بانوراما الاصلاح السياسي
الدكتور غالب الفريجات
مقدمة : ـ
الاصلاح السياسي ضرورة وطنية يتطلبها النظام السياسي والمجتمع ، ولا يمكن اغفالها او تجاهلها ، لان ذلك ان تحكم على النظام السياسي بالتكلس ، واطلاق رصاصة الرحمة على مستقبله، ومن مهمات قوى المجتمع السياسية والنقابية ومؤسسات المجتمع المحلي ، ان تطالب النظام السياسي وباستمرار على السير في هذا الطريق ، لانه وبدون الاصلاح السياسي لا تستطيع هذه القوى الحصول على ضمان استمرارية وجودها .
اننا احوج ما نسعى الى عملية الاصلاح السياسي في وطننا ، لاننا حرمنا من العمل السياسي طيلة ما يزيد عن اربعين عاما من عمر الدولة الوطنية ، وان حرماننا من حرية العمل السياسي خلق حالة من اليأس والاحباط لدى جماهيرنا ، التي وصلت الى الى عدم قناعتها بجدوى كل ما يجري على السطح من محاولات الترقيع ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، فالمطلوب ان نحث الخطى في العمل في طريق الاصلاح السياسي ، لتعويض ما فاتنا من اشواط قطعته بلدان غيرنا ، ولنعوض الزمن الذي اضاعته علينا مرحلة الاحكام العرفية ، التي كممت الافواه ، وقيدت الايدي والارجل عن الحركة ، في سبيل التطور والتقدم .
الاصلاح السياسي ليس مهمة فرد او مجموعة ، هو مهمة المجتمع ، مهمة الدولة في عموم ابنائها في السلطة وخارجها ، فالسلطة عليها ان تحث الخطى في سبيل ذلك ، وان تكون نوافذها مشرعة امام اي مطالبة لقوى المجتمع الحية ، الممثلة بالاحزاب السياسية والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني ، وهذه المؤسسات عليها واجب الاصرار على السير في هذا الطريق، ايا كانت العقبات التي تعيق الحركة ، وايا كانت قوى الشد الى الوراء ، من ممارسات لا تحمل في طياتها مصلحة الوطن والمواطن .
اننا في هذا الظرف الذي نمر به ، والمتربصون خلف اسوار الوطن يضمرون الشر لوطننا ، اكثر الحاحا على ان ضمانة الدفاع عن الوطن ، تكمن في الاصلاح السياسي الذي يعزز من قيمة الانسان ، ويجعل منه جنديا مدافعا عن وطن يحتضنه ، ويؤمن السلامة لأطفاله ، لان الانسان مادة الاصلاح وهدفه ، ان تمكن من امتلاك الارادة الحرة ، قادر على ان يشكل السياج الحديدي الذي يحيط بحدود الوطن ، ويمنع عنه اي طامع فيه .
الاصلاح السياسي مطلب جماهيري ، ومسؤولية النظام السياسي ان تستجيب لمطالب الجماهير ، لأن الحياة على ارض الوطن لا تستقيم بوجود فجوة بين الجماهير الشعبية والنظام السياسي ، الذي يحجم او يتردد في الاستجابة لمصالحها ، والاكان الانفجار بسبب حالة اليأس والاحباط ، التي تطغى على حياة المواطن ، في ظل الأزمات التي تعصف به ، وسنتحدث عن مفهومنا الى الاصلاح السياسي من خلال مايلي : ـ
1ـ عملية التحول الديمقراطي
نغالط انفسنا ، ونلوي عنق الحقيقة ، وندوس على ارضية الواقع ، ان ادعينا بأننا نملك ديمقراطية، او نمارس الحد الأدنى منها في وطننا ، في ظل ما يتم من اجراءات السلطة التنفيذية، باصدار القوانين المؤقتة ، وتطبيق قانون الصوت الواحد بأسوأ صوره ، وممارسة الأجهزة المعطلة لحركة المجتمع في الذهنية العرفية للقائمين عليها .
نحن في مرحلة اكثر ما يمكن أن نطلق عليها بداية التطلع الى التحول الديمقراطي ، وما زلنا في بداية الطريق في هذه المرحلة ، وقد باءت العديد من محاولاتنا على هذا الطريق بالفشل ، ووصلنا الى طريق مسدود ، تتطلب منا ان نكون جادين في التطلع للسير بخطى ثابتة ، لتحقيق هذه المرحلة مقدمة للديمقراطية ، التي ينشدها الشعب ، ومن اجل مستقبل وطننا وابنائنا في المستقبل القادم كي يعيشوا حياتهم في بيئة سياسية اكثر نقاء .
مع بداية مرحلة التحول الديمقراطي علينا أن نؤكد أن السلطة التنفيذية ، والتي تغولت على السلطتين التشريعية والقضائية ، هي المفتاح لبداية العمل ، ومن هنا فان خيارنا في تشكيل الحكومات وبشخوص رؤسائها ، يجب أن يخضع لمعايير وطنية وأخلاقية ، والا فاننا نتعمد وباصرار على أن يتكلس وطننا في مكانه ، لأننا نمارس الديمقراطية بأدوات عرفية .
من غير المعقول أن تتكرر مطالبتنا بالاصلاح والتغيير في كل كتاب تكليف لحكوماتنا ، ومع نهاية عمر كل حكومة لا نجد أنفسنا الا في القاطرة اياها ، التي ركبناها مع هذه الحكومة منذ اليوم الأول لتشكيلها ، فلكل حكومة سمات لابد وأن تطبع بها ، ومحطات هامة كماركة مسجلة لها ، وانجازات على صعيد الوطن والمواطن ، تملك الجرأة في أن تدعي أنها من صنع أياديها .
لكل حكومة برنامج عمل ، لابد وأن تكون قادرة على انجاز ما فيه من أهداف في فترة زمنية محددة، بمعنى أننا نملك الأهداف المرسومة ، وأساليب تحقيقها ، والزمن اللازم الذي تحتاجه، فالحكومات بدون أهداف واضحة ومحددة ، وليس لها ناظم ينظم عملها ، وزمنها غير معروف لتحديد رحيلها ،أو تجديد عملها الذي تحتاجه ، لتكملة البرنامج الذي رسمته لنفسها .
يمتاز بلدنا في كثرة تشكيل الحكومات ، فان كان ذلك سمة من سمات عدم الاستقرار فوطننا ليس كذلك ، وان كان ذلك غياب البرامج الحكومية ، وأن حكوماتنا تمارس عملها بتصريف الأمور ، دون أن تكون لديها رؤيا واضحة ، فجدير بنا أن نعالج ذلك ، لأن السلطة التنفيذية هي الدينمو الذي يحرك عربة الدولة ، وهو ما يجدر بنا ،أن نتوخى الحذر في خياراتنا في التشكيل الحكومي، بشخص رئيسها وأعضاء الحكومة ، فكم مر علينا من رؤساء حكومات لم يتركوا أثرا على أرض الواقع ، وان اتصف الكثير منهم بصفات سلبية في ادارة الحكم ، وكم عدد الوزراء الذين تركوا أثرا في نفوس المواطنين في ادارتهم للوزارات التي أوكلت اليهم ، ولم تعد صورهم معروفة حتى للموظفين في وزارتهم .
مرحلة التحول الديمقراطي التي لابد من أن نمر بها للوصول الى الديمقراطية ، لابد لها من فرسان يملكون رؤيا واضحة ، باهداف وخطط وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية، بمعنى أن تكون خياراتنا لتشكيل الحكومات فيمن يملك مثل هذه الرؤيا ، وللأسف الشديد ليس هناك من قام بتشكيل أي حكومة سابقة مثل ذلك ، مع أن الوطن يزخر بالكفاءات العلمية والسياسية، قياسا الى حجمه ، فهو متقدم على الكثير من دول العالم ، ومع ذلك دوما في تبرير الفشل نقول من أين سنأتي بهؤلاء ؟ ، وهم أمام أعيننا ، وفي الكثير من مؤسسات المجتمع المدنية والرسمية .
نحن لا نرغب في التوجه الديمقراطي ، ولذلك فان مرحلة التحول الديمقراطي لن تبدأ ، لان مرحلة التحول هذه كمقدمة للوصول الى الممارسة الديمقراطية ، تتطلب أن تتطلع أجهزة الدولة للمواطنين بمساواة ، وأن تنتهي لعبة توزير أبناء الوزراء ، لأنهم ولدوا وفي أفواههم ملعقة السلطة ، والنظر لأبناء الوطن مجرد قطيع ، يهش عليهم هؤلاء بامتيازات الحكم ، على الرغم من ثبوت فشل هذه اللعبة التي تمارس منذ زمن طويل من عمر الدولة .
نحن علينا أن نعلي من قيمة المواطن ، وأن تتم عملية التقييم في ضوء مؤهلاته وقدرته على العطاء لخدمة الوطن ، ولا يجوز وضع حجر سياسي على أي كان من المواطنين الا اذا حكم عليه القضاء بخيانة ، أو تأكد فساده الاخلاقي والسياسي ، ومع ذلك فان الكثيرين ممن وصلوا الى مواقع المسؤولية ، خرجوا منها بسمعة سيئة من وصمة الفساد ، ولم يجدوا من يؤنبهم على أقل تقدير ، بدلا من توقيع العقوبة عليهم ، ويفاجأ الناس باعادة تلميعهم في مواقع متقدمة من الدولة .
المواطن الذي ينوء بالفقر والبطالة وغلاء الأسعار ، ما عاد يهتم كثيرا بتشكيل الحكومات ، وهو ما يدل على حالة الاحباط التي وصل اليها ، وهي تؤشر على مرحلة خطيرة ، لأن الوطن بفعالية أبنائه ومشاركتهم في البناء والعمل ، بقلوب يعمرها الولاء والانتماء لوطن غال على نفوسهم، وليس لقطعة أرض يمكن استبدالها بأخرى ، ولا بمسكن يمكن أن يستعيض عنه بأخر في أي مكان.
مرحلة التحول الديمقراطي ضرورية لبلدنا ولمجتمعنا ، و تصب في مصلحة النظام السياسي ، الذي أجمعنا عليه كضرورة وطنية ، وعلينا أن نؤمن بمسؤليتنا في تحقيقها ، وهي تعني قانون انتخابي عصري ، وانتخابات نزيهة ، وقانون أحزاب سياسية متقدم ، وقانون حريات واجتماعات عامة ، الى غير ذلك من قوانين تتطلبها مسيرة العمل الديمقراطي ، والعمل على تشكيل حكومات برامجية، من شخصيات وطنية مؤهلة ، بعيدة عن مؤهل الارث العائلي ، وسلطة قضائية ، قادرة على ممارسة دورها بفعالية .
