
النقد الوجودي في العراق
أ. د . كريم الوائلي ـ مدير عام الاشراف التربوي
( 1 )
كان الناقد التقليدي يصدر عن رؤية تغلب الموضوع على الذات، ويعارضه الناقد الرومانسي الذي يغلب في رؤيته الذات على الموضوع، أما الناقد الوجودي فإنه يصدر عن رؤية ترى ضرورة التفاعل بين الذات والموضوع معا، بحيث يحيل كل منهما على الآخر، ويحاول نهاد التكرلي حل مشكلة نظرية المعرفة التي تخبطت فيها النظريات السابقة إلى طرفين متناقضين : الذات إلى الموضوع أو العكس، ويتابع الناقد نهاد التكرلي انجازات الفلاسفة : هايدجر وميرلوبونتي وسارتر التي ترى أنه « لا وجود للموضوع إلا من حيث هو محيل إلى ذات، فإنَّ وجوده « من أجل » هذه الذات ولا وجود للذات إلا من حيث أنها دالة على موضوع » .
ويتحدد في ضوء هذا موقف الناقد الوجودي من خلال وصف نوع من المركب بين الذات والموضوع، غير أنَّ كفة الذات تترجح على الموضوع، لأنَّ الناقد الوجودي يعلي من شأن الذات، ومن شأن الوعي الفردي، ويؤكد أنَّ القيمة كائنة في ذات الإنسان الموجود، بمعنى أنَّ الذات تمثل مركزاً تستقطب نحوها عالماً مخصوصاً، بل يمكن القول مع الناقد التكرلي : « لا وجود للذات الشاعرة إلا إذا تركز حولها عالم مخصوص، ولا وجود لهذه الذات إلا « مع » هذا العالم » ، كما أنَّ العالم هو الآخر لا وجود له يستقل عن الذات، وإنما يتحقق وجوده وصيرورته من أجل هذه الذات .
إن الناقد الوجودي يعلي من الذات ومن الوعي الفردي ـ كما أشرنا ـ ومن ثم تتحدد علاقة الذات بموضوعها في حالة « ارتماء في العالم الخارجي مع الشعور بالذات بأقوى صورة ممكنة » ، وتأسيسا على ذلك تتبدى طبيعة العالم والمعرفة التي يكشف عنها، فالعالم في صيرورته وتغيره عالم نسبي، والحقائق التي تتخلق من تفاعل الذات بالعالم حقائق نسبية، وليست أزلية ثابتة، ولذلك كان التكرلي يؤكد في مواطن عديدة أنَّ النص الأدبي كشف عن شيء معين للآخرين ، والكشف بطبيعته يرتكز على ذات تميط اللثام عن نمط من المعرفة في أثناء تفاعلها مع موضوعها، وتحاول تقديمه للآخرين.
ويرى التكرلي أنَّ الأديب ينبغي أن يقدم شيئاً جديداً لمجتمعه، ويحاول توصيف مشاكل العصر، واتخاذ موقف محدد منها، لأنَّ هذا جزء من مسئوليته بصفته إنساناً حراً يكتب إلى بشر أحرار، أو يفترض بهم أن يكونوا أحراراً، ويدعو التكرلي إلى أن يؤدي الأديب دوره في مسئوليته إزاء عصره، فهو « مسؤول عما يكتب وهو في موقف بالنسبة لعصره، ولن يستطيع مهما فعل أن يهرب من هذا الموقف، لأنه حتى لو كتب من دون أن يقول شيئا معينا فسيمنح صمته هذا معنى معينا » ، ومن ثم ينبغي أن يسأل نفسه، ماذا فعل ؟ وهو يصطدم « بأزمة إنسانيته وكيفية ترقيتها والعلو بها والكشف عن أوجها » .
إن المشاركة الفاعلة في الحياة تعني إسهام القاص بوعي العالم والعيش فيه، والإسهام في تغييره، بمعنى « أن تجد نفسك قرب هذه الجماعة التي تكافح معها، وأن تشعر بالخطر قرب لحم تلك المرأة التي تحبها، وأن تشعر بالارتياح عندما تساهم في حل هذه المشاكل التي تقلق بني قومك » ، إنَّ إبداع القصة لا ينفك ـ في الحقيقة ـ عن وعي ديناميكية الحياة هذه، من ناحية، وضرورة « التعبير عن مشاكلنا وبيئتنا بصورة فنية إنسانية » من ناحية ثانية، وإن هذا التفاعل الواعي ـ بين ديناميكية الحياة، وضرورة التعبير عنها فنياً ـ هو الذي يقود إلى خلق القصة القصيرة، ولذلك فليست القصة عملية ذهنية يقوم فيها القاص بدور الوسيط الذي يصف الواقع ويسرد الحوادث، كما أنَّ ليس كل حادثة يمكن أن ترتب وتسرد على شكل قصة، ولا كل وصف وتحليل يمكن أن يخلق شخصية حية، إنَّ القصة لا تقلد الواقع، بل « هي خلق فني قبل كل شيء، فليست كل حادثة يمكن أن ترتب وتسرد على شكل أقصوصة، ولا كل وصف وتحليل يمكن أن يخلق شخصية قصصية حية، بل إنَّ المهمة أخطر وأشق من هذا بكثير، إنَّ الأمر يتعلق بخلق عالم خاص وخلق شخصيات « حية » تعيش في هذا العالم ويستطيع القارئ أن يشاركها حياتها وعـواطفها وأهـواءها وينتظر الحوادث معها » .
وفي ضوء هذا ينقد الناقد الوجودي الأديب الرومانسي الذي ينكفئ على ذاته مجتراً عواطفه بصورة ذاتية، وغير شاعر بما يجري حوله في الواقع، وينقد الأديب التقليدي الذي يرمي نفسه في العالم الخارجي، ويضيع نفسه فيه، لأنه يرى أنَّ الفن تسجيل للحوادث الواقعية كما تجري ، وينقد أيضا من يهرب من واقعه ومسئوليته محتمياً بالماضي، ولائذاً بتاريخه وتراثه، إذ ينقب في كتب التاريخ عن موضوع مندثر يقدمه على هيئة قصة أو مسرحية أو كتاب أدبي، إنَّ التاريخ عند نهاد التكرلي في حركة مستمرة، وإنه لا يعيد نفسه، وإن محاولة تثبيته أمر مستحيل، والعودة الآلية إليه غير صحيحة، بمعنى نقل أحداثه كما هي عليه، «دون محاولة خلقها من جديد وجعلها رمزاً لمواقفنا الحاضرة .
وينقد أخيرا كاتبين، أحدهما : يتملق السلطة ويعبر عن ثقافتها، على الرغم من علمه بجورها واستبدادها، فهو يمارس قدراً كبيراً من الخيانة لنفسه ولمجتمعه، لتحقيق كسب قريب رخيص، وثانيهما كاتب شغلته الصياغة وفق المقولات البلاغية فراح ينمق صياغة العبارات بوصفها غاية، فبقي يكتب دون أن يقول شيئا، على حد تعبير الناقد .
إن هؤلاء جميعا يغفلون ـ في تصور التكرلي ـ أنَّ الأدب خلق وحرية قبل كل شيء، وبهذا يرجع إلى تصوره السابق الذي تحدد بكيفية معينة إزاء الذات وموضوعها، فضلا عن نسبية العالم ونسبية الحقائق.
