القدس ستستعيد حريتها
(قراءَة مقارنة في عوامل انهيار الغزوتين الصليبية والصهيونية )
غطاس أبو عيطة
مدخل
الصراع على القدس لا يختزل مستقبل الصراع على فلسطين وحسب,بل هو يختزل مستقبل الصراع على المنطقة,ذلك أن أي غزوة استعمارية تستهدف القدس إنما تستهدف المنطقة برمتها وذلك ما تدلل عليه الغزوتين الاستعماريتين الصليبية والصهيونية.
فقد انطلقت الغزوة الصليبية كما نعلم تحت لافتة تحرير الأماكن المقدسة المسيحية في القدس وفلسطين,لكنها شملت في الواقع أجزاء واسعة من العالم العربي الإسلامي,كذلك هو الحال مع الغزوة الصهيونية المدعومة غربياً,التي تغطت بإعادة بناء الدولة اليهودية المزعومة في أجزاء من فلسطين,وإعادة بناء الهيكل اليهودي ,لكن أطماعها امتدت إلى فلسطين كلها,واتسعت لا لتشمل الحدود بين الفرات والنيل فحسب بل جميع المنطقة المسماة بالشرق الأوسط أو الشرق الأوسط الموسَّع.
وكما رأينا أن تحرير القدس من الغزاة الصليبين قد شكل المدخل لانهيار مشروعهم الاستعماري,فنحن نرى الآن كيف يعمل الصهاينة على ترسيخ وجودهم في هذه المدينة المقدسة ,علَّ ذلك يشكل ضمانة لبقاء مشروعهم.
في عوامل انهيار الغزوتين
في صلب ما يشغل مراكز البحث الصهيونية,هو عوامل انهيار الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصليبية,وعلى المستوى العربي الإسلامي,فإن جهوداً فردية متفرقة قد بذلت على هذا الصعيد,ولفتنا أن الدكتور عزمي بشارة,يتطلع إلى وضع دراسة شاملة حول هذا الموضوع,وما نحاوله في هذه العجالة,هو تلمُّس بعض نقاط التقاطع بين الغزوتين باعتبارهما تجسيد للأطماع الاستعمارية الغربية في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية والحضارية ومن ثم النفطية.
ونقول في ذلك : -
أولاً – إن العامل الأساس في انهيار أي غزوة عدوانية, إنما يتمثل في تآكل زخم تلك الغزوة من ناحية, وفي تنامي وتعاظم استعداد سكان البلاد للدفاع عن حريتهم وعن كرامتهم وتجاوزهم بالتالي لحالة ضعفهم.
وإن الشواهد على انشغال الغزاة الصليبيين بمتاع الدنيا بعد أن استقر بهم المقام في بلادنا,وتراجع استعدادهم بالتالي للتضحية بعد أن فترت لديهم الحماسة الدينية,وتصارعهم على السلطان,معروفة لغير المتخصص في تاريخ تلك الغزوة,أما الشواهد المماثلة فيما يتعلق بالغزوة الصهيونية,فقد غدت واضحة للعيان ,وهي تتمثل أولاً في تهلهل وتفكك وتداعي الأحزاب التي قادت عملية الغزو والتوسع الاستيطاني,وتتمثل ثانياً في مظاهر الفساد المالي والمسلكي الأخلاقي الذي أخذ يضرب أوساط الجيل الثاني من قادة الكيان,كما تتمثل ثالثاً ,في تدني روح التضحية في أوساط المهاجرين المستوطنين دفاعاً عن مشروعهم العدواني,وذلك ما برز واضحاً وحاسماً في حرب لبنان وغزة عامي 2006و2008 – 2009.
ويمكننا القول على هذا الصعيد,بأن جنرال ومدير مركز أبحاث صهيوني,قد وضع يده على الجرح في مؤتمر هرتزيليا عام 2007,حين قال بأن العدو الأخطر على مستقبل المشروع الصهيوني,هو أن هذا المشروع قد فقد قوة الدفع الذاتية ,في حين أبرز جنرالٌ وباحث صهيوني ثانٍ,الوجه الآخر للمسألة ,مقارناً بين صورة تشييع الصهاينة لقتلاهم في الصراع مع الشعب الفلسطيني والذي يجري وسط البكاء والعويل,وصورة توديع الحشود الفلسطينية لشهدائها وسط الهتافات والزغاريد,وهذا الجنرال ,هو من دعا إلى بناء سورٍ عالٍ يحمي التجمع الاستيطاني اليهودي إزاء حركة المقاومة المتعاظمة في أوساط الشعب الفلسطيني والتي لا يمكن وقفها.