ان الوطن ملك الجميع ، وكلنا في مركب واحد ، ولا يجوز أن تتم عملية اقصاء أي مواطن عن المساهمة في بناء الوطن ، كما لايجوز بقاء أي مواطن مغبون في حقه المادي والمعنوي ، لأن التحول الديمقراطي الذي ننشده ، لا يمكن أن يتم الا من خلال المواطن ومن أجله ، ولهذا فان احترام المواطن وتقديره ، والعمل على تربيته لأداء واجباته تجاه المجتمع والدولة ، وتشجيعه على عدم السكوت عن مطالبته بحقوقه ، من شروط نجاح عملية مرحلة التحول الديمقراطي .
2ـ الفساد والاستبداد
بداية الانهيار على الصعيد الفردي والجماعي أن ينخر الفساد في جسد المرء ، ويعشعش في نفسيته ، ويمارسه كأمر طبيعي في حياته اليومية ، مع نفسه ومع الآخرين ، ولا تختلف الدولة في ممارسة أعضائها عن ممارسة الأفراد ، لأن من يقوم به هو الانسان ذاته ، فالنفس البشرية واحدة في ممارساتها ، بغض النظر عن الموقع الذي توجد فيه ، في الشارع أو الوظيفة أو في المعاملات مع الناس ، صغر هذا الموقع أو كبر الذي يشغله الانسان .
الفساد بشقيه الاداري والمالي في الدولة عواقبه وخيمة على الدولة نفسها ، فالتسيب في ممارسة العمل الوظيفي فساد في السلوك الانساني ، وهو اهدار للوقت الخاص بالعمل العام ، الذي اؤتمن المواطن على أداء وظيفته فيه ، الى جانب أنه يعتبر سرقة في حق المال العام ، الذي هو ملك المجتمع ، فيما يتقاضى من ورائه من رواتب ، ويحقق من امتيازات ، فالدولة التي لا تهتم بمراقبة الموظفين العاملين لديها ، ولا تجعل لأدائهم الوظيفي ضوابط تحكم حسن الأداء والتمييز ، فيما بين المجد المثابر والمتسيب المستهتر ، ينخر جسدها الترهل ، ولا تستطيع أداء واجباتها اتجاه مواطنيها ، ومن الضروري تقديم هؤلاء المتسيبين ، الذين يهدرون وقت المصلحة العامة للمساءلة الادارية ، حتى يتم وضع حد لهم ، ومن أجل أن يكونوا عبرة لغيرهم .
الفساد المالي سرقة للمال العام ، مال المجتمع ، اعتداء على حقوق المواطنين ، لأن لكل مواطن حق خاص في المال العام ، ولأن هذا المال يتم تصريفه وانفاقه على المصلحة العامة ، التي تعني كل المواطنين ، فهو اعتداء على جميع المواطنين ، والدولة التي يستباح فيها المال العام من قبل موظفيها ، صغروا أم كبروا في المواقع التي يشغلونها ، دولة فاسدة لا تصلح لقيادة المجتمع وادارة شؤونه ، ووجب تغييرها بالقانون ، ومحاسبتها على ما تقترفه أيادي أعضائها ، من خلال تقديم هؤلاء للمساءلة القانونية ، واستعادة المال المسروق .
ان الدولة التي يعم فيها الفساد ، ويطبع سلوك أعضائها ، في طريقها الى ممارسة الاستبداد ، لأنها في عدم قدرتها على معالجة الفساد ، تلجأ الى لجم الأخرين الذين ينتقدونها ، ويطالبونها في أن تكون على مستوى المسؤولية ، التي كلفها المجتمع بها ، والفاسد في طبيعته عدواني ، لأنه استساغ عدوانيته على حقوق الناس جميعا ، ومن يتجرأ على المال العام يتجرأ على الاعتداء على المواطنين ، فما المواطن الا مجموعة سلوكيات وأعمال تعنى بالحقوق والواجبات ، فالفاسد لا يقيم وزنا لأداء واجباته ، ولا يقدم شيئا على ما يطلب منه من حقوق اتجاه الدولة والمجتمع .
ان الدولة التي تطمح أن تسير على النهج الديمقراطي تؤمن بمبدأ المساءلة ، بحيث يكون الجميع مسؤولين أمام القانون ، لينال كل واحد جزاءه على ما اقترفته يداه ، أو سوّلت له نفسه في أن يخدش كرامة الوطن والمواطن ، بالاعتداء على حقوقه ، والمساءلة واحدة من ركائز النهج الديمقراطي ، والا كيف تتم عملية المسيرة الديمقراطية في الانتخاب والترشيح والوصول الى مبدأ تداول السلطة .
ان المستبد فاسد لا محالة ، فهو معتد على الناس في حقوقهم ، و لايؤمن بما يترتب عليه من واجبات كغيره من المواطنين ، لأنه فوق الجميع ، فلا قانون يردعه ، ولا أخلاق تهذب سلوكه ، ولا قيم وأعراف تقف حاجزا بينه وبين ما يريد أن يغتصبه ، ومقولة المستبد العادل لا تصمد أمام التشخيص الدقيق فيها ، لأن الاستبداد اعتداء صارخ باستخدام القوة في مواجهة الآخرين ، ومن يمارس القوة كطريق للتعامل مع الآخرين بالضرورة ، انه يلقي الرعب والخوف في قلوبهم، ويسوغ لنفسه الاعتداء عليهم ، بما يقوم بتعميم الظلم عليهم بالتساوي .
ان الدولة أية دولة تتطلع الى تطبيق النهج الديمقراطي ، لابد وأن ينظم القانون علاقاتها مع المواطنين، وفيما بين سلطاتها قوانين ضابطة لحركة المجتمع والأفراد ، في ظل دستور عادل ، يتوخى أن يقيم العدل فيما بين أفراد المجتمع ، والا فان تسيب الدولة كنوع من أنواع الفساد ، والاعتداء على الأداء الوظيفي بالاهمال واللامبالاة ، في أداء الواجب وسرقة المال العام ، سيؤدي الى خراب الدولة وتفكيك أواصرها ، تدفع باللجوء الى ممارسة الاستبداد لفرض ديمومة الاستمرار، والمحافظة على الامتيازات التي تنالها .
3ـ بروز المال السياسي
بلدنا من البلدان الفقيرة ولم تظهر الثروة المادية كعامل ذات تأثير في النفوذ السياسي الا في الآونة الاخيرة ـ العشر سنوات الاخيرة ـ بشكل خاص ، حيث برز البعض ممن يملكون الثروة يطمحون الى الاستحواذ على النفوذ السياسي ، الى جانب الثروة التي يملكونها ، وفي كثير من الأحوال يفاجأ الناس بثروة هؤلاء ، على الرغم من أن البعض منهم يعمل في التجارة ، وفي قطاع العقارات على وجه الخصوص ، والثروة التي يملكونها تفوق ما يمكن أن يجنيه هؤلاء ، الا اذا شابها نوع من الاستغلال والجشع في الربح .
العديد من هؤلاء من أصحاب رأس المال لايملكون مؤهلا ثقافيا أو سياسيا ، ولم يعهد عنهم أنهم يعملون في السياسة ، ولا شأن لهم بالهم العام ، مثل الانتماء للاحزاب السياسية ، ولكن فيما يبدو أن ثقافة العولمة القائمة على الاستغلال والجشع ، أصبحت سمة لبعض الناس من الرأسماليين، وهم بشكل أو بأخر يريدون الحصول على النفوذ السياسي ، لدعم مشاريعهم وزيادة ثروتهم ، من خلال اكتساب المشاريع التي تنفذها الدولة ، أو أن لعابهم يسيل الى امتيازات المقعد النيابي ، الذي غالبا ما يدر المال الوفير ، بسبب فساد السلطة التنفيذية ، التي تعمد في أحيان كثيرة لرشوة النواب، من أجل كسب الثقة عند تقدمها لنيل هذه الثقة ، أو عند هدفها العمل على تمرير قانون ما، من خلال كسب تأييد النواب للموافقة عليه .
ومن أجل ذلك يلجأ العديد من المرشحين ممن يملكون ثروة الى الترشيح للمقعد النيابي ، ويقومون باستخدام المال في سبيل العديد من الفعاليات والنشاطات ، لكسب تأييد الناخبين ، ومنها دفع أموال نقدية ، أو مساعدات عينية للمواطنين ، أو دفع أموال للمنافسين لهم في الانتخابات ، من أجل افساح المجال لهم ، ليكون حظهم بالفوز أكبر من سواهم ، وتغض السلطة التنفيذية عن هؤلاء المحاسيب الذين فسدت ذممهم وضمائرهم ، ليكونوا أداة طيعة في أيديها ، لتكوين لوبي للحكومة داخل مجلس النواب ، ومثل هؤلاء لا يهمهم الهم العام ، ولا القيام بوظيفة عضومجلس النواب المتمثلة بالتشريع ، خاصة وهم يجهلون أبسط مفاهيم وظيفة التشريع ، لأنهم يفتقرون للوعي السياسي وحتى الثقافي ، فالربح المادي عندهم أهم من أي هدف سياسي أو مصلحة عامة ، الى جانب أن مثل هؤلاء غير قادرين على ممارسة وظيفة مراقبة الأداء العام للسلطة التنفيذية ، لأن الوسيلة التي وصلوا من خلالها الى مجلس النواب هي شراء الذمم ، والولاء المطلق للسلطة التنفيذية ، للتكسب من وراء هذا التأييد المطلق لها .
ان استخدام المال السياسي جريمة سياسية ، فبالرغم أنه تجاوز على حق المواطنين في حرية الاختيار ، فهو اغتصاب لسلطة التشريع من خلال شراء المقاعد النيابية بواسطة الثروة ، التي يملكها أصحابها ، وهو يعني خلق مجلس نيابي لا دور له بالعمل الذي ينتدب اليه ـ التشريع ، ومراقبة أداء السلطة التنفيذية ـ ، ووصول طبقة من المستغلين الى تمثيل صناعة القرار ، وهم آخر من يعمل في مثل هذه الوظيفة ، واتاحة الفرصة لتغول السلطة التنفيذية وأجهزتها على حقوق المواطنين .
ان استخدام المال السياسي اعتداء على الحق الجماهيري في الاختيار الحر لممثليهم في السلطة التشريعية ، ومنع وصول كل من لا يملك مالا للوصول الى قبة البرلمان ، وهو ما يتنافى مع حق المواطن في حرية الترشيح والانتخاب ، وهو ما يجعل الوطن برمته مرهون لطبقة ذات أهداف تجارية ، لا يهمها من الوطن الا الربح ، وتقديم الخدمات لمن يدفع أكثر .
ليس بالضرورة أن كل صاحب ثروة مجرد من احساسه الوطني ، لكن بالضرورة أن كل من يستخدم المال للوصول الى السلطة ، فهو فاسد ولا تهمه من الوطن الا مصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة ، ولهذا لابد من وضع حد لكل المرشحين ، وحرمان أي من هؤلاء من فرصة الترشيح اذا ثبت أنه قام باستغلال ماله ، وحتى نفوذه للتأثير على الاختيار الحر للمواطنين، الى جانب حرمان كل مواطن من حقه في الترشيح ، يقوم ببيع صوته الانتخابي لهذا المرشح أو ذاك من خلال تفعيل القوانين ذات الصلة ، أو سن قوانين لها علاقة بذلك ، الى جانب تخويل الهيئة القضائية المشرفة على الانتخابات صلاحية اتخاذ القرارات الرادعة .
