الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الصورة الفنية في شعر الخنســــاء إعداد: د. محمد ناصر

تاريخ النشر : 2009-09-03
إعداد / د. محمد ناصر

الصورة الفنية في شعر
الخنســــاء


هي تماضر بنت عمرو بن الحارث من قبيلة سليم من الشعراء المخضرمين، عاشت في الجاهلية وأدركت الإسلام وأسلمت ، وكانت وحيدة أبويها كأنثى وكان لها أخُ من أبيها وهو صخر وأخ شقيق وهو معاوية، ولها أربعة أبناء .
سُميت بالخنساء لخنس في أنَفِها حيث كانت امرأة جميلة، وُلدت في البادية بنجد ولذلك كَثُر خطّابها، فخطبها دريد بن الصمة وهو فارس جشم وأحد شجعانها المشهرين و يُكنى بأبي قرة، قال لها أبوها : يا خنساء أتاك فارس هوازن وسيد بني جشم دريد بن الصمة يخطبك، وهو من تعلمين، ودريد يسمع قولهما، فقالت : يا أبت أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح وناكحة شيخ بني جشم هامة اليوم أو غد ؟؟ فخرج إليه أبوها فقال : يا أبا قرة، قد امتنعت ولعلها أن تجيب فيما بعد، فقال : قد سمعت قولكما وانصرف . غضب در يد لرفضها، وقال قصيدة يهجوها ويتهكم بها :

وقاك الله يا ابنة آل عمـرو
من الفتيان أمثالي ونفس

فلا تلدي ولا ينكحــك مثلـي
إذا ماليلة طرق بنحس

لقد علم المواضع في جمادى
إذا استعجلت عن حزبنهس

بأني لا أبيت بغيــر لحـم
وأبدأ بالأرامل حين أمسي

وأني لا ينادي الحي ضيفـي
ولا جاري يبيت خبيث نفس

إذا عقب القدور تكن ملاء
تحب حلائل الإبرام عرس

واصغر من قداح النبع صلب
غضى الوسم في خرس ولمس

دفعت إلى المضيف إذا استقلوا
على الركبان مطلع كل شمس

فإن أكدى فتامـــكه تـتؤدي
وإن أربى فاني غير نكسي

ثم تزوجت ابن عمها رواحة، وكان شاباً صاحب لهو،ٍ وقمار، وميسر، ينفق ما بيده ولا يبقي شيئاً وكانت تلجأ إلى أخيها صخراً الذي كان يعطيها ما تريد .
فولدت من ابن عمها ابنها عبد الله الذي يكنى بأبي شجرة، ثم توفي زوجها، وقيل طلّقها .
بعد ذلك تزوجت مرداس بن أبي عامر اللجي وأنجبت منه أولادها الثلاثة، معاوية، وعمرو،ويزيد، وابنتها عمرة، وهو الزوج الذي رثته بقولها :

