كمال الصليبي
عودة إلى "التوراة جاءت من جزيرة العرب"
أورشليم و"الهيكل" و"إحصاء داود" .. في عسير
THE ARABIA BIBLE
Revisited
ترجمة: صخر الحاج حسين
زياد منى
شركة قدمس للنشر والتوزيع
ملاحظات لغوية وجغرافية حول التوراة العبرية
نص محاضرة ألقاها الدكتور كمال الصليبي في سمث كلدج (Smith College)في أيلول عام [1992]
قراءة متأنية
تسعى الدراسات الحديثة إلى القيام بأمرين فيما يتعلق بالتوراة العبرية:
أولهما: إعادة بناء المادة الأصل لنصوصها, ويسمى هذا نقدا نصيا, أو نقدا أدنى.
ثانيهما: إخضاع مضامينها للمعالجة الأدبية والتاريخية, وتسمى هذه العملية: النقد الأعلى.
يرى الدكتور الصليبي أن الأسئلة كانت تُطرح بجرأة , لكن الأجوبة عليها لم تكن بالجرأة التي طُرحت بها.
وهذا ما يشكل برأي الدكتور الصليبي أمرا جوهريا, ذلك أن دارسي التوراة اشتغلوا, في القرن الحالي أكثر ما فعلوه في القرن الذي سبقه, تحت وطأة إرث كبير من التحيز والمسلمات, فيما يتعلق بلغة التوراة والبيئة الجغرافية التي يتصل بهما التاريخ التوراتي.
يرى الدكتور الصليبي في دارسي التوراة الذين تصادف أنهم ناطقون باللغة العربية بوصفها اللغة الأم, ميزة أفضلية على الغير عند تعاملهم مع التوراة بوصفها نصا.
فاللغة العبرية "لغة مبهمة / غامضة", في حين أن اللغة العربية حية وترتبط بشكل وثيق مع عبرية التوراة.
وكلتا اللغتين (كتبت في الأصل بأبجدية ساكنة من دون حركات).
يذكرنا الدكتور الصليبي بحقيقة انه ما بين القرنين السادس والعاشر الميلادي , أصدرت مدرسة من الدارسين اليهود, عرفوا بالماسوريين, نسخة محركة من النصوص العبرية المقدسة عرفت باسم النص الماسوري.
مع ملاحظة أن الحركات التي وضعها الماسوريين لنطق "العبرية" أكثر مما نجده في العربية.
وهذه العملية اللغوية هي التي حولت اللغة العبرية إلى "لغة مبهمة / غامضة".
لأن الدكتور الصليبي يُدرس اللغة العبرية ولغته العربية هي اللغة الأم, عاد إلى دراسة النص العبري باعتبار أن جلّ مادته كتبها بشر يتحدثون بالعبرية وأن الأوصياء الكهنوتيين على هذه النصوص العبرية المقدسة أولوا الحفاظ على نقاء نصوصها الشيء الكثير من الاهتمام.
يشرح الدكتور الصليبي طريقته في معالجة النص التوراتي الإشكالي أو الغامض "بنيويا أو معجميا", بالقول:
أنه يأخذ النص قبل أن يحركه الماسوريون, ثم يتعامل معه تماما كما يتعامل مع نص عربي غير محرك.
عبر إعرابه وإعادة إعرابه من خلال قراءات مختلفة, إلى أن يعطي معنى كامل في اللغة العبرية القواعدية الواضحة, دونما إخلال بالقواعد.
وفي حال لم يكتمل المعنى في النص الإشكالي يعود الدكتور الصليبي إلى معاجم لغتنا العربية.
يقول الدكتور الصليبي: باختصار, إن الطريقة المثلى للتعامل مع عبرية التوراة هو عدها لغة مهجورة ومنسية, لزام فك رموزها من جديد, كلمة كلمة, وإعرابها, جملة جملة, كما يفعل المرء مع النقوش والكتابات في لغات ميتة في المنطقة, شان الأكادية, أو الأوغاريتية , أو المصرية القديمة.
إن لدى العلماء الناطقين بالعربية, والذين لم يتأثروا بالتعاليم المسيحية واليهودية السائدة, فرصة للقيام بالعمل الذي اقترحناه, ببصيرة لغوية أشد ولعا, وأكثر تلقائية من العلماء الآخرين.
من خلال عمله فيما يتعلق بالتوراة العبرية, الذي اقتصر على حل رموز ما هُجر منذ أمد بعيد بوصفة "مجهول" أو عبرية غامضة.
صادفت الدكتور الصليبي وككل دارسي التوراة مشكلات تتضمن أسماء أمكنة .
وهذا بالتحديد ما قاد الدكتور الصليبي إلى تقديم تصوره الخاص عن الجغرافيا التاريخية للتوراة العبرية.
والدكتور الصليبي يحدد جغرافية التوراة في غربي جزيرة العرب وليس في فلسطين, ويعزي ذلك لسبب بسيط: نحن نرى كثيرا من الأدلة التي تشير بعناد في ذلك الاتجاه. من جهة أخرى لا نرى أي دليل حقيقي يشير باتجاه فلسطين.
لنتابع مع الدكتور الصليبي شرحه لنظريته الثورية إذا جاز لنا التعبير:
في بداية الحقبة المسيحية, تم التسليم, بأن تاريخ "بني إسرءيل" التوراتي حفر مساره وبشكل رئيس في فلسطين.
في ما وصلنا من إرث مدون عن غربي جزيرة العرب, كما هو موجود في جل موروثها الشفاهي, يبرز "بني إسرءيل" بوصفهم السكان القدماء لذلك الإقليم.
وهاكم بعض الأمثلة.
يتحدث وهب بن منبه, وهو ابن ليهودي يمني اعتنق الإسلام في أيام النبي محمد, عن سليمان وعن ابنه رحبعام بوصفهما ملكين تعاقبا على حكم اليمن, وهو اسم لا ينطبق في الأصل على اليمن الحالية فقط, بل على إقليم غربي جزيرة العرب بأكمله, ليصل إلى مكة والطائف في الشمال.
ويروي وهب أيضا موروثا يتصل بمصير "تابوت العهد" الذي سكتت عنه التوراة والموروث المعروف الذي يتعلق بها سكوت غريبا.