انه من الممكن تقصير فترة الترشيح لعضوية مجلس النواب ، واقتصار الدعاية الانتخابية على وسائل الاعلام العامة ، بحيث ينال جميع المرشحين دعاية انتخابية متساوية ، الى جانب أن معالجة القانون الانتخابي ـ الصوت الواحد ـ ، والذي يتيح الفرصة لاختيار مرشح واحد على مستوى الدائرة الانتخابية الضيقة ، يتيح المجال لاستخدام المال السياسي .
ان استخدام المال السياسي يمنع الوطن من بداية تدشين مرحلة التحول الديمقراطي ، في عدم تمثيل الشعب بكافة فئاته وقطاعاته الى مجلس النواب ، لأن التمثيل هنا سيقتصر على أصحاب القدرة المالية ، وهم فئة محدودة في المجتمع ، لا علاقة لها بالوطن الا من خلال مصالحها ، وهو ما يعني أن المواطن سيصل الى طريق مسدود في أمله بتحقيق فرصة الوصول الى الممارسة الديمقراطية ، ولا يرى من مرحلة الانتخابات الا ما يغدق عليها من أصحاب الثروة ، من شراء الذمم واقامة الحفلات والولائم ، التي لن تتكرر من هذا النوع من المرشحين ، الا مرة واحدة كل أربع سنوات ، في حالة أن المجلس استطاع الصمود أمام سياسة الحل قبل انتهاء فترة ولايته .
المال السياسي جريمة في حق الوطن ، واعتداء على حق المواطنين ، لابد من وضع حد له قبل أن يستشري نفوذه ، وهو ما لا يقبله وطن يتوق الى بناء دولة ديمقراطية ، ترعى كل مواطنيها ومعبرة عن تطلعاتهم دون استثناء .
ان الدولة منوط بها أن تجند كافة عناصرها ، لتوفير أجواء انتخابية مناسبة ، وبعيدة عن أية محاولة للالتفاف عليها ، وخاصة ما أصبح يرافقها من استخدام المال لشراء ذمم المرشحين واستمالة ولائهم ، لانتخاب هذا المرشح أو ذاك ، لأنه يشوه العملية الانتخابية ، ويفقدها مضمونها ويجردها من أهدافها ، التي تصب في مصلحة جميع المواطنين ، ولا يجوز حصرها في مصلحة فئة محدودة ، ممن يظنون أنهم بواسطة ما يملكون قادرون على شراء كل شيئ ، بما فيه السلطة السياسية .
4ـ تغييب العمل الحزبي
يمر العمل الحزبي في أزمة حقيقية ، تعكسها حالة العزوف عن الانخراط في العمل الحزبي من قبل الجماهير ـ وقود النشاط الحزبي ـ ، وضعف الأداء من قبل الأحزاب ، مما ينعكس سلبا على عملية التحول الديمقراطي ، اذ لا ديمقراطية حقيقية بدون أحزاب حقيقية ، وهو ما يتطلب اعادة النظر في جميع العقبات ، التي وضعتها السلطة التنفيذية ، في طريق تنمية نشاط الأحزاب ، وبشكل خاص ما يتعلق بقانون الأحزاب ، والتوقف عن العقلية العرفية ، التي ما زالت تحكم صاحب القرار في التعامل مع الأحزاب ، والأعضاء المنتمين لها ، اذ ما زالت فعالياتها ونشاطاتها تواجه بالمنع والرفض ، والعديد من الأعضاء المنتسبين لها ما زالت الدولة تنظر لهم وكأنهم أعداء لها، فيحاربون في حقهم في العمل في أجهزة الدولة ، والجامعات الحكومية والخاصة .
حتى بعد اقرار قانون الأحزاب ، والذي ربط مرجعيتها بوزارة الداخلية بدلا من وزارة التنمية السياسية ، تواجه الأحزاب اقامة فعالياتها الجماهيرية بقانون الاجتماعات العامة ، مما يؤدي الى خشية المواطنين ، وحذرهم من الانتساب للأحزاب ، والمشاركة في فعالياتها ، لأنهم يشعرون أن السلطة التنفيذية وأدواتها الأمنية لهم بالمرصاد ، في الاعتقال والتحقيق والمساءلة والسفر والتوظيف ، مما يؤشر على أن اسلوب العرفنة مازال سائدا لدى الجهات الرسمية .
لقد ساهمت قضية الحظر الحزبي في الخمسينيات من القرن الماضي ، وما أصاب أعضاء هذه الأحزاب ، من سجن وحرمان من العمل والسفر ، في خشية الناس من الانضمام اليها ، وبالتالي أصبح قانون الأحزاب مجرد حبر على ورق ، خاصة وأن أجهزة الدولة الأمنية تعمل على الدوام على اختراق العمل الحزبي ، ولا تتورع عن السطو على مقارها ، وسرقة سجلات الأعضاء فيها، والعمل على تجنيد ذوي النفوس الضعيفة لكتابة تقاريرهم عن هذا العضو أو ذاك .
ان الأداء الحزبي في ظل مرحلة الانفتاح السياسي ، واجه ولا يزال يواجه العديد من العقبات والمشاكل ، التي تقف في طريق تقدمه واستمراريته بأداء دوره السياسي والجماهيري ، وبشكل خاص في الوضع المالي والاقتصادي لهذه الأحزاب ، نظرا لحاجة الحزب الى مكاتب وأعضاء متفرغين وصحف ونشرات ثقافية وبرامج ونشاطات جماهيرية ، مما يعيق العمل الحزبي في غياب توفير السيولة النقدية ، وهو ما تفتقر اليه غالبية الأحزاب السياسية .
ان أداء الأحزاب السياسية في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها ، وبفعل العراقيل والعقبات التي تضعها السلطة السياسية في طريق رقيها وتقدمها ، جعل مستوى أدائها دون مستوى الحد الأدنى، مما أصاب المواطن بالاحباط ، خاصة وهو يأمل في ظل مرحلة الانفتاح السياسي ، أن يتم تعويضه عن الحرمان الذي أصابه ، جراء مرحلة الاحكام العرفية التي صبغت المسيرة الحكومية لمدة تقارب من الاربعين عاما ، الى جانب أن هذه الأحزاب لم تناضل بما فيه الكفاية لانتزاع حقوقها وحقوق جماهيرها ، ولا حتى حقوق أعضائها يوم كانت أجهزة السلطة ترمي بهم في المعتقلات ، أو تحاربهم في أرزاقهم وقوت أطفالهم ، فقد داست أجهزة الدولة دون مبالاة أو اكتراث على حقوق الافراد والأحزاب ، لأنها تنظر الى الاحزاب والحزبيين أنهم من عالم آخر ، غير عالم الوطن والمجتمع الذي يضم الجميع ، مما دفع بالعديد من الأعضاء الى ترك العمل الحزبي ، مما أدى الى تفريغ الأحزاب من كوادرها النضالية .
ان الأحزاب السياسية مؤسسات وطنية ، وهي جزء من تركيبة الدولة ودستورها وقوانينها وأنظمتها ، وهي مؤسسات مشروعة ، تعمل في ظل سيادة الدستور والقانون ، مما يعني أن نجاح التجربة الحزبية على الساحة الوطنية هو نجاح للوطن والنظام السياسي ، وأن فشل الحزبية يؤدي الى ممارسات غير مسؤولة ، تنعكس سلبا على الوطن والمواطنين ، ومن هنا فلابد أن تؤدي الأحزاب السياسية دورها الفاعل ، في ظل رقي وتقدم المجتمع ، لأن عملية تغييب الأحزاب والعمل الحزبي هو تقزيم للعمل السياسي .
ان وجود الأحزاب السياسية يؤشر على وجود وعي سياسي لدى قطاع المجتمع ، وعلى امكانية تنظيم المجتمع بشكل منظم ، في ضوء ثقافة سياسية موحدة ، تلتقي جميعها على الدفاع عن الوطن وجماهيره الشعبية ومصالحها المشروعة ، وهي تؤشر أيضا على أن التحول الديمقراطي لا يمكن نجاحه ، في ظل غياب عمل حزبي ، فأعضاء الأحزاب السياسية هم من الناس المميزين ، فالشخصية الجماعية للحزب السياسي ذات أهداف تخدم تعزيز المصلحة الوطنية ، بطرق ووسائل مشروعة ، ولهذا فان ضرورات المسيرة الديمقراطية هو في السعي لفسح المجال أمام نشوء أحزاب سياسية ، والعمل على ايجاد المناخ الملائم لعمل هذه الأحزاب ، لأن الحزب جزء مهم من مؤسسات المجتمع المدني ، ولأن الديمقراطية لايمكن لها أن تسود بدون وجود أحزاب سياسية ، حيث لا ديمقراطية من دون أحزاب سياسية ، فالديمقراطية تعتمد بشكل واع على مفهوم الرأي والرأي الآخر ، وهذا لن يكون في غياب الأحزاب السياسية .
ان الحزب السياسي ظاهرة أو منظمة في مسلسل العملية السياسية ، مقارنة بالظواهر والتنظيمات السياسية الأخرى في تاريخ البشر السياسي ، وقد تركزت تجارب الأحزاب في العصر الحديث على كيفية تنظيم ممارسة الحرية ، حيث الحرية أمر حيوي ومقدس للفرد والمجتمع ، وممارسة الحرية لا يمكن أن تتم بدون قبول مبدأ الاختلاف والحق في الاختلاف ، والحزب السياسي هو حلقة الاتصال التي لا غنى عنها بين الشعب والجهاز الحكومي ، وهو الذي يقوم بتنظيم الشعب ، والسعي بتوعيته توعية سياسية ، وهو وسيلة جيدة لتنظيم انتقال السلطة وممارسة الحكم.
ان الحكم الفاعل والمؤثر هو المنبثق عن الممارسة الحزبية الفاعلة والنشيطة ، وان الدولة الذكية هي من تسعى لخلق الأحزاب ، من خلال توفير البيئة الملائمة لنشوئها وعملها ونشاطاتها ، وهي الدولة التي لا تخشى النشاط الحزبي المشروع ، والذي يستظل بمظلة الدستور والقانون ، والمشاركة السياسية لا يمكن أن تتم الا تحت خيمة الديمقراطية ، والتي لن تكون بغياب العمل الحزبي ، وفي مقدمة أنماط المشاركة السياسية النشاط الحزبي ، والنشاط الانتخابي والعمل النقابي، وجميعها ترتبط بمبدأ التعددية السياسية ، وحرية التعبير وحرية الاجتماع السلمي ، وحرية الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ، كل ذلك من أجل الوصول الى ضمان حق الفرد والجماعة في المشاركة في الشؤون العامة في البلاد .
