دكتور أحمد محمد المزعنن
ثقافة الخبر
المبحث الخامس الخبر والسياسة
عندما يكون الكلام عن الخبر وعلاقته بالسياسات ترتفع كثير من الحواجز في وجه الكاتب أو المفكر أو الباحث،وعليه أن يتفادى الكثير من الألغام والحفر المستورة،أو ـ على الأقل ـ عليه أن يتفهم الخطوط الحمراء التي ترفعها أجهزة الرقابة في وجهه،حتى في أكثر البلاد ادعاء للحرية والانفتاح والديموقراطية والليبرالية وسلسلة المفاهيم والمصطلحات التي تطورت مع تطور حياة الإنسان،وأصبحت جزءًا إصيلاً من ممارساته الفردية والجمعية والمجتمعية والأممية، ونقف هنا أمام أنموذج جديد لفهم السلوك السياسي في ارتباطه مع ثقافة الخبر،حيث أقدمت قلعة حرية الفكر اللبرالي على صب قوالب العمل الإعلامي في قوالب الإدارة،وكبلته بقيودها تحت دعاوى الأمن القومي والوطني بعد أحداث 11سبتمبر 2001م،غيرها من الشعارات التي فرغها أصحابها وأنصارها من مضمونها،وأصبح عامة الناس يعرفون بل ويدركون الفرق بين ما يدعيه الساسة وبين حقيقة ما يؤمنون به ويمارسونه .
الساسة المقصودون في مبحثنا هذا هم الساسة الماديون كما حدد معالم سلوكهم أستاذهم الأكبر ميكيافيللي (1469م ـ 1527م)وعلماء السياسة المعاصرون التنويريون والأكاديميون الملتزمون بشروط المنهج العلمي وتطبيقاته الإنسانية والاجتماعية،وما تلاه من مصنفات علمية تربط بين المصلحة والسلوك دون الانتباه إلى المثاليات التي لا وجود لها في عالم المصالح إلا بالقدر الذي يحقق تلك المصالح في ضوء ما يعتبرونه مصفوفة أهداف مشروعة للمجتمع والدولة التي يشكلون جزءًا من كيانها.
ارتبطت السياسة المادية في أذهان الناس بالنفاق والكذب وخُلفِ الوعد والاحتيال تطبيقًا لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة،والقاعدة الذهبية في تعريف السياسة بأنها:فن الممكن،وما لا يُدْرك كله، لا يترك جلُّه،وذلك في ضوء محدودية العلم والإدراك الإنسانية،ونسبية القوة البشرية وقدرتها على الفعل ذي النتائج الفعالة كما هو الحل في الفلسفة الذرائعية ألمعروفة بالبراجماسية Pragmatism،ومن هذا المبدأ انطلقت كل الأحداث التي وضعت القيم والمثل العليا وراء ظهرها، وما ذلك إلا نتيجة للمسافة الكبيرة التي تفصل بين ما يلتزم به الساسة وما يمكن إنجازه والحصول عليه،فما يلتزم به السياسي في النظام الديموقراطي النيابي يمثل مجموعة من الوعود التي تشكل برنامج عمل حزبي تكتسب صفة المثالية التي ترسم صورة وردية لتحقيق الأحلام المرتبطة بالحاجات الأساسية للإنسان،وهو ما يطلق عليه في الديموقراطية الغربية برنامج الحزب أو الكتلة،وعادة يوجد بونٌ شاسع بين الوعود وبين الواقع الملىء بالعقبات والمشكلات والمعوقات تتسبب في التجاذب الدائم بين النائب أو الرئيس أو الممثل النيابي وبين الجماهير التي اختارته لتمثيلها،ورفعته إلى سدة الحكم لتحقيق أحلامها ويؤمن متطلبات العيش لها.
وفي العادة فإن الساسة الذين ينطبق عليهم تعريفنا غالبًا ما يتذرعون لاستباحة الكذب والنفاق والمراوغة بمقولات وشعارات وحجج تشكل التزامات واقعية نابعة من التصاقهم بالواقع وإدراكهم لمتغيراته وثوابته،مثل الأمن القومي،السلام الاجتماعي،المصلحة الوطنية أو القومية،سلامة قواتنا،المصلحة العليا للوطن،مكافحة الإرهاب، قلة أو ندرة الموارد،وغير ذلك كثير،ويتبعون كثيرًا من الحيل ووأساليب الإقناع المغلفة بالدبلوماسية والدماثة المصطنعة،وبالطبع ليس كل ما يقوم به السياسي هو من قبيل النفاق والكذب،وإلا لعمت الفوضى والاضطراب الحياة الإنسانية والعلاقات الدولية،ولكن المألوف في العمل السياسي أنه يتعامل مع الواقع de facto وعليه الالتزام بمعادلة دقيقة بين المثاليات التي ينادي بها الحالمون والمثاليون والنظريون ، والفلاسفة والأدباء والشعراء،إلى جانب ما تطالب به الجماعات والأحزاب المعارضة،وما ترفعه من شعارات،وما تمثله من مصادر ضغط دائم،وبين الحقائق التي يقدمها المهندسون والخبراء والمستشارون والمسؤلون الذين يكونون على خط التماس مع الجماهير،ويتلقون رجع الصدى من المواطنين.
لا بد لكل كتيبة من كبش
وكما أنه لا بد لكل قطيع من كبش،فلا بد في الأمم والشعوب والجماعات من كبشٍ أيضًا،وهو الجُحْجُح أي الكبش الضخم،ومنه الشقحْطَب:وهو الذي لك أربعة قرون،ومنه الكراز الذي يضع عليه الراعي خرجه ومتاعه،والكبش في السياسة ليس كلمة ذم،بل هو بمعنى الرئيس في لغة العرب،وذكر الجاحظ أن في كتابه الحيوان:أن الكبش مدحٌ،والتيس ذم،ولذلك غضب الخليفة عندما مدحه الشاعر البدوي عند قدومه على بغداد وهو لا يزال حديث عهد بجفاء وجفاف مفردات اللغة البدوي:
أنت كالكلب في حفاظك للوُدِّ : وكالتيْس في قِراعِ الخطوب
وهو نفس الشاعر الذي قال بعدما ذاق طعم نعيم العيش في بغداد المجد والرفاهية:
عيون المها بين الرصافة والجسر : جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ومنه قول الشاعر الفارس عمرو بن معديكرب عندما شاهد حبيبته لميس مثل البدر فثارت في رأسه نخوة العرب فقال قصيدته المشهورة التي جاء فيها:
نازلتُ كبشَهم ولم أرَ من نِزالِ الكبش بُدًا
فرئيس الجماعة البشرية يجب أن يكون ككبش الغنم من حيث القوة والحرص وقيادة القطيع،والصل في صفات القائد والرئيس ما ورد في القرآن الكريم على لسان ابنة شعيب عليه السلام عندما عرضت عليه استئجار النبي موسى عندما سقى لهما بعد أن صدر الرعاء،وتولى إلى الظل ليستريح،فقالت لأبيها بعد أن أخبرتاه بقصة شجاعته وقوته:( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ )(القصص:26)
ومهما قيل في هذه الفئات من الناس (السياسيين) فإنهم لحسن حظهم ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية؛إذ لا بد لكل جماعة أو مجتمع أو دولة من رئيس أو زعيم أو ملك أو قائد يكون ممثلاً ورمزًا للجماعة، ومع هذا المسؤول أو ذاك يأتي الأعوان والوزراء والحاشية والخبراء والمستشارون،وهذه الوظائف والأدوار على اختلاف أسمائها غالبًا ما تنبثق انبثاقًا تلقائيًا من حاجات الجماعة،أو تفرضها ظروف معينة،أو أوضاع داخلية دائمة أو مؤقتة .