كما يمكننا الإضافة على الصعيد ذاته,بأن جرائم الصهاينة بحق شعب فلسطين والشعوب العربية والإسلامية الأخرى,إنما تأتي تعبيراً عن الشعور بالخطر الوجودي الذي بات يحيق بالمشروع,ونحن نعلم هنا,بأن أفظع المجازر بحق سكان البلاد المستعمَرة,هي التي يرتكبها الغزاة عشية اندحارهم ,وينطبق ذلك على الفرنسيين في الجزائر كنظام استعماري وكقطعان مستوطنين,كما ينطبق على الأمريكيين في فيتنام.
ثانياً – وتجدر الإشارة وعلى ذات الصعيد ,بأن زخم الغزوة الصليبية قد ضعف في مركز انطلاقه داخل المجتمعات الأوروبية,ذلك أن حُمَّى الإندفاعة الدينية لم تلبث أن تراجعت ولم يلبث أن خبا أوارها,وينطبق ذلك على الغزوة الصهيونية,إذ إلى جانب توقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين(إذا ما استثنينا موجة الهجرة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنهار والتي حفزتها دوافع غير إيديولوجية),فقد برزت ظاهرة الهجرة المعاكسة,وفي هذا الصدد,تحدثت صحف أمريكية,عن تطلع مليون مستوطن صهيوني للهجرة إلى أمريكا,وتطلُّع قرابة نصف مليون,للهجرة إلى أوكرانيا وروسيا.وبغض النظر عن دقة هذه الأرقام,فإن هذه الظاهرة لم تعد موضع تساؤل.
أما المسلِّمة التي توقف عندها المفكر اللبناني ميشيل إدَّة ,فهي أن الحركة الاستعمارية الغربية بصورة عامة قد فقدت قوة اندفاعها,فقد انقضى الزمن ,الذي كانت فيه المجتمعات الغربية مستعدة وقادرة على إمداد المشاريع الاستعمارية بالطاقة البشرية,وإنه إذ اقتضى الإمبريالية الأمريكية أن تقدِّم مئات الآلاف من القتلى والجرحى من مواطنيها قبل أن تسلم بالهزيمة في فيتنام,فقد باتت مستعدة لأن تسلم بالهزيمة,قبل خسارة بضعة آلاف من القتلى كما هو الحال في العراق وأفغانستان,وينطبق ذلك على التجمُّع الاستيطاني الصهيوني بوصفه مجتمعاً غربياً في الأساس.
وقد دللَّت التقارير بعد غزو العراق وما واجهه الغزو من مقاومة بطولية,بأن القوات الأمريكية باتت تواجه أزمة تجديد صفوفها من المجندين ,بحيث طرح البعض من قادة أمريكا,فكرة البحث عن مجندين بين شعوب البلدان النامية,بإغرائهم بنيل الجنسية الأمريكية بعد خدمتهم في القوات الأمريكية,وبالنسبة لظاهرة الشركات التي تجند المرتزقة وتوقِّع العقود مع البنتاغون,فهي تأتي تجسيداً للمأزق التاريخي الذي باتت تعيشه الحركة الاستعمارية الغربية.
ثالثاً – لقد احتمى الغزاة الصليبيون بالقلاع الضخمة تصدُّ عنهم غضبة سكان البلاد, وأقاموا حصونهم فوق قمم الجبال, وابتكروا ألواناً من الموانع والعوازل الطبيعية, لكن ذلك كله لم يمنع اندحارهم.وكان خط بارليف على طول قناة السويس هو أول الحواجز الضخمة التي أقامها الصهاينة لكي تحمي حدود غزوهم لمصر, وبعد ذلك تفتق ذهن الصهاينة وحماتهم في الغرب الاستعماري وأعوانهم وخاصة بعد حرب لبنان وغزة,عن أشكال من الأسوار العازلة فوق وتحت الأرض ,وعن أنواع من الحواجز الألكترونية في البر والبحر,لكن إرادة الإنسان تبقى هي معيار الغلبة في صراع يطال الوجود أو عدم الوجود ,حيث ينتصر في هذا الصراع من هو على استعداد لتقديم أغلى التضحيات,ومن تجاوز بتنامي خبراته الكفاحية,مرحلة الشعور بالعجز أمام جبروت الغازي والمستعمر.