ان عملية التحول الديمقراطي لن تتم في ظل سياسة تغييب الأحزاب واستهدافها وملاحقة أعضائها والتضييق عليهم ، والنتائج المتوخاة من وراء ذلك تقزيم العمل السياسي ، الى حد استخدامه كديكور لا يتجاوز الغطاء الخارجي ، الذي يؤدي الى أي نوع من تقدم المجتع ورقيه .
5ـ الانتخابات وقانون الصوت الواحد
لابد لأي قانون انتخابي أن يواكب التطورات والمستجدات ، وأن يفي بغرض التطور الذي يمر بالبلاد ، وأن يتناسب مع طبيعة المرحلة ، لأن الوطن يحتاج الى قانون انتخاب يؤمّن له الاستقرار، ويبعد به عن التوجهات الفردية ، التي لا تليق بأهمية المؤسسة التشريعية ، وانطلاقا من أهمية ودورالسلطة التشريعية والعمليات الانتخابية،التي توجب احاطة تلك العمليات بالضمانات الضرورية ، لايصال ممثلين حقيقيين عن الشعب الى قبة البرلمان ، فان وضع قانون متطور ومتقدم للانتخابات النيابية ، يقتضي تشكيل لجنة عليا مشتركة من ممثلين عن الحكومة والأحزاب السياسية والفعاليات النقابية و الفكرية ، لوضع مشروع قانون جديد ، ليعرض على مجلسي الأمة في دورة استثنائية ، بعد أن يتم افساح المجال أمام كافة قطاعات الشعب وشرائحه في ابداء الرأي والمناقشة ، فالسلطة ملك الشعب ، وهو وحده مصدر السلطات ، وارادة الشعب يجب أن تمثل تمثيلا حقيقيا ، لاعطائه الفرصة لصنع المجتمع الذي يتطلع اليه ، والذي يضمن المساواة والعمل بين الجميع دون تمييز .
ان الاحتكام الى صناديق الاقتراع لاتعني ممارسة الديمقراطية ، فورقة الانتخابات ونتائجها محكومة بعملية مترابطة ببعضها البعض ، من سن قانون يستطيع المجتمع أن يوصل ممثليه الى البرلمان ، بكافة شرائح المجتمع السياسية والفكرية والمهنية ، ومن خلال سلطة قضائية تقوم بالاشراف على عملية الانتخاب والترشيح والفرز واخراج النتائج بشفافية وموضوعية ، فكثيرة هي الدول التي تتبع الانتخابات النيابية عبر صناديق الاقتراع ، ولكن السلطة التنفيذية فيها متوغلة على السلطة التشريعية ، وتكاد أن تكون ملحقة بتوجيهاتها ، لأنها تسمح لأجهزتها الأمنية بالقيام بعملية التزوير ، والتدخل في كافة مراحل العملية الانتخابية .
ان اعتماد السلطة التنفيذية على سن قانون في ظل غياب السلطة التشريعية ، والاحتكام على نتائج هذا القانون ، هو اعتداء على الديمقراطية وحق السلطة التشريعية ، ولأن هذه الأخيرة الممثل الشرعي للشعب ، فان السلطة التنفيذية تقوم بالدوس على ارادة الشعب ، وتقف حجر عثرة في طريق أن ينتخب ممثليه بشكل يضمن التمثيل الحقيقي له .
ان القوانين الناظمة للعملية الانتخابية في العالم كثيرة ، وكل مجتمع يختار ما يلائمه منها ، فهناك الصوت الواحد للشخص الواحد ، في حالة تقسيم الدوائر الانتخابية بعدد الدوائر الانتخابية ، كما في المملكة المتحدة ، وهناك القائمة الحزبية والتمثيل النسبي ، وهو ما يعتمد على اجراء الانتخابات في ضوء القوائم الحزبية ، والنسبة التي يحصل فيها الحزب على عدد المقاعد ، التي تتوافق مع النسبة التي حصل عليها في الانتخابت ، في ضوء قائمة معدة ومتسلسلة بقائمته الحزبية ، وهناك الدائرة الوطنية بحيث يكون الوطن بكامله دائرة انتخابية واحدة ، ويصل الى قبة البرلمان العدد الذي حصل على أكبر نسبة من الأصوات .
على مشارف عام 1993 ، تم تعديل قانون الانتخاب لسنة 1986 ، فيما عرف بقانون بقانون الصوت الواحد ( رقم 15 لسنة 1993 ) ، والذي استبدل من نظام القائمة المفتوحة ، الذي يعطي فرصة للمواطن أن ينتخب عدد من المرشحين يساوي عدد المقاعد النيابية المخصصة لدائرته ، نظاما جديدا يقيد المواطن بانتخاب مرشح واحد فقط ايا ً كان عدد المقاعد في دائرته ، والذي كان يتراوح في حينه بين مقعدين الى تسعة مقاعد ، وقد استهدف القانون الحد من نفوذ القوى السياسية المنظمة ( الأحزاب السياسية ) .
لقد تعرض قانون الصوت الواحد لانتقادات عديدة وواسعة من مختلف أطياف العمل السياسي ، وهو بمثابة تراجع عن عملية التحول الديمقراطي ، لأنه يقوم على تشجيع الولاءات العشائرية والعائلية والطائفية والاقليمية ، على حساب الخيارات السياسية ، وقد عمد هذا القانون على تفتيت المجتمع وتقسيم بنيته ، وفتح المجال أمام تزايد تأثير المال السياسي ، وممارسة شراء الأصوات والذمم ، على حساب القيم الايجابية للمجتمع ، مثل النزاهة واحترام الارادة الانسانية والمصداقية.
ان آلية الصوت الواحد تم اعتمادها ، كوسيلة وأداة لتحقيق تدخل فاعل للسلطة في نتائج الانتخابات، من خلال تحجيم الأحزاب والقوى السياسية المعارضة ، وتعزيز الدور العشائري الأكثر انسجاما مع السلطة التنفيذية في مجلس النواب ، بما يضمن للسلطة الوصول الى نتائج مرضية على صعيد التمثيل النيابي ، وتمرير مشاريعها وسياساتها دون عقبات .
ان وضع قانون انتخابي في غياب السلطة التشريعية ، ومشاركة الاحزاب السياسية وأصحاب الرأي والفكر، هو بمثابة نكوص عن عملية التحول الديمقراطي التي نسعى اليها ، وأن تغول السلطة التنفيذية في وضع القوانين المؤقتة في غياب المجالس النيابية ، هو تحد واضح لأي نهج ديمقراطي يطمح الوطن والمواطن للوصول اليه ، فقد تم اجتزاء قانون الصوت الواحد لتحقيق أهداف سياسية ، لا تخدم الوطن والمواطن ، ولا تسمح للقوى السياسية أن تتقدم خطوة واحدة، على طريق حقها في التمثيل الشعبي ، من خلال الوصول الى المجلس النيابي .
من الضروري جدا أن تسعى السلطة التنفيذية على تغييب عقلية الشك والريبة ، وافتعال الخوف من القوى السياسية ، ومن وجود مجلس نيابي قوي يستطيع أن يمارس دوره في التشريع والرقابة ، فعقلية العرفنة قد أوصلت البلاد والعباد الى طريق مسدود ، وكادت تعصف بالمجتمع والدولة في هبة نيسان ، والاحتقان الشعبي عواقبه وخيمة ، عندما لا يتم ازالة العقبات في طريق وصول المواطن الى اعتقاد أن الأمل المنشود يمكن تحقيقه ، وعندما لايجد أمامه فرصة لتحسين أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويصاب باليأس والاحباط .
هناك تصور لتعديل قانون الصوت الواحد السئ الذكر ، بحيث يكون لكل ناخب صوتان ، صوت يقترع به لمرشح في دائرته الانتخابية ، وصوت آخر يقترع به لصالح قائمة حزبية على مستوى الوطن ، على أن يخصص نسبة لا تقل عن 20% من مقاعد المجلس النيابي ، والتي يتعين أن تضاف الى المقاعد الحالية للتنافس عليها وفق القائمة النسبية .
ان المدخل الصحيح لانجاز مرحلة التحول الديمقراطي ، من خلال قانون انتخاب ديمقراطي يعتمد مبدأ التمثيل النسبي الكامل ، باعتماد الوطن دائرة انتخابية واحدة لفسح الطريق أمام القوى السياسية وتحالفاتها ، على أسس برامجية ، تمثل مصالح الوطن ، للوصول الى البرلمان والمشاركة في صناعة القرار ، وتكريس مبدأ تداول السلطة .
خاتمة :
الاصلاح السياسي ضرورة وطنية ، وحاجة لتطور المجتمع ورقيه ، فهو مهمة الجميع داخل السلطة وخارجها ، لأنه يعني الوطن والمواطنين ، ولا يقتصر على مطالب المعارضة ، لأن منافعه تعم على الجميع ، ومن أجل مستقبل الوطن وحياة أبنائه ، ومن يجتهد في هذا السبيل أو ذاك ، أفضل بكثير من الذي يحمل عصا مواجهة التغيير ، من باب الشك والريبة في الآخرين ، فالجميع في مركب واحد ، ولا نجاة لأحد ان أصاب هذا المركب أي خلل في مسيرته ، ومن يدعي أنه حريص على المصلحة أكثر من الآخرين ، فهو واهم أو ضيق الأفق .
ان الذين يتمترسون وراء شد عجلة التطور الى الوراء ، أو في أقل تقدير مكانك سر ، هم بلا شك من لا يفهمون طبيعة التغير والحراك الاجتماعي ، ولا يستوعبون التطورات الاقليمية والدولية ، التي تلقي بآثارها على كواهلنا ، ونحن علينا أن لا نكل من محاولاتنا في التنبيه لأهمية أن نواكب العصر ، والعصر هو عصر الجماهير، التي لابد وأن تأخذ دورها في صناعة الحياة ، التي هي حياتنا جميعا ، واليوم أصبحت الديمقراطية مطلبا جماهيريا ، كما هي ضرورة ، لكي نواكب ما يجري في العالم ، بقلوب مفتوحة وعقول نيّرة وارادة حرة .
الاصلاح السياسي يحتاج في سطره الأول الى انجاز عملية التحول الديمقراطي ، هذه العملية التي تعني مجموعة من المفردات والعناوين شملت ما يلي : ـ
ـ التحول الديمقراطي ،
ـ الفساد والاستبداد ،
ـ المال السياسي ،
ـ تغييب الاحزاب وتقزيم العمل السياسي ،
ـ الانتخابات وقانون الصوت الواحد .
اننا نأمل من خلال ما طرحناه بايجاز في هذه العناوين ، أن نكون قد فتحنا الباب أمام القوى السياسية والفكرية والنقابية ، لاثراء النقاش حول هذه العناوين وغيرها ان أمكن ، من أجل حاضرنا ومستقبل أبنائنا .