وتعني الحرية دور الذات الفاعل إزاء موضوعها، وتعني القدرة على فعل الأشياء، وهي جزء من الوعي ، وأن الخلق يعني توظيف اللغة بوصفها مادة الأديب، وهي محددة بجمل وكلمات، ليخلق منها « عالماً حياً سريع الحركة تعيش فيه مخلوقات حية تؤثر في المتلقي وتفرض عليه نفسها بالرغم من قصر المدة التي تعيش فيها أمامه » ، إنَّ هذا العالم الذي يخلقه القاص ليس صورة للواقع، وإنما هو عالم يتوازى معه، وقد أكد التكرلي ذلك بقوله إنَّ « الأقصوصة ليست « تقليداً » للحياة بل خلق لها، خلق تتركز فيه الحياة الإنسانية إلى أقصى حد، وهذا هو جوهر الخلق القصصي فلا خلق بدون خيال وبدون فن» .
ولا يعرف الواقع عند الناقد الوجودي الاستقرار، فهو في حالة صيرورة مستمرة، وتجدد دائم، وينبغي أن يواكب القاص تطوره وتغيره، ومحاولة تطويره ونموه نحو مستقبل أفضل، وحين يستمد القاص أعماله الأدبية من الواقع فإنه لا يحاكي الواقع، أو ينسخ أحداثه، إنه يحذف منه، ويضيف إليه، ويغير فيه، باختصار « إنَّ القصة هي غير الواقع، وهي لا تصف حياة معينة كما تحدث كل يوم، بل إنَّ المؤلف يرتب الحوادث ويخلق الشخصيات بصورة تختلف عما يجري في عالم الواقع »، إنَّ القاص يخلق واقعاً فنياً جديداً، يختلف عن الواقع، وإن اعتمد عليه، ولكنه يظل في وجوده موازياً للواقع، ولعله أكثر تأثيراً منه، وفي ضوء هذا يقدم معرفة جديدة للمتلقي، ويحاول فيها حل أزمة الإنسان المعاصر.
وما دام الناقد الوجودي يخلق واقعا فنيا جديدا يوازي الواقع ويتجاوزه، فإنه من الطبيعي أن يوهم المتلقي بواقعية عمله الفني،ولذلك ينبغي أن تكون شخصياته وحوادثها منتزعة من الواقع، أي احتمالية هذه الشخصيات في الواقع الفعلي، فضلا عن إمكان حدوث حركتها وفعلها فيه.
وتخضع القصة لقوانينها الخاصة بها، أي قوانين خلقها، وخلق شخصياتها وأحداثها، وليست احتمالية وقوعها أو مماثلتها للواقع، إنها تقليد للحياة، بل هي خلق لها ، وفي ضوء هذا لا تكون القصة وصفاً محايداً للواقع، بل هي خلق فني، إذ « ليست كل حادثة يمكن أن ترتب وتسرد على شكل أقصوصة، ولا كل وصف وتحليل أن يخلق شخصية قصصية » ، وإنما يتم ذلك من خلال « خلق عالم خاص تترك فيه شخصيات «حية» ترتبط بهذا العالم أوثق ارتباط » .
(2)
ويحدد الناقد الوجودي لغته بوصفها أداة للإبداع الأدبي، فكما أنَّ الألحان تمثل المادة الخام للموسيقي، والألوان مادة الرسام، فإنَّ الأديب يعبر عما يريد بواسطة الكلمات، ويتحقق الكشف عن شيء يقع وراء هذه الكلمات، إذن فاللغة وسيلة لخلق عالم فني تتحرك فيه شخصيات، « فالكلمات كلما اختفت من أمامنا وأصبحت تشف بصورة أوضع عن العالم الذي يقع خلقها كلما كانت أقدر على التعبير وعلى إظهار هذا العالم وكلما كان القصصي متمكنا من فنه، وكلما كانت كلماته تقف حجر عثرة في سبيل الوصول إلى عالمه كلما كانت أقصوصته قاصرة عن التعبير وكلما كان أسلوبه جافاً سقيماً، فالأمر لا يتعلق باختيار الكلمات البليغة التي يحسن وقعها في الأذن بل باختيار كلمات لها قدرة إيحائية هائلة في التعبير، كلمات لا تكاد عينك تستقر عليها حتى تنفذ إلى وراءها، إلى ذلك العالم الذي ينتظرك » .
وبهذا يؤكد نهاد التكرلي أنَّ القصة القصيرة فن مقروء وليس فناً قولياً، لأنَّ تفاعل القاص بكيفية معينة مع لغته يحدد طبيعة العالم الذي يخلقه القاص، ولا ريب أنَّ هذا «يحتاج إلى مهارة فنية كبيرة، والسبب في ذلك هو أنَّ مؤلف الأقصوصة مطلوب إليه أن يخلق من مادة محدودة جدا من الجمل والكلمات عالماً حياً سريع الحركة تعيش فيه مخلوقات حية تؤثر في المتلقي وتفرض عليه نفسها بالرغم من قصر المدة التي تعيش فيها أمامه » .
وتسهم الكلمة بفاعلية في تخيل عالم القصة الذي خلقه القاص، ومن ثم فإنَّ العناية بالكلمة بمدى تأديتها خلق هذا العالم، بمعنى التأكيد على قدرتها على التصوير والإيحاء، وليس التنغيم والإيقاع، وبهذا تتحدد إشارية اللغة من ناحية، وكونها رمزاً متفقاً عليها بين القاص والمتلقي، بحيث لا تدل هذه التراكيب على دلالات مباشرة لأبعاد معرفية، وإنما تخلق صورة لعالم نسبي خاص ينطوي بكيفية مخصوصة على كشف معرفي خاص ومحدد.
( 3 )
وإذا كان التأثير بالمتلقي يتم من خلال مشابهة الزمانين النفسيين لكل من المبدع والمتلقي، ومن خلال قدرة المتلقي على التأمل والحلم لتشكيل الصورة، فإنَّ الشخصية القصصية تتحول من كونها شخصية تتحرك في الخارج إلى شخصيتي أنا الخاصة تتحرك وتتفاعل في الداخل ، إنَّ الشخصية التي أتخيلها تتحول إلى شخصيتي أنا بالذات، أعيرها للشخصية في العمل القصصي، وبذلك تتحول الشخصية من كونها تحمل كيانها وخصوصيتها المستقلين إلى حقيقة موجودة تمثل إدراكي ووعي أنا الشخصي، فليس للشخصية استقلال تنفرد به، بل تتحول إلى شخصيات متعددة تمثل عدد شخصيات القراء، ولذلك فإنَّ القصة لا يمكنها أن تحقق قيمتها الفنية أو ، على تعبير الناقـد ، « لا تمتلئ وتنتفخ بهذا العالم النابض بالحياة إلا بعد أن تتغذى بزمني النفسي » .
ويؤكد الناقد على قدرة الشخصية النابضة بالحركة والحياة، ويشترط لأجل ذلك حريتها التي تمثل ـ بالنتيجة ـ حرية التفكير الوجودي، غير أنَّ هذه الحرية لا تحدد لنا سلفاً ما سيحدث في القصة، بل يحاول أن يجعلنا « ننتظر » لأنَّ القصصي الحقيقي « يقدم أهواء وأفعالاً لا يمكن التنبوء بنتائجها » .