لمــا رأيت البدر أظلـم كاسفا
أرن شـواذ بطنه وسسوائله

رنينا وما يغني الرنين وقـد أتى
بموتك من نحو القرية حامله

لقد خار مر داسا على الناس قاتله
ولو عاده كناته وحلائلــه

وقلن ألا هل من شفـاء ينــاله
وقد منع الشفاء من هو نائله

وفضل مرداس على الناس حلمه وإن كل هم همه فهو فاعله

وإن كل واد يكره الناس هبطـه
هبطت وماء منهل أنت ناهلة

تركت به ليلا طويـلا ومنـزلا
تعاوى على ظهر الطريق عوا سله

وسبى كآرام العــريم تركتـه
خلال ديار مستكينا عواطله

وعدت عليهم بعد بـؤس بأنعـم
فلكهم تعني به وتواصله
س

.....................
مرت الخنساء بمرحلتين : مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ما بعد الإسلام، ولكل مرحلة حدث مهم في حياة الخنساء، فبعد الإسلام موت أبنائها الأربعة وسيأتي معنا ، وأما الحدث الذي كان قبل الإسلام فوفاة أخويها معاوية و صخر حيث توفي الأول في يوم حوزة الأول لخصام بينه وبين هشام بن حرملة أحد بني مرة .
أما صخر فأخذ على نفسه الثأر لأخيه فقام يغزو غطفان وبني مرة أخذاً بثأر أخيه، فاستطاع قتل دريد الذي قتل معاوية ولم يكتف بذلك بل أصر على أن ينكل بأسد حليفة غطفان.
وسار الجيش نحو بني أسد وفي يوم يعرف بيوم الأثل أو يوم كلاب التحم الفريقان وأصيب صخراً وكانت هذه الإصابة سبب موته .
فكان هذا الحدث جرحاً في قلب الخنساء ظلَّ ينزف حتى موتها، وهو سبب تفجر قريحتها الشعرية، وسيلان لسانها بالقوافي، الذي هزت به القلوب، وسحرت به النفوس، فأعجب به الشعراء، واهتم به النقّاد، فدرسوا صفاته، وخصائصه الفنية، وكيف لا يكون ذلك وهي من الشعراء الذين أبدعوا في كلماتهم، وصدقوا في أحاسيسهم وما الشعر إلا إظهار للشعور، وتعبير عما يدور في النفوس في شكل كلمات وأبيات من القوافي، الصادق منها يبقى، والبليغ يدرس .
..................................
الحــزن والألـم

إن الحزن في قلوب البشر فطرة إنسانية، ومسحة ببشرية، جعلها الله في قلوب العباد، يتألمون بالفجائع ويشعرون باللوعة،ويتذوقون مرارة المصاب .
الحزن شيء معنوي يسري إلي القلب،و يحل بالجوارح، فيعبر الناس عنه بوسائل مختـلفة وطرائق متعددة، للتنفيس عن كربابتهم، ولتخفيف أحزانهم .
فالدموع إحدى هذه الوسائل التي يعبر بها الحزين عن حزنه، والمتألم عن ألمه والمنكوب عن نكبته . إن الدمع الصادق، الذي به حرارة المصاب، وملوحة الحزن، أول خطوة نحو الصبر والسلوان. يقول شاعر النيل :
كم روح الدمع عن قلبي...!وكم غسلت
من السوابق حزنا في ثناياه
س

وقال أر سطو " الشعور بالحزن يؤدي إلى نوع من الكاثرسيس أي التطهير " .
والبكاء ليس مقصورا على النساء، فهذا نبي الله يعقوب يبكي ابنه يوسف، ويقول عنه القرآن:"وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم".
ومحمد صلى الله عليه وسلم تنهمل دموعه حزنا على ولده إبراهيم ويقول " إن العين تدمع، والقلب يحزن،ولا نقول الا ما يرضي ربنا وانا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون. " وهكذا يظل الألم يعصر القلوب فيظهر مكنونها، ويفصح عن أسرارها . وتظل المصائب التي تصيب الإنسان في حياته تجدد ماران عليه الزمان، وما فتر على طول السنين والأعوام، من حبِّ وعشق، ومشاعر فاترة، وأحاسيس باردة . إن المصائب قد تكون بمثابة التجديد في حياة البشر، وإظهار ما اندثر .

الخنســـاء والبكــــاء

أخبرنا التاريخ أن الخنساء رزئت في حياتها بموت أخويها معاوية وصخر، وزوجها الثاني، لأبنائها الأربعة، وكان موت معاوية وصخر قد فجرا قريحتها الشعرية وقد مر معنا فيما سبق شيء من ذلك .
فرثت أباها ببيت تقول فيه :
ابكي أبا عمرٍ بعينٍ غزيرة
قليل إذا نام الخليُّ هجودها