لم تعد السياسة ذكاءً شخصيًا،وصفاتٍ تعتمد على الفراسة والتأمل،بل أضحت في عالم اليوم علمًا إمبيريقيًا تجريبيًا،بل مجموعة كبيرة من العلوم التي تستمد قوانينها ونظرياتها وبحوثها ووسائلها وفلسفاتها من مجموعة كبيرة من العلوم الإنسانية المساندة،بحيث يمكن القول:إن السياسة والإدارة ومجموعات العلوم المساندة تمثل أوضح تمثيل وحدة المعرفة التي كانت وما تزال حلمًا يراود الفلاسفة والمفكرين،وإلى جانب ذلك فإن السياسة مواهب تعضدها القدرة على الاتصال الناجح،وتنميها التجارب العامة والشخصية .
وفي كل هذه الحالات تلعب الأخبار والمعلومات دورًا هامًا في كل لحظة من لحظات العمل السياسي على كل المستويات،إن إدارة شؤون البشر تحتاج إلى عمليات اتصال نشطة ودائمة على مدار الساعة لخدمة جوانب الحياة الاجتماعية في كل ركن من أركان الوحدة الجغرافية التي تتبع الدولة أو الشعب،والمعلومات في طبيعتها الأساسية أخبار وأخبار،وتمثل المعلومات والأخبار عنصرًا هامًا في عملية اتخاذ القرارات،وتصبح الشخصيات السياسية هدفًا للعمل الإخباري من ناحية،ومصدرًا ووسيلة لصناعة الأخبار من ناحية أخرى،ويتم ذلك في دوائر معقدة من الفعل ورد الفعل،وتزداد أهمية الأخبار في وقت الأزمات،عندما ترتفع درجة القلق والتوتر الاجتماعي ، وتمس حاجة أي نظام لتوفير درجة عالية من المصداقية بالنسبة للمواطنين ، ولمواجهة الإشاعات التي قد تروجها جهات معادية للنيل من التماسك والوحدة .
ويتأثر العمل السياسي في بلد ما بموقع هذا البلد وأهميته الدينية والاقتصادية والعلمية ، وحجمه ومساحته وعلاقاته مع جيرانه ، وعناصر القوة التي تتوفر لديه ، والفكر والعقائد التي تملأ رؤوس الحكام ، ومسلكهم في أسرهم ومع الدوائر المحيطة بهم ، وتتأثر كذلك بالبطانة الملازمة لهم والمقربين منهم ، وكل هذه الجوانب تمثل ميدانًا خصبًا للأخبار والمعلومات ، وتكون الأخبار والمعلومات هامة للبلد نفسه وللبلاد الأخرى التي تهتم به لتحقيق أهداف تخدم مصالحها على المدى المنظور والمستقبلي ، وهذه أمور طبيعية في العلاقات الدولية ، ومن أجلها ظهرت أجهزة المعلومات التي تتسمى بأسماء الكثير منها ظاهر ، والبعض يتخفى خلف أسماء وأعمال ليس من السهل اكتشافها .
لقد تم تعريف الخبر في عدة مواقع،وقبل أن نستطرد في البحث علينا أن نُعَرِّفَ السياسة؛حتى لا تتشعب بنا السبل ونبتعد عن الهدف المنشود .
السياسة : في لغة العرب من سَوَسَ و ساس يسوس سياسة وسَوْسًا، والسَوْسُ : الرياسة،وساس الأمر:قام به،وسستُ الرعية،وسُوِّس الرجل أمور الناس،إذا كلف بإدارتها وتدبيرها،والسياسة:القيام على الأمر بما يصلحه،وهي فعل السائس الذي يقوم على الدواب،ويعتني بها ويروضها ويدربها،والوالي يسوس رعيته .( )
ولا يختلف المعنى الاصطلاحي كثيرًا عن المعنى اللغوي،فالأصل هو أن السياسة تدبير الأمور بما يحقق المصلحة،وإذا حدث ما يضاد ذلك من النتائج فغالبًا يكون السبب نقصًا أو عيبًا في الإنسان أو الوسائل أوالأدوات،أو خلل في المنهج،والأمر في النهاية نسبي يخضع لعامل الوقت والمكان والظروف والجماعة والقيادة ومتغيرات الواقع والضغوط التي يجد فيها متخذ القرار نفسه هدفًا لها .
وفي اللغة الإنجليزية فإن كلمة سياسة policy تعني شكلا من أشكال لعبة اليانصيب،جاء في دائرة المعارف البريطانية في شرح نفس المادة :
Policy : a form of lottery in which pellets usually numbered 1 to 78وقد جاءت الكلمة من الكلمة الإيطالية polliza التي تعني (receipt or ticket ) أي إيصال أو تذكرة . ( )
ولعله ليس من قبيل الصدف أن يتطابق المعنى اللغوي مع الواقع الذي تعيشه الإنسانية في موضوع السياسة والسياسيين،فهل السياسة في الوقت الراهن أكثر من لعبة يانصيب على آلة دوارة تشبه الطبلة؟وهل ساسة هذا الزمان أكثر من مقامرين على حاضرهم،ومستقبلهم،وواقع أممهم ومستقبل شعوبهم؟ وهل لأي سياسي من منهج يؤمن به ويتبعه غير الكذب والنفاق والمخاتلة والخداع والكيد؟تلك الصفات التي تغير لونها فأصبحت الذكاء والدبلوماسية والوعي والانتباه والتربص والحذر وسوء الظن؟
وفي قاموس وبستر مادة " Policy " نقرأ ما يلي :
1-Prudence or wisdom in the management of affairs, sagacity shrewdness
2- Procedure based on material interest , than on higher principles , worldly wisdom .
3- A settled course followed by a government , individual , etc.( )
وترجمة ذلك بالعربية : السياسة هي تشريع أو حكمة في تدبير الأمور . أو هي إجراءات قائمة على المصلحة المادية أكثر من المباديء أو الحكمة ، أو هي سياق ثابت تتبعه أي حكومة أو أي فرد .
وحسب قاموس أكسفورد " مادة Policy “ :
Policy is plan of action , statement of aims and ideals , esp one made by government , political party , business company ,etc.( )
ومعناها حسب هذا التعريف هي خطة عمل أو جهاز من الأهداف والمثل تضعها الحكومة أو الحزب السياسي أو شركة أعمال ... الخ.
والأصل في السياسة كما يقول ابن تيمية:هو أداء الأمانة،ووسيلة ذلك أن يُوَسَّدَ الأمرُ إلى أهله في الشؤون كلها،من أعلى منصب في الجماعة،وهو الإمامة العظمى،إلى أدنى الوظائف والأدوار الاجتماعية،فلا يتولى الأمر إلا القوي الأمين في كل وظيفة من وظائف العمل العام ، وإلى ذلك ذهب كل من بحث في السياسة الشرعية ، كالماوردي وغيره من العلماء .( )والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية،وهي أدلة تتفق مع الطبائع الإنسانية العاقلة،والفطر السوية.
ولا شك أننا سنجد في كل اللغات نفس هذه المعاني أو ما يشبهها في موضوع السياسة،وبما أن البشر متشابهون في التكوين العام،ومشتركون في الخصائص العامة لجنسهم ، فإننا نتوقع اهتمامهم بتدبير أمور حياتهم،وأن كل أعضاء جماعة يختارون من بينهم من يسوسهم ، ويتدبر أمورهم،وهذا أمر عام لا يكاد يفوت متبصر عاقل،أو متأمل أريب،أو باحث في هذا الباب،ويكاد يعم في جماعات الحيوانات والحشرات والطيور وغيرها مما ألهما الله بالغريزة الانقياد إلى كبير أو قوي أو مجرب .