الدكتور غالب الفريجات
مقدمة : ـ
الاصلاح السياسي ضرورة وطنية يتطلبها النظام السياسي والمجتمع ، ولا يمكن اغفالها او تجاهلها ، لان ذلك ان تحكم على النظام السياسي بالتكلس ، واطلاق رصاصة الرحمة على مستقبله، ومن مهمات قوى المجتمع السياسية والنقابية ومؤسسات المجتمع المحلي ، ان تطالب النظام السياسي وباستمرار على السير في هذا الطريق ، لانه وبدون الاصلاح السياسي لا تستطيع هذه القوى الحصول على ضمان استمرارية وجودها .
اننا احوج ما نسعى الى عملية الاصلاح السياسي في وطننا ، لاننا حرمنا من العمل السياسي طيلة ما يزيد عن اربعين عاما من عمر الدولة الوطنية ، وان حرماننا من حرية العمل السياسي خلق حالة من اليأس والاحباط لدى جماهيرنا ، التي وصلت الى الى عدم قناعتها بجدوى كل ما يجري على السطح من محاولات الترقيع ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، فالمطلوب ان نحث الخطى في العمل في طريق الاصلاح السياسي ، لتعويض ما فاتنا من اشواط قطعته بلدان غيرنا ، ولنعوض الزمن الذي اضاعته علينا مرحلة الاحكام العرفية ، التي كممت الافواه ، وقيدت الايدي والارجل عن الحركة ، في سبيل التطور والتقدم .
الاصلاح السياسي ليس مهمة فرد او مجموعة ، هو مهمة المجتمع ، مهمة الدولة في عموم ابنائها في السلطة وخارجها ، فالسلطة عليها ان تحث الخطى في سبيل ذلك ، وان تكون نوافذها مشرعة امام اي مطالبة لقوى المجتمع الحية ، الممثلة بالاحزاب السياسية والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني ، وهذه المؤسسات عليها واجب الاصرار على السير في هذا الطريق، ايا كانت العقبات التي تعيق الحركة ، وايا كانت قوى الشد الى الوراء ، من ممارسات لا تحمل في طياتها مصلحة الوطن والمواطن .
اننا في هذا الظرف الذي نمر به ، والمتربصون خلف اسوار الوطن يضمرون الشر لوطننا ، اكثر الحاحا على ان ضمانة الدفاع عن الوطن ، تكمن في الاصلاح السياسي الذي يعزز من قيمة الانسان ، ويجعل منه جنديا مدافعا عن وطن يحتضنه ، ويؤمن السلامة لأطفاله ، لان الانسان مادة الاصلاح وهدفه ، ان تمكن من امتلاك الارادة الحرة ، قادر على ان يشكل السياج الحديدي الذي يحيط بحدود الوطن ، ويمنع عنه اي طامع فيه .
الاصلاح السياسي مطلب جماهيري ، ومسؤولية النظام السياسي ان تستجيب لمطالب الجماهير ، لأن الحياة على ارض الوطن لا تستقيم بوجود فجوة بين الجماهير الشعبية والنظام السياسي ، الذي يحجم او يتردد في الاستجابة لمصالحها ، والاكان الانفجار بسبب حالة اليأس والاحباط ، التي تطغى على حياة المواطن ، في ظل الأزمات التي تعصف به ، وسنتحدث عن مفهومنا الى الاصلاح السياسي من خلال مايلي : ـ
1ـ عملية التحول الديمقراطي
نغالط انفسنا ، ونلوي عنق الحقيقة ، وندوس على ارضية الواقع ، ان ادعينا بأننا نملك ديمقراطية، او نمارس الحد الأدنى منها في وطننا ، في ظل ما يتم من اجراءات السلطة التنفيذية، باصدار القوانين المؤقتة ، وتطبيق قانون الصوت الواحد بأسوأ صوره ، وممارسة الأجهزة المعطلة لحركة المجتمع في الذهنية العرفية للقائمين عليها .
نحن في مرحلة اكثر ما يمكن أن نطلق عليها بداية التطلع الى التحول الديمقراطي ، وما زلنا في بداية الطريق في هذه المرحلة ، وقد باءت العديد من محاولاتنا على هذا الطريق بالفشل ، ووصلنا الى طريق مسدود ، تتطلب منا ان نكون جادين في التطلع للسير بخطى ثابتة ، لتحقيق هذه المرحلة مقدمة للديمقراطية ، التي ينشدها الشعب ، ومن اجل مستقبل وطننا وابنائنا في المستقبل القادم كي يعيشوا حياتهم في بيئة سياسية اكثر نقاء .
مع بداية مرحلة التحول الديمقراطي علينا أن نؤكد أن السلطة التنفيذية ، والتي تغولت على السلطتين التشريعية والقضائية ، هي المفتاح لبداية العمل ، ومن هنا فان خيارنا في تشكيل الحكومات وبشخوص رؤسائها ، يجب أن يخضع لمعايير وطنية وأخلاقية ، والا فاننا نتعمد وباصرار على أن يتكلس وطننا في مكانه ، لأننا نمارس الديمقراطية بأدوات عرفية .
من غير المعقول أن تتكرر مطالبتنا بالاصلاح والتغيير في كل كتاب تكليف لحكوماتنا ، ومع نهاية عمر كل حكومة لا نجد أنفسنا الا في القاطرة اياها ، التي ركبناها مع هذه الحكومة منذ اليوم الأول لتشكيلها ، فلكل حكومة سمات لابد وأن تطبع بها ، ومحطات هامة كماركة مسجلة لها ، وانجازات على صعيد الوطن والمواطن ، تملك الجرأة في أن تدعي أنها من صنع أياديها .
لكل حكومة برنامج عمل ، لابد وأن تكون قادرة على انجاز ما فيه من أهداف في فترة زمنية محددة، بمعنى أننا نملك الأهداف المرسومة ، وأساليب تحقيقها ، والزمن اللازم الذي تحتاجه، فالحكومات بدون أهداف واضحة ومحددة ، وليس لها ناظم ينظم عملها ، وزمنها غير معروف لتحديد رحيلها ،أو تجديد عملها الذي تحتاجه ، لتكملة البرنامج الذي رسمته لنفسها .
يمتاز بلدنا في كثرة تشكيل الحكومات ، فان كان ذلك سمة من سمات عدم الاستقرار فوطننا ليس كذلك ، وان كان ذلك غياب البرامج الحكومية ، وأن حكوماتنا تمارس عملها بتصريف الأمور ، دون أن تكون لديها رؤيا واضحة ، فجدير بنا أن نعالج ذلك ، لأن السلطة التنفيذية هي الدينمو الذي يحرك عربة الدولة ، وهو ما يجدر بنا ،أن نتوخى الحذر في خياراتنا في التشكيل الحكومي، بشخص رئيسها وأعضاء الحكومة ، فكم مر علينا من رؤساء حكومات لم يتركوا أثرا على أرض الواقع ، وان اتصف الكثير منهم بصفات سلبية في ادارة الحكم ، وكم عدد الوزراء الذين تركوا أثرا في نفوس المواطنين في ادارتهم للوزارات التي أوكلت اليهم ، ولم تعد صورهم معروفة حتى للموظفين في وزارتهم .
مرحلة التحول الديمقراطي التي لابد من أن نمر بها للوصول الى الديمقراطية ، لابد لها من فرسان يملكون رؤيا واضحة ، باهداف وخطط وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية، بمعنى أن تكون خياراتنا لتشكيل الحكومات فيمن يملك مثل هذه الرؤيا ، وللأسف الشديد ليس هناك من قام بتشكيل أي حكومة سابقة مثل ذلك ، مع أن الوطن يزخر بالكفاءات العلمية والسياسية، قياسا الى حجمه ، فهو متقدم على الكثير من دول العالم ، ومع ذلك دوما في تبرير الفشل نقول من أين سنأتي بهؤلاء ؟ ، وهم أمام أعيننا ، وفي الكثير من مؤسسات المجتمع المدنية والرسمية .
نحن لا نرغب في التوجه الديمقراطي ، ولذلك فان مرحلة التحول الديمقراطي لن تبدأ ، لان مرحلة التحول هذه كمقدمة للوصول الى الممارسة الديمقراطية ، تتطلب أن تتطلع أجهزة الدولة للمواطنين بمساواة ، وأن تنتهي لعبة توزير أبناء الوزراء ، لأنهم ولدوا وفي أفواههم ملعقة السلطة ، والنظر لأبناء الوطن مجرد قطيع ، يهش عليهم هؤلاء بامتيازات الحكم ، على الرغم من ثبوت فشل هذه اللعبة التي تمارس منذ زمن طويل من عمر الدولة .
نحن علينا أن نعلي من قيمة المواطن ، وأن تتم عملية التقييم في ضوء مؤهلاته وقدرته على العطاء لخدمة الوطن ، ولا يجوز وضع حجر سياسي على أي كان من المواطنين الا اذا حكم عليه القضاء بخيانة ، أو تأكد فساده الاخلاقي والسياسي ، ومع ذلك فان الكثيرين ممن وصلوا الى مواقع المسؤولية ، خرجوا منها بسمعة سيئة من وصمة الفساد ، ولم يجدوا من يؤنبهم على أقل تقدير ، بدلا من توقيع العقوبة عليهم ، ويفاجأ الناس باعادة تلميعهم في مواقع متقدمة من الدولة .
المواطن الذي ينوء بالفقر والبطالة وغلاء الأسعار ، ما عاد يهتم كثيرا بتشكيل الحكومات ، وهو ما يدل على حالة الاحباط التي وصل اليها ، وهي تؤشر على مرحلة خطيرة ، لأن الوطن بفعالية أبنائه ومشاركتهم في البناء والعمل ، بقلوب يعمرها الولاء والانتماء لوطن غال على نفوسهم، وليس لقطعة أرض يمكن استبدالها بأخرى ، ولا بمسكن يمكن أن يستعيض عنه بأخر في أي مكان.
مرحلة التحول الديمقراطي ضرورية لبلدنا ولمجتمعنا ، و تصب في مصلحة النظام السياسي ، الذي أجمعنا عليه كضرورة وطنية ، وعلينا أن نؤمن بمسؤليتنا في تحقيقها ، وهي تعني قانون انتخابي عصري ، وانتخابات نزيهة ، وقانون أحزاب سياسية متقدم ، وقانون حريات واجتماعات عامة ، الى غير ذلك من قوانين تتطلبها مسيرة العمل الديمقراطي ، والعمل على تشكيل حكومات برامجية، من شخصيات وطنية مؤهلة ، بعيدة عن مؤهل الارث العائلي ، وسلطة قضائية ، قادرة على ممارسة دورها بفعالية .