إنَّ حرية الشخصية ومجهولية مستقبلها تمثلان ما أطلق عليهما نهاد التكرلي «خصائص الزمانية » ويشترط من جانب آخر أن يكون لشخصياته ديمومة أو زمن نفسي تحيا به، وبذلك يرفض الأدب التقليدي الذي يجعل من القاص إلها في خلق أبطاله وتحريكها في الجهة التي يريدها، ويقحم المتلقي ليكون هو الآخر إلها، وهذا يعني أنَّ القاص التقليدي يعنى بالشخصية لا من حيث وجودها، وإنما يحدد ماهيتها من حيث البدء ؛ إنَّ تحديد ماهية الشخصية قبل وجودها يقيد الشخصية ويفقدها حريتها وذلك بتحديدها في أحد المستويين المتضادين الخير أو الشر، ولذلك فإنَّ القاص«الكلاسيكي» في تصور نهاد التكرلي « يضع شخصيته كلها منذ البداية ويضع ماهيتها ولا يكون تسلسل القصة إلا نتيجة لا مناص منها للصفحات الأولى منها » .
ويفصل التفكير « الكلاسيكي » بين الشـخصية وعالمها، وينصرف الأديب «الكلاسيكي» إلى وصف العوالم الداخلية للشخصية بحيث تفتقر الشخصية إلى الحركة والحياة، وحتى لو وجدت العلاقة بين الشخصية وعالمها فإنها على درجة من الارتخاء «يشعر معها القارئ باستقلال كل منهما عن الآخر » ؛ ويشترط الناقد الوجودي تقديم وجود الشخصية، وأن هذا الوجود يحدد ماهيتها، وليس العكس، وهذا يعني أنَّ الشخصية تصنع نفسها وأفكارها والأحداث التي تخدمها أمام المتلقي، كما أنه ليس بالإمكان التنبؤ بمستقبلها .
ولا تستقل الشخصية القصصية عن البيئة المحلية التي يعبر عنها القاص، فهي جزء جوهري من تكوين القصة، التي يشترط فيها الناقد أن تكون « منتزعة من الحياة اليومية » ولا يعني هذا أن تكون « أن تكون مناظرها غريبة أو تكون شخصياتها شاذة، بل المهم هو أن تصف بيئة معينة مهما يكن من انحطاطها، وترسم شخصيات من مكان مخصوص بصدق وإخلاص » .
وتسهم مخيلة المتلقي في خلق عالم القصة، ومن ضمنه الشخصية القصصية، ومن ثم لا يهمه كثيراً الحادثة الكائنة في الواقع أصلا، لأنه » لا يتناول شخصية « واقعية » يصفها في أقصوصته، ولا يسرد حوادث واقعية « حدثت » في عالم الواقع مهما تكن من غرابتها وشذوذها، بل هو يستعين بخياله على خلق شخصية « يمكن » أن توجد في هذا العالم الواقعي ويمكن أن تحدث لها هذه الحوادث، فهو من الجائز أن يكون قد رأى شخصية واقعية أثارت اهتمامه وأراد أن يجعلها موضوعا لأقصوصته، ومن المحتمل أنْ يكون قد شهد أو جرّب بعض التجارب في عالم الواقع وأراد أن يصفها في أقصوصته، ولكنه لا يصف تلك الشخصية التي رآها بحذافيرها، ولا يسرد تلك الحوادث كما رآها، بل يعيد خلق الشخصية والحوادث والتجارب من جديد، ويخلق من جميع هذا عالما خاصا هو عالم أقصوصته، عالم يزخر بالحياة والشخصيات الحية تتجسد فيها الإنسانية، فالأقصوصة ليست « تقليداً » للحياة بل خلق لها، خلق تتركز فيه الحياة الإنسانية إلى أقصى حد، وهذا هو جوهر الخلق القصصي فلا خلق بدون خيال وبدون فن » .
ولا يمكن فهم الحوار إلا في إطار رؤية الناقد للغة ووظيفتها، إذ يرى بعض النقاد أنَّ اللغة غاية بحد ذاتها، ويتأسس على هذا ضرورة أن يكون الحوار باللغة العربية الفصحى، وينبذون الحوار بالعامية « بحجة أنها لا يمكن أن تفهم إلا من قبل الأقلية، هذا الفريق يفهم دور اللغة في القصة فهماً بعيداً عن الفهم القصصي للغة، فاللغة القصصية في نظر هذا الفريق ليست أداة من أجل خلق عالم معين، بل هي غاية بحد ذاتها، ومن ثم فإنَّ من الواجب أن تخضع هذه اللغة للبلاغة العربية وتتحلى بالبيان والبديع وبقوة التركيب... ولذلك فهو يخاف من اللهجة العامية ويحمل عليها ويدعو إلى نبذها » .
ويتبنى الناقد الوجودي تصوراً معارضاً، إذ يرى أنَّ « اللغة في الفن القصصي وسيلة لخلق عالم زاخر بالحياة يكون هو الغاية التي يسعى إليها القصصي، ومن ثم فإذا وجد القصصي أنَّ اللهجة العامية تكمل بناء شخصياته وتسبغ عليها طابعاً قريباً من الحياة، بينما على العكس ستكون اللغة الفصحى في لسان هذه الشخصية أداة مصطنعة تسيء إلى وجودها، فلماذا لا يسمح له باستعمالها ؟ من رأينا أنَّ « الكلام » باعتباره وجوداً من أجل الغير لا يمكن فصله عن الشخصية بدون تصنع لأنه مظهر قوي من مظاهر الكشف عن وجود هذه الشخصية، لذلك فلا جناح على القصصي من استعمال اللهجة المحلية في الظروف التي يقدر أنها ضرورية لبعض الشخصيات على أن يقتصر في استعمالها على الحوار فقط » .
ولا يفصل نهاد التكرلي بين الحدث والشخصية، لأنَّ الحدث يصور الشخصية وهي تتحرك، ويعبر من ثم عن رؤيتها وموقفها من العالم، ومادامت رؤية الناقد الوجودي معبرة عن حاضر الإنسان، أو ماضيه في ضوء الحاضر، فإنَّ الحدث الذي يعنى به القاص ينبغي أن « يجري في الزمان الحاضر وأن يكون أثره منصباً على العالم الواقعي » .
إنَّ نقل الحدث من واقع القصة إلى ذهن الشخصية يؤدي إلى ثبات حركة الواقع، ولا يدع مجالاً لتثير المتلقي وتشده إلى الأعمال القصصية، وإذا كان هذا الأسلوب يصلح في تصور الناقد للرواية، فإنه يقلل من قيمة الأثر الفني والكشف المعرفي الذي يعرضه في القصة القصيرة ، وفي ضوء هذا فإنَّ نقل الحدث إلى الماضي والتعبير عنه من خلال إحدى الشخصيات يفسد الآثار المرجوة من القصة القصيرة لأنَّ هذا ارتداد إلى النزعة الموباسانية التي انتهى زمانها على حد تعبير الناقد ، وبذلك يعرض الناقد أسلوبه الذي يعتمد الحدث الحاضر، كما تعتمد حضور الشخصية لتترك آثارها في المتلقي بشكل مباشر، إنَّ توظيف الحدث وفق هذا المنظور يساعد القاص على تشكيل قصة قصيرة متماسكة يكون فيها الحدث جزءاً معبراً عن الشخصية ومتفاعلا مع عناصر القصة .