وعندما تتكون الجماعات البشرية،وتتوزع الأدوار فيها،وتستقر الوظائف تظهر الحاجة إلى الأخبار والمعلومات التي يتم في ضوئها صيانة الأمن،وتأمين حاجات الجماعة،فالسياسة والخبر أمران متلازمان متكاملان،لا يستغني أحدهما عن الآخر،فالخبر وسيلة رئيسة من وسائل الحكم،ويقدم لنا التاريخ سجلا حافلا بالروايات والمواقف التي كان للخبر الدور الحاسم في كل جوانب الحياة،وأكثر ما يحتاج إليه الساسة وقت الحروب والأزمات هو الخبر،والواقع شاهد على صدق هذه المقولة ، حيث تلعب أجهزة المعلومات المدنية والعسكرية وشبه العسكرية دورًا متزايدًا في الحياة بجميع جوانبها:العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
الخبر سلاح الساسة في بحثهم عن السلطة والنفوذ،والمعلومات التي توفرها الأخبار على مدار الساعة لهم تكون العامل الحيوي الذي يفصل بين الحياة والموت بالنسبة لهم،ولا يغفل السياسي سواء كان في السلطة أو المعارضة،في أقصى اليمين أو في أقصى اليسار هذا العامل الهام،فمن كان لديه طموح ما من أي نوع وفي أي مستوى للوصول إلى منصب أو تولي وظيفة معينة ، فليس أثمن وأهم من الأخبار وما توفره له من المعلومات عن الأمور الداخلية والخارجية .
ويجب أن نميز في السياسة بين الأخبار بمعناها الإعلامي وبين المعلومات التي هي في الحقيقة أخبار،فالخبر الإعلامي يمثل مادة يومية متغيرة ويخدم الخبر الرجل السياسي في أنه يجعله على تماس مع الأحداث فلا يفاجأ بخبر غير متوقع يفسد عليه بعض خططه،والخبر كما يقدم خدمات جليلة للسياسي فهو مصدر خطر عليه،فكل سياسي واعٍ يدرك أنه هدف للخصوم وحملات التشويه والإشاعات من الطرف المعارض أو النقيض . أما المعلومات فتكون عادة أداة ذات طبيعة تراكمية ترد من مصادرها بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية أحيانًا ، ففي السياسة يضيق أو ربما ينعدم الفاصل بين ما هو شرعي أخلاقي وما هو غير ذلك .
ويعرف كل السياسيين في كل المستويات أهمية المال والنساء في الحصول على الأخبار،ودورهما الحاسم في العمل السياسي ، فطالما كان المال وسيلة هامة للحصول على الأخبار،وتلعب المرأة دورًا رئيسًا في ثقافة هذا الخبر الذي قد يحدد ـ بل هو بالتأكيد يحدد ـ مصير الساسة والزعماء.*وليست نهاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون بعيدة عن الذاكرة،والضجة التي أحدثتها سلوكياته مع المتدربة مونيكا لوينسكي وفي المكتب البيضوي في البيت البيض الذي سبقه إليه رجال عظماء محترمون من الرؤوساء السابقين ، وقد افتتضح أمره وأجبر على الاعتراف بما فعله من العمل المشين وكان ذلك عام 1998م .
*وكذلك لا تغيب عن الذاكرة نهاية الرئيس الأميركي الجمهوري ريتشارد نيكسون الذي تستر على عمليات التجسس على الحزب الديمقراطي في ووترجيت وحوكم وأجبر على الاستقالة عام 1972م .
*وما مصير وزير الدفاع البريطاني جون بروفوميو في أوائل ستينيات القرن العشرين الماضي ببعيد ، نتيجة لعلاقته بالغانية كريستين كيلر التي كانت تجمع علية القوم في المجتمع البريطاني في قصر وندسور عم الملكة وتجلدهم واحدًا واحدًا وهم عراة والآخرون يتلذذون بالنظر لما يجري عبر سلسلة من المرايا العاكسة التي تنقل الصورة إلى المجلس الخارجي .
*وقد تنازل ملك انجلترا إدوارد الثالث عن العرش بعد أقل من سنة من توليه العرش عام 1936 م وذلك عندما أعلن عن عزمه الزواج من خارج الأسرة المالكة وقد تزوج في العام التالي من أمريكية هي واليس سمبسون وأعطي لقب دوق وعاش بقية حياته كرجل عادي حتى توفي عام 1972م .
* وغني عن التعريف دور المؤسسات المالية الحاسم في تحديد المنتصر والمهزوم في الحملات الانتخابية في الدول الديموقراطية،ويظهر أثر هذا الدور في عقد الصفقات بين الساسة والمؤسسات التي تمولهم،وتؤمن لهم التمويل اللازم للتغطية الإعلامية وكل ما يحتاجه رجل السياسة لتحقيق رغبته وطموحه في الفوز ، نظير جني المكاسب والفوز بالعقود الاستثمارية بعد الفوز .
*وفي دوامة ثقافة الخبر المحمومة تقدم الإعلاميون البارزون إلى الصفوف الأولى في سلم المكانة الاجتماعية،وصار الزعماء والقادة والسياسيون البارزون يخطبون ودهم ، ويقدمونهم ، ويحرصون على استمالتهم بكل الوسائل ، ويتخذون منهم المستشارين المقربين ، وقد انتبه الساسة إلى الدور الخطير للإعلام فاستحدثت الأحزاب ومؤسسات المجتمع على اختلاف طبيعتها ووظائفها دوائر المعلومات والإعلام لتكون وسائط الاتصال بينها وبين الجماهير بغرض نقل الرسالة التي تريد توصيلها وتلقي رجع الصدى الذي يمكنها من تكييف رسالاتها واوضاعها بشكل مرضٍ .
ويدرك رجال الإعلام والمالكون لزمام الأخبار الرغبة المحمومة والحاجة الملحة لدى الساسة إلى أخبارهم ومعلوماتهم عن كل ما يهم السياسي ، فهم لذلك يستخدمون هذه المعادلة السيكلوجية بأسلوب براجماسي يحقق لهم المزيد من قوة الضغط والمكانة المرموقة ، وبذلك صارت الأخبار أغلى سلعة في لعبة شد الحبل السياسية في المجتمع المعاصر ، والكثير من أصحاب المناصب الرفيعة في الإدارات المختلفة كالسفراء والوزراء ومناصب الصف الثاني والثالث في الدولة بدأوا حياتهم في مجال الإعلام ، وزادت خطورة مناصبهم بسبب اشتغلهم بالوظائف الإخبارية وتحكمهم في أجهزة المعلومات ، واستثمار الكثيرين منهم لتلك المكانة في احتلال مكانة مرموقة في مجتمعاتهم .
تمثل الولايات المتحدة الأمريكية الأنموذج الأكبر دلالة على قوة نفوذ الإعلام والإعلامين في السياسات العامة،وهناك أسماء لامعة في تاريخ الإعلام الأمريكي تركوا بصماتهم على الحياة الأمريكية ،ومارسوا العمل الإعلامي بحرفية ومهنية عالية المستوى أوحت للكثيرين خارج الولايات المتحدة بأن يحذوا حذوهم ، فبربارا والترز (1931م ـ .... )الإعلامية البارعة التي يطلقون عليها مُحاوِرَة الرؤوساء والملوك ، وولتر كرونكرت الذي توفي أخيرًا عن عمر يناهز الحادية والتسعين ،والذي كان له نوذ واسع على الساسة والجماهير في أميركا إبان السبعينات وما بعدها ، ومن أعظم كتاب العصر المعلق والمفكر المريكي الإعلامي الكبير وولتر ليبمان(1889م ـ 1948م) ليبمان، والتر (1889 - 1974م). صحفي أمريكي اكتسب شهرة عالمية بوصفه كاتبًا سياسيًا وفيلسوفًا. وقد اشتهر بأسلوبه الواضح في الكتابة، والذي يعكس عمق تفكيره. عبَّر ليبمان في كتابته عن اعتقاده أنه لايمكن أن يقوم مجتمع متحضِّر دون أن يُعْمِل الناس العقل بدلاً من المشاعر المتقلبة في سلوكياتهم .
