. فلما هذا التناقض؟!
أما شبهة جماعة من النصارى من أمثال "رجيس بلاشير" ، فإنها ترى أن شريعة عيسى(عليه السلام) مؤبدة ، و لم تنسخ ، أما حجتهم في ذلك هو ما ورد في نصوص من الإنجيل منها: «أن المسيح(عليه السلام) قال: «السماء و الأرض تزولان ، و كلامي لا يزول». و هذا ما دفعهم إلى القول بامتناع النسخ سمعا أي شرعا.
و أما ادعاؤهم بأن ما ورد في هذا النص من الإنجيل يدل على امتناع النسخ مطلقا فهو فهم خاطئ. إذ ما ورد في هذا النص يدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح (عليه السلام) فقط و دون تعميم. و ما نفي النسخ عن الإنجيل ،هو مغالطة كبرى إذ ورد في إنجيل "متى": «إلى طريق أمم لا تمضوا ، و مدينة للسامريين لا تدخلوا ، بل اذهبوا بالجري إلى خراف بني إسرائيل الضالة». و هو إثبات لخصوصية رسالة المسيح (عليه السلام) إلى بني إسرائيل ، و د ورد ما ينسخ مثل هذه النصوص كما جاء في إنجيل "مرقص" قال: «اذهبوا إلى العالم أجمع و أكرزوا بالإنجيل للخليقة» ، فهذا القول ناسخ للنص الوارد آنفا في إنجيل "متى".
فلو تحلى هؤلاء ، و غيرهم من المستشرقين بالمنهج العلمي المحايد ما أنكروا النسخ في كتبهم مع ثبوته ، و هذا يدحض شبهاتهم ، و دراساتهم المشبوهة. يضاف إلى ذلك أن النصوص التي يستندون عليها من الإنجيل ، ليست نصوصا أصلية يمكن الوثوق من صحتها لما أصاب هذا الكتاب (الإنجيل) من تحريف بالزيادة أو النقصان ، مما يجعل ادعاءاتهم باطلة ، سواء فيما يخص شمولية الرسالة التي حملها المسيح (عليه السلام) ، أو عدم نسخ نصوصها و تأبيدها.
إن الذي اعترى مسألة النسخ ، و ذلك الخلط بينها و بين نوع آخر يختلف تماما عن الأول ، و هو التخصيص قد يحرف الكلام ، و المقصد منه عن موضعه الحقيقي الذي وضعه الخالق عز وجل في محكم تنزيله. فهذا "أبو مسلم الأصفهاني" قد سلك الطريق الخاطئ في تفسير قوله تعالى: «¯لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّن حَكيمٍ حَمِيدٍ¯» بقوله: أن لا نسخ في النص القرآني استنادا إلى الآية السالفة الذكر ، و هي الآية (اثنان و أربعون) من سورة فصلت ، فالنسخ عنده من خلالها يفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا ، و النسخ فيه يعني إبطال لحكم سابق ، و لذلك فهو يطلق على النسخ اسم التخصيص، و كان تفسيره هذا خطأ فادحا خالف به جمهور علماء المسلمين.
و قد تصدى علماء المسلمين لـ"أبي مسلم الأصفهاني" ، و بذلك كان أن فرقوا بين النسخ و التخصيص و لكن ردهم شابه من المغالاة مما أدى إلى اشتباه بين النسخ و البداء ، و بين النسخ و الإنساء، و بين نسخ الأحكام و نسخ الأخبار ، و غيرها من الأمور التي أزمت المسألة.
في ذلك يقول "عناية غازي": «إن معنى الآية هو أن عقائد القرآن موافقة للعقـل ، وأحكامه مسايرة للحكمة ، و أخباره مطابقة للواقع ، و ألفاظه محفوظة من التغيير و التبديل ، و الخطأ لا يمكن أن يتطرق إلى ساحته مصداقا لقوله تعالى: «¯إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ¯» الآية (تسعة) من سورة الحجر.
كما أن المقصود بالباطل في الآية (اثنين و أربعين) من سورة فصلت هو خالق الحق. و النسخ حق. و أما إطلاق التخصيص على النسخ ، فهو تسمية لغير صحيح ، و الفرق بين النسخ و التخصيص كبير.
و قد قال المعترضون على رأي "أبي مسلم" و المجيزون للنسخ: «أن كلا من النسخ و التخصيص قد وقعا في النص القرآني الكريم ، و أبرزوا أوجه الاختلاف بينهما كما يلي:
1 ـ التخصيص: هو قصر العام على بعض أفراده مع بقاء الحكم.أما النسخ ، فهو إزالة كاملة للحكم بحيث يكون الخطاب غير متعلق بأحد من المكلفين.
2 ـ النسخ: النسخ لا يكون إلا بالقرآن و السنة ، أما التخصيص فيكون بهما ، و بغيرهما كالحس و العقل ، و مثال التخصيص قوله تعالى: «¯ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ¯». فقد خصصه قوله (صلى الله عليه و سلم) بقوله: «لا قطع إلا في ربع دينا». و الحديث أخرجه أصحاب السنن. و غيره كثير. و لهذه الاعتراضات فإن رأي "أبي مسلم" لا يمكن الأخذ به خاصة و أنه قد جاء بعد إجماع العلماء على جواز النسخ».