( 4 )
وتتحدد العلاقة بين الشكل والمضمون في ضوء التفاعل بين الذات والموضوع، وتندرج قضية الشكل والمضمون في إطار هذه الوحدة الفكرية، ولذلك يرفض نهاد التكرلي المحاولات التي تفصل المضمون الذي أطلق عليه الفكرة أو الموضوع Subject عن الشكل الذي أطلق عليه التقنية الفنية، أو الأسلوب Technique.؛ ويرى الناقد أنَّ القاص التقليدي يحدد أولا أفكاره ثم يعمد ثانياً إلى إلباسها « ثوباً فنياً فيصبها على هيئة شخصيات وحوادث معينة تسرد بكيفية معينة » ، وهذا يعني من جانب آخر تقديم ماهية الشخصية على وجودها الذي يعكسه الناقد الوجودي ليقدم وجود الشخصية على ماهيتها، ويرفض الناقد الأحكام التي تنظر إلى القصة القصيرة مجزأة عبر منظار واحد إما إلى شكلها أو مضمونها، بحيث تكثر الأحكام التي تنفي وجود قيمة فنية لهذا الشكل الأدبي رغم كونه ينطوي على مضمون عظيم أو العكس !.
وفي ضوء هذا لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون، ولا يمكن رؤية أحدهما إلا من خلال الآخر، لأنَّ « مشاكل التقنية في الفن القصصي مشاكل «موضوعية »... ولأنَّ « بناء » القصة يستقر دائماً على نوع من التصور الأخلاقي أو النفسي... فلا يمكن أن يوجد « تصور » من جهة و« تقنية » من جهة أخرى يمكن فصلها أو إقامة علاقة بينهما « من الخارج » بل الصحيح هو أنَّ كل تقنية لابد أن تمتلك معنى أي أن تكون ذات دلالة » .
وعلى الرغم من انسجام تفكير الناقد الوجودي مع تصوراته الفلسفية في تحليل الشكل والمضمون، وعلى الرغم من كون هذا التفكير يمثل نقلة نوعية في التفكير النقدي أفادت منه الواقعية الاشتراكية، فإنَّ الناقد يفصل بين الشكل والمضمون، ويرى أنَّ الشكل أكثر أهمية من المضمون، وهو الذي يشكله ويحدد أبعاده لأنَّ « التقنية والقيمة الفنية... هي التي تخلق الموضوع... فالكيفية هنا موجدة للموضوع والموضوع هنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكيفية » .
( 5)
ويمثل التفكير الوجودي في العراق في أبرز جوانبه حلاً لمشكلة الانتماء لبعض النقاد من ناحية، ويمثل من ناحية أخرى تأثر الناقد بالوافد الذي يصل حد الترجمة الحرفية، مما يجعلنا نحذر كثيراً في إعطاء هذا التفكير قيمة أكثر، وبخاصة أنه لم يترك آثار واضحة على نقاد آخرين، ولكنها رغم ذلك تمثل ظاهرة إيجابية يفسح فيها المجال للتأثر بالوافد وإمكان هذا الوافد العيش أو الزوال.
ومن أمثلة الترجمة الحرفية أو ترجمة مضامين الأفكار ما أشرت إليه في هوامش الصفحات السابقة، وأنقل هنا نموذجاً أوضح فيه تأثر نهاد التكرلي حين يتحدث عن اللغة إذ يرى أنَّ « الكلمات بمثابة علامات تشير إلى الأشخاص والأشياء فالقصة لا تعطي القارئ الأشياء بل علامتها، ولكن كيف يمكن خلق عالم من هذه العلامات وهذه الكلمات بحيث يخيل إلىَّ ـ أنا القارئ ـ بأني أعيش في هذا العالم وأصاحب أبطاله ؟ كيف يتسنى لراسكولينكوف أن يحيا هذه الحياة القوية أمامي ؟ قد يعتقد البعض بأن الفضل في ذلك يعود لمخيلتي وأنه إنما يستمد حياته من خيالي، غير أنَّ هذا اعتقاد خاطئ، لأنَّ الكلمات لا تشكل صوراً إلا عندما نتأمل ونحلم بها إنني في الحقيقة لا أتخيل راسكولينكوف بل انتظر أفعاله ونهاية مغامراته وما هذه المادة التي أحركها عندما أقرأ «الجريمة والعقاب » إلا حياتي الخاصة وزمني الخاص اللذين أعيرهما لراسكولينكوف أنَّ الكاتب في حقيقته المادية ليس كمية من الورق والحبر الجاف، أما هذا العالم المتحرك الذي أراه وأحيا فيه فإنه لا يوجد إلا نتيجة قراءاتي، وعليه فماذا يجب أن يكون قصد المؤلف القصصي إذن ؟ إنها بالضبط هذه « الحركة » فهي التي سيحتال للحصول عليها وأحداثها لدي لكي يقودها ويعطفها بعد أن يجعل منها جوهر شخصياته، فالقصة لا تمتلئ وتنتفخ بهذا العالم النابض بالحياة إلا بعد أن تتغذى بزمني النفسي، ومن ثم فيكون من الواجب على القصصي أن يعرف كيف يجتذب ديمومتي في فخه لكي يجعل منها لحم هذه المخلوقات التي يبتدعها، وهذه العملية السحرية لا تتحقق وتتم إلا إذا رسم المؤلف ـ بواسطة العلامات التي يهيؤها ـ زمناً مشابهاً لزمني الخاص يكون فيه المستقبل غير مصنوع بعد » .
ان هذا النص الذي اقتبسناه يكاد يكون ترجمة حرفية لمقال سارتر عن فرانسو مورياك والحرية الذي يقول فيه « الرواية لا تعطي الأشياء بل رموزها فكيف يمكن أن نجعل عالماً كاملاً يقف على قدمه بهذه الرموز وحدها، أعني الكلمات التي تدل في الفراغ من أنى لسترافوغين أن يعيش ؟ اني أخطيء إذ اعتقد أنه يستمد حياته من مخيلتي : فالكلمات تولد صوراً حين نحلم بها لكني حين أقرأ لا أحلم بل أفك ألغازاً كلا أني لا أتخيل سترافوغين بل انتظر أفعاله، نهاية مغامراته، إنَّ تلك المادة الكثيفة التي أحضنها حين أقرأ «الأبالسة » هي انتظاري الخاص، هي زمني ذلك أنَّ الكاتب أما أن يكون حفنة صغيرة من الأوراق اليابسة، وأما أن يكون شكلاً كبيراً متحركاً : القراءة، وهذه الحركة يلتقطها الروائي ويوجهها، ويحرف مسارها ويجعل منها جوهر شخصياته، إنَّ الرواية التي هي تتابع من القراءات من الحيوية الطفيلية الصغيرة التي لا تدوم الوحدة منها أكثر مما تدوم الرقصة، تنتفخ وتتغذى بزمن قرائها، لكن حتى يمكن للرواية أن تأسر زمن جزعي وجهلي وتكيفه وتقدمه لي في النهاية كجسد لتلك المخلوقات المتخيلة لابد أن يعرف الروائي كيف يجذبه إلى فخه ولابد أن يبني داخل كتابه، وبواسطة الرموز التي هي تحت متناوله زمناً شبيهاً بزمني، المستقبل غير مصنوع » .