يقول وهب بن منبه: إن "بني إسرءيل" وبعد أن هجروا ديارهم, بعد هزيمتهم على يد نبوخذ نصر (بختنصر), حملوا التابوت معهم إلى مكة, وهناك رموه هلعا وذعرا في أثناء هروبهم.
أما المكيون, وفي فعل تدنيس لا مسوغ له, فقد رموا بالتابوت المتروك إلى مزبلة من مزابل مدينتهم, ليضرب وباء مخيف المدينة بعد ذلك.
لكن إحدى العائلات المكية والتي تنسب نفسها إلى إسماعيل, كفرت عن خطيئة المكيين ورفعته من المزبلة واحتفظت به في بيت الأسلاف لعدة أجيال وأخيرا سلمته إلى يسوع "المسيح" عندما وصل ليزور مدينتهم.
هناك مثال آخر يأتينا هذه المرة من تفسير الطبري المعتمد للقرآن, من القرن التاسع للميلاد.
ينقل هذا الباحث, البارز, موروثا يتحدث عن مدينة ضِروان المدمرة شمالي اليمن بوصفها كانت فيما مضى, موقعا مزدهرا "لبني إسرءيل", أو مستوطنة في العصور القديمة, إلى أن دمرها ثوران بركاني.
يصف المؤرخون العرب الكلاسيكيون جميعهم نبوخذ نصر (بختنصر) على انه لم يخضع فلسطين بل غربي جزيرة العرب.
والواقعة التي تقول إن نبونيد/نبونعيد, والذي خلف نبوخذ نصر على عرش بابل, نقل عاصمته من بابل إلى تيماء في شمال الحجاز إلى موقع في فلسطين أو بالقرب منها, تتفق تماما مع ما يقوله أولئك المؤرخون العرب.
ولدى زيارة الرحالة الدمشقي ابن المجاور غربي جزيرة العرب في بدايات القرن الثالث عشر, والذي بدا انه ملم بالأدب التوراتي والأسطورة المتصلة بالتوراة, وصف المنطقة الجبلية الخصبة التي تقع بين الطائف واليمن, والتي قطنها سكان غالبيتهم من اليهود, على أنها "أرض اللبن والعسل".
وأكد السكان المحليون لبعض الرحالة الغربيين الذين زاروا منطقة عسير في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن أرضهم كانت أرض كل أنبياء "بني إسرءيل" وآبائهم الأوائل.
وحتى ترسيخ دعائم حكم المملكة السعودية على المنطقة, دأب اليمنيون والعسيريون على القيام برحلات حج منتظمة إلى أحد الأضرحة التاريخية على قمة جبل جنوب مكة أطلقوا عليه اسم (مُصلّى إبراهيم).
يتساءل الدكتور الصليبي لماذا علينا أن نعتبر هذا الموروث المحلي مجرد أسطورة حديثة العهد, ما لم يكن ذلك لسبب وجيه ؟.
لماذا علينا أن نؤيد القناعة التي أكسبها الزمن جلالا والتي تقول: إن أرض التوراة العبرية كانت فلسطين, وليست غربي جزيرة العرب ؟.
ويضع الدكتور الصليبي أمامنا حقيقة علمية ساطعة وحاسمة عندما يقول:
{بعد أكثر من قرن من الحفريات الأركيولوجية لم توجد في فلسطين ولا قصاصة تحمل دليلا أكيدا تثبت بشكل قاطع بان "بني إسرءيل" سادوا في تلك الأرض في الماضي}.
إن الأركيولوجيين من أصحاب التوجه العلمي يعرفون هذه الحقيقة, لكن نقدهم المبني على المنطق فيما يتعلق بالأركيولوجيا التوراتية لا يكاد يلاحظه أحد غير أهل الاختصاص.
يشير الدكتور الصليبي إلى حقيقة أن التصور الجيومورفولوجي التقليدي لأراضي الشرق الأدنى في حاجة لإعادة النظر, خصوصا فيما يتعلق بتضميناته التاريخية.
إن إعادة النظر تلك هي شرط لازم لفهم التاريخ القديم لهذه الأصقاع, وهو تاريخ مشوش إلى يومنا هذا, ومختلط بأفكار راسخة, مستمدة في النهاية من بدهيات تتصل بالتاريخ والجغرافية التوراتيين واللذين بقيا من دون مساءلة.
فمن المؤكد أن عبادة يهوه عُرفت في فلسطين منذ القرن الثامن قبل الميلاد, وربما من حقبة أقدم.
ومن الممكن أيضا أن العديد من "بني إسرءيل" عاشوا في تلك البلاد في الحقب التوراتية بوصفهم مستوطنين مهاجرين.
ولكن هذا أمر طبيعي ولا يخرج عن المألوف. فعلى الصعيد الجيومورفولوجي, تعد المرتفعات الجبلية لفلسطين, امتدادا نحو الشمال لتلك الموجودة في غربي جزيرة العرب, ويصدق هذا الكلام أيضا على جبال لبنان وجبال الساحل السوري.
لقد تأسست دولة يهودية في فلسطين في ظل حكم سلالة الحشمونيين الكهنوتية في القرن الثاني قبل الميلاد لتغيب عن الوجود في بداية القرن الثاني للميلاد.
ربما كان للحشمونيين والهيروديين, كل في حقبته, مصالح سياسية ودينية في جعل إقليمهم الفلسطيني ممرا نحو الأرض الأصلية لإسرءيل, وفي إطلاق الأسماء التوراتية على مواقع فلسطينية.
{وتبقى الحقيقة أن من بين الآلاف من أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة العبرية, فقط حفنة منها توجد في فلسطين, فلنقل ليس أكثر من ثلاثين أو أربعين أو خمسين اسم على ابعد تقدير}.
ومن جهة أخرى, لا يزال أكثر من [70%] من أسماء الأمكنة المذكورة في السرديات التاريخية للتوراة العبرية في غربي جزيرة العرب باقية, بأشكالها التوراتية العبرية.
والأكثر أهمية, فإن الإحداثيات الطبوغرافية التي زودتنا بها التوراة, أو استنتجت من نصوصها, تناسب أمكنة لا حصر لها تحمل أسماء توراتية في جزيرة العرب, (لكنها بالكاد تناسب الأمكنة القليلة التي تحمل مثل هذه الأسماء في فلسطين).
ما يقوله الدكتور الصليبي هو الحقيقة وليست محض خيال.