وكما راهن الغزاة الصليبيون على أعوانهم من الحكام والخونة في المنطقة لكي يتجاوزوا معضلة عجزهم عن تقديم التضحيات ,كذلك يفعل الصهاينة الآن بمساعدة أمريكا,لكن بوادر انهيار وظيفة العملاء بدت واضحة في لبنان,والصراع دائر على تعميم ذلك على مستوى المنطقة ,إذ ستنتصر في النهاية إرادة الشعوب وليس إرادة من تنكروا لمصلحة شعوبهم انطلاقاً من حسابات أنية.
رابعاً - إن ما لم يُلقَ عليه الضوء بالنسبة للغزوة الصليبية,هو مقاومة الجماهير الشعبية العربية والإسلامية للغزاة,الأمر الذي أدى إلى إضعاف روحهم المعنوية إلى جانب استنزاف طاقاتهم,بما قاد إلى هزيمتهم في الحروب النظامية التي دشنها صلاح الدين.
ولقد أبرز الصهاينة في تقارير لجانهم المختصة,دور انتفاضة عام 87 وانتفاضة الأقصى على أرض فلسطين,في تعطيل برامج التدريب وإعادة التأهيل لوحدات جيشهم,مما شكل أحد عوامل هزيمتهم في لبنان وغزة,وكانت كتب التاريخ قد ذكرت انتفاضات القرى الفلسطينية في مواجهة الغزاة الصليبيين,مشيرة على سبيل المثال,بأن أبناء قرية جمَّاعين في منطقة نابلس,قد هجَّرهم الغزاة خارج أرضهم عقاباً لهم على مقاومتهم للغازي,واستقروا على أطراف دمشق في حي الصالحية(نسبة إلى الشيخ صالح إمام وقائد القرية),ولكي يعود هؤلاء إلى موطنهم مع جيش صلاح الدين مسهمين في إنجاز النصر التاريخي الذي تحقق في معركة حطين.
خامساً – لقد أتت الغزوة الصليبية والأمة في أضعف حالاتها من انهيار دولة المركز,ومن الانقسامات والصراعات ,لذلك كان نجاحها محتماً في البداية,لكن هذه الأمة لم تلبث أن استجمعت بعض طاقاتها خلف راية صلاح الدين,بما مكنها من دحر الغزاة الذين تراجعت قدرتهم على استجماع وتوحيد طاقاتهم,وقد دللَّت حرب تشرين عام 1973,على ما تختزنه هذه الأمة من الطاقات التي برزت إبان معارك دحر الاستعمار الكولنيالي الذي استكمل السيطرة على المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى وذلك حين كانت الأمة خارجة من عصور ظلام, وبعد تشرين – ورغم التحاق مصر بالنظم التابعة على يد السادات - ,استمر نهوض الأمة,وكان كتاب الباحثة الإنجليزية باميلا آن سميث عن "فلسطين والفلسطينيين"(الموضوع عام 1984),بمثابة شهادة حيَّة على الطاقات التي تختزنها هذه الأمة ومن ضمنها شعب فلسطين,الذي استطاع كما تقول الباحثة,وضمن أصعب الظروف ,أن يجترح معجزة انتقاله من شعب فلاحين يستخدم أساليب الزراعة التقليدية,إلى شعب يضم أكثر الجاليات ديناميكية ومغامرة وحداثة وتحصيلاً أكاديمياً في المنطقة,وإلى شعب استطاع أن يحافظ على هويته الجماعية رغم المنفى,وأن يبلور تلك الهوية في حركة تحرر وطني يتعاظم حضورها على المسرح الدولي ويفشل الحلف المعادي في وأدها رغم ضراوة هجمته ضدها.ويمكن التأكيد هنا,بأن الانتصار التاريخي الذي حققه هذا الشعب في حرب غزة,هو ثمرة الإرث الحضاري الذي استلهمه هذا الشعب في نهضته المعاصرة,وهو الإرث الذي استخف به الغزاة الصهاينة ,حين رأوا فلسطين بأنها أرض بلا شعب, معتقدين أن هذا الشعب سوف تتبدد هويته كونه ما زال يعيش خارج العصر.
سادساً – وما يدخل في معادلة القوَّة مع الغزاة, هو الشرعية الأخلاقية, فكلما شعر الغزاة بأن مشروعهم بات مهدداً, كشفوا عن وجههم العنصري والعدواني بما يقود إلى سقوطهم الأخلاقي أمام أنفسهم وأمام العالم, وإلى هزيمتهم في نهاية المطاف.