أ. د . كريم الوائلي ـ مدير عام الاشراف التربوي
( 1 )
كان الناقد التقليدي يصدر عن رؤية تغلب الموضوع على الذات، ويعارضه الناقد الرومانسي الذي يغلب في رؤيته الذات على الموضوع، أما الناقد الوجودي فإنه يصدر عن رؤية ترى ضرورة التفاعل بين الذات والموضوع معا، بحيث يحيل كل منهما على الآخر، ويحاول نهاد التكرلي حل مشكلة نظرية المعرفة التي تخبطت فيها النظريات السابقة إلى طرفين متناقضين : الذات إلى الموضوع أو العكس، ويتابع الناقد نهاد التكرلي انجازات الفلاسفة : هايدجر وميرلوبونتي وسارتر التي ترى أنه « لا وجود للموضوع إلا من حيث هو محيل إلى ذات، فإنَّ وجوده « من أجل » هذه الذات ولا وجود للذات إلا من حيث أنها دالة على موضوع » .
ويتحدد في ضوء هذا موقف الناقد الوجودي من خلال وصف نوع من المركب بين الذات والموضوع، غير أنَّ كفة الذات تترجح على الموضوع، لأنَّ الناقد الوجودي يعلي من شأن الذات، ومن شأن الوعي الفردي، ويؤكد أنَّ القيمة كائنة في ذات الإنسان الموجود، بمعنى أنَّ الذات تمثل مركزاً تستقطب نحوها عالماً مخصوصاً، بل يمكن القول مع الناقد التكرلي : « لا وجود للذات الشاعرة إلا إذا تركز حولها عالم مخصوص، ولا وجود لهذه الذات إلا « مع » هذا العالم » ، كما أنَّ العالم هو الآخر لا وجود له يستقل عن الذات، وإنما يتحقق وجوده وصيرورته من أجل هذه الذات .
إن الناقد الوجودي يعلي من الذات ومن الوعي الفردي ـ كما أشرنا ـ ومن ثم تتحدد علاقة الذات بموضوعها في حالة « ارتماء في العالم الخارجي مع الشعور بالذات بأقوى صورة ممكنة » ، وتأسيسا على ذلك تتبدى طبيعة العالم والمعرفة التي يكشف عنها، فالعالم في صيرورته وتغيره عالم نسبي، والحقائق التي تتخلق من تفاعل الذات بالعالم حقائق نسبية، وليست أزلية ثابتة، ولذلك كان التكرلي يؤكد في مواطن عديدة أنَّ النص الأدبي كشف عن شيء معين للآخرين ، والكشف بطبيعته يرتكز على ذات تميط اللثام عن نمط من المعرفة في أثناء تفاعلها مع موضوعها، وتحاول تقديمه للآخرين.
ويرى التكرلي أنَّ الأديب ينبغي أن يقدم شيئاً جديداً لمجتمعه، ويحاول توصيف مشاكل العصر، واتخاذ موقف محدد منها، لأنَّ هذا جزء من مسئوليته بصفته إنساناً حراً يكتب إلى بشر أحرار، أو يفترض بهم أن يكونوا أحراراً، ويدعو التكرلي إلى أن يؤدي الأديب دوره في مسئوليته إزاء عصره، فهو « مسؤول عما يكتب وهو في موقف بالنسبة لعصره، ولن يستطيع مهما فعل أن يهرب من هذا الموقف، لأنه حتى لو كتب من دون أن يقول شيئا معينا فسيمنح صمته هذا معنى معينا » ، ومن ثم ينبغي أن يسأل نفسه، ماذا فعل ؟ وهو يصطدم « بأزمة إنسانيته وكيفية ترقيتها والعلو بها والكشف عن أوجها » .
إن المشاركة الفاعلة في الحياة تعني إسهام القاص بوعي العالم والعيش فيه، والإسهام في تغييره، بمعنى « أن تجد نفسك قرب هذه الجماعة التي تكافح معها، وأن تشعر بالخطر قرب لحم تلك المرأة التي تحبها، وأن تشعر بالارتياح عندما تساهم في حل هذه المشاكل التي تقلق بني قومك » ، إنَّ إبداع القصة لا ينفك ـ في الحقيقة ـ عن وعي ديناميكية الحياة هذه، من ناحية، وضرورة « التعبير عن مشاكلنا وبيئتنا بصورة فنية إنسانية » من ناحية ثانية، وإن هذا التفاعل الواعي ـ بين ديناميكية الحياة، وضرورة التعبير عنها فنياً ـ هو الذي يقود إلى خلق القصة القصيرة، ولذلك فليست القصة عملية ذهنية يقوم فيها القاص بدور الوسيط الذي يصف الواقع ويسرد الحوادث، كما أنَّ ليس كل حادثة يمكن أن ترتب وتسرد على شكل قصة، ولا كل وصف وتحليل يمكن أن يخلق شخصية حية، إنَّ القصة لا تقلد الواقع، بل « هي خلق فني قبل كل شيء، فليست كل حادثة يمكن أن ترتب وتسرد على شكل أقصوصة، ولا كل وصف وتحليل يمكن أن يخلق شخصية قصصية حية، بل إنَّ المهمة أخطر وأشق من هذا بكثير، إنَّ الأمر يتعلق بخلق عالم خاص وخلق شخصيات « حية » تعيش في هذا العالم ويستطيع القارئ أن يشاركها حياتها وعـواطفها وأهـواءها وينتظر الحوادث معها » .
وفي ضوء هذا ينقد الناقد الوجودي الأديب الرومانسي الذي ينكفئ على ذاته مجتراً عواطفه بصورة ذاتية، وغير شاعر بما يجري حوله في الواقع، وينقد الأديب التقليدي الذي يرمي نفسه في العالم الخارجي، ويضيع نفسه فيه، لأنه يرى أنَّ الفن تسجيل للحوادث الواقعية كما تجري ، وينقد أيضا من يهرب من واقعه ومسئوليته محتمياً بالماضي، ولائذاً بتاريخه وتراثه، إذ ينقب في كتب التاريخ عن موضوع مندثر يقدمه على هيئة قصة أو مسرحية أو كتاب أدبي، إنَّ التاريخ عند نهاد التكرلي في حركة مستمرة، وإنه لا يعيد نفسه، وإن محاولة تثبيته أمر مستحيل، والعودة الآلية إليه غير صحيحة، بمعنى نقل أحداثه كما هي عليه، «دون محاولة خلقها من جديد وجعلها رمزاً لمواقفنا الحاضرة .
وينقد أخيرا كاتبين، أحدهما : يتملق السلطة ويعبر عن ثقافتها، على الرغم من علمه بجورها واستبدادها، فهو يمارس قدراً كبيراً من الخيانة لنفسه ولمجتمعه، لتحقيق كسب قريب رخيص، وثانيهما كاتب شغلته الصياغة وفق المقولات البلاغية فراح ينمق صياغة العبارات بوصفها غاية، فبقي يكتب دون أن يقول شيئا، على حد تعبير الناقد .
إن هؤلاء جميعا يغفلون ـ في تصور التكرلي ـ أنَّ الأدب خلق وحرية قبل كل شيء، وبهذا يرجع إلى تصوره السابق الذي تحدد بكيفية معينة إزاء الذات وموضوعها، فضلا عن نسبية العالم ونسبية الحقائق.