ورثت زوجها بقصيدة تعد من روائع شعرها، وقد مرت معنا فيما سبق .
وأما رثائها لأبنائها فلم تزد على كلمات قالتها عندما جاءها نبأ مقتلهم في معركة القادسية " الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم " .
والخنساء من الشعراء الذين عاشوا فترة الجاهلية والإسلام، وكان أكثر أو جُلُّ شعرها في الجاهلية، وهذا يعني أن شعرها يحمل الخصائص الفنية للشعر الجاهلي، فقد التزمت من حيث الشكل أسلوب القصيدة العمودية ذات القافية الواحدة .
وأما استهلال القصيدة ومطلعها فالذي يظهر من ديوانها أنها خالفة النسق الجاهلي، من حيث الوقوف على الأطلال، والبدء بالمقدمة الغزلية، فهي في معظم قصائدها تبدأ بمخاطبة عينيها والحديث عن البكاء، والدمع،والدهر في بعض الأحيان ، ثم الالتفات السريع من البكاء والحزن ومخاطبة العين إلى الإشادة بمناقب المرثي ، وذكر فضائله ومحامده ، فمن ذلك قولها :
يا عين مالك لا تبكين تسكابا
إذ راب دهر وكان الدهر ريَّابا

فابكي أخاك لأيتام وأرملة
وابكي أخاك إذا جاورت أجنابا

وابكي أخاك لخيل كالقطا عصبا
فقدن لما ثوى سيبا وأنهابا

يعدو به سابح نهد مراكله
مجلبب بسواد الليل جلبابا

حتى يصبح أقواما يحاربهم
أو يسلبوا دون صف القوم أسلابا

هو الفتى الكامل الحامي حقيقته
مأوى الضريح إذا ما جاء منتابا

يهدي الرعيل إذا ضاق السبيل بهم
نهد التليل لصعب الأمر ركّابا

المجد حلته والجود علته
والصدق حوزته إنْ قِرْنُهُ هابا

خَطَّابُ مَحْفِلةٍ فّرّاٌج مَظْلِمَةٍ
إن هاب معضلة سَنّيِ لها بابا

حمّال ألويةٍ قطّاع أودية
ج شهاد أندية للوتر طلّابا

ســم العداءة وفكاك العناة إذا
لاقى الوغى لم يكن للموت هيَابا



فنلاحظ مطلع هذه القصيدة مخاطبة العين والحديث عن البكاء والدهر وريبه ثم الالتفات السريع إلى المرثي للتحدث عن خصاله وفضائله وصفاته .
وهكذا نجد هذه المقدمة في معظم قصائدها، وإذا لم تصرح بذلك لفظاً فإنها تبدأ بنفس النسق ولكن بصورة تلميحية، فتتحدث عن السهر والأرق، تقول :

أرقت ونام عن سهري صحابي
كأن النار مشعلة ثيابي

إذا نجم تَغَوَّرَ كَلَّفَتْني
خَوَالِدُ ما تؤوبُ إلى مآب

فقد خلى أبو أوفى خِلَاًلا
علي فكلها دخلت شعابي



أو تتحدث عن الشيب وسؤال الناس لها عن سبب شيبها المبكر، تقول :
تقول نساء شبت من غير كبرة
ج وأيسر مما قد لقيت يشيب




............................
فهي بذلك تعد صورة للحداثة التي هجرت المطالع الطلية إلى مطالع تتصل بموضوع الرثاء مباشرة ".
وإذا جئنا إلى العاطفة فإننا نجد عاطفة صادقة مزيج من الحزن الذي وصل إلى حد النواح، والمفاخرة، والتعداد لمناقب الفقيد، وذكر محاسنه، فمزجت بين العاطفتين، عاطفة الحزن، وعاطفة الحب تقول في هذه الرائية الرائعة :
قذى بعينيك أم بالعين عوار
أم ذرفت إّذ خلت من أهلها الدار

كأن عيني لذكراه إذا خطرت
فيض يسيل على الخدين مدرار

تبكي لصخر هي العبرى وقد ولهت
ودونه من جديد الترب أستار

تبكي خناس فما تنفك ما عمرت
لها عليه رنين وهي مفتار

تبكي خناس على صخر وحق لها
إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار



سؤال واستفهام " قذى بعينيك أم بالعين العوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار "
قيل أنه لقلة الدموع، والظاهر لكثرة الدموع لأن العين إذا أصابها عور أو وقع بها قذى فإنها تهمل بالدمع . ثم تشبيه " كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيض يسل على الخد مدرارٌ " بالسيل الفائض ولم تقل مطرا أو ماء لأنهما قد يكونا غزيرين وقد لايكونا. بينما السيل من أقوى وأكثف أنواع المياه جريا ونزولا ، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى وصف العذاب بقوله " وأرسلنا عليهم سيل العرم " بينما في المطر والماء، قال " هو الذي انزل من السماء ماءً ليطهركم به " . ولم تكتفي بالسيل بل هو فائض لكثرة سيلانه وجريانه وعدم انقطاعه . وهذا البكاء على خديها من أجل من تقول
تبكي لصخر وهي العبرى وقد ولهت ودونه من جديد الترب أستار
من أجل صخر فهي العبرى، أي بمثابة الأم الجزعة على ولدها، ومع ذلك تتهم نفسها بالقصور حيث تقول :

تبكي خناسٌ فما تنفك ما عمرت

لها عليه رنين وهي مفتار


تقول : إنها ستبكي على صخر ما عاشت وبقيت على قيد الحياة، ولكنها ما زالت مقصرة عن إيفائه حقه .
إنها العاطفة الصادقة التي تنبض بالحزن والأسى، وتتدفق بالوعة على فراق أعز الناس .
وفي موضع آخر تلتفت إلى نفسها بعد حديثها عن البكاء وطلبها من عينها أن تجود عليها بالبكاء مذكرة إياها بأن هذا الذي تبكينه ليس لأن الذي بيني وبينه هذه الصلة من القربى فقط، ولكنه فتى سيدا في قومه، رئيسا في عشيرته يتصف بالجرأة ، والجمال، والكرم، من أهل المجد صاحب نخوة ، وعزوة حتى وإن كان أصغر القوم سنا يكلفونه ما يعجزون عن القيام به، فهو يرى أن من أفضل مكاسبه أن يمدحه الناس، ويذكرونه بفعاله الحميدة وخصاله الفريدة، تقول :

أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العماد
ساد عشيرته أمردا

إذا القوم مدُّوا بأيديهم
إلى المجد مدَّ إليه يدا




وتمضي في نوحها وبكائها متعجبة من الزمان الذي يأخذ الرؤوس ويبقى الذيول، يأخذ الأعلام ويبقى المجاهيل، يأخذ الأكرمين ويبقى منهم دون الأكرمين وتعلل ذلك بفساد الناس وليس فساد الليل والنهار، تقول :
إن الزمان وما يفني له عجب
أبقى لنا ذنبا واستأصل الرأس

أبقى لنا كل مجهول وفجعنا
بالحالمين فهم هام وأرماس

إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس


إن الجديدين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس

وأما موسيقى شعرها فلا شك أنه احتوى على الكثير من التناغم والجمال ، فنجد الجرس الموسيقي في الأبيات ذات الإيقاع العذب السلس، واختيار الألفاظ السهلة واستعمال صيغ المبالغة للدلالة على الكثرة سواء في وصف صخر أو المعاناة للشاعرة تقول في وصف صخر :
وإن صخراً لمقدام إذا ركب
وإن صخراً إذا جاعوا لعقّار


وتقول في وصف حزنها :
أما لعينيك لا تهجع
تبكي لو أن البكا ينفع


كما أنها سعت إلى استخدام محسنات موسيقية أخرى للتعبير عن صورٍ نفسية ومعاناة حقيقية .
فعلى سبيل المثال لا الحصر نجدها تأتي بالأبيات المصرعة لإضفاء قيمة موسيقية ، ونغمة تتناسب مع المعنى ، والشعور النفسي تقول :
يا عين جودي بدمع منك مهراق
إذا هدى الناس أو هموا بإطراق