والحقيقة الأهم التي يوردها الدكتور الصليبي أن الأركيولوجيين حتى الآن قد أخفقوا في إيجاد دليل, ولو في الحد الأدنى, يدعمون به الاعتقاد السائد بان محيط المسجد الأقصى في القدس, حيث انتصب معبد هيرود (آرامي: حرد) فيما مضى, هو فعلا موقع هيكل سليمان, مع أنهم استخدموا احدث التقنيات الأركيولوجية وأكثرها دقة وتطورا بحثا عن بقايا ذلك الهيكل على موقعه الفلسطيني المتخيل.
أما بالنسبة للأركيولوجيا التوراتية, فإن اللقى الصغيرة التي روج لها في داخل بلدة إريحا الفلسطينية وما حولها, من دون أن نذكر المواقع التوراتية المزعومة الأخرى, لم تدعم ما ورد في تقارير النصوص المقدسة فيما يتعلق بالأسماء التوراتية /يرحو/ على نحو جلي, تاركة قامات علم التوراة الحديث في حال من الارتباك عاجزين عن شرح الحقيقة.
يصف لنا الدكتور الصليبي طبوغرافيا أرض التوراة العبرية الحقيقية في غربي جزيرة العرب فيقول:
تتألف هذه الأرض من إقليم يمتد على طول [700 كم] يحاذي البحر الأحمر, كما يمتد من المنطقة الجبلية في الطائف في الشمال إلى حدود اليمن في الجنوب, بعرض يتراوح بين [80] و[120] كم تقريبا.
وثمة منحدر صخري مهول يبدأ بانحدار حاد إلى حوالي [100] متر, ويشكل العماد الخلفي لهذا الإقليم, ويقسمه إلى أجزاء داخلية وأخرى بحرية تنحدر بدورها إلى مسالك جبلية شديدة التحدر باتجاه البحر الأحمر.
ومن خلال تأويل الدكتور الصليبي, فان /هـ يردن/ التوراتي, أو "الأردن", والذي لم يجد له وصفا في أي مكان آخر في التوراة العبرية كنهر (في العبرية /نهر/) هو المفردة التوراتية, المعادلة للمفردة العربية (ريدن), والتي تشير إلى الامتداد الكامل لمنحدر غربي جزيرة العرب, أو أجزاء بعينها منه.
لذا, فإن التعبير التوراتي /هـ يردن هزه/ يعني: هذا الجرف, بوصفه مميزا من الأجزاء الأخرى من المنحدر الصخري.
وفي الوقت الذي لا يمكن أن يوصف فيه نهر الأردن الفلسطيني, والمسمى في الأصل في العربية: الشريعة, ويعني "الجدول", على أنه (( بدن هائل من الماء يُعد عبوره مأثرة)), واضعين في الحسبان إمكانية عبوره بسهولة في عدد من المواقع ..
ومن خلال تأويل الدكتور الصليبي أيضا, فإن التعبير التوراتي /معبروت هيردن/ هو الممرات الصخرية التي يمكن من خلالها عبور المنحدر الصخري لغربي جزيرة العرب في بعض الأمكنة فقط.
ومن جهة أخرى يشير التعبير /مي هيردن/, أو (مياه اليردن) إلى تدفق الفيضانات المحلية التي تندفع بوابل مخيف على جانبي المنحدر خلال موسمي الأمطار, أي في أواخر الربيع وبدايات الخريف..
تاريخيا, شكل الإقليم العربي الذي نحن بصدده, الطريق العام الرئيس للتجارة البرية بين بلدان حوض المحيط الهندي وتلك التي تقع شرق البحر المتوسط.
وبعيدا عن أهميتها التجارية فللمنطقة بيئتها المتنوعة والتي تبرز تعايشا لافتا بين الزراعة والحياة الرعوية, والصيد والحياة الحراجية.
أما في الارتفاعات الأعلى فتتوجها أحراش من أشجار العرعر والسرو وصنوبريات أخرى.
وبحسب الجغرافي اليوناني سترابو فقد وجد الذهب في تلك الأنحاء بكتل ضخمة, ووفرة كبيرة, على سطح الأرض.
وأشار سترابو أيضا إلى أن كل أنواع الطيور والدواجن كانت موجودة هناك في تلك المنطقة باستثناء الأوز والدجاج.
وما يثير الاهتمام, ليس هناك من مقطع واحد في التوراة العبرية يذكر فيه الأوز أو الدجاج.
يتابع الدكتور الصليبي تأويلاته اللغوية فيقول, إن قمة مرتفعات عسير الجبلية الداخلية والتي يقع على حوافها المنحدر الصخري الكبير, كانت /هر/ التوراتية والتي تعني: جبل, أو: مرتفع, بينما كانت الانحدارات البحرية التي تقع غرب المنحدر الصخر هي /شفله/ التوراتية أو: الأرض المنخفضة, أو: الأرض الأكثر انخفاضا.
والمصطلح الأخير قريب من المصطلحين العربيين: سفلة, أو: ثفلة, واللذين يشيران إلى انخفاض مطلق أو نسبي.
ثمة قرية تدعى (ثُفلة) تقع عند سفح المنحدر, لا تزال تحتفظ حتى يومنا هذا بالتصور التوراتي عن المنطقة بوصفها /شفله/.
يصل الدكتور الصليبي إلى واحدة من أهم اكتشافاته اللغوية, فيقول,
{إن النجد الضيق الذي يمتد على طول قمة /هر/ كان إقليم /ءرص/ أورشليم (أعرب ككلمة مركبة /يرو شليم/ , ومنها يظهر الشكل العربي (يروسالم, في بعض الشعر العربي القديم لحقبة ما قبل الإسلام).
والأكثر احتمالا, فإن /عير/ (أو: المدينة العاصمة) لإقليم أورشليم هذا, والذي أطلق على مدينة القدس الفلسطينية تيمنا به في فترة زمنية ما, يتم تمثيلها في أيامنا هذه بالمدينتين التوءمين (أروى) و(السلام) باتجاه طرفه الجنوبي.
ولكننا لا يمكن أن نقصي الاحتمالات الأخرى.
لقد جسد مجسم نافر أرض يهوذا التوراتية وأبرز فيه حصار الملك الآشوري سنحاريب على لخيش /لكش/ والذي اكتشف بين آثار مدينة نينوى, وأخذ بعد ذلك إلى المتحف البريطاني.