وتعني الحرية دور الذات الفاعل إزاء موضوعها، وتعني القدرة على فعل الأشياء، وهي جزء من الوعي ، وأن الخلق يعني توظيف اللغة بوصفها مادة الأديب، وهي محددة بجمل وكلمات، ليخلق منها « عالماً حياً سريع الحركة تعيش فيه مخلوقات حية تؤثر في المتلقي وتفرض عليه نفسها بالرغم من قصر المدة التي تعيش فيها أمامه » ، إنَّ هذا العالم الذي يخلقه القاص ليس صورة للواقع، وإنما هو عالم يتوازى معه، وقد أكد التكرلي ذلك بقوله إنَّ « الأقصوصة ليست « تقليداً » للحياة بل خلق لها، خلق تتركز فيه الحياة الإنسانية إلى أقصى حد، وهذا هو جوهر الخلق القصصي فلا خلق بدون خيال وبدون فن» .
ولا يعرف الواقع عند الناقد الوجودي الاستقرار، فهو في حالة صيرورة مستمرة، وتجدد دائم، وينبغي أن يواكب القاص تطوره وتغيره، ومحاولة تطويره ونموه نحو مستقبل أفضل، وحين يستمد القاص أعماله الأدبية من الواقع فإنه لا يحاكي الواقع، أو ينسخ أحداثه، إنه يحذف منه، ويضيف إليه، ويغير فيه، باختصار « إنَّ القصة هي غير الواقع، وهي لا تصف حياة معينة كما تحدث كل يوم، بل إنَّ المؤلف يرتب الحوادث ويخلق الشخصيات بصورة تختلف عما يجري في عالم الواقع »، إنَّ القاص يخلق واقعاً فنياً جديداً، يختلف عن الواقع، وإن اعتمد عليه، ولكنه يظل في وجوده موازياً للواقع، ولعله أكثر تأثيراً منه، وفي ضوء هذا يقدم معرفة جديدة للمتلقي، ويحاول فيها حل أزمة الإنسان المعاصر.
وما دام الناقد الوجودي يخلق واقعا فنيا جديدا يوازي الواقع ويتجاوزه، فإنه من الطبيعي أن يوهم المتلقي بواقعية عمله الفني،ولذلك ينبغي أن تكون شخصياته وحوادثها منتزعة من الواقع، أي احتمالية هذه الشخصيات في الواقع الفعلي، فضلا عن إمكان حدوث حركتها وفعلها فيه.
وتخضع القصة لقوانينها الخاصة بها، أي قوانين خلقها، وخلق شخصياتها وأحداثها، وليست احتمالية وقوعها أو مماثلتها للواقع، إنها تقليد للحياة، بل هي خلق لها ، وفي ضوء هذا لا تكون القصة وصفاً محايداً للواقع، بل هي خلق فني، إذ « ليست كل حادثة يمكن أن ترتب وتسرد على شكل أقصوصة، ولا كل وصف وتحليل أن يخلق شخصية قصصية » ، وإنما يتم ذلك من خلال « خلق عالم خاص تترك فيه شخصيات «حية» ترتبط بهذا العالم أوثق ارتباط » .
(2)
ويحدد الناقد الوجودي لغته بوصفها أداة للإبداع الأدبي، فكما أنَّ الألحان تمثل المادة الخام للموسيقي، والألوان مادة الرسام، فإنَّ الأديب يعبر عما يريد بواسطة الكلمات، ويتحقق الكشف عن شيء يقع وراء هذه الكلمات، إذن فاللغة وسيلة لخلق عالم فني تتحرك فيه شخصيات، « فالكلمات كلما اختفت من أمامنا وأصبحت تشف بصورة أوضع عن العالم الذي يقع خلقها كلما كانت أقدر على التعبير وعلى إظهار هذا العالم وكلما كان القصصي متمكنا من فنه، وكلما كانت كلماته تقف حجر عثرة في سبيل الوصول إلى عالمه كلما كانت أقصوصته قاصرة عن التعبير وكلما كان أسلوبه جافاً سقيماً، فالأمر لا يتعلق باختيار الكلمات البليغة التي يحسن وقعها في الأذن بل باختيار كلمات لها قدرة إيحائية هائلة في التعبير، كلمات لا تكاد عينك تستقر عليها حتى تنفذ إلى وراءها، إلى ذلك العالم الذي ينتظرك » .
وبهذا يؤكد نهاد التكرلي أنَّ القصة القصيرة فن مقروء وليس فناً قولياً، لأنَّ تفاعل القاص بكيفية معينة مع لغته يحدد طبيعة العالم الذي يخلقه القاص، ولا ريب أنَّ هذا «يحتاج إلى مهارة فنية كبيرة، والسبب في ذلك هو أنَّ مؤلف الأقصوصة مطلوب إليه أن يخلق من مادة محدودة جدا من الجمل والكلمات عالماً حياً سريع الحركة تعيش فيه مخلوقات حية تؤثر في المتلقي وتفرض عليه نفسها بالرغم من قصر المدة التي تعيش فيها أمامه » .
وتسهم الكلمة بفاعلية في تخيل عالم القصة الذي خلقه القاص، ومن ثم فإنَّ العناية بالكلمة بمدى تأديتها خلق هذا العالم، بمعنى التأكيد على قدرتها على التصوير والإيحاء، وليس التنغيم والإيقاع، وبهذا تتحدد إشارية اللغة من ناحية، وكونها رمزاً متفقاً عليها بين القاص والمتلقي، بحيث لا تدل هذه التراكيب على دلالات مباشرة لأبعاد معرفية، وإنما تخلق صورة لعالم نسبي خاص ينطوي بكيفية مخصوصة على كشف معرفي خاص ومحدد.
( 3 )
وإذا كان التأثير بالمتلقي يتم من خلال مشابهة الزمانين النفسيين لكل من المبدع والمتلقي، ومن خلال قدرة المتلقي على التأمل والحلم لتشكيل الصورة، فإنَّ الشخصية القصصية تتحول من كونها شخصية تتحرك في الخارج إلى شخصيتي أنا الخاصة تتحرك وتتفاعل في الداخل ، إنَّ الشخصية التي أتخيلها تتحول إلى شخصيتي أنا بالذات، أعيرها للشخصية في العمل القصصي، وبذلك تتحول الشخصية من كونها تحمل كيانها وخصوصيتها المستقلين إلى حقيقة موجودة تمثل إدراكي ووعي أنا الشخصي، فليس للشخصية استقلال تنفرد به، بل تتحول إلى شخصيات متعددة تمثل عدد شخصيات القراء، ولذلك فإنَّ القصة لا يمكنها أن تحقق قيمتها الفنية أو ، على تعبير الناقـد ، « لا تمتلئ وتنتفخ بهذا العالم النابض بالحياة إلا بعد أن تتغذى بزمني النفسي » .
ويؤكد الناقد على قدرة الشخصية النابضة بالحركة والحياة، ويشترط لأجل ذلك حريتها التي تمثل ـ بالنتيجة ـ حرية التفكير الوجودي، غير أنَّ هذه الحرية لا تحدد لنا سلفاً ما سيحدث في القصة، بل يحاول أن يجعلنا « ننتظر » لأنَّ القصصي الحقيقي « يقدم أهواء وأفعالاً لا يمكن التنبوء بنتائجها » .