قام ليبمان طوال الفترة من عام 1931م حتى عام 1967م بكتابة عمود في جريدة نيويورك هيرالد تريبيون تحت عنوان اليوم وغدًا. وقد آل الأمر بهذا العمود إلى أن صار يُنشر في أكثر من 200 صحيفة. وفي عام 1962م فاز ليبمان بجائزة بوليتزر عن التقارير الصحفية الدولية. حظي ليبمان بتقدير بوليتزر الخاص عن مقالاته التحليلية حول الشؤون القومية والدولية.وُلد ليبمان في مدينة نيويورك، وتخرج في جامعة هارفارد عام 1910م(ttp://mousou3a.educdz.com/1/123675_1.htm)
ويقوم العمل السياسي الحديث في المجتمعات المعاصرة على النظريات والمناهج العلمية ، التي تستثمر التقدم في فروع المعرفة الإنسانية الأخرى كعلم النفس بفروعه المختلفة ، وعلم الاقتصاد ، ويُدَرَّسُ في المعاهد والجامعات على أعلى درجة من التخصص ، ويستخدم المتخصصون في علم السياسة أرقى وسائل التحليل العلمي الذي يعتمد على البيانات الإحصائية ، وتتنوع فروعه بدرجة موازية لتقدم وتعقد وتطورالحياة الاجتماعية والمدنية في الجزء المعمور من الأرض .
صدر قرار غزو العراق من أعلى هرم السلطة السياسية في كل من الولايات المتحدة الأميريكية والمملكة المتحدة والمملكة الإسبانية واتحاد أستراليا ومجموعة الحلفاء الذين انضموا إليهم بعد أن نصبوا أنفسهم حماة للعدالة والحق والديموقراطية والمشاعر الإنسانية ، وصادروا إرادة العالم ممثلاً في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى ، ووضعوا الجميع أمام الأمر الواقع ، ثم تبينوا في النهاية واعترفوا أنهم كانوا ضحية معلومات وتقارير وأخبار وقصص معظمها ملفق فيما يتعلق بقضيتين هما : امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ،وعلاقة نظام الرئيس العراقي المرحوم صدام حسين بالقاعدة التي تنسب إليها واشنطن الوقوف وراء هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م على برجي التجارة الدولية بنيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية بواشنطن العاصمة ، وهما الذريعتان اللتان اتخذها التحلف سببًا كافيًا لمحرابة الإرهاب في أرضه قبل أن يحاربنا في أرضنا ،أي اتباع أسلوب الحرب الوقائية الذي طوره الكيان الصهيوني منذ قيامه،ولقي قبولاً واسعًا في الغرب ، وهذا سلوك سياسي ما كان ليقدُم أصحابه عليه إلا نتيجة لنشاط محموم من أجهزة الأخبار والاستخبارات والمعلومات وأجهزة دعم القرار ومراكز الأبحاث والدراسات ، وقد تسبب بدوره في صناعة الأخبار وأحدث ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية وبشرية سيكون لها تأثير كبير ليس على المستوى المحلي والإقليمي فحسب، بل وأيضًا على المستوى الدولي ، ولأجيال قادمة ، فالأمريكان والإنجليز لم يأتوا لنزهة ، ولا لأداء عمل محدود بوقت أو مكان ، وهم لا يخفون ذلك ، بل يعلنونه بكل لغات الأرض ، وعلى كل مهتم بدراسة ناحية معينة أو رصد سلوك أو ظاهرة ما أن يتوقع ثراءً لا مثيل له ، وخصوبة في ميادين البحث ستشغل الباحثين والدارسين والمحللين عن أمور عائلاتهم ، وتدبر شؤونهم الخاصة ، وسوف تنتج عن الحالة الجديدة الكثير من الأمراض والعلل من كل نوع ، وربما لن نتمكن من تسمية الكثير منها فنختار لها الحروف الهجائية لترميزها ، أو ترقيمها كما نرقم البيوت والسيارات وصفحات الكتب .
ونختم هذه الصفحات بعبارة قد تعجب الذين تستهويهم كلمات صدرت عن عالمٍ طاعن في السن ، تراءت له بعض معالم الحقيقة عندما تقدم به العمر ، ولو كان عالِمًا يهوديًا مثل إنشتاين ، فإن الحقيقة ليست حكرًا ، ففي خطابه المؤرخ في الثاني من أغسطس من عام 1939 م إلى رئيس الولايات المتحدة تيودور روزفلت ، حذره فيه من الأخطار المحدقة بالبشرية جمعاء ، والتي قد تسفر عن أبحاث كل من العالمين الأميريكيين : فيرمي وسيزلارد ، والعالم الفرنسي جوليه ، وما قد تؤدي إليه من اختراع سلاح مدمر ؛ نتيجة لاستعمال عنصر اليورانيم لإحداث تفجيرات متتابعة وتوليد طاقة هائلة ، وهو ما عُرِفَ فيما بعد بالقنبلة الذرية أو النووية وتلتها القنبلة الهيدروجينية وما هو طي الكتمان من أسلحة الدمار الشامل التي تظهر بين الحين والآخر في النزاعات والحروب التي تكون الولايات المتحدة أو الكيان العنصري الصهيوني طرفًا فيها، وكان هذا بالطبع بفضل الأبحاث والنظريات المتقدمة لإنشتاين نفسه ، وغيره من العلماء في مجال الفيزياء والرياضيات وغيرهما من العلوم الحديثة، ولما لم تجد تحذيراته صدى تحت ضغط نُذر أخطار الحرب العالمية الثانية الماثلة في سماء أوروبا بظهور الحركة النازية في ألمانيا والحركة الفاشية في إيطاليا والحركات القومية العنصرية في اليابان التي وصلت في أواخر أيامها إلى الأرض الأمريكية نفسها في صباح الأحد 7 ديسمبر 1941م حيث دمَّر اليابانيون الأسطول الأمريكي الراسي في ميناء بيرل هاربر ، سارعت أميركا في جهودها في اختراع القنبلة النووية ، متجاهلة تحذيرات إينشتاين ، ولم تتردد في استخدامها مرتين عام 1945 م ، ضد مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين ، وقد نتج عن القنبلتين آثار تدميرية ربما كانت أكبر مما توقعه العالم إنشتاين ؛ وربما أيضًا هذا ما جعله يقول قبل موته بقليل في عام 1955 م ، وتحت ضغط الشعور بالإحباط أو الندم ، أو في لحظة من لحظات مواجهة الحقيقة ، أو انكشاف بعض الأسرار عند انقطاع الأمل من الدنيا :
" فقط لو كنت أدري لكان ينبغي أن أكون صانع ساعات " .
“The release of atom power has changed everything except our way of thinking…the solution to this problem lies in the heart of mankind. If only I had known, I should have become a watchmaker.” - Albert Einstein
وربما يكون الكثيرون ممن جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أيديهم مقاليد أمور شعوب العالم في الوقت الراهن ـ ابتلاءً واختبارًا وتمحيصًا ـ وأعطاهم سلطة اتخاذ القرارات أوْلى بعبارة إنشتاين هذه .
دكتور أحمد محمد المزعنن
[email protected]
الحواشي :
( 1 ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، جزء 1 ، بيروت : دار إحياء التراث العربي ، 8831 هـ ،1969 م ، صفحة 190 .
ابن منظور : لسان العرب ، جزء 6 ، صفحة 429 .