إن الله أعلم بشؤون و مصالح عباده «و هذه المصالح تختلف بحسب الأحوال و الأزمان ، فقد يكون الحكم في وقت أو حال أصلح للعباد ، و يكون غيره في وقت ، أو حال أخرى أصلح ، و الله عليم حكيم». فقد أوجب الجهاد على عباده إذا لاقوا العدو. قال تبارك و تعالى: «¯يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ¯». فإن لم يغلبوا مائتين فليسوا بصابرين «¯إِن يَّكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَّغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ¯». هذا إيجاب ، لكن صار فيه مشقة…و مصابرة العدو واجبة حتى ، و إن كانت نسبة واحد إلى عشرة ، ثم بعد ذلك رحم الله العباد ، فقال: «¯الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَّغْلِبوا مائَتَيْنِ و َإِن يَّكُن مِّنْكُمْ أَلْفٌ يَّغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ و َاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ¯». فالعقل يقتضي وجوب النسخ إذا اقتضته الحكمة و الرحمة ، و الحكمة و الرحمة تتبعان المصالح. قال الله تعالى: «¯وَ إِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ¯». و قال: «¯أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سدًى¯». و قال أيضا: «¯وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ والأَرْضَ و َما بَيْنَهُما لاعِبِيْنَ¯».
إذا كانت مسألة النسخ قد أفاض فيها علماء مسلمون من أهل اللغة العربية ، و بالرغم من كل ذلك، فقد فاتهم ما فاتهم في فهم المعنى الحقيقي للنسخ في آيات النص القرآني ، فكيف يكون حال أولئك المستشرقين الذين لا يتقنون قواعد اللغة العربية ، و أسرارها البلاغية من مقاصد داخل سياقها؟! و أقبلوا على النص القرآني إقبالهم على الكتب الأخرى.
إن النسخ واقع في الشريعة الإسلامية بإجماع جمهور العلماء المسلمين إلا "أبي مسلم الأصفهاني" و غيره. و قد قدموا لذلك أدلة عديدة نذكر منها:
أ ـ النص القرآني الصريح الذي يعلن إمكانية النسخ قال تعالى: «¯ما نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ¯».
ب ـ وقوع النسخ فعلا فقد نسخ الله تعالى حكم التوجه إلى بيت المقدس و حولت القبلة إلى بيت الله الحرام بعد الهجرة بقوله عز من قائل: «¯ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحرَامِ وَ حَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و َإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ¯».
الخاتمة:
و منه تفاديا لسوء فهم يبعد الدارس عن جادة الصواب في فهم كتاب الله تبارك و تعالى ، و يوقعه في منعطفات خطيرة تجاه النص القرآني المنزه عنها ، فإن جمهور العلماء و الأئمة أوجبوا على الدارس لكتاب الله عز و جل التزود بعلوم القرآن ، و خاصة ما تعلق بالناسخ و المنسوخ ، فقالوا: «و لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ و المنسوخ ، و قد قال "علي بن أبي طالب" (رضي الله عنه) لـ "قاص": أتعرف الناسخ و المنسوخ ؟ قال: الله أعلم قال: هلكت و أهلكت».
الأستاذ: عثماني عبد المالك
العنوان: رقم 185 حي تنكرود ، بشار الجديد
ولاية بشار (08002) الجزائر.
رقم الهاتف: 0664947139
قائمة المصادر و المراجع:
أولا: العربية
1 ـ القرآن الكريم برواية ورش.
2 ـ أيوب حسن ـ الحديث في علوم القرآن و الحديث ـ دار السلام ـ القاهرة ـ مصر ـ ط1 ـ 2002.
3 ـ بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ـ البرهان في علوم القرآن ـ الجزء 2 ـ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار الجيل ـ بيروت ـ لبنان ـ 2003.
4 ـ حسن حنفي ـ دراسة إسلامية ـ دار التنوير العربي للطباعة و النشر ـ 1982.
5 ـ سالم الحاج ساسي ـ نقد الخطاب الاستشراقي ـ الجزء1 ـ دار الكتب الوطنية ـ ط1 ـ بنغازي ـ ليبيا ـ 2002.
6 ـ سالم الحاج ساسي ـ عقوبة الإعدام بين الإبقاء و الإلغاء ـ معهد الإنماء العربي ـ بنغازي ـ ليبيا ـ ط1 ـ 1988.
7 ـ شعبان زكي الدين ـ أصول الفقه الإسلامي ـ مطبعة دار التأليف ـ بيروت ـ لبنان ـ 1965.
8 ـ عبد الكريم الخطيب ـ إعجاز القرآن ( الإعجاز في دراسة السابقين) ـ دار الفكر العربي ـ دمشق ـ سوريا ـ ط1 ـ 1974.
9 ـ غازي عناية ـ شبهات حول القرآن الكريم و تفنيدها ـ دار مكتبة الهلال ـ بيروت ـ لبنان ـ ط1 ـ 1996.
10 ـ كافي منصور بن فضيل ـ المدخل إلى علوم القرآن ـ دار مدني للطباعة و النشر و التوزيع ـ رقم الإيداع القانون: 2004 . 2346 ـ ردمك 8 0337 . 1 . 9961 ـ البليدة ـ الجزائر.
11 ـ محمد بن صالح العثيمين ـ شرح الأصول من علم الأصول ـ تحقيق: أبو يعقوب نشأت بن كمال المصري ـ دار البصيرة ـ مصر ـ 1422 هـ .
12 ـ محمد الغزالي ـ المستصفى من علم الأصول ـ الجزء الأول ـ المطبعة الأميرية ـ القاهرة ـ مصر ـ ط1 ـ 1322 هـ .
ثانيا: المعربة
13 ـ مونتجمري وات ـ محمد في مكة ـ ترجمة: شعبان بركات ـ منشورات المكتبة العصرية ـ بيروت ـ لبنان ( بدون تاريخ ).
ثالثا: الأجنبية
14 ـ . 1968 ـ Paris ـ Mahomet ـ Rodinson (M)
رابعا: الإنترنت:
15 ـ جمال الدين محمد السعيد ـ الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم.(إنترنت)
اسم الموقع: com.www.imseer