إنَّ حرية الشخصية ومجهولية مستقبلها تمثلان ما أطلق عليهما نهاد التكرلي «خصائص الزمانية » ويشترط من جانب آخر أن يكون لشخصياته ديمومة أو زمن نفسي تحيا به، وبذلك يرفض الأدب التقليدي الذي يجعل من القاص إلها في خلق أبطاله وتحريكها في الجهة التي يريدها، ويقحم المتلقي ليكون هو الآخر إلها، وهذا يعني أنَّ القاص التقليدي يعنى بالشخصية لا من حيث وجودها، وإنما يحدد ماهيتها من حيث البدء ؛ إنَّ تحديد ماهية الشخصية قبل وجودها يقيد الشخصية ويفقدها حريتها وذلك بتحديدها في أحد المستويين المتضادين الخير أو الشر، ولذلك فإنَّ القاص«الكلاسيكي» في تصور نهاد التكرلي « يضع شخصيته كلها منذ البداية ويضع ماهيتها ولا يكون تسلسل القصة إلا نتيجة لا مناص منها للصفحات الأولى منها » .
ويفصل التفكير « الكلاسيكي » بين الشـخصية وعالمها، وينصرف الأديب «الكلاسيكي» إلى وصف العوالم الداخلية للشخصية بحيث تفتقر الشخصية إلى الحركة والحياة، وحتى لو وجدت العلاقة بين الشخصية وعالمها فإنها على درجة من الارتخاء «يشعر معها القارئ باستقلال كل منهما عن الآخر » ؛ ويشترط الناقد الوجودي تقديم وجود الشخصية، وأن هذا الوجود يحدد ماهيتها، وليس العكس، وهذا يعني أنَّ الشخصية تصنع نفسها وأفكارها والأحداث التي تخدمها أمام المتلقي، كما أنه ليس بالإمكان التنبؤ بمستقبلها .
ولا تستقل الشخصية القصصية عن البيئة المحلية التي يعبر عنها القاص، فهي جزء جوهري من تكوين القصة، التي يشترط فيها الناقد أن تكون « منتزعة من الحياة اليومية » ولا يعني هذا أن تكون « أن تكون مناظرها غريبة أو تكون شخصياتها شاذة، بل المهم هو أن تصف بيئة معينة مهما يكن من انحطاطها، وترسم شخصيات من مكان مخصوص بصدق وإخلاص » .
وتسهم مخيلة المتلقي في خلق عالم القصة، ومن ضمنه الشخصية القصصية، ومن ثم لا يهمه كثيراً الحادثة الكائنة في الواقع أصلا، لأنه » لا يتناول شخصية « واقعية » يصفها في أقصوصته، ولا يسرد حوادث واقعية « حدثت » في عالم الواقع مهما تكن من غرابتها وشذوذها، بل هو يستعين بخياله على خلق شخصية « يمكن » أن توجد في هذا العالم الواقعي ويمكن أن تحدث لها هذه الحوادث، فهو من الجائز أن يكون قد رأى شخصية واقعية أثارت اهتمامه وأراد أن يجعلها موضوعا لأقصوصته، ومن المحتمل أنْ يكون قد شهد أو جرّب بعض التجارب في عالم الواقع وأراد أن يصفها في أقصوصته، ولكنه لا يصف تلك الشخصية التي رآها بحذافيرها، ولا يسرد تلك الحوادث كما رآها، بل يعيد خلق الشخصية والحوادث والتجارب من جديد، ويخلق من جميع هذا عالما خاصا هو عالم أقصوصته، عالم يزخر بالحياة والشخصيات الحية تتجسد فيها الإنسانية، فالأقصوصة ليست « تقليداً » للحياة بل خلق لها، خلق تتركز فيه الحياة الإنسانية إلى أقصى حد، وهذا هو جوهر الخلق القصصي فلا خلق بدون خيال وبدون فن » .
ولا يمكن فهم الحوار إلا في إطار رؤية الناقد للغة ووظيفتها، إذ يرى بعض النقاد أنَّ اللغة غاية بحد ذاتها، ويتأسس على هذا ضرورة أن يكون الحوار باللغة العربية الفصحى، وينبذون الحوار بالعامية « بحجة أنها لا يمكن أن تفهم إلا من قبل الأقلية، هذا الفريق يفهم دور اللغة في القصة فهماً بعيداً عن الفهم القصصي للغة، فاللغة القصصية في نظر هذا الفريق ليست أداة من أجل خلق عالم معين، بل هي غاية بحد ذاتها، ومن ثم فإنَّ من الواجب أن تخضع هذه اللغة للبلاغة العربية وتتحلى بالبيان والبديع وبقوة التركيب... ولذلك فهو يخاف من اللهجة العامية ويحمل عليها ويدعو إلى نبذها » .
ويتبنى الناقد الوجودي تصوراً معارضاً، إذ يرى أنَّ « اللغة في الفن القصصي وسيلة لخلق عالم زاخر بالحياة يكون هو الغاية التي يسعى إليها القصصي، ومن ثم فإذا وجد القصصي أنَّ اللهجة العامية تكمل بناء شخصياته وتسبغ عليها طابعاً قريباً من الحياة، بينما على العكس ستكون اللغة الفصحى في لسان هذه الشخصية أداة مصطنعة تسيء إلى وجودها، فلماذا لا يسمح له باستعمالها ؟ من رأينا أنَّ « الكلام » باعتباره وجوداً من أجل الغير لا يمكن فصله عن الشخصية بدون تصنع لأنه مظهر قوي من مظاهر الكشف عن وجود هذه الشخصية، لذلك فلا جناح على القصصي من استعمال اللهجة المحلية في الظروف التي يقدر أنها ضرورية لبعض الشخصيات على أن يقتصر في استعمالها على الحوار فقط » .
ولا يفصل نهاد التكرلي بين الحدث والشخصية، لأنَّ الحدث يصور الشخصية وهي تتحرك، ويعبر من ثم عن رؤيتها وموقفها من العالم، ومادامت رؤية الناقد الوجودي معبرة عن حاضر الإنسان، أو ماضيه في ضوء الحاضر، فإنَّ الحدث الذي يعنى به القاص ينبغي أن « يجري في الزمان الحاضر وأن يكون أثره منصباً على العالم الواقعي » .
إنَّ نقل الحدث من واقع القصة إلى ذهن الشخصية يؤدي إلى ثبات حركة الواقع، ولا يدع مجالاً لتثير المتلقي وتشده إلى الأعمال القصصية، وإذا كان هذا الأسلوب يصلح في تصور الناقد للرواية، فإنه يقلل من قيمة الأثر الفني والكشف المعرفي الذي يعرضه في القصة القصيرة ، وفي ضوء هذا فإنَّ نقل الحدث إلى الماضي والتعبير عنه من خلال إحدى الشخصيات يفسد الآثار المرجوة من القصة القصيرة لأنَّ هذا ارتداد إلى النزعة الموباسانية التي انتهى زمانها على حد تعبير الناقد ، وبذلك يعرض الناقد أسلوبه الذي يعتمد الحدث الحاضر، كما تعتمد حضور الشخصية لتترك آثارها في المتلقي بشكل مباشر، إنَّ توظيف الحدث وفق هذا المنظور يساعد القاص على تشكيل قصة قصيرة متماسكة يكون فيها الحدث جزءاً معبراً عن الشخصية ومتفاعلا مع عناصر القصة .