يظهر المجسم سفح جبل كثير الصخور وتبرز على طول قمته أشجار الصنوبريات وتنوع من الأشجار المثمرة, بما في ذلك الكرمة, على الانحدارات الوسطى, مع مساحات من أشجار النخيل على امتداد قاعه.
وتظهر مدينة لخيش المحاصرة, في الجانب الأكثر انخفاضا من المنطقة الوسطى.
بعد اعتماد الدارسين للخيش التوراتية على أنها كانت موقعا فلسطينيا, شرعوا يسألون عن السبب الذي دفع الفنان الآشوري الذي صنع المجسم, لتصوير البلدة وضواحيها الفلسطينية على أنها جبلية وصخرية.
يقول الدكتور الصليبي: مع الاحترام الشديد للأركيولوجيين والأبيغرافيين الذين أطلقوا اسم لخيش على موقع (تل الدوير) في فلسطين, والذين قنعوا باعتماد الحروف /ل ك س/ التي ظهرت على واحدة من الكسَر الفخارية المنقوشة التي اكتشفت بين آثاره, كدليل لهم فقط.
إن /لَخيشَ/ التوراتية الفعلية, ((كما نجزم بذلك)), تمثلها اليوم قرية تدعى: لكثة, تقع على الانحدارات الجبلية الصخرية عند سفح منحدر عسير الصخري.
وتتطابق (لكثة) بوصفها اسما لمكان في شكلها العربي مع /لخيش/ التوراتية.
ولدى زيارة الدكتور الصليبي للموقع أذهله الدقة التي يصور بها المجسم الآشوري موقعها ومحيطها في غربي جزيرة العرب.
لنتابع مع الدكتور الصليبي رؤيته اللغوية الجغرافية الدقيقة, يقول, أنه وبالاستناد إلى الروايات التوراتية, تقع إلى الجنوب من /هر/ منطقة /نجبة/ وتعني, حرفيا (بلاد الجنوب), اليوم هي المنطقة الجبلية لغربي جزيرة العرب من منطقة الجنوب.
ويعني الاسم العربي الحالي لهذه المنطقة الجبلية أيضا (بلد الجنوب).
في تلك المنطقة يجد المرء قرية (شبعة) والتي تحمل حتى هذا اليوم الاسم التوراتي /بءر شبع/ في شكله الآخر المثبت شبعا /شبعه/ والذي يعني: الكمية, الوفرة (انظر سفر التكوين 33: 26).
وتشكل (الشباعة) اليوم جانبا من مدينة خميس مُشيط المترامية الأطراف.
ويؤول سفر التكوين اسم هذا المكان ليعني: بئر السبعة, أو: بئر القَسَم.
يمكن القول أيضا: إن (بئر السبع), البلدة الفلسطينية, تحمل شكلا عربيا للاسم التوراتي /بءر شبع/, بمعنى: بئر السبعة, ومن جهة أخرى, يمكن أن تكون /بءر شبع/ اسما مختلفا تماما, كما هو معناها الأقرب, في اللغة العربية أي: بئر الوحش الكاسر.
وفي أي حال, أخفقت الأركيولوجيا حتى الآن في تأسيس أي صلة معقولة بحق, فما بالك بصلة حاسمة قاطعة, بين بئر السبع الفلسطينية و /بءر شبع/ أو /شبعه/ التوراة العبرية.
يقول الدكتور الصليبي أن بلدة (دان) /دن/ التوراتية التي أسسها "بنو يسرءيل" بحسب سفر القضاة [18], هي اليوم قرية (الدنادنة) في الشمال الأقصى من الانحدارات البحرية من إقليم غربي جزيرة العرب, والتي يعني اسمها بالعربية: بنو دان.
ويؤول العبارة التوراتية "من دان إلى بئر السبع" لكي يصف الامتداد الكامل "بني يسرءيل" في غربي جزيرة العرب. بوصفه يعني من "الدنادنة إلى الشباعة" .
ويتجاوز الدكتور الصليبي المعاينة الأولية التي قام بها, ويؤكد انه لم يكن هناك من حفريات فعلية تؤرخ حتى اليوم, لهذا الإقليم الغني أركيولوجيا والذي تتمركز فيه أسماء الأمكنة التوراتية إلى درجة كبيرة.
إن الطوبونيميا وبوصفها علما يدرس أسماء الأمكنة بمصطلحات اللغويات التعاقبية هي شكل من إشكال الأركيولوجيا.
ومن المخزون الهائل من أسماء الأمكنة التوراتية التي لا تزال موجودة في أنحاء من غربي جزيرة العرب كنا قد وصفناها, ستفي بعض العينات العشوائية بالغرض للوقت الحاضر.
يعالج الدكتور الصليبي مسألة /حبرون/ التوراتية مكان إقامة إبراهيم, وعاصمة داود عندما كان ملكا على يهوذا, قبل أن يصبح ملكا على "بني يسرءيل" جميعهم.
إن المعاجم العبرية القياسية تشتق اسم المكان من الجذر /حبر/ مع الإشارة إلى أن معادله في اللغة العربية هو: خبر.
لذا فإن الشكل العربي لحبرون التوراتية يجب أن يكون شيئا مثل: "خبران".
تم تحديد حبرون في نص سفر التكوين بوصفها المكان عينه مثل (قرية أربع), مع مكان قريب يدعى /مكفله/, حيث أفيد بأن إبراهيم اشترى حقلا بكهف وجعله مدفنا لعائلته.
أما /مكفله/ التوراتية, والذي لا يعرف لاسمها وجود في فلسطين, فهي اليوم القرية التي تدعى بالتحديد (المقفلة) وتقع في المنطقة الجبلية لعسير التي تقع على الساحل والتي تشكل ما نعده أرض يهوذا التوراتية فيما مضى.
وبالقرب منها مجمع يتألف من أربع قرى بالضبط, تحمل كل منها اسما مركبا يبدأ بكلمة "قرية".
وبالقرب من المقفلة تماما ومجمع القرى الأربع, تقع قرية خربان وهي تغير في مواقع حروف كلمة "خبران" والتي لا بد أنها كانت حبرون التوراتية.
وإذا مضينا مع الروايات التوراتية, فإن بلدة جبعون /جبعون/ تقع قرب حبرون.
ثمة قرية قريبة من خربان التي تقع في غربي جزيرة العرب, تدعى حتى يومنا هذا (الجبعان) ويتطابق اسمها مع الاسم التوراتي /جبعون/.
12/1/2010
زياد هواش
..