ويذكر التاريخ على هذا الصعيد,كيف جسَّد صلاح الدين بسلوكه القيم الإنسانية حتى في تعامله مع الغزاة,ولم يكن من قبيل الصدفة,أن يتحوَّل هذا البطل الإسلامي إلى شخصية أسطورية في وعي الغرب بحيث نسجت حوله الملاحم التي تبرز ما جسده من بطولة ومن قيم إنسانية.وفي كوميدياه الإلهية ,وضع دانتي هذا القائد بين من كان مصيرهم الجنة على الرغم من عداء هذا الأديب الإيطالي للإسلام.
وبعكس مسلك العرب والمسلمين لدى تحرير أرضهم من الغزاة الصليبيين,فقد اتسم مسلك الغزاة بالهمجية في كل حروبهم,حيث يشير التاريخ ,كيف ارتكب هؤلاء أبشع المجازر وهم في طريقهم إلى الأماكن المقدسة,فطالت مجازرهم أتباع الكنيسة الشرقية الأورثوذكسية وسط أوروبا وصولاً إلى القسطنطينية,وكانت مذابحهم في القدس وصمة عار في تاريخ الثقافة الغربية.
وما تجدر الإشارة له,هو أن العرب والمسلمين لم يستخدموا التسمية العنصرية التي اعتمدها الغزاة الغربيون في عدوانهم على المنطقة,إذ أطلقوا اسم الفرنجة على هؤلاء الغزاة الذين قدموا باسم الصليبيين,وينطبق ذلك على تفريق العرب والمسلمين بين الصهيونية واليهودية.
ولقد أحاط الغزاة الصهاينة مشروعهم ,بجملة من الأكاذيب والأضاليل ,في مسعىً لإضفاء شرعية إنسانية على هذا المشروع,لكن أكاذيبهم باتت عرضة للانهيار أمام العالم,لما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية,ولم يعد ابتزازهم للضمير الإنساني باسم المحرقة النازية قادراً على وقف التحوُّل في المزاج الدولي لجهة إدانة جرائمهم والتعاطف مع النضال التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة.
وعبثاً تحاول الأبواق الغربية المشبوهة,إلصاق التهم الباطلة بقوى المقاومة العربية,كاتهام حزب الله بالمتاجرة بالمخدرات حسب صحيفة دير شبيغل,وذلك بعد أن أخذت تهمة الإرهاب تنحسر عن تلك القوى أمام الرأي العام الغربي والعالمي,وبعد أن غدا سيد المقاومة اللبنانية والعربية والإسلامية,يحظى بمصداقية لدى التجمع الاستيطاني الصهيوني لا يحظى بمثلها قادة هذا التجمع.
ويمكن أن نضيف هنا بأن السقوط الأخلاقي المدوي للصهاينة في عدوانهم على غزة,هو ما أنتج تقرير القاضي اليهودي غولدستون بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الكيان الغاصب بحق أبناء غزة,وهو ما حفز وسطٌ من النخب اليهودية الأمريكية,إلى إعلان ابتعادهم عن سياسات الكيان,مشكلين لوبي يهودي جديد,يناهض اللوبي المتغلغل في أوساط صانعي القرار داخل أمريكا.
خاتمة
لقد عمد الغزاة الصليبيون إلى طمس هوية القدس العربية الإسلامية التي تضرب في عمق التاريخ,لكن هذه الهوية بقيت عصية على الاقتلاع ,إذ استعادت هذه المدينة هويتها القائمة على التسامح والتعددية بعد رحيل الغزاة,وهكذا سيكون الأمر مع الغزاة الصهاينة,حيث ستبقى القدس مخلصة لهويتها,وستظل قبلة أتباع الديانات السماوية يمارسون فيها عباداتهم بعيداً عن الروح العنصرية التي تدفع الغزاة نحو إقامة دولة يهودية لا مكان فيها"للغوييم".
ونضيف هنا,بأن حركة التحرر العربية الإسلامية ,هي المؤهلة بحكم موروثها الحضاري الإنساني, لأن تحرر اليهود من النزعة الانغلاقية التي سعى إلى ترسيخها المشروع الاستعماري الصهيوني,وهي القادرة بالتالي على إنجاز الحل الديمقراطي للمسألة اليهودية التي عجزت عن حلها حضارة الغرب طيلة تاريخها القديم والمعاصر.