) Encyclopaedia Britannica , Internet , 1998
(4 Webster Ideal Dictionary , 1960 , P. 408
5 ) A. S. Hornby , Oxford Advanced Learner’s Dictionary Of Current English , p 646
6 ) تقي الدين بن تيمية ، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، ط 4 ، القاهرة ، دار الكتاب العربي ، ( بدون سنة طبع )
ثقافة الخبر
المبحث الخامس الخبر والسياسة
عندما يكون الكلام عن الخبر وعلاقته بالسياسات ترتفع كثير من الحواجز في وجه الكاتب أو المفكر أو الباحث،وعليه أن يتفادى الكثير من الألغام والحفر المستورة،أو ـ على الأقل ـ عليه أن يتفهم الخطوط الحمراء التي ترفعها أجهزة الرقابة في وجهه،حتى في أكثر البلاد ادعاء للحرية والانفتاح والديموقراطية والليبرالية وسلسلة المفاهيم والمصطلحات التي تطورت مع تطور حياة الإنسان،وأصبحت جزءًا إصيلاً من ممارساته الفردية والجمعية والمجتمعية والأممية، ونقف هنا أمام أنموذج جديد لفهم السلوك السياسي في ارتباطه مع ثقافة الخبر،حيث أقدمت قلعة حرية الفكر اللبرالي على صب قوالب العمل الإعلامي في قوالب الإدارة،وكبلته بقيودها تحت دعاوى الأمن القومي والوطني بعد أحداث 11سبتمبر 2001م،غيرها من الشعارات التي فرغها أصحابها وأنصارها من مضمونها،وأصبح عامة الناس يعرفون بل ويدركون الفرق بين ما يدعيه الساسة وبين حقيقة ما يؤمنون به ويمارسونه .
الساسة المقصودون في مبحثنا هذا هم الساسة الماديون كما حدد معالم سلوكهم أستاذهم الأكبر ميكيافيللي (1469م ـ 1527م)وعلماء السياسة المعاصرون التنويريون والأكاديميون الملتزمون بشروط المنهج العلمي وتطبيقاته الإنسانية والاجتماعية،وما تلاه من مصنفات علمية تربط بين المصلحة والسلوك دون الانتباه إلى المثاليات التي لا وجود لها في عالم المصالح إلا بالقدر الذي يحقق تلك المصالح في ضوء ما يعتبرونه مصفوفة أهداف مشروعة للمجتمع والدولة التي يشكلون جزءًا من كيانها.
ارتبطت السياسة المادية في أذهان الناس بالنفاق والكذب وخُلفِ الوعد والاحتيال تطبيقًا لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة،والقاعدة الذهبية في تعريف السياسة بأنها:فن الممكن،وما لا يُدْرك كله، لا يترك جلُّه،وذلك في ضوء محدودية العلم والإدراك الإنسانية،ونسبية القوة البشرية وقدرتها على الفعل ذي النتائج الفعالة كما هو الحل في الفلسفة الذرائعية ألمعروفة بالبراجماسية Pragmatism،ومن هذا المبدأ انطلقت كل الأحداث التي وضعت القيم والمثل العليا وراء ظهرها، وما ذلك إلا نتيجة للمسافة الكبيرة التي تفصل بين ما يلتزم به الساسة وما يمكن إنجازه والحصول عليه،فما يلتزم به السياسي في النظام الديموقراطي النيابي يمثل مجموعة من الوعود التي تشكل برنامج عمل حزبي تكتسب صفة المثالية التي ترسم صورة وردية لتحقيق الأحلام المرتبطة بالحاجات الأساسية للإنسان،وهو ما يطلق عليه في الديموقراطية الغربية برنامج الحزب أو الكتلة،وعادة يوجد بونٌ شاسع بين الوعود وبين الواقع الملىء بالعقبات والمشكلات والمعوقات تتسبب في التجاذب الدائم بين النائب أو الرئيس أو الممثل النيابي وبين الجماهير التي اختارته لتمثيلها،ورفعته إلى سدة الحكم لتحقيق أحلامها ويؤمن متطلبات العيش لها.
وفي العادة فإن الساسة الذين ينطبق عليهم تعريفنا غالبًا ما يتذرعون لاستباحة الكذب والنفاق والمراوغة بمقولات وشعارات وحجج تشكل التزامات واقعية نابعة من التصاقهم بالواقع وإدراكهم لمتغيراته وثوابته،مثل الأمن القومي،السلام الاجتماعي،المصلحة الوطنية أو القومية،سلامة قواتنا،المصلحة العليا للوطن،مكافحة الإرهاب، قلة أو ندرة الموارد،وغير ذلك كثير،ويتبعون كثيرًا من الحيل ووأساليب الإقناع المغلفة بالدبلوماسية والدماثة المصطنعة،وبالطبع ليس كل ما يقوم به السياسي هو من قبيل النفاق والكذب،وإلا لعمت الفوضى والاضطراب الحياة الإنسانية والعلاقات الدولية،ولكن المألوف في العمل السياسي أنه يتعامل مع الواقع de facto وعليه الالتزام بمعادلة دقيقة بين المثاليات التي ينادي بها الحالمون والمثاليون والنظريون ، والفلاسفة والأدباء والشعراء،إلى جانب ما تطالب به الجماعات والأحزاب المعارضة،وما ترفعه من شعارات،وما تمثله من مصادر ضغط دائم،وبين الحقائق التي يقدمها المهندسون والخبراء والمستشارون والمسؤلون الذين يكونون على خط التماس مع الجماهير،ويتلقون رجع الصدى من المواطنين.
لا بد لكل كتيبة من كبش
وكما أنه لا بد لكل قطيع من كبش،فلا بد في الأمم والشعوب والجماعات من كبشٍ أيضًا،وهو الجُحْجُح أي الكبش الضخم،ومنه الشقحْطَب:وهو الذي لك أربعة قرون،ومنه الكراز الذي يضع عليه الراعي خرجه ومتاعه،والكبش في السياسة ليس كلمة ذم،بل هو بمعنى الرئيس في لغة العرب،وذكر الجاحظ أن في كتابه الحيوان:أن الكبش مدحٌ،والتيس ذم،ولذلك غضب الخليفة عندما مدحه الشاعر البدوي عند قدومه على بغداد وهو لا يزال حديث عهد بجفاء وجفاف مفردات اللغة البدوي:
أنت كالكلب في حفاظك للوُدِّ : وكالتيْس في قِراعِ الخطوب
وهو نفس الشاعر الذي قال بعدما ذاق طعم نعيم العيش في بغداد المجد والرفاهية:
عيون المها بين الرصافة والجسر : جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ومنه قول الشاعر الفارس عمرو بن معديكرب عندما شاهد حبيبته لميس مثل البدر فثارت في رأسه نخوة العرب فقال قصيدته المشهورة التي جاء فيها:
نازلتُ كبشَهم ولم أرَ من نِزالِ الكبش بُدًا
فرئيس الجماعة البشرية يجب أن يكون ككبش الغنم من حيث القوة والحرص وقيادة القطيع،والصل في صفات القائد والرئيس ما ورد في القرآن الكريم على لسان ابنة شعيب عليه السلام عندما عرضت عليه استئجار النبي موسى عندما سقى لهما بعد أن صدر الرعاء،وتولى إلى الظل ليستريح،فقالت لأبيها بعد أن أخبرتاه بقصة شجاعته وقوته:( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ )(القصص:26)
ومهما قيل في هذه الفئات من الناس (السياسيين) فإنهم لحسن حظهم ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية؛إذ لا بد لكل جماعة أو مجتمع أو دولة من رئيس أو زعيم أو ملك أو قائد يكون ممثلاً ورمزًا للجماعة، ومع هذا المسؤول أو ذاك يأتي الأعوان والوزراء والحاشية والخبراء والمستشارون،وهذه الوظائف والأدوار على اختلاف أسمائها غالبًا ما تنبثق انبثاقًا تلقائيًا من حاجات الجماعة،أو تفرضها ظروف معينة،أو أوضاع داخلية دائمة أو مؤقتة .