عودة إلى "التوراة جاءت من جزيرة العرب"
أورشليم و"الهيكل" و"إحصاء داود" .. في عسير
THE ARABIA BIBLE
Revisited
ترجمة: صخر الحاج حسين
زياد منى
شركة قدمس للنشر والتوزيع
ملاحظات لغوية وجغرافية حول التوراة العبرية
نص محاضرة ألقاها الدكتور كمال الصليبي في سمث كلدج (Smith College)في أيلول عام [1992]
قراءة متأنية
تسعى الدراسات الحديثة إلى القيام بأمرين فيما يتعلق بالتوراة العبرية:
أولهما: إعادة بناء المادة الأصل لنصوصها, ويسمى هذا نقدا نصيا, أو نقدا أدنى.
ثانيهما: إخضاع مضامينها للمعالجة الأدبية والتاريخية, وتسمى هذه العملية: النقد الأعلى.
يرى الدكتور الصليبي أن الأسئلة كانت تُطرح بجرأة , لكن الأجوبة عليها لم تكن بالجرأة التي طُرحت بها.
وهذا ما يشكل برأي الدكتور الصليبي أمرا جوهريا, ذلك أن دارسي التوراة اشتغلوا, في القرن الحالي أكثر ما فعلوه في القرن الذي سبقه, تحت وطأة إرث كبير من التحيز والمسلمات, فيما يتعلق بلغة التوراة والبيئة الجغرافية التي يتصل بهما التاريخ التوراتي.
يرى الدكتور الصليبي في دارسي التوراة الذين تصادف أنهم ناطقون باللغة العربية بوصفها اللغة الأم, ميزة أفضلية على الغير عند تعاملهم مع التوراة بوصفها نصا.
فاللغة العبرية "لغة مبهمة / غامضة", في حين أن اللغة العربية حية وترتبط بشكل وثيق مع عبرية التوراة.
وكلتا اللغتين (كتبت في الأصل بأبجدية ساكنة من دون حركات).
يذكرنا الدكتور الصليبي بحقيقة انه ما بين القرنين السادس والعاشر الميلادي , أصدرت مدرسة من الدارسين اليهود, عرفوا بالماسوريين, نسخة محركة من النصوص العبرية المقدسة عرفت باسم النص الماسوري.
مع ملاحظة أن الحركات التي وضعها الماسوريين لنطق "العبرية" أكثر مما نجده في العربية.
وهذه العملية اللغوية هي التي حولت اللغة العبرية إلى "لغة مبهمة / غامضة".
لأن الدكتور الصليبي يُدرس اللغة العبرية ولغته العربية هي اللغة الأم, عاد إلى دراسة النص العبري باعتبار أن جلّ مادته كتبها بشر يتحدثون بالعبرية وأن الأوصياء الكهنوتيين على هذه النصوص العبرية المقدسة أولوا الحفاظ على نقاء نصوصها الشيء الكثير من الاهتمام.
يشرح الدكتور الصليبي طريقته في معالجة النص التوراتي الإشكالي أو الغامض "بنيويا أو معجميا", بالقول:
أنه يأخذ النص قبل أن يحركه الماسوريون, ثم يتعامل معه تماما كما يتعامل مع نص عربي غير محرك.
عبر إعرابه وإعادة إعرابه من خلال قراءات مختلفة, إلى أن يعطي معنى كامل في اللغة العبرية القواعدية الواضحة, دونما إخلال بالقواعد.
وفي حال لم يكتمل المعنى في النص الإشكالي يعود الدكتور الصليبي إلى معاجم لغتنا العربية.
يقول الدكتور الصليبي: باختصار, إن الطريقة المثلى للتعامل مع عبرية التوراة هو عدها لغة مهجورة ومنسية, لزام فك رموزها من جديد, كلمة كلمة, وإعرابها, جملة جملة, كما يفعل المرء مع النقوش والكتابات في لغات ميتة في المنطقة, شان الأكادية, أو الأوغاريتية , أو المصرية القديمة.
إن لدى العلماء الناطقين بالعربية, والذين لم يتأثروا بالتعاليم المسيحية واليهودية السائدة, فرصة للقيام بالعمل الذي اقترحناه, ببصيرة لغوية أشد ولعا, وأكثر تلقائية من العلماء الآخرين.
من خلال عمله فيما يتعلق بالتوراة العبرية, الذي اقتصر على حل رموز ما هُجر منذ أمد بعيد بوصفة "مجهول" أو عبرية غامضة.
صادفت الدكتور الصليبي وككل دارسي التوراة مشكلات تتضمن أسماء أمكنة .
وهذا بالتحديد ما قاد الدكتور الصليبي إلى تقديم تصوره الخاص عن الجغرافيا التاريخية للتوراة العبرية.
والدكتور الصليبي يحدد جغرافية التوراة في غربي جزيرة العرب وليس في فلسطين, ويعزي ذلك لسبب بسيط: نحن نرى كثيرا من الأدلة التي تشير بعناد في ذلك الاتجاه. من جهة أخرى لا نرى أي دليل حقيقي يشير باتجاه فلسطين.
لنتابع مع الدكتور الصليبي شرحه لنظريته الثورية إذا جاز لنا التعبير:
في بداية الحقبة المسيحية, تم التسليم, بأن تاريخ "بني إسرءيل" التوراتي حفر مساره وبشكل رئيس في فلسطين.
في ما وصلنا من إرث مدون عن غربي جزيرة العرب, كما هو موجود في جل موروثها الشفاهي, يبرز "بني إسرءيل" بوصفهم السكان القدماء لذلك الإقليم.
وهاكم بعض الأمثلة.
يتحدث وهب بن منبه, وهو ابن ليهودي يمني اعتنق الإسلام في أيام النبي محمد, عن سليمان وعن ابنه رحبعام بوصفهما ملكين تعاقبا على حكم اليمن, وهو اسم لا ينطبق في الأصل على اليمن الحالية فقط, بل على إقليم غربي جزيرة العرب بأكمله, ليصل إلى مكة والطائف في الشمال.
ويروي وهب أيضا موروثا يتصل بمصير "تابوت العهد" الذي سكتت عنه التوراة والموروث المعروف الذي يتعلق بها سكوت غريبا.
يقول وهب بن منبه: إن "بني إسرءيل" وبعد أن هجروا ديارهم, بعد هزيمتهم على يد نبوخذ نصر (بختنصر), حملوا التابوت معهم إلى مكة, وهناك رموه هلعا وذعرا في أثناء هروبهم.