ان الوطن ملك الجميع ، وكلنا في مركب واحد ، ولا يجوز أن تتم عملية اقصاء أي مواطن عن المساهمة في بناء الوطن ، كما لايجوز بقاء أي مواطن مغبون في حقه المادي والمعنوي ، لأن التحول الديمقراطي الذي ننشده ، لا يمكن أن يتم الا من خلال المواطن ومن أجله ، ولهذا فان احترام المواطن وتقديره ، والعمل على تربيته لأداء واجباته تجاه المجتمع والدولة ، وتشجيعه على عدم السكوت عن مطالبته بحقوقه ، من شروط نجاح عملية مرحلة التحول الديمقراطي .
2ـ الفساد والاستبداد
بداية الانهيار على الصعيد الفردي والجماعي أن ينخر الفساد في جسد المرء ، ويعشعش في نفسيته ، ويمارسه كأمر طبيعي في حياته اليومية ، مع نفسه ومع الآخرين ، ولا تختلف الدولة في ممارسة أعضائها عن ممارسة الأفراد ، لأن من يقوم به هو الانسان ذاته ، فالنفس البشرية واحدة في ممارساتها ، بغض النظر عن الموقع الذي توجد فيه ، في الشارع أو الوظيفة أو في المعاملات مع الناس ، صغر هذا الموقع أو كبر الذي يشغله الانسان .
الفساد بشقيه الاداري والمالي في الدولة عواقبه وخيمة على الدولة نفسها ، فالتسيب في ممارسة العمل الوظيفي فساد في السلوك الانساني ، وهو اهدار للوقت الخاص بالعمل العام ، الذي اؤتمن المواطن على أداء وظيفته فيه ، الى جانب أنه يعتبر سرقة في حق المال العام ، الذي هو ملك المجتمع ، فيما يتقاضى من ورائه من رواتب ، ويحقق من امتيازات ، فالدولة التي لا تهتم بمراقبة الموظفين العاملين لديها ، ولا تجعل لأدائهم الوظيفي ضوابط تحكم حسن الأداء والتمييز ، فيما بين المجد المثابر والمتسيب المستهتر ، ينخر جسدها الترهل ، ولا تستطيع أداء واجباتها اتجاه مواطنيها ، ومن الضروري تقديم هؤلاء المتسيبين ، الذين يهدرون وقت المصلحة العامة للمساءلة الادارية ، حتى يتم وضع حد لهم ، ومن أجل أن يكونوا عبرة لغيرهم .
الفساد المالي سرقة للمال العام ، مال المجتمع ، اعتداء على حقوق المواطنين ، لأن لكل مواطن حق خاص في المال العام ، ولأن هذا المال يتم تصريفه وانفاقه على المصلحة العامة ، التي تعني كل المواطنين ، فهو اعتداء على جميع المواطنين ، والدولة التي يستباح فيها المال العام من قبل موظفيها ، صغروا أم كبروا في المواقع التي يشغلونها ، دولة فاسدة لا تصلح لقيادة المجتمع وادارة شؤونه ، ووجب تغييرها بالقانون ، ومحاسبتها على ما تقترفه أيادي أعضائها ، من خلال تقديم هؤلاء للمساءلة القانونية ، واستعادة المال المسروق .
ان الدولة التي يعم فيها الفساد ، ويطبع سلوك أعضائها ، في طريقها الى ممارسة الاستبداد ، لأنها في عدم قدرتها على معالجة الفساد ، تلجأ الى لجم الأخرين الذين ينتقدونها ، ويطالبونها في أن تكون على مستوى المسؤولية ، التي كلفها المجتمع بها ، والفاسد في طبيعته عدواني ، لأنه استساغ عدوانيته على حقوق الناس جميعا ، ومن يتجرأ على المال العام يتجرأ على الاعتداء على المواطنين ، فما المواطن الا مجموعة سلوكيات وأعمال تعنى بالحقوق والواجبات ، فالفاسد لا يقيم وزنا لأداء واجباته ، ولا يقدم شيئا على ما يطلب منه من حقوق اتجاه الدولة والمجتمع .
ان الدولة التي تطمح أن تسير على النهج الديمقراطي تؤمن بمبدأ المساءلة ، بحيث يكون الجميع مسؤولين أمام القانون ، لينال كل واحد جزاءه على ما اقترفته يداه ، أو سوّلت له نفسه في أن يخدش كرامة الوطن والمواطن ، بالاعتداء على حقوقه ، والمساءلة واحدة من ركائز النهج الديمقراطي ، والا كيف تتم عملية المسيرة الديمقراطية في الانتخاب والترشيح والوصول الى مبدأ تداول السلطة .
ان المستبد فاسد لا محالة ، فهو معتد على الناس في حقوقهم ، و لايؤمن بما يترتب عليه من واجبات كغيره من المواطنين ، لأنه فوق الجميع ، فلا قانون يردعه ، ولا أخلاق تهذب سلوكه ، ولا قيم وأعراف تقف حاجزا بينه وبين ما يريد أن يغتصبه ، ومقولة المستبد العادل لا تصمد أمام التشخيص الدقيق فيها ، لأن الاستبداد اعتداء صارخ باستخدام القوة في مواجهة الآخرين ، ومن يمارس القوة كطريق للتعامل مع الآخرين بالضرورة ، انه يلقي الرعب والخوف في قلوبهم، ويسوغ لنفسه الاعتداء عليهم ، بما يقوم بتعميم الظلم عليهم بالتساوي .
ان الدولة أية دولة تتطلع الى تطبيق النهج الديمقراطي ، لابد وأن ينظم القانون علاقاتها مع المواطنين، وفيما بين سلطاتها قوانين ضابطة لحركة المجتمع والأفراد ، في ظل دستور عادل ، يتوخى أن يقيم العدل فيما بين أفراد المجتمع ، والا فان تسيب الدولة كنوع من أنواع الفساد ، والاعتداء على الأداء الوظيفي بالاهمال واللامبالاة ، في أداء الواجب وسرقة المال العام ، سيؤدي الى خراب الدولة وتفكيك أواصرها ، تدفع باللجوء الى ممارسة الاستبداد لفرض ديمومة الاستمرار، والمحافظة على الامتيازات التي تنالها .
3ـ بروز المال السياسي
بلدنا من البلدان الفقيرة ولم تظهر الثروة المادية كعامل ذات تأثير في النفوذ السياسي الا في الآونة الاخيرة ـ العشر سنوات الاخيرة ـ بشكل خاص ، حيث برز البعض ممن يملكون الثروة يطمحون الى الاستحواذ على النفوذ السياسي ، الى جانب الثروة التي يملكونها ، وفي كثير من الأحوال يفاجأ الناس بثروة هؤلاء ، على الرغم من أن البعض منهم يعمل في التجارة ، وفي قطاع العقارات على وجه الخصوص ، والثروة التي يملكونها تفوق ما يمكن أن يجنيه هؤلاء ، الا اذا شابها نوع من الاستغلال والجشع في الربح .
العديد من هؤلاء من أصحاب رأس المال لايملكون مؤهلا ثقافيا أو سياسيا ، ولم يعهد عنهم أنهم يعملون في السياسة ، ولا شأن لهم بالهم العام ، مثل الانتماء للاحزاب السياسية ، ولكن فيما يبدو أن ثقافة العولمة القائمة على الاستغلال والجشع ، أصبحت سمة لبعض الناس من الرأسماليين، وهم بشكل أو بأخر يريدون الحصول على النفوذ السياسي ، لدعم مشاريعهم وزيادة ثروتهم ، من خلال اكتساب المشاريع التي تنفذها الدولة ، أو أن لعابهم يسيل الى امتيازات المقعد النيابي ، الذي غالبا ما يدر المال الوفير ، بسبب فساد السلطة التنفيذية ، التي تعمد في أحيان كثيرة لرشوة النواب، من أجل كسب الثقة عند تقدمها لنيل هذه الثقة ، أو عند هدفها العمل على تمرير قانون ما، من خلال كسب تأييد النواب للموافقة عليه .
ومن أجل ذلك يلجأ العديد من المرشحين ممن يملكون ثروة الى الترشيح للمقعد النيابي ، ويقومون باستخدام المال في سبيل العديد من الفعاليات والنشاطات ، لكسب تأييد الناخبين ، ومنها دفع أموال نقدية ، أو مساعدات عينية للمواطنين ، أو دفع أموال للمنافسين لهم في الانتخابات ، من أجل افساح المجال لهم ، ليكون حظهم بالفوز أكبر من سواهم ، وتغض السلطة التنفيذية عن هؤلاء المحاسيب الذين فسدت ذممهم وضمائرهم ، ليكونوا أداة طيعة في أيديها ، لتكوين لوبي للحكومة داخل مجلس النواب ، ومثل هؤلاء لا يهمهم الهم العام ، ولا القيام بوظيفة عضومجلس النواب المتمثلة بالتشريع ، خاصة وهم يجهلون أبسط مفاهيم وظيفة التشريع ، لأنهم يفتقرون للوعي السياسي وحتى الثقافي ، فالربح المادي عندهم أهم من أي هدف سياسي أو مصلحة عامة ، الى جانب أن مثل هؤلاء غير قادرين على ممارسة وظيفة مراقبة الأداء العام للسلطة التنفيذية ، لأن الوسيلة التي وصلوا من خلالها الى مجلس النواب هي شراء الذمم ، والولاء المطلق للسلطة التنفيذية ، للتكسب من وراء هذا التأييد المطلق لها .
ان استخدام المال السياسي جريمة سياسية ، فبالرغم أنه تجاوز على حق المواطنين في حرية الاختيار ، فهو اغتصاب لسلطة التشريع من خلال شراء المقاعد النيابية بواسطة الثروة ، التي يملكها أصحابها ، وهو يعني خلق مجلس نيابي لا دور له بالعمل الذي ينتدب اليه ـ التشريع ، ومراقبة أداء السلطة التنفيذية ـ ، ووصول طبقة من المستغلين الى تمثيل صناعة القرار ، وهم آخر من يعمل في مثل هذه الوظيفة ، واتاحة الفرصة لتغول السلطة التنفيذية وأجهزتها على حقوق المواطنين .
ان استخدام المال السياسي اعتداء على الحق الجماهيري في الاختيار الحر لممثليهم في السلطة التشريعية ، ومنع وصول كل من لا يملك مالا للوصول الى قبة البرلمان ، وهو ما يتنافى مع حق المواطن في حرية الترشيح والانتخاب ، وهو ما يجعل الوطن برمته مرهون لطبقة ذات أهداف تجارية ، لا يهمها من الوطن الا الربح ، وتقديم الخدمات لمن يدفع أكثر .
ليس بالضرورة أن كل صاحب ثروة مجرد من احساسه الوطني ، لكن بالضرورة أن كل من يستخدم المال للوصول الى السلطة ، فهو فاسد ولا تهمه من الوطن الا مصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة ، ولهذا لابد من وضع حد لكل المرشحين ، وحرمان أي من هؤلاء من فرصة الترشيح اذا ثبت أنه قام باستغلال ماله ، وحتى نفوذه للتأثير على الاختيار الحر للمواطنين، الى جانب حرمان كل مواطن من حقه في الترشيح ، يقوم ببيع صوته الانتخابي لهذا المرشح أو ذاك من خلال تفعيل القوانين ذات الصلة ، أو سن قوانين لها علاقة بذلك ، الى جانب تخويل الهيئة القضائية المشرفة على الانتخابات صلاحية اتخاذ القرارات الرادعة .