لم تعد السياسة ذكاءً شخصيًا،وصفاتٍ تعتمد على الفراسة والتأمل،بل أضحت في عالم اليوم علمًا إمبيريقيًا تجريبيًا،بل مجموعة كبيرة من العلوم التي تستمد قوانينها ونظرياتها وبحوثها ووسائلها وفلسفاتها من مجموعة كبيرة من العلوم الإنسانية المساندة،بحيث يمكن القول:إن السياسة والإدارة ومجموعات العلوم المساندة تمثل أوضح تمثيل وحدة المعرفة التي كانت وما تزال حلمًا يراود الفلاسفة والمفكرين،وإلى جانب ذلك فإن السياسة مواهب تعضدها القدرة على الاتصال الناجح،وتنميها التجارب العامة والشخصية .
وفي كل هذه الحالات تلعب الأخبار والمعلومات دورًا هامًا في كل لحظة من لحظات العمل السياسي على كل المستويات،إن إدارة شؤون البشر تحتاج إلى عمليات اتصال نشطة ودائمة على مدار الساعة لخدمة جوانب الحياة الاجتماعية في كل ركن من أركان الوحدة الجغرافية التي تتبع الدولة أو الشعب،والمعلومات في طبيعتها الأساسية أخبار وأخبار،وتمثل المعلومات والأخبار عنصرًا هامًا في عملية اتخاذ القرارات،وتصبح الشخصيات السياسية هدفًا للعمل الإخباري من ناحية،ومصدرًا ووسيلة لصناعة الأخبار من ناحية أخرى،ويتم ذلك في دوائر معقدة من الفعل ورد الفعل،وتزداد أهمية الأخبار في وقت الأزمات،عندما ترتفع درجة القلق والتوتر الاجتماعي ، وتمس حاجة أي نظام لتوفير درجة عالية من المصداقية بالنسبة للمواطنين ، ولمواجهة الإشاعات التي قد تروجها جهات معادية للنيل من التماسك والوحدة .
ويتأثر العمل السياسي في بلد ما بموقع هذا البلد وأهميته الدينية والاقتصادية والعلمية ، وحجمه ومساحته وعلاقاته مع جيرانه ، وعناصر القوة التي تتوفر لديه ، والفكر والعقائد التي تملأ رؤوس الحكام ، ومسلكهم في أسرهم ومع الدوائر المحيطة بهم ، وتتأثر كذلك بالبطانة الملازمة لهم والمقربين منهم ، وكل هذه الجوانب تمثل ميدانًا خصبًا للأخبار والمعلومات ، وتكون الأخبار والمعلومات هامة للبلد نفسه وللبلاد الأخرى التي تهتم به لتحقيق أهداف تخدم مصالحها على المدى المنظور والمستقبلي ، وهذه أمور طبيعية في العلاقات الدولية ، ومن أجلها ظهرت أجهزة المعلومات التي تتسمى بأسماء الكثير منها ظاهر ، والبعض يتخفى خلف أسماء وأعمال ليس من السهل اكتشافها .
لقد تم تعريف الخبر في عدة مواقع،وقبل أن نستطرد في البحث علينا أن نُعَرِّفَ السياسة؛حتى لا تتشعب بنا السبل ونبتعد عن الهدف المنشود .
السياسة : في لغة العرب من سَوَسَ و ساس يسوس سياسة وسَوْسًا، والسَوْسُ : الرياسة،وساس الأمر:قام به،وسستُ الرعية،وسُوِّس الرجل أمور الناس،إذا كلف بإدارتها وتدبيرها،والسياسة:القيام على الأمر بما يصلحه،وهي فعل السائس الذي يقوم على الدواب،ويعتني بها ويروضها ويدربها،والوالي يسوس رعيته .( )
ولا يختلف المعنى الاصطلاحي كثيرًا عن المعنى اللغوي،فالأصل هو أن السياسة تدبير الأمور بما يحقق المصلحة،وإذا حدث ما يضاد ذلك من النتائج فغالبًا يكون السبب نقصًا أو عيبًا في الإنسان أو الوسائل أوالأدوات،أو خلل في المنهج،والأمر في النهاية نسبي يخضع لعامل الوقت والمكان والظروف والجماعة والقيادة ومتغيرات الواقع والضغوط التي يجد فيها متخذ القرار نفسه هدفًا لها .
وفي اللغة الإنجليزية فإن كلمة سياسة policy تعني شكلا من أشكال لعبة اليانصيب،جاء في دائرة المعارف البريطانية في شرح نفس المادة :
Policy : a form of lottery in which pellets usually numbered 1 to 78وقد جاءت الكلمة من الكلمة الإيطالية polliza التي تعني (receipt or ticket ) أي إيصال أو تذكرة . ( )
ولعله ليس من قبيل الصدف أن يتطابق المعنى اللغوي مع الواقع الذي تعيشه الإنسانية في موضوع السياسة والسياسيين،فهل السياسة في الوقت الراهن أكثر من لعبة يانصيب على آلة دوارة تشبه الطبلة؟وهل ساسة هذا الزمان أكثر من مقامرين على حاضرهم،ومستقبلهم،وواقع أممهم ومستقبل شعوبهم؟ وهل لأي سياسي من منهج يؤمن به ويتبعه غير الكذب والنفاق والمخاتلة والخداع والكيد؟تلك الصفات التي تغير لونها فأصبحت الذكاء والدبلوماسية والوعي والانتباه والتربص والحذر وسوء الظن؟
وفي قاموس وبستر مادة " Policy " نقرأ ما يلي :
1-Prudence or wisdom in the management of affairs, sagacity shrewdness
2- Procedure based on material interest , than on higher principles , worldly wisdom .
3- A settled course followed by a government , individual , etc.( )
وترجمة ذلك بالعربية : السياسة هي تشريع أو حكمة في تدبير الأمور . أو هي إجراءات قائمة على المصلحة المادية أكثر من المباديء أو الحكمة ، أو هي سياق ثابت تتبعه أي حكومة أو أي فرد .
وحسب قاموس أكسفورد " مادة Policy “ :
Policy is plan of action , statement of aims and ideals , esp one made by government , political party , business company ,etc.( )
ومعناها حسب هذا التعريف هي خطة عمل أو جهاز من الأهداف والمثل تضعها الحكومة أو الحزب السياسي أو شركة أعمال ... الخ.
والأصل في السياسة كما يقول ابن تيمية:هو أداء الأمانة،ووسيلة ذلك أن يُوَسَّدَ الأمرُ إلى أهله في الشؤون كلها،من أعلى منصب في الجماعة،وهو الإمامة العظمى،إلى أدنى الوظائف والأدوار الاجتماعية،فلا يتولى الأمر إلا القوي الأمين في كل وظيفة من وظائف العمل العام ، وإلى ذلك ذهب كل من بحث في السياسة الشرعية ، كالماوردي وغيره من العلماء .( )والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية،وهي أدلة تتفق مع الطبائع الإنسانية العاقلة،والفطر السوية.
ولا شك أننا سنجد في كل اللغات نفس هذه المعاني أو ما يشبهها في موضوع السياسة،وبما أن البشر متشابهون في التكوين العام،ومشتركون في الخصائص العامة لجنسهم ، فإننا نتوقع اهتمامهم بتدبير أمور حياتهم،وأن كل أعضاء جماعة يختارون من بينهم من يسوسهم ، ويتدبر أمورهم،وهذا أمر عام لا يكاد يفوت متبصر عاقل،أو متأمل أريب،أو باحث في هذا الباب،ويكاد يعم في جماعات الحيوانات والحشرات والطيور وغيرها مما ألهما الله بالغريزة الانقياد إلى كبير أو قوي أو مجرب .