أما المكيون, وفي فعل تدنيس لا مسوغ له, فقد رموا بالتابوت المتروك إلى مزبلة من مزابل مدينتهم, ليضرب وباء مخيف المدينة بعد ذلك.
لكن إحدى العائلات المكية والتي تنسب نفسها إلى إسماعيل, كفرت عن خطيئة المكيين ورفعته من المزبلة واحتفظت به في بيت الأسلاف لعدة أجيال وأخيرا سلمته إلى يسوع "المسيح" عندما وصل ليزور مدينتهم.
هناك مثال آخر يأتينا هذه المرة من تفسير الطبري المعتمد للقرآن, من القرن التاسع للميلاد.
ينقل هذا الباحث, البارز, موروثا يتحدث عن مدينة ضِروان المدمرة شمالي اليمن بوصفها كانت فيما مضى, موقعا مزدهرا "لبني إسرءيل", أو مستوطنة في العصور القديمة, إلى أن دمرها ثوران بركاني.
يصف المؤرخون العرب الكلاسيكيون جميعهم نبوخذ نصر (بختنصر) على انه لم يخضع فلسطين بل غربي جزيرة العرب.
والواقعة التي تقول إن نبونيد/نبونعيد, والذي خلف نبوخذ نصر على عرش بابل, نقل عاصمته من بابل إلى تيماء في شمال الحجاز إلى موقع في فلسطين أو بالقرب منها, تتفق تماما مع ما يقوله أولئك المؤرخون العرب.
ولدى زيارة الرحالة الدمشقي ابن المجاور غربي جزيرة العرب في بدايات القرن الثالث عشر, والذي بدا انه ملم بالأدب التوراتي والأسطورة المتصلة بالتوراة, وصف المنطقة الجبلية الخصبة التي تقع بين الطائف واليمن, والتي قطنها سكان غالبيتهم من اليهود, على أنها "أرض اللبن والعسل".
وأكد السكان المحليون لبعض الرحالة الغربيين الذين زاروا منطقة عسير في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن أرضهم كانت أرض كل أنبياء "بني إسرءيل" وآبائهم الأوائل.
وحتى ترسيخ دعائم حكم المملكة السعودية على المنطقة, دأب اليمنيون والعسيريون على القيام برحلات حج منتظمة إلى أحد الأضرحة التاريخية على قمة جبل جنوب مكة أطلقوا عليه اسم (مُصلّى إبراهيم).
يتساءل الدكتور الصليبي لماذا علينا أن نعتبر هذا الموروث المحلي مجرد أسطورة حديثة العهد, ما لم يكن ذلك لسبب وجيه ؟.
لماذا علينا أن نؤيد القناعة التي أكسبها الزمن جلالا والتي تقول: إن أرض التوراة العبرية كانت فلسطين, وليست غربي جزيرة العرب ؟.
ويضع الدكتور الصليبي أمامنا حقيقة علمية ساطعة وحاسمة عندما يقول:
{بعد أكثر من قرن من الحفريات الأركيولوجية لم توجد في فلسطين ولا قصاصة تحمل دليلا أكيدا تثبت بشكل قاطع بان "بني إسرءيل" سادوا في تلك الأرض في الماضي}.
إن الأركيولوجيين من أصحاب التوجه العلمي يعرفون هذه الحقيقة, لكن نقدهم المبني على المنطق فيما يتعلق بالأركيولوجيا التوراتية لا يكاد يلاحظه أحد غير أهل الاختصاص.
يشير الدكتور الصليبي إلى حقيقة أن التصور الجيومورفولوجي التقليدي لأراضي الشرق الأدنى في حاجة لإعادة النظر, خصوصا فيما يتعلق بتضميناته التاريخية.
إن إعادة النظر تلك هي شرط لازم لفهم التاريخ القديم لهذه الأصقاع, وهو تاريخ مشوش إلى يومنا هذا, ومختلط بأفكار راسخة, مستمدة في النهاية من بدهيات تتصل بالتاريخ والجغرافية التوراتيين واللذين بقيا من دون مساءلة.
فمن المؤكد أن عبادة يهوه عُرفت في فلسطين منذ القرن الثامن قبل الميلاد, وربما من حقبة أقدم.
ومن الممكن أيضا أن العديد من "بني إسرءيل" عاشوا في تلك البلاد في الحقب التوراتية بوصفهم مستوطنين مهاجرين.
ولكن هذا أمر طبيعي ولا يخرج عن المألوف. فعلى الصعيد الجيومورفولوجي, تعد المرتفعات الجبلية لفلسطين, امتدادا نحو الشمال لتلك الموجودة في غربي جزيرة العرب, ويصدق هذا الكلام أيضا على جبال لبنان وجبال الساحل السوري.
لقد تأسست دولة يهودية في فلسطين في ظل حكم سلالة الحشمونيين الكهنوتية في القرن الثاني قبل الميلاد لتغيب عن الوجود في بداية القرن الثاني للميلاد.
ربما كان للحشمونيين والهيروديين, كل في حقبته, مصالح سياسية ودينية في جعل إقليمهم الفلسطيني ممرا نحو الأرض الأصلية لإسرءيل, وفي إطلاق الأسماء التوراتية على مواقع فلسطينية.
{وتبقى الحقيقة أن من بين الآلاف من أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة العبرية, فقط حفنة منها توجد في فلسطين, فلنقل ليس أكثر من ثلاثين أو أربعين أو خمسين اسم على ابعد تقدير}.
ومن جهة أخرى, لا يزال أكثر من [70%] من أسماء الأمكنة المذكورة في السرديات التاريخية للتوراة العبرية في غربي جزيرة العرب باقية, بأشكالها التوراتية العبرية.
والأكثر أهمية, فإن الإحداثيات الطبوغرافية التي زودتنا بها التوراة, أو استنتجت من نصوصها, تناسب أمكنة لا حصر لها تحمل أسماء توراتية في جزيرة العرب, (لكنها بالكاد تناسب الأمكنة القليلة التي تحمل مثل هذه الأسماء في فلسطين).
ما يقوله الدكتور الصليبي هو الحقيقة وليست محض خيال.