انه من الممكن تقصير فترة الترشيح لعضوية مجلس النواب ، واقتصار الدعاية الانتخابية على وسائل الاعلام العامة ، بحيث ينال جميع المرشحين دعاية انتخابية متساوية ، الى جانب أن معالجة القانون الانتخابي ـ الصوت الواحد ـ ، والذي يتيح الفرصة لاختيار مرشح واحد على مستوى الدائرة الانتخابية الضيقة ، يتيح المجال لاستخدام المال السياسي .
ان استخدام المال السياسي يمنع الوطن من بداية تدشين مرحلة التحول الديمقراطي ، في عدم تمثيل الشعب بكافة فئاته وقطاعاته الى مجلس النواب ، لأن التمثيل هنا سيقتصر على أصحاب القدرة المالية ، وهم فئة محدودة في المجتمع ، لا علاقة لها بالوطن الا من خلال مصالحها ، وهو ما يعني أن المواطن سيصل الى طريق مسدود في أمله بتحقيق فرصة الوصول الى الممارسة الديمقراطية ، ولا يرى من مرحلة الانتخابات الا ما يغدق عليها من أصحاب الثروة ، من شراء الذمم واقامة الحفلات والولائم ، التي لن تتكرر من هذا النوع من المرشحين ، الا مرة واحدة كل أربع سنوات ، في حالة أن المجلس استطاع الصمود أمام سياسة الحل قبل انتهاء فترة ولايته .
المال السياسي جريمة في حق الوطن ، واعتداء على حق المواطنين ، لابد من وضع حد له قبل أن يستشري نفوذه ، وهو ما لا يقبله وطن يتوق الى بناء دولة ديمقراطية ، ترعى كل مواطنيها ومعبرة عن تطلعاتهم دون استثناء .
ان الدولة منوط بها أن تجند كافة عناصرها ، لتوفير أجواء انتخابية مناسبة ، وبعيدة عن أية محاولة للالتفاف عليها ، وخاصة ما أصبح يرافقها من استخدام المال لشراء ذمم المرشحين واستمالة ولائهم ، لانتخاب هذا المرشح أو ذاك ، لأنه يشوه العملية الانتخابية ، ويفقدها مضمونها ويجردها من أهدافها ، التي تصب في مصلحة جميع المواطنين ، ولا يجوز حصرها في مصلحة فئة محدودة ، ممن يظنون أنهم بواسطة ما يملكون قادرون على شراء كل شيئ ، بما فيه السلطة السياسية .
4ـ تغييب العمل الحزبي
يمر العمل الحزبي في أزمة حقيقية ، تعكسها حالة العزوف عن الانخراط في العمل الحزبي من قبل الجماهير ـ وقود النشاط الحزبي ـ ، وضعف الأداء من قبل الأحزاب ، مما ينعكس سلبا على عملية التحول الديمقراطي ، اذ لا ديمقراطية حقيقية بدون أحزاب حقيقية ، وهو ما يتطلب اعادة النظر في جميع العقبات ، التي وضعتها السلطة التنفيذية ، في طريق تنمية نشاط الأحزاب ، وبشكل خاص ما يتعلق بقانون الأحزاب ، والتوقف عن العقلية العرفية ، التي ما زالت تحكم صاحب القرار في التعامل مع الأحزاب ، والأعضاء المنتمين لها ، اذ ما زالت فعالياتها ونشاطاتها تواجه بالمنع والرفض ، والعديد من الأعضاء المنتسبين لها ما زالت الدولة تنظر لهم وكأنهم أعداء لها، فيحاربون في حقهم في العمل في أجهزة الدولة ، والجامعات الحكومية والخاصة .
حتى بعد اقرار قانون الأحزاب ، والذي ربط مرجعيتها بوزارة الداخلية بدلا من وزارة التنمية السياسية ، تواجه الأحزاب اقامة فعالياتها الجماهيرية بقانون الاجتماعات العامة ، مما يؤدي الى خشية المواطنين ، وحذرهم من الانتساب للأحزاب ، والمشاركة في فعالياتها ، لأنهم يشعرون أن السلطة التنفيذية وأدواتها الأمنية لهم بالمرصاد ، في الاعتقال والتحقيق والمساءلة والسفر والتوظيف ، مما يؤشر على أن اسلوب العرفنة مازال سائدا لدى الجهات الرسمية .
لقد ساهمت قضية الحظر الحزبي في الخمسينيات من القرن الماضي ، وما أصاب أعضاء هذه الأحزاب ، من سجن وحرمان من العمل والسفر ، في خشية الناس من الانضمام اليها ، وبالتالي أصبح قانون الأحزاب مجرد حبر على ورق ، خاصة وأن أجهزة الدولة الأمنية تعمل على الدوام على اختراق العمل الحزبي ، ولا تتورع عن السطو على مقارها ، وسرقة سجلات الأعضاء فيها، والعمل على تجنيد ذوي النفوس الضعيفة لكتابة تقاريرهم عن هذا العضو أو ذاك .
ان الأداء الحزبي في ظل مرحلة الانفتاح السياسي ، واجه ولا يزال يواجه العديد من العقبات والمشاكل ، التي تقف في طريق تقدمه واستمراريته بأداء دوره السياسي والجماهيري ، وبشكل خاص في الوضع المالي والاقتصادي لهذه الأحزاب ، نظرا لحاجة الحزب الى مكاتب وأعضاء متفرغين وصحف ونشرات ثقافية وبرامج ونشاطات جماهيرية ، مما يعيق العمل الحزبي في غياب توفير السيولة النقدية ، وهو ما تفتقر اليه غالبية الأحزاب السياسية .
ان أداء الأحزاب السياسية في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها ، وبفعل العراقيل والعقبات التي تضعها السلطة السياسية في طريق رقيها وتقدمها ، جعل مستوى أدائها دون مستوى الحد الأدنى، مما أصاب المواطن بالاحباط ، خاصة وهو يأمل في ظل مرحلة الانفتاح السياسي ، أن يتم تعويضه عن الحرمان الذي أصابه ، جراء مرحلة الاحكام العرفية التي صبغت المسيرة الحكومية لمدة تقارب من الاربعين عاما ، الى جانب أن هذه الأحزاب لم تناضل بما فيه الكفاية لانتزاع حقوقها وحقوق جماهيرها ، ولا حتى حقوق أعضائها يوم كانت أجهزة السلطة ترمي بهم في المعتقلات ، أو تحاربهم في أرزاقهم وقوت أطفالهم ، فقد داست أجهزة الدولة دون مبالاة أو اكتراث على حقوق الافراد والأحزاب ، لأنها تنظر الى الاحزاب والحزبيين أنهم من عالم آخر ، غير عالم الوطن والمجتمع الذي يضم الجميع ، مما دفع بالعديد من الأعضاء الى ترك العمل الحزبي ، مما أدى الى تفريغ الأحزاب من كوادرها النضالية .
ان الأحزاب السياسية مؤسسات وطنية ، وهي جزء من تركيبة الدولة ودستورها وقوانينها وأنظمتها ، وهي مؤسسات مشروعة ، تعمل في ظل سيادة الدستور والقانون ، مما يعني أن نجاح التجربة الحزبية على الساحة الوطنية هو نجاح للوطن والنظام السياسي ، وأن فشل الحزبية يؤدي الى ممارسات غير مسؤولة ، تنعكس سلبا على الوطن والمواطنين ، ومن هنا فلابد أن تؤدي الأحزاب السياسية دورها الفاعل ، في ظل رقي وتقدم المجتمع ، لأن عملية تغييب الأحزاب والعمل الحزبي هو تقزيم للعمل السياسي .
ان وجود الأحزاب السياسية يؤشر على وجود وعي سياسي لدى قطاع المجتمع ، وعلى امكانية تنظيم المجتمع بشكل منظم ، في ضوء ثقافة سياسية موحدة ، تلتقي جميعها على الدفاع عن الوطن وجماهيره الشعبية ومصالحها المشروعة ، وهي تؤشر أيضا على أن التحول الديمقراطي لا يمكن نجاحه ، في ظل غياب عمل حزبي ، فأعضاء الأحزاب السياسية هم من الناس المميزين ، فالشخصية الجماعية للحزب السياسي ذات أهداف تخدم تعزيز المصلحة الوطنية ، بطرق ووسائل مشروعة ، ولهذا فان ضرورات المسيرة الديمقراطية هو في السعي لفسح المجال أمام نشوء أحزاب سياسية ، والعمل على ايجاد المناخ الملائم لعمل هذه الأحزاب ، لأن الحزب جزء مهم من مؤسسات المجتمع المدني ، ولأن الديمقراطية لايمكن لها أن تسود بدون وجود أحزاب سياسية ، حيث لا ديمقراطية من دون أحزاب سياسية ، فالديمقراطية تعتمد بشكل واع على مفهوم الرأي والرأي الآخر ، وهذا لن يكون في غياب الأحزاب السياسية .
ان الحزب السياسي ظاهرة أو منظمة في مسلسل العملية السياسية ، مقارنة بالظواهر والتنظيمات السياسية الأخرى في تاريخ البشر السياسي ، وقد تركزت تجارب الأحزاب في العصر الحديث على كيفية تنظيم ممارسة الحرية ، حيث الحرية أمر حيوي ومقدس للفرد والمجتمع ، وممارسة الحرية لا يمكن أن تتم بدون قبول مبدأ الاختلاف والحق في الاختلاف ، والحزب السياسي هو حلقة الاتصال التي لا غنى عنها بين الشعب والجهاز الحكومي ، وهو الذي يقوم بتنظيم الشعب ، والسعي بتوعيته توعية سياسية ، وهو وسيلة جيدة لتنظيم انتقال السلطة وممارسة الحكم.
ان الحكم الفاعل والمؤثر هو المنبثق عن الممارسة الحزبية الفاعلة والنشيطة ، وان الدولة الذكية هي من تسعى لخلق الأحزاب ، من خلال توفير البيئة الملائمة لنشوئها وعملها ونشاطاتها ، وهي الدولة التي لا تخشى النشاط الحزبي المشروع ، والذي يستظل بمظلة الدستور والقانون ، والمشاركة السياسية لا يمكن أن تتم الا تحت خيمة الديمقراطية ، والتي لن تكون بغياب العمل الحزبي ، وفي مقدمة أنماط المشاركة السياسية النشاط الحزبي ، والنشاط الانتخابي والعمل النقابي، وجميعها ترتبط بمبدأ التعددية السياسية ، وحرية التعبير وحرية الاجتماع السلمي ، وحرية الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ، كل ذلك من أجل الوصول الى ضمان حق الفرد والجماعة في المشاركة في الشؤون العامة في البلاد .