وعندما تتكون الجماعات البشرية،وتتوزع الأدوار فيها،وتستقر الوظائف تظهر الحاجة إلى الأخبار والمعلومات التي يتم في ضوئها صيانة الأمن،وتأمين حاجات الجماعة،فالسياسة والخبر أمران متلازمان متكاملان،لا يستغني أحدهما عن الآخر،فالخبر وسيلة رئيسة من وسائل الحكم،ويقدم لنا التاريخ سجلا حافلا بالروايات والمواقف التي كان للخبر الدور الحاسم في كل جوانب الحياة،وأكثر ما يحتاج إليه الساسة وقت الحروب والأزمات هو الخبر،والواقع شاهد على صدق هذه المقولة ، حيث تلعب أجهزة المعلومات المدنية والعسكرية وشبه العسكرية دورًا متزايدًا في الحياة بجميع جوانبها:العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
الخبر سلاح الساسة في بحثهم عن السلطة والنفوذ،والمعلومات التي توفرها الأخبار على مدار الساعة لهم تكون العامل الحيوي الذي يفصل بين الحياة والموت بالنسبة لهم،ولا يغفل السياسي سواء كان في السلطة أو المعارضة،في أقصى اليمين أو في أقصى اليسار هذا العامل الهام،فمن كان لديه طموح ما من أي نوع وفي أي مستوى للوصول إلى منصب أو تولي وظيفة معينة ، فليس أثمن وأهم من الأخبار وما توفره له من المعلومات عن الأمور الداخلية والخارجية .
ويجب أن نميز في السياسة بين الأخبار بمعناها الإعلامي وبين المعلومات التي هي في الحقيقة أخبار،فالخبر الإعلامي يمثل مادة يومية متغيرة ويخدم الخبر الرجل السياسي في أنه يجعله على تماس مع الأحداث فلا يفاجأ بخبر غير متوقع يفسد عليه بعض خططه،والخبر كما يقدم خدمات جليلة للسياسي فهو مصدر خطر عليه،فكل سياسي واعٍ يدرك أنه هدف للخصوم وحملات التشويه والإشاعات من الطرف المعارض أو النقيض . أما المعلومات فتكون عادة أداة ذات طبيعة تراكمية ترد من مصادرها بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية أحيانًا ، ففي السياسة يضيق أو ربما ينعدم الفاصل بين ما هو شرعي أخلاقي وما هو غير ذلك .
ويعرف كل السياسيين في كل المستويات أهمية المال والنساء في الحصول على الأخبار،ودورهما الحاسم في العمل السياسي ، فطالما كان المال وسيلة هامة للحصول على الأخبار،وتلعب المرأة دورًا رئيسًا في ثقافة هذا الخبر الذي قد يحدد ـ بل هو بالتأكيد يحدد ـ مصير الساسة والزعماء.*وليست نهاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون بعيدة عن الذاكرة،والضجة التي أحدثتها سلوكياته مع المتدربة مونيكا لوينسكي وفي المكتب البيضوي في البيت البيض الذي سبقه إليه رجال عظماء محترمون من الرؤوساء السابقين ، وقد افتتضح أمره وأجبر على الاعتراف بما فعله من العمل المشين وكان ذلك عام 1998م .
*وكذلك لا تغيب عن الذاكرة نهاية الرئيس الأميركي الجمهوري ريتشارد نيكسون الذي تستر على عمليات التجسس على الحزب الديمقراطي في ووترجيت وحوكم وأجبر على الاستقالة عام 1972م .
*وما مصير وزير الدفاع البريطاني جون بروفوميو في أوائل ستينيات القرن العشرين الماضي ببعيد ، نتيجة لعلاقته بالغانية كريستين كيلر التي كانت تجمع علية القوم في المجتمع البريطاني في قصر وندسور عم الملكة وتجلدهم واحدًا واحدًا وهم عراة والآخرون يتلذذون بالنظر لما يجري عبر سلسلة من المرايا العاكسة التي تنقل الصورة إلى المجلس الخارجي .
*وقد تنازل ملك انجلترا إدوارد الثالث عن العرش بعد أقل من سنة من توليه العرش عام 1936 م وذلك عندما أعلن عن عزمه الزواج من خارج الأسرة المالكة وقد تزوج في العام التالي من أمريكية هي واليس سمبسون وأعطي لقب دوق وعاش بقية حياته كرجل عادي حتى توفي عام 1972م .
* وغني عن التعريف دور المؤسسات المالية الحاسم في تحديد المنتصر والمهزوم في الحملات الانتخابية في الدول الديموقراطية،ويظهر أثر هذا الدور في عقد الصفقات بين الساسة والمؤسسات التي تمولهم،وتؤمن لهم التمويل اللازم للتغطية الإعلامية وكل ما يحتاجه رجل السياسة لتحقيق رغبته وطموحه في الفوز ، نظير جني المكاسب والفوز بالعقود الاستثمارية بعد الفوز .
*وفي دوامة ثقافة الخبر المحمومة تقدم الإعلاميون البارزون إلى الصفوف الأولى في سلم المكانة الاجتماعية،وصار الزعماء والقادة والسياسيون البارزون يخطبون ودهم ، ويقدمونهم ، ويحرصون على استمالتهم بكل الوسائل ، ويتخذون منهم المستشارين المقربين ، وقد انتبه الساسة إلى الدور الخطير للإعلام فاستحدثت الأحزاب ومؤسسات المجتمع على اختلاف طبيعتها ووظائفها دوائر المعلومات والإعلام لتكون وسائط الاتصال بينها وبين الجماهير بغرض نقل الرسالة التي تريد توصيلها وتلقي رجع الصدى الذي يمكنها من تكييف رسالاتها واوضاعها بشكل مرضٍ .
ويدرك رجال الإعلام والمالكون لزمام الأخبار الرغبة المحمومة والحاجة الملحة لدى الساسة إلى أخبارهم ومعلوماتهم عن كل ما يهم السياسي ، فهم لذلك يستخدمون هذه المعادلة السيكلوجية بأسلوب براجماسي يحقق لهم المزيد من قوة الضغط والمكانة المرموقة ، وبذلك صارت الأخبار أغلى سلعة في لعبة شد الحبل السياسية في المجتمع المعاصر ، والكثير من أصحاب المناصب الرفيعة في الإدارات المختلفة كالسفراء والوزراء ومناصب الصف الثاني والثالث في الدولة بدأوا حياتهم في مجال الإعلام ، وزادت خطورة مناصبهم بسبب اشتغلهم بالوظائف الإخبارية وتحكمهم في أجهزة المعلومات ، واستثمار الكثيرين منهم لتلك المكانة في احتلال مكانة مرموقة في مجتمعاتهم .
تمثل الولايات المتحدة الأمريكية الأنموذج الأكبر دلالة على قوة نفوذ الإعلام والإعلامين في السياسات العامة،وهناك أسماء لامعة في تاريخ الإعلام الأمريكي تركوا بصماتهم على الحياة الأمريكية ،ومارسوا العمل الإعلامي بحرفية ومهنية عالية المستوى أوحت للكثيرين خارج الولايات المتحدة بأن يحذوا حذوهم ، فبربارا والترز (1931م ـ .... )الإعلامية البارعة التي يطلقون عليها مُحاوِرَة الرؤوساء والملوك ، وولتر كرونكرت الذي توفي أخيرًا عن عمر يناهز الحادية والتسعين ،والذي كان له نوذ واسع على الساسة والجماهير في أميركا إبان السبعينات وما بعدها ، ومن أعظم كتاب العصر المعلق والمفكر المريكي الإعلامي الكبير وولتر ليبمان(1889م ـ 1948م) ليبمان، والتر (1889 - 1974م). صحفي أمريكي اكتسب شهرة عالمية بوصفه كاتبًا سياسيًا وفيلسوفًا. وقد اشتهر بأسلوبه الواضح في الكتابة، والذي يعكس عمق تفكيره. عبَّر ليبمان في كتابته عن اعتقاده أنه لايمكن أن يقوم مجتمع متحضِّر دون أن يُعْمِل الناس العقل بدلاً من المشاعر المتقلبة في سلوكياتهم .