والحقيقة الأهم التي يوردها الدكتور الصليبي أن الأركيولوجيين حتى الآن قد أخفقوا في إيجاد دليل, ولو في الحد الأدنى, يدعمون به الاعتقاد السائد بان محيط المسجد الأقصى في القدس, حيث انتصب معبد هيرود (آرامي: حرد) فيما مضى, هو فعلا موقع هيكل سليمان, مع أنهم استخدموا احدث التقنيات الأركيولوجية وأكثرها دقة وتطورا بحثا عن بقايا ذلك الهيكل على موقعه الفلسطيني المتخيل.
أما بالنسبة للأركيولوجيا التوراتية, فإن اللقى الصغيرة التي روج لها في داخل بلدة إريحا الفلسطينية وما حولها, من دون أن نذكر المواقع التوراتية المزعومة الأخرى, لم تدعم ما ورد في تقارير النصوص المقدسة فيما يتعلق بالأسماء التوراتية /يرحو/ على نحو جلي, تاركة قامات علم التوراة الحديث في حال من الارتباك عاجزين عن شرح الحقيقة.
يصف لنا الدكتور الصليبي طبوغرافيا أرض التوراة العبرية الحقيقية في غربي جزيرة العرب فيقول:
تتألف هذه الأرض من إقليم يمتد على طول [700 كم] يحاذي البحر الأحمر, كما يمتد من المنطقة الجبلية في الطائف في الشمال إلى حدود اليمن في الجنوب, بعرض يتراوح بين [80] و[120] كم تقريبا.
وثمة منحدر صخري مهول يبدأ بانحدار حاد إلى حوالي [100] متر, ويشكل العماد الخلفي لهذا الإقليم, ويقسمه إلى أجزاء داخلية وأخرى بحرية تنحدر بدورها إلى مسالك جبلية شديدة التحدر باتجاه البحر الأحمر.
ومن خلال تأويل الدكتور الصليبي, فان /هـ يردن/ التوراتي, أو "الأردن", والذي لم يجد له وصفا في أي مكان آخر في التوراة العبرية كنهر (في العبرية /نهر/) هو المفردة التوراتية, المعادلة للمفردة العربية (ريدن), والتي تشير إلى الامتداد الكامل لمنحدر غربي جزيرة العرب, أو أجزاء بعينها منه.
لذا, فإن التعبير التوراتي /هـ يردن هزه/ يعني: هذا الجرف, بوصفه مميزا من الأجزاء الأخرى من المنحدر الصخري.
وفي الوقت الذي لا يمكن أن يوصف فيه نهر الأردن الفلسطيني, والمسمى في الأصل في العربية: الشريعة, ويعني "الجدول", على أنه (( بدن هائل من الماء يُعد عبوره مأثرة)), واضعين في الحسبان إمكانية عبوره بسهولة في عدد من المواقع ..
ومن خلال تأويل الدكتور الصليبي أيضا, فإن التعبير التوراتي /معبروت هيردن/ هو الممرات الصخرية التي يمكن من خلالها عبور المنحدر الصخري لغربي جزيرة العرب في بعض الأمكنة فقط.
ومن جهة أخرى يشير التعبير /مي هيردن/, أو (مياه اليردن) إلى تدفق الفيضانات المحلية التي تندفع بوابل مخيف على جانبي المنحدر خلال موسمي الأمطار, أي في أواخر الربيع وبدايات الخريف..
تاريخيا, شكل الإقليم العربي الذي نحن بصدده, الطريق العام الرئيس للتجارة البرية بين بلدان حوض المحيط الهندي وتلك التي تقع شرق البحر المتوسط.
وبعيدا عن أهميتها التجارية فللمنطقة بيئتها المتنوعة والتي تبرز تعايشا لافتا بين الزراعة والحياة الرعوية, والصيد والحياة الحراجية.
أما في الارتفاعات الأعلى فتتوجها أحراش من أشجار العرعر والسرو وصنوبريات أخرى.
وبحسب الجغرافي اليوناني سترابو فقد وجد الذهب في تلك الأنحاء بكتل ضخمة, ووفرة كبيرة, على سطح الأرض.
وأشار سترابو أيضا إلى أن كل أنواع الطيور والدواجن كانت موجودة هناك في تلك المنطقة باستثناء الأوز والدجاج.
وما يثير الاهتمام, ليس هناك من مقطع واحد في التوراة العبرية يذكر فيه الأوز أو الدجاج.
يتابع الدكتور الصليبي تأويلاته اللغوية فيقول, إن قمة مرتفعات عسير الجبلية الداخلية والتي يقع على حوافها المنحدر الصخري الكبير, كانت /هر/ التوراتية والتي تعني: جبل, أو: مرتفع, بينما كانت الانحدارات البحرية التي تقع غرب المنحدر الصخر هي /شفله/ التوراتية أو: الأرض المنخفضة, أو: الأرض الأكثر انخفاضا.
والمصطلح الأخير قريب من المصطلحين العربيين: سفلة, أو: ثفلة, واللذين يشيران إلى انخفاض مطلق أو نسبي.
ثمة قرية تدعى (ثُفلة) تقع عند سفح المنحدر, لا تزال تحتفظ حتى يومنا هذا بالتصور التوراتي عن المنطقة بوصفها /شفله/.
يصل الدكتور الصليبي إلى واحدة من أهم اكتشافاته اللغوية, فيقول,
{إن النجد الضيق الذي يمتد على طول قمة /هر/ كان إقليم /ءرص/ أورشليم (أعرب ككلمة مركبة /يرو شليم/ , ومنها يظهر الشكل العربي (يروسالم, في بعض الشعر العربي القديم لحقبة ما قبل الإسلام).
والأكثر احتمالا, فإن /عير/ (أو: المدينة العاصمة) لإقليم أورشليم هذا, والذي أطلق على مدينة القدس الفلسطينية تيمنا به في فترة زمنية ما, يتم تمثيلها في أيامنا هذه بالمدينتين التوءمين (أروى) و(السلام) باتجاه طرفه الجنوبي.
ولكننا لا يمكن أن نقصي الاحتمالات الأخرى.
لقد جسد مجسم نافر أرض يهوذا التوراتية وأبرز فيه حصار الملك الآشوري سنحاريب على لخيش /لكش/ والذي اكتشف بين آثار مدينة نينوى, وأخذ بعد ذلك إلى المتحف البريطاني.