ان عملية التحول الديمقراطي لن تتم في ظل سياسة تغييب الأحزاب واستهدافها وملاحقة أعضائها والتضييق عليهم ، والنتائج المتوخاة من وراء ذلك تقزيم العمل السياسي ، الى حد استخدامه كديكور لا يتجاوز الغطاء الخارجي ، الذي يؤدي الى أي نوع من تقدم المجتع ورقيه .
5ـ الانتخابات وقانون الصوت الواحد
لابد لأي قانون انتخابي أن يواكب التطورات والمستجدات ، وأن يفي بغرض التطور الذي يمر بالبلاد ، وأن يتناسب مع طبيعة المرحلة ، لأن الوطن يحتاج الى قانون انتخاب يؤمّن له الاستقرار، ويبعد به عن التوجهات الفردية ، التي لا تليق بأهمية المؤسسة التشريعية ، وانطلاقا من أهمية ودورالسلطة التشريعية والعمليات الانتخابية،التي توجب احاطة تلك العمليات بالضمانات الضرورية ، لايصال ممثلين حقيقيين عن الشعب الى قبة البرلمان ، فان وضع قانون متطور ومتقدم للانتخابات النيابية ، يقتضي تشكيل لجنة عليا مشتركة من ممثلين عن الحكومة والأحزاب السياسية والفعاليات النقابية و الفكرية ، لوضع مشروع قانون جديد ، ليعرض على مجلسي الأمة في دورة استثنائية ، بعد أن يتم افساح المجال أمام كافة قطاعات الشعب وشرائحه في ابداء الرأي والمناقشة ، فالسلطة ملك الشعب ، وهو وحده مصدر السلطات ، وارادة الشعب يجب أن تمثل تمثيلا حقيقيا ، لاعطائه الفرصة لصنع المجتمع الذي يتطلع اليه ، والذي يضمن المساواة والعمل بين الجميع دون تمييز .
ان الاحتكام الى صناديق الاقتراع لاتعني ممارسة الديمقراطية ، فورقة الانتخابات ونتائجها محكومة بعملية مترابطة ببعضها البعض ، من سن قانون يستطيع المجتمع أن يوصل ممثليه الى البرلمان ، بكافة شرائح المجتمع السياسية والفكرية والمهنية ، ومن خلال سلطة قضائية تقوم بالاشراف على عملية الانتخاب والترشيح والفرز واخراج النتائج بشفافية وموضوعية ، فكثيرة هي الدول التي تتبع الانتخابات النيابية عبر صناديق الاقتراع ، ولكن السلطة التنفيذية فيها متوغلة على السلطة التشريعية ، وتكاد أن تكون ملحقة بتوجيهاتها ، لأنها تسمح لأجهزتها الأمنية بالقيام بعملية التزوير ، والتدخل في كافة مراحل العملية الانتخابية .
ان اعتماد السلطة التنفيذية على سن قانون في ظل غياب السلطة التشريعية ، والاحتكام على نتائج هذا القانون ، هو اعتداء على الديمقراطية وحق السلطة التشريعية ، ولأن هذه الأخيرة الممثل الشرعي للشعب ، فان السلطة التنفيذية تقوم بالدوس على ارادة الشعب ، وتقف حجر عثرة في طريق أن ينتخب ممثليه بشكل يضمن التمثيل الحقيقي له .
ان القوانين الناظمة للعملية الانتخابية في العالم كثيرة ، وكل مجتمع يختار ما يلائمه منها ، فهناك الصوت الواحد للشخص الواحد ، في حالة تقسيم الدوائر الانتخابية بعدد الدوائر الانتخابية ، كما في المملكة المتحدة ، وهناك القائمة الحزبية والتمثيل النسبي ، وهو ما يعتمد على اجراء الانتخابات في ضوء القوائم الحزبية ، والنسبة التي يحصل فيها الحزب على عدد المقاعد ، التي تتوافق مع النسبة التي حصل عليها في الانتخابت ، في ضوء قائمة معدة ومتسلسلة بقائمته الحزبية ، وهناك الدائرة الوطنية بحيث يكون الوطن بكامله دائرة انتخابية واحدة ، ويصل الى قبة البرلمان العدد الذي حصل على أكبر نسبة من الأصوات .
على مشارف عام 1993 ، تم تعديل قانون الانتخاب لسنة 1986 ، فيما عرف بقانون بقانون الصوت الواحد ( رقم 15 لسنة 1993 ) ، والذي استبدل من نظام القائمة المفتوحة ، الذي يعطي فرصة للمواطن أن ينتخب عدد من المرشحين يساوي عدد المقاعد النيابية المخصصة لدائرته ، نظاما جديدا يقيد المواطن بانتخاب مرشح واحد فقط ايا ً كان عدد المقاعد في دائرته ، والذي كان يتراوح في حينه بين مقعدين الى تسعة مقاعد ، وقد استهدف القانون الحد من نفوذ القوى السياسية المنظمة ( الأحزاب السياسية ) .
لقد تعرض قانون الصوت الواحد لانتقادات عديدة وواسعة من مختلف أطياف العمل السياسي ، وهو بمثابة تراجع عن عملية التحول الديمقراطي ، لأنه يقوم على تشجيع الولاءات العشائرية والعائلية والطائفية والاقليمية ، على حساب الخيارات السياسية ، وقد عمد هذا القانون على تفتيت المجتمع وتقسيم بنيته ، وفتح المجال أمام تزايد تأثير المال السياسي ، وممارسة شراء الأصوات والذمم ، على حساب القيم الايجابية للمجتمع ، مثل النزاهة واحترام الارادة الانسانية والمصداقية.
ان آلية الصوت الواحد تم اعتمادها ، كوسيلة وأداة لتحقيق تدخل فاعل للسلطة في نتائج الانتخابات، من خلال تحجيم الأحزاب والقوى السياسية المعارضة ، وتعزيز الدور العشائري الأكثر انسجاما مع السلطة التنفيذية في مجلس النواب ، بما يضمن للسلطة الوصول الى نتائج مرضية على صعيد التمثيل النيابي ، وتمرير مشاريعها وسياساتها دون عقبات .
ان وضع قانون انتخابي في غياب السلطة التشريعية ، ومشاركة الاحزاب السياسية وأصحاب الرأي والفكر، هو بمثابة نكوص عن عملية التحول الديمقراطي التي نسعى اليها ، وأن تغول السلطة التنفيذية في وضع القوانين المؤقتة في غياب المجالس النيابية ، هو تحد واضح لأي نهج ديمقراطي يطمح الوطن والمواطن للوصول اليه ، فقد تم اجتزاء قانون الصوت الواحد لتحقيق أهداف سياسية ، لا تخدم الوطن والمواطن ، ولا تسمح للقوى السياسية أن تتقدم خطوة واحدة، على طريق حقها في التمثيل الشعبي ، من خلال الوصول الى المجلس النيابي .
من الضروري جدا أن تسعى السلطة التنفيذية على تغييب عقلية الشك والريبة ، وافتعال الخوف من القوى السياسية ، ومن وجود مجلس نيابي قوي يستطيع أن يمارس دوره في التشريع والرقابة ، فعقلية العرفنة قد أوصلت البلاد والعباد الى طريق مسدود ، وكادت تعصف بالمجتمع والدولة في هبة نيسان ، والاحتقان الشعبي عواقبه وخيمة ، عندما لا يتم ازالة العقبات في طريق وصول المواطن الى اعتقاد أن الأمل المنشود يمكن تحقيقه ، وعندما لايجد أمامه فرصة لتحسين أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويصاب باليأس والاحباط .
هناك تصور لتعديل قانون الصوت الواحد السئ الذكر ، بحيث يكون لكل ناخب صوتان ، صوت يقترع به لمرشح في دائرته الانتخابية ، وصوت آخر يقترع به لصالح قائمة حزبية على مستوى الوطن ، على أن يخصص نسبة لا تقل عن 20% من مقاعد المجلس النيابي ، والتي يتعين أن تضاف الى المقاعد الحالية للتنافس عليها وفق القائمة النسبية .
ان المدخل الصحيح لانجاز مرحلة التحول الديمقراطي ، من خلال قانون انتخاب ديمقراطي يعتمد مبدأ التمثيل النسبي الكامل ، باعتماد الوطن دائرة انتخابية واحدة لفسح الطريق أمام القوى السياسية وتحالفاتها ، على أسس برامجية ، تمثل مصالح الوطن ، للوصول الى البرلمان والمشاركة في صناعة القرار ، وتكريس مبدأ تداول السلطة .
خاتمة :
الاصلاح السياسي ضرورة وطنية ، وحاجة لتطور المجتمع ورقيه ، فهو مهمة الجميع داخل السلطة وخارجها ، لأنه يعني الوطن والمواطنين ، ولا يقتصر على مطالب المعارضة ، لأن منافعه تعم على الجميع ، ومن أجل مستقبل الوطن وحياة أبنائه ، ومن يجتهد في هذا السبيل أو ذاك ، أفضل بكثير من الذي يحمل عصا مواجهة التغيير ، من باب الشك والريبة في الآخرين ، فالجميع في مركب واحد ، ولا نجاة لأحد ان أصاب هذا المركب أي خلل في مسيرته ، ومن يدعي أنه حريص على المصلحة أكثر من الآخرين ، فهو واهم أو ضيق الأفق .
ان الذين يتمترسون وراء شد عجلة التطور الى الوراء ، أو في أقل تقدير مكانك سر ، هم بلا شك من لا يفهمون طبيعة التغير والحراك الاجتماعي ، ولا يستوعبون التطورات الاقليمية والدولية ، التي تلقي بآثارها على كواهلنا ، ونحن علينا أن لا نكل من محاولاتنا في التنبيه لأهمية أن نواكب العصر ، والعصر هو عصر الجماهير، التي لابد وأن تأخذ دورها في صناعة الحياة ، التي هي حياتنا جميعا ، واليوم أصبحت الديمقراطية مطلبا جماهيريا ، كما هي ضرورة ، لكي نواكب ما يجري في العالم ، بقلوب مفتوحة وعقول نيّرة وارادة حرة .
الاصلاح السياسي يحتاج في سطره الأول الى انجاز عملية التحول الديمقراطي ، هذه العملية التي تعني مجموعة من المفردات والعناوين شملت ما يلي : ـ
ـ التحول الديمقراطي ،
ـ الفساد والاستبداد ،
ـ المال السياسي ،
ـ تغييب الاحزاب وتقزيم العمل السياسي ،
ـ الانتخابات وقانون الصوت الواحد .
اننا نأمل من خلال ما طرحناه بايجاز في هذه العناوين ، أن نكون قد فتحنا الباب أمام القوى السياسية والفكرية والنقابية ، لاثراء النقاش حول هذه العناوين وغيرها ان أمكن ، من أجل حاضرنا ومستقبل أبنائنا .