( 4 )
وتتحدد العلاقة بين الشكل والمضمون في ضوء التفاعل بين الذات والموضوع، وتندرج قضية الشكل والمضمون في إطار هذه الوحدة الفكرية، ولذلك يرفض نهاد التكرلي المحاولات التي تفصل المضمون الذي أطلق عليه الفكرة أو الموضوع Subject عن الشكل الذي أطلق عليه التقنية الفنية، أو الأسلوب Technique.؛ ويرى الناقد أنَّ القاص التقليدي يحدد أولا أفكاره ثم يعمد ثانياً إلى إلباسها « ثوباً فنياً فيصبها على هيئة شخصيات وحوادث معينة تسرد بكيفية معينة » ، وهذا يعني من جانب آخر تقديم ماهية الشخصية على وجودها الذي يعكسه الناقد الوجودي ليقدم وجود الشخصية على ماهيتها، ويرفض الناقد الأحكام التي تنظر إلى القصة القصيرة مجزأة عبر منظار واحد إما إلى شكلها أو مضمونها، بحيث تكثر الأحكام التي تنفي وجود قيمة فنية لهذا الشكل الأدبي رغم كونه ينطوي على مضمون عظيم أو العكس !.
وفي ضوء هذا لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون، ولا يمكن رؤية أحدهما إلا من خلال الآخر، لأنَّ « مشاكل التقنية في الفن القصصي مشاكل «موضوعية »... ولأنَّ « بناء » القصة يستقر دائماً على نوع من التصور الأخلاقي أو النفسي... فلا يمكن أن يوجد « تصور » من جهة و« تقنية » من جهة أخرى يمكن فصلها أو إقامة علاقة بينهما « من الخارج » بل الصحيح هو أنَّ كل تقنية لابد أن تمتلك معنى أي أن تكون ذات دلالة » .
وعلى الرغم من انسجام تفكير الناقد الوجودي مع تصوراته الفلسفية في تحليل الشكل والمضمون، وعلى الرغم من كون هذا التفكير يمثل نقلة نوعية في التفكير النقدي أفادت منه الواقعية الاشتراكية، فإنَّ الناقد يفصل بين الشكل والمضمون، ويرى أنَّ الشكل أكثر أهمية من المضمون، وهو الذي يشكله ويحدد أبعاده لأنَّ « التقنية والقيمة الفنية... هي التي تخلق الموضوع... فالكيفية هنا موجدة للموضوع والموضوع هنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكيفية » .
( 5)
ويمثل التفكير الوجودي في العراق في أبرز جوانبه حلاً لمشكلة الانتماء لبعض النقاد من ناحية، ويمثل من ناحية أخرى تأثر الناقد بالوافد الذي يصل حد الترجمة الحرفية، مما يجعلنا نحذر كثيراً في إعطاء هذا التفكير قيمة أكثر، وبخاصة أنه لم يترك آثار واضحة على نقاد آخرين، ولكنها رغم ذلك تمثل ظاهرة إيجابية يفسح فيها المجال للتأثر بالوافد وإمكان هذا الوافد العيش أو الزوال.
ومن أمثلة الترجمة الحرفية أو ترجمة مضامين الأفكار ما أشرت إليه في هوامش الصفحات السابقة، وأنقل هنا نموذجاً أوضح فيه تأثر نهاد التكرلي حين يتحدث عن اللغة إذ يرى أنَّ « الكلمات بمثابة علامات تشير إلى الأشخاص والأشياء فالقصة لا تعطي القارئ الأشياء بل علامتها، ولكن كيف يمكن خلق عالم من هذه العلامات وهذه الكلمات بحيث يخيل إلىَّ ـ أنا القارئ ـ بأني أعيش في هذا العالم وأصاحب أبطاله ؟ كيف يتسنى لراسكولينكوف أن يحيا هذه الحياة القوية أمامي ؟ قد يعتقد البعض بأن الفضل في ذلك يعود لمخيلتي وأنه إنما يستمد حياته من خيالي، غير أنَّ هذا اعتقاد خاطئ، لأنَّ الكلمات لا تشكل صوراً إلا عندما نتأمل ونحلم بها إنني في الحقيقة لا أتخيل راسكولينكوف بل انتظر أفعاله ونهاية مغامراته وما هذه المادة التي أحركها عندما أقرأ «الجريمة والعقاب » إلا حياتي الخاصة وزمني الخاص اللذين أعيرهما لراسكولينكوف أنَّ الكاتب في حقيقته المادية ليس كمية من الورق والحبر الجاف، أما هذا العالم المتحرك الذي أراه وأحيا فيه فإنه لا يوجد إلا نتيجة قراءاتي، وعليه فماذا يجب أن يكون قصد المؤلف القصصي إذن ؟ إنها بالضبط هذه « الحركة » فهي التي سيحتال للحصول عليها وأحداثها لدي لكي يقودها ويعطفها بعد أن يجعل منها جوهر شخصياته، فالقصة لا تمتلئ وتنتفخ بهذا العالم النابض بالحياة إلا بعد أن تتغذى بزمني النفسي، ومن ثم فيكون من الواجب على القصصي أن يعرف كيف يجتذب ديمومتي في فخه لكي يجعل منها لحم هذه المخلوقات التي يبتدعها، وهذه العملية السحرية لا تتحقق وتتم إلا إذا رسم المؤلف ـ بواسطة العلامات التي يهيؤها ـ زمناً مشابهاً لزمني الخاص يكون فيه المستقبل غير مصنوع بعد » .
ان هذا النص الذي اقتبسناه يكاد يكون ترجمة حرفية لمقال سارتر عن فرانسو مورياك والحرية الذي يقول فيه « الرواية لا تعطي الأشياء بل رموزها فكيف يمكن أن نجعل عالماً كاملاً يقف على قدمه بهذه الرموز وحدها، أعني الكلمات التي تدل في الفراغ من أنى لسترافوغين أن يعيش ؟ اني أخطيء إذ اعتقد أنه يستمد حياته من مخيلتي : فالكلمات تولد صوراً حين نحلم بها لكني حين أقرأ لا أحلم بل أفك ألغازاً كلا أني لا أتخيل سترافوغين بل انتظر أفعاله، نهاية مغامراته، إنَّ تلك المادة الكثيفة التي أحضنها حين أقرأ «الأبالسة » هي انتظاري الخاص، هي زمني ذلك أنَّ الكاتب أما أن يكون حفنة صغيرة من الأوراق اليابسة، وأما أن يكون شكلاً كبيراً متحركاً : القراءة، وهذه الحركة يلتقطها الروائي ويوجهها، ويحرف مسارها ويجعل منها جوهر شخصياته، إنَّ الرواية التي هي تتابع من القراءات من الحيوية الطفيلية الصغيرة التي لا تدوم الوحدة منها أكثر مما تدوم الرقصة، تنتفخ وتتغذى بزمن قرائها، لكن حتى يمكن للرواية أن تأسر زمن جزعي وجهلي وتكيفه وتقدمه لي في النهاية كجسد لتلك المخلوقات المتخيلة لابد أن يعرف الروائي كيف يجذبه إلى فخه ولابد أن يبني داخل كتابه، وبواسطة الرموز التي هي تحت متناوله زمناً شبيهاً بزمني، المستقبل غير مصنوع » .