(قراءَة مقارنة في عوامل انهيار الغزوتين الصليبية والصهيونية )
غطاس أبو عيطة
مدخل
الصراع على القدس لا يختزل مستقبل الصراع على فلسطين وحسب,بل هو يختزل مستقبل الصراع على المنطقة,ذلك أن أي غزوة استعمارية تستهدف القدس إنما تستهدف المنطقة برمتها وذلك ما تدلل عليه الغزوتين الاستعماريتين الصليبية والصهيونية.
فقد انطلقت الغزوة الصليبية كما نعلم تحت لافتة تحرير الأماكن المقدسة المسيحية في القدس وفلسطين,لكنها شملت في الواقع أجزاء واسعة من العالم العربي الإسلامي,كذلك هو الحال مع الغزوة الصهيونية المدعومة غربياً,التي تغطت بإعادة بناء الدولة اليهودية المزعومة في أجزاء من فلسطين,وإعادة بناء الهيكل اليهودي ,لكن أطماعها امتدت إلى فلسطين كلها,واتسعت لا لتشمل الحدود بين الفرات والنيل فحسب بل جميع المنطقة المسماة بالشرق الأوسط أو الشرق الأوسط الموسَّع.
وكما رأينا أن تحرير القدس من الغزاة الصليبين قد شكل المدخل لانهيار مشروعهم الاستعماري,فنحن نرى الآن كيف يعمل الصهاينة على ترسيخ وجودهم في هذه المدينة المقدسة ,علَّ ذلك يشكل ضمانة لبقاء مشروعهم.
في عوامل انهيار الغزوتين
في صلب ما يشغل مراكز البحث الصهيونية,هو عوامل انهيار الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصليبية,وعلى المستوى العربي الإسلامي,فإن جهوداً فردية متفرقة قد بذلت على هذا الصعيد,ولفتنا أن الدكتور عزمي بشارة,يتطلع إلى وضع دراسة شاملة حول هذا الموضوع,وما نحاوله في هذه العجالة,هو تلمُّس بعض نقاط التقاطع بين الغزوتين باعتبارهما تجسيد للأطماع الاستعمارية الغربية في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية والحضارية ومن ثم النفطية.
ونقول في ذلك : -
أولاً – إن العامل الأساس في انهيار أي غزوة عدوانية, إنما يتمثل في تآكل زخم تلك الغزوة من ناحية, وفي تنامي وتعاظم استعداد سكان البلاد للدفاع عن حريتهم وعن كرامتهم وتجاوزهم بالتالي لحالة ضعفهم.
وإن الشواهد على انشغال الغزاة الصليبيين بمتاع الدنيا بعد أن استقر بهم المقام في بلادنا,وتراجع استعدادهم بالتالي للتضحية بعد أن فترت لديهم الحماسة الدينية,وتصارعهم على السلطان,معروفة لغير المتخصص في تاريخ تلك الغزوة,أما الشواهد المماثلة فيما يتعلق بالغزوة الصهيونية,فقد غدت واضحة للعيان ,وهي تتمثل أولاً في تهلهل وتفكك وتداعي الأحزاب التي قادت عملية الغزو والتوسع الاستيطاني,وتتمثل ثانياً في مظاهر الفساد المالي والمسلكي الأخلاقي الذي أخذ يضرب أوساط الجيل الثاني من قادة الكيان,كما تتمثل ثالثاً ,في تدني روح التضحية في أوساط المهاجرين المستوطنين دفاعاً عن مشروعهم العدواني,وذلك ما برز واضحاً وحاسماً في حرب لبنان وغزة عامي 2006و2008 – 2009.
ويمكننا القول على هذا الصعيد,بأن جنرال ومدير مركز أبحاث صهيوني,قد وضع يده على الجرح في مؤتمر هرتزيليا عام 2007,حين قال بأن العدو الأخطر على مستقبل المشروع الصهيوني,هو أن هذا المشروع قد فقد قوة الدفع الذاتية ,في حين أبرز جنرالٌ وباحث صهيوني ثانٍ,الوجه الآخر للمسألة ,مقارناً بين صورة تشييع الصهاينة لقتلاهم في الصراع مع الشعب الفلسطيني والذي يجري وسط البكاء والعويل,وصورة توديع الحشود الفلسطينية لشهدائها وسط الهتافات والزغاريد,وهذا الجنرال ,هو من دعا إلى بناء سورٍ عالٍ يحمي التجمع الاستيطاني اليهودي إزاء حركة المقاومة المتعاظمة في أوساط الشعب الفلسطيني والتي لا يمكن وقفها.