يظهر المجسم سفح جبل كثير الصخور وتبرز على طول قمته أشجار الصنوبريات وتنوع من الأشجار المثمرة, بما في ذلك الكرمة, على الانحدارات الوسطى, مع مساحات من أشجار النخيل على امتداد قاعه.
وتظهر مدينة لخيش المحاصرة, في الجانب الأكثر انخفاضا من المنطقة الوسطى.
بعد اعتماد الدارسين للخيش التوراتية على أنها كانت موقعا فلسطينيا, شرعوا يسألون عن السبب الذي دفع الفنان الآشوري الذي صنع المجسم, لتصوير البلدة وضواحيها الفلسطينية على أنها جبلية وصخرية.
يقول الدكتور الصليبي: مع الاحترام الشديد للأركيولوجيين والأبيغرافيين الذين أطلقوا اسم لخيش على موقع (تل الدوير) في فلسطين, والذين قنعوا باعتماد الحروف /ل ك س/ التي ظهرت على واحدة من الكسَر الفخارية المنقوشة التي اكتشفت بين آثاره, كدليل لهم فقط.
إن /لَخيشَ/ التوراتية الفعلية, ((كما نجزم بذلك)), تمثلها اليوم قرية تدعى: لكثة, تقع على الانحدارات الجبلية الصخرية عند سفح منحدر عسير الصخري.
وتتطابق (لكثة) بوصفها اسما لمكان في شكلها العربي مع /لخيش/ التوراتية.
ولدى زيارة الدكتور الصليبي للموقع أذهله الدقة التي يصور بها المجسم الآشوري موقعها ومحيطها في غربي جزيرة العرب.
لنتابع مع الدكتور الصليبي رؤيته اللغوية الجغرافية الدقيقة, يقول, أنه وبالاستناد إلى الروايات التوراتية, تقع إلى الجنوب من /هر/ منطقة /نجبة/ وتعني, حرفيا (بلاد الجنوب), اليوم هي المنطقة الجبلية لغربي جزيرة العرب من منطقة الجنوب.
ويعني الاسم العربي الحالي لهذه المنطقة الجبلية أيضا (بلد الجنوب).
في تلك المنطقة يجد المرء قرية (شبعة) والتي تحمل حتى هذا اليوم الاسم التوراتي /بءر شبع/ في شكله الآخر المثبت شبعا /شبعه/ والذي يعني: الكمية, الوفرة (انظر سفر التكوين 33: 26).
وتشكل (الشباعة) اليوم جانبا من مدينة خميس مُشيط المترامية الأطراف.
ويؤول سفر التكوين اسم هذا المكان ليعني: بئر السبعة, أو: بئر القَسَم.
يمكن القول أيضا: إن (بئر السبع), البلدة الفلسطينية, تحمل شكلا عربيا للاسم التوراتي /بءر شبع/, بمعنى: بئر السبعة, ومن جهة أخرى, يمكن أن تكون /بءر شبع/ اسما مختلفا تماما, كما هو معناها الأقرب, في اللغة العربية أي: بئر الوحش الكاسر.
وفي أي حال, أخفقت الأركيولوجيا حتى الآن في تأسيس أي صلة معقولة بحق, فما بالك بصلة حاسمة قاطعة, بين بئر السبع الفلسطينية و /بءر شبع/ أو /شبعه/ التوراة العبرية.
يقول الدكتور الصليبي أن بلدة (دان) /دن/ التوراتية التي أسسها "بنو يسرءيل" بحسب سفر القضاة [18], هي اليوم قرية (الدنادنة) في الشمال الأقصى من الانحدارات البحرية من إقليم غربي جزيرة العرب, والتي يعني اسمها بالعربية: بنو دان.
ويؤول العبارة التوراتية "من دان إلى بئر السبع" لكي يصف الامتداد الكامل "بني يسرءيل" في غربي جزيرة العرب. بوصفه يعني من "الدنادنة إلى الشباعة" .
ويتجاوز الدكتور الصليبي المعاينة الأولية التي قام بها, ويؤكد انه لم يكن هناك من حفريات فعلية تؤرخ حتى اليوم, لهذا الإقليم الغني أركيولوجيا والذي تتمركز فيه أسماء الأمكنة التوراتية إلى درجة كبيرة.
إن الطوبونيميا وبوصفها علما يدرس أسماء الأمكنة بمصطلحات اللغويات التعاقبية هي شكل من إشكال الأركيولوجيا.
ومن المخزون الهائل من أسماء الأمكنة التوراتية التي لا تزال موجودة في أنحاء من غربي جزيرة العرب كنا قد وصفناها, ستفي بعض العينات العشوائية بالغرض للوقت الحاضر.
يعالج الدكتور الصليبي مسألة /حبرون/ التوراتية مكان إقامة إبراهيم, وعاصمة داود عندما كان ملكا على يهوذا, قبل أن يصبح ملكا على "بني يسرءيل" جميعهم.
إن المعاجم العبرية القياسية تشتق اسم المكان من الجذر /حبر/ مع الإشارة إلى أن معادله في اللغة العربية هو: خبر.
لذا فإن الشكل العربي لحبرون التوراتية يجب أن يكون شيئا مثل: "خبران".
تم تحديد حبرون في نص سفر التكوين بوصفها المكان عينه مثل (قرية أربع), مع مكان قريب يدعى /مكفله/, حيث أفيد بأن إبراهيم اشترى حقلا بكهف وجعله مدفنا لعائلته.
أما /مكفله/ التوراتية, والذي لا يعرف لاسمها وجود في فلسطين, فهي اليوم القرية التي تدعى بالتحديد (المقفلة) وتقع في المنطقة الجبلية لعسير التي تقع على الساحل والتي تشكل ما نعده أرض يهوذا التوراتية فيما مضى.
وبالقرب منها مجمع يتألف من أربع قرى بالضبط, تحمل كل منها اسما مركبا يبدأ بكلمة "قرية".
وبالقرب من المقفلة تماما ومجمع القرى الأربع, تقع قرية خربان وهي تغير في مواقع حروف كلمة "خبران" والتي لا بد أنها كانت حبرون التوراتية.
وإذا مضينا مع الروايات التوراتية, فإن بلدة جبعون /جبعون/ تقع قرب حبرون.
ثمة قرية قريبة من خربان التي تقع في غربي جزيرة العرب, تدعى حتى يومنا هذا (الجبعان) ويتطابق اسمها مع الاسم التوراتي /جبعون/.
12/1/2010
زياد هواش
..