قام ليبمان طوال الفترة من عام 1931م حتى عام 1967م بكتابة عمود في جريدة نيويورك هيرالد تريبيون تحت عنوان اليوم وغدًا. وقد آل الأمر بهذا العمود إلى أن صار يُنشر في أكثر من 200 صحيفة. وفي عام 1962م فاز ليبمان بجائزة بوليتزر عن التقارير الصحفية الدولية. حظي ليبمان بتقدير بوليتزر الخاص عن مقالاته التحليلية حول الشؤون القومية والدولية.وُلد ليبمان في مدينة نيويورك، وتخرج في جامعة هارفارد عام 1910م(ttp://mousou3a.educdz.com/1/123675_1.htm)
ويقوم العمل السياسي الحديث في المجتمعات المعاصرة على النظريات والمناهج العلمية ، التي تستثمر التقدم في فروع المعرفة الإنسانية الأخرى كعلم النفس بفروعه المختلفة ، وعلم الاقتصاد ، ويُدَرَّسُ في المعاهد والجامعات على أعلى درجة من التخصص ، ويستخدم المتخصصون في علم السياسة أرقى وسائل التحليل العلمي الذي يعتمد على البيانات الإحصائية ، وتتنوع فروعه بدرجة موازية لتقدم وتعقد وتطورالحياة الاجتماعية والمدنية في الجزء المعمور من الأرض .
صدر قرار غزو العراق من أعلى هرم السلطة السياسية في كل من الولايات المتحدة الأميريكية والمملكة المتحدة والمملكة الإسبانية واتحاد أستراليا ومجموعة الحلفاء الذين انضموا إليهم بعد أن نصبوا أنفسهم حماة للعدالة والحق والديموقراطية والمشاعر الإنسانية ، وصادروا إرادة العالم ممثلاً في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى ، ووضعوا الجميع أمام الأمر الواقع ، ثم تبينوا في النهاية واعترفوا أنهم كانوا ضحية معلومات وتقارير وأخبار وقصص معظمها ملفق فيما يتعلق بقضيتين هما : امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل ،وعلاقة نظام الرئيس العراقي المرحوم صدام حسين بالقاعدة التي تنسب إليها واشنطن الوقوف وراء هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م على برجي التجارة الدولية بنيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية بواشنطن العاصمة ، وهما الذريعتان اللتان اتخذها التحلف سببًا كافيًا لمحرابة الإرهاب في أرضه قبل أن يحاربنا في أرضنا ،أي اتباع أسلوب الحرب الوقائية الذي طوره الكيان الصهيوني منذ قيامه،ولقي قبولاً واسعًا في الغرب ، وهذا سلوك سياسي ما كان ليقدُم أصحابه عليه إلا نتيجة لنشاط محموم من أجهزة الأخبار والاستخبارات والمعلومات وأجهزة دعم القرار ومراكز الأبحاث والدراسات ، وقد تسبب بدوره في صناعة الأخبار وأحدث ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية وبشرية سيكون لها تأثير كبير ليس على المستوى المحلي والإقليمي فحسب، بل وأيضًا على المستوى الدولي ، ولأجيال قادمة ، فالأمريكان والإنجليز لم يأتوا لنزهة ، ولا لأداء عمل محدود بوقت أو مكان ، وهم لا يخفون ذلك ، بل يعلنونه بكل لغات الأرض ، وعلى كل مهتم بدراسة ناحية معينة أو رصد سلوك أو ظاهرة ما أن يتوقع ثراءً لا مثيل له ، وخصوبة في ميادين البحث ستشغل الباحثين والدارسين والمحللين عن أمور عائلاتهم ، وتدبر شؤونهم الخاصة ، وسوف تنتج عن الحالة الجديدة الكثير من الأمراض والعلل من كل نوع ، وربما لن نتمكن من تسمية الكثير منها فنختار لها الحروف الهجائية لترميزها ، أو ترقيمها كما نرقم البيوت والسيارات وصفحات الكتب .
ونختم هذه الصفحات بعبارة قد تعجب الذين تستهويهم كلمات صدرت عن عالمٍ طاعن في السن ، تراءت له بعض معالم الحقيقة عندما تقدم به العمر ، ولو كان عالِمًا يهوديًا مثل إنشتاين ، فإن الحقيقة ليست حكرًا ، ففي خطابه المؤرخ في الثاني من أغسطس من عام 1939 م إلى رئيس الولايات المتحدة تيودور روزفلت ، حذره فيه من الأخطار المحدقة بالبشرية جمعاء ، والتي قد تسفر عن أبحاث كل من العالمين الأميريكيين : فيرمي وسيزلارد ، والعالم الفرنسي جوليه ، وما قد تؤدي إليه من اختراع سلاح مدمر ؛ نتيجة لاستعمال عنصر اليورانيم لإحداث تفجيرات متتابعة وتوليد طاقة هائلة ، وهو ما عُرِفَ فيما بعد بالقنبلة الذرية أو النووية وتلتها القنبلة الهيدروجينية وما هو طي الكتمان من أسلحة الدمار الشامل التي تظهر بين الحين والآخر في النزاعات والحروب التي تكون الولايات المتحدة أو الكيان العنصري الصهيوني طرفًا فيها، وكان هذا بالطبع بفضل الأبحاث والنظريات المتقدمة لإنشتاين نفسه ، وغيره من العلماء في مجال الفيزياء والرياضيات وغيرهما من العلوم الحديثة، ولما لم تجد تحذيراته صدى تحت ضغط نُذر أخطار الحرب العالمية الثانية الماثلة في سماء أوروبا بظهور الحركة النازية في ألمانيا والحركة الفاشية في إيطاليا والحركات القومية العنصرية في اليابان التي وصلت في أواخر أيامها إلى الأرض الأمريكية نفسها في صباح الأحد 7 ديسمبر 1941م حيث دمَّر اليابانيون الأسطول الأمريكي الراسي في ميناء بيرل هاربر ، سارعت أميركا في جهودها في اختراع القنبلة النووية ، متجاهلة تحذيرات إينشتاين ، ولم تتردد في استخدامها مرتين عام 1945 م ، ضد مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين ، وقد نتج عن القنبلتين آثار تدميرية ربما كانت أكبر مما توقعه العالم إنشتاين ؛ وربما أيضًا هذا ما جعله يقول قبل موته بقليل في عام 1955 م ، وتحت ضغط الشعور بالإحباط أو الندم ، أو في لحظة من لحظات مواجهة الحقيقة ، أو انكشاف بعض الأسرار عند انقطاع الأمل من الدنيا :
" فقط لو كنت أدري لكان ينبغي أن أكون صانع ساعات " .
“The release of atom power has changed everything except our way of thinking…the solution to this problem lies in the heart of mankind. If only I had known, I should have become a watchmaker.” - Albert Einstein
وربما يكون الكثيرون ممن جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أيديهم مقاليد أمور شعوب العالم في الوقت الراهن ـ ابتلاءً واختبارًا وتمحيصًا ـ وأعطاهم سلطة اتخاذ القرارات أوْلى بعبارة إنشتاين هذه .
دكتور أحمد محمد المزعنن
[email protected]
الحواشي :
( 1 ) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، جزء 1 ، بيروت : دار إحياء التراث العربي ، 8831 هـ ،1969 م ، صفحة 190 .
ابن منظور : لسان العرب ، جزء 6 ، صفحة 429 .
) Encyclopaedia Britannica , Internet , 1998
(4 Webster Ideal Dictionary , 1960 , P. 408
5 ) A. S. Hornby , Oxford Advanced Learner’s Dictionary Of Current English , p 646
6 ) تقي الدين بن تيمية ، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، ط 4 ، القاهرة ، دار الكتاب العربي ، ( بدون سنة طبع )