كما يمكننا الإضافة على الصعيد ذاته,بأن جرائم الصهاينة بحق شعب فلسطين والشعوب العربية والإسلامية الأخرى,إنما تأتي تعبيراً عن الشعور بالخطر الوجودي الذي بات يحيق بالمشروع,ونحن نعلم هنا,بأن أفظع المجازر بحق سكان البلاد المستعمَرة,هي التي يرتكبها الغزاة عشية اندحارهم ,وينطبق ذلك على الفرنسيين في الجزائر كنظام استعماري وكقطعان مستوطنين,كما ينطبق على الأمريكيين في فيتنام.
ثانياً – وتجدر الإشارة وعلى ذات الصعيد ,بأن زخم الغزوة الصليبية قد ضعف في مركز انطلاقه داخل المجتمعات الأوروبية,ذلك أن حُمَّى الإندفاعة الدينية لم تلبث أن تراجعت ولم يلبث أن خبا أوارها,وينطبق ذلك على الغزوة الصهيونية,إذ إلى جانب توقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين(إذا ما استثنينا موجة الهجرة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنهار والتي حفزتها دوافع غير إيديولوجية),فقد برزت ظاهرة الهجرة المعاكسة,وفي هذا الصدد,تحدثت صحف أمريكية,عن تطلع مليون مستوطن صهيوني للهجرة إلى أمريكا,وتطلُّع قرابة نصف مليون,للهجرة إلى أوكرانيا وروسيا.وبغض النظر عن دقة هذه الأرقام,فإن هذه الظاهرة لم تعد موضع تساؤل.
أما المسلِّمة التي توقف عندها المفكر اللبناني ميشيل إدَّة ,فهي أن الحركة الاستعمارية الغربية بصورة عامة قد فقدت قوة اندفاعها,فقد انقضى الزمن ,الذي كانت فيه المجتمعات الغربية مستعدة وقادرة على إمداد المشاريع الاستعمارية بالطاقة البشرية,وإنه إذ اقتضى الإمبريالية الأمريكية أن تقدِّم مئات الآلاف من القتلى والجرحى من مواطنيها قبل أن تسلم بالهزيمة في فيتنام,فقد باتت مستعدة لأن تسلم بالهزيمة,قبل خسارة بضعة آلاف من القتلى كما هو الحال في العراق وأفغانستان,وينطبق ذلك على التجمُّع الاستيطاني الصهيوني بوصفه مجتمعاً غربياً في الأساس.
وقد دللَّت التقارير بعد غزو العراق وما واجهه الغزو من مقاومة بطولية,بأن القوات الأمريكية باتت تواجه أزمة تجديد صفوفها من المجندين ,بحيث طرح البعض من قادة أمريكا,فكرة البحث عن مجندين بين شعوب البلدان النامية,بإغرائهم بنيل الجنسية الأمريكية بعد خدمتهم في القوات الأمريكية,وبالنسبة لظاهرة الشركات التي تجند المرتزقة وتوقِّع العقود مع البنتاغون,فهي تأتي تجسيداً للمأزق التاريخي الذي باتت تعيشه الحركة الاستعمارية الغربية.
ثالثاً – لقد احتمى الغزاة الصليبيون بالقلاع الضخمة تصدُّ عنهم غضبة سكان البلاد, وأقاموا حصونهم فوق قمم الجبال, وابتكروا ألواناً من الموانع والعوازل الطبيعية, لكن ذلك كله لم يمنع اندحارهم.وكان خط بارليف على طول قناة السويس هو أول الحواجز الضخمة التي أقامها الصهاينة لكي تحمي حدود غزوهم لمصر, وبعد ذلك تفتق ذهن الصهاينة وحماتهم في الغرب الاستعماري وأعوانهم وخاصة بعد حرب لبنان وغزة,عن أشكال من الأسوار العازلة فوق وتحت الأرض ,وعن أنواع من الحواجز الألكترونية في البر والبحر,لكن إرادة الإنسان تبقى هي معيار الغلبة في صراع يطال الوجود أو عدم الوجود ,حيث ينتصر في هذا الصراع من هو على استعداد لتقديم أغلى التضحيات,ومن تجاوز بتنامي خبراته الكفاحية,مرحلة الشعور بالعجز أمام جبروت الغازي والمستعمر.
وكما راهن الغزاة الصليبيون على أعوانهم من الحكام والخونة في المنطقة لكي يتجاوزوا معضلة عجزهم عن تقديم التضحيات ,كذلك يفعل الصهاينة الآن بمساعدة أمريكا,لكن بوادر انهيار وظيفة العملاء بدت واضحة في لبنان,والصراع دائر على تعميم ذلك على مستوى المنطقة ,إذ ستنتصر في النهاية إرادة الشعوب وليس إرادة من تنكروا لمصلحة شعوبهم انطلاقاً من حسابات أنية.
رابعاً - إن ما لم يُلقَ عليه الضوء بالنسبة للغزوة الصليبية,هو مقاومة الجماهير الشعبية العربية والإسلامية للغزاة,الأمر الذي أدى إلى إضعاف روحهم المعنوية إلى جانب استنزاف طاقاتهم,بما قاد إلى هزيمتهم في الحروب النظامية التي دشنها صلاح الدين.
ولقد أبرز الصهاينة في تقارير لجانهم المختصة,دور انتفاضة عام 87 وانتفاضة الأقصى على أرض فلسطين,في تعطيل برامج التدريب وإعادة التأهيل لوحدات جيشهم,مما شكل أحد عوامل هزيمتهم في لبنان وغزة,وكانت كتب التاريخ قد ذكرت انتفاضات القرى الفلسطينية في مواجهة الغزاة الصليبيين,مشيرة على سبيل المثال,بأن أبناء قرية جمَّاعين في منطقة نابلس,قد هجَّرهم الغزاة خارج أرضهم عقاباً لهم على مقاومتهم للغازي,واستقروا على أطراف دمشق في حي الصالحية(نسبة إلى الشيخ صالح إمام وقائد القرية),ولكي يعود هؤلاء إلى موطنهم مع جيش صلاح الدين مسهمين في إنجاز النصر التاريخي الذي تحقق في معركة حطين.
خامساً – لقد أتت الغزوة الصليبية والأمة في أضعف حالاتها من انهيار دولة المركز,ومن الانقسامات والصراعات ,لذلك كان نجاحها محتماً في البداية,لكن هذه الأمة لم تلبث أن استجمعت بعض طاقاتها خلف راية صلاح الدين,بما مكنها من دحر الغزاة الذين تراجعت قدرتهم على استجماع وتوحيد طاقاتهم,وقد دللَّت حرب تشرين عام 1973,على ما تختزنه هذه الأمة من الطاقات التي برزت إبان معارك دحر الاستعمار الكولنيالي الذي استكمل السيطرة على المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى وذلك حين كانت الأمة خارجة من عصور ظلام, وبعد تشرين – ورغم التحاق مصر بالنظم التابعة على يد السادات - ,استمر نهوض الأمة,وكان كتاب الباحثة الإنجليزية باميلا آن سميث عن "فلسطين والفلسطينيين"(الموضوع عام 1984),بمثابة شهادة حيَّة على الطاقات التي تختزنها هذه الأمة ومن ضمنها شعب فلسطين,الذي استطاع كما تقول الباحثة,وضمن أصعب الظروف ,أن يجترح معجزة انتقاله من شعب فلاحين يستخدم أساليب الزراعة التقليدية,إلى شعب يضم أكثر الجاليات ديناميكية ومغامرة وحداثة وتحصيلاً أكاديمياً في المنطقة,وإلى شعب استطاع أن يحافظ على هويته الجماعية رغم المنفى,وأن يبلور تلك الهوية في حركة تحرر وطني يتعاظم حضورها على المسرح الدولي ويفشل الحلف المعادي في وأدها رغم ضراوة هجمته ضدها.ويمكن التأكيد هنا,بأن الانتصار التاريخي الذي حققه هذا الشعب في حرب غزة,هو ثمرة الإرث الحضاري الذي استلهمه هذا الشعب في نهضته المعاصرة,وهو الإرث الذي استخف به الغزاة الصهاينة ,حين رأوا فلسطين بأنها أرض بلا شعب, معتقدين أن هذا الشعب سوف تتبدد هويته كونه ما زال يعيش خارج العصر.
سادساً – وما يدخل في معادلة القوَّة مع الغزاة, هو الشرعية الأخلاقية, فكلما شعر الغزاة بأن مشروعهم بات مهدداً, كشفوا عن وجههم العنصري والعدواني بما يقود إلى سقوطهم الأخلاقي أمام أنفسهم وأمام العالم, وإلى هزيمتهم في نهاية المطاف.
ويذكر التاريخ على هذا الصعيد,كيف جسَّد صلاح الدين بسلوكه القيم الإنسانية حتى في تعامله مع الغزاة,ولم يكن من قبيل الصدفة,أن يتحوَّل هذا البطل الإسلامي إلى شخصية أسطورية في وعي الغرب بحيث نسجت حوله الملاحم التي تبرز ما جسده من بطولة ومن قيم إنسانية.وفي كوميدياه الإلهية ,وضع دانتي هذا القائد بين من كان مصيرهم الجنة على الرغم من عداء هذا الأديب الإيطالي للإسلام.
وبعكس مسلك العرب والمسلمين لدى تحرير أرضهم من الغزاة الصليبيين,فقد اتسم مسلك الغزاة بالهمجية في كل حروبهم,حيث يشير التاريخ ,كيف ارتكب هؤلاء أبشع المجازر وهم في طريقهم إلى الأماكن المقدسة,فطالت مجازرهم أتباع الكنيسة الشرقية الأورثوذكسية وسط أوروبا وصولاً إلى القسطنطينية,وكانت مذابحهم في القدس وصمة عار في تاريخ الثقافة الغربية.
وما تجدر الإشارة له,هو أن العرب والمسلمين لم يستخدموا التسمية العنصرية التي اعتمدها الغزاة الغربيون في عدوانهم على المنطقة,إذ أطلقوا اسم الفرنجة على هؤلاء الغزاة الذين قدموا باسم الصليبيين,وينطبق ذلك على تفريق العرب والمسلمين بين الصهيونية واليهودية.
ولقد أحاط الغزاة الصهاينة مشروعهم ,بجملة من الأكاذيب والأضاليل ,في مسعىً لإضفاء شرعية إنسانية على هذا المشروع,لكن أكاذيبهم باتت عرضة للانهيار أمام العالم,لما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية,ولم يعد ابتزازهم للضمير الإنساني باسم المحرقة النازية قادراً على وقف التحوُّل في المزاج الدولي لجهة إدانة جرائمهم والتعاطف مع النضال التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة.
وعبثاً تحاول الأبواق الغربية المشبوهة,إلصاق التهم الباطلة بقوى المقاومة العربية,كاتهام حزب الله بالمتاجرة بالمخدرات حسب صحيفة دير شبيغل,وذلك بعد أن أخذت تهمة الإرهاب تنحسر عن تلك القوى أمام الرأي العام الغربي والعالمي,وبعد أن غدا سيد المقاومة اللبنانية والعربية والإسلامية,يحظى بمصداقية لدى التجمع الاستيطاني الصهيوني لا يحظى بمثلها قادة هذا التجمع.
ويمكن أن نضيف هنا بأن السقوط الأخلاقي المدوي للصهاينة في عدوانهم على غزة,هو ما أنتج تقرير القاضي اليهودي غولدستون بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الكيان الغاصب بحق أبناء غزة,وهو ما حفز وسطٌ من النخب اليهودية الأمريكية,إلى إعلان ابتعادهم عن سياسات الكيان,مشكلين لوبي يهودي جديد,يناهض اللوبي المتغلغل في أوساط صانعي القرار داخل أمريكا.
خاتمة
لقد عمد الغزاة الصليبيون إلى طمس هوية القدس العربية الإسلامية التي تضرب في عمق التاريخ,لكن هذه الهوية بقيت عصية على الاقتلاع ,إذ استعادت هذه المدينة هويتها القائمة على التسامح والتعددية بعد رحيل الغزاة,وهكذا سيكون الأمر مع الغزاة الصهاينة,حيث ستبقى القدس مخلصة لهويتها,وستظل قبلة أتباع الديانات السماوية يمارسون فيها عباداتهم بعيداً عن الروح العنصرية التي تدفع الغزاة نحو إقامة دولة يهودية لا مكان فيها"للغوييم".
ونضيف هنا,بأن حركة التحرر العربية الإسلامية ,هي المؤهلة بحكم موروثها الحضاري الإنساني, لأن تحرر اليهود من النزعة الانغلاقية التي سعى إلى ترسيخها المشروع الاستعماري الصهيوني,وهي القادرة بالتالي على إنجاز الحل الديمقراطي للمسألة اليهودية التي عجزت عن حلها حضارة الغرب طيلة تاريخها القديم والمعاصر.