وقولها :
يا عين جودي بدمع منك مسكوب
كلؤلؤ جال في الأسماط مثقوب


كما أنها أتت بأبيات مدورة، والتدوير من الظواهر المرتبطة بالأوزان تقول :
إنني قد علمت وجدك بالحمد
وأخلاقك العُنـاة سماحـا

فـارسٌ يضرب الكتيبة بالسيف
إذا أردف العويل الصياحا


ومن الفنون البلاغية استخدمت الخنساء الاستعارة وهي : نقل العبارة عن موضع استعمالها من أصلها اللغوي إلى غيره لغرض التعبير عن قوة التصوير والتخيل والإبداع وإيصال ما يرومُ الشاعر إيصاله إلى المتلقي " كتاب الصناعتين : 275 "
فقد استعانت الخنساء بهذا اللون البلاغي للتعبير عما يجيش في نفسها، وحاولت تلوين نصها بهذا اللون البلاغي، تقول :
بكت عيني وحق لها العويل
وهاض جناحي الحدث الجليل


تشبه نفسها بالطائر الذي لا قدرة له على الطيران من فجيعتها .
كما أنها تستخدم التشبيه لإيصال المعنى إلى المتلقي والتأثير في نفسه تقول :
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ


ففي هذا البيت تشبه أخاها بالجبل الذي توقد على قمته نار، ثم أصبح هذا البيت مضرب مثلٌ سائر كما أنه استخدمت التضاد والطباق وغيره من صنوف البلاغة، تقول :
وإن كان صخر الجود أصبح ثاوياً
فقد كان في الدنيا يضر وينفع


وقولها :

أيها الموت لو تجافيت عن صخر
لألفيته نقيا عفيف

عاش خمسين حجة ينكر المنكر
فينا ويبذل المعروفا

ففي هذه الأبيات يظهر لون التضاد ( يضر وينفع، المنكر والمعروف ) .
ومن الطباق قولها :
فتى السني كهل الحلم لا مسترع
ولا جامد حق اليدين جديب


كما أنها استخدمت التفسير والتعليل لتشكل بهما رؤريتها وموقفها، تقول :
كل امرئ بأثافي الدهر مرجوم
وكل بيت طويل السمك مهدوم

لا سوقةً منهم يبقى ولا ملكٌ
ممن تملكه الأحرار والروم


فالبيت الثاني جاء تفصيلا وتعليلا للحقيقة التي تضمنها البيت الأول ، وجاء البيت الثالث تعليلاً لما سبق، فكل إنسان يموت وكل بيت يتهدم ولا يبقى سوقةٌ ولا ملكٌ فارس أو رومي، فالحوادث لا يبقى لها أحدٌ والباقي هو الله . ( البديع في شعر الخنساء.149) .
وهكذا حاولت الخنساء تلوين شعرها بألوان بلاغية محاولة إيصال المعنى إلى المتلقي، والتفنن في القوافي والتلاعب بالألفاظ للتأثير في نفس السامع ، ونقل المشاعر إلى الآخرين بصورٍ متعددة كما أنها حاولت إظهار شعرها بصورة جميلة وبشكل رائع، يجعل قارئه يتفاعل مع معانيه ويسبح في خيالاته ويعيش المأساة وكأنه صاحبها .
وإني لا أجد تشبيهاً لشعر الخنساء إلا بدم الغزال الذي يخرج من عرقه ودمه بعد إجهاده وإتعابه يقول المتنبي :
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال




الظواهر اللغوية

استعملت الخنساء كلمة البكاء بصورتين : ممدودة ومقصور، يقول ابن منظور : " البكاء يقصر ويمد قاله الفرّاء وغيره: إذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، قال حسّان بن ثابت :
بكت عينيّ وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل


وقال الخليل : من قصره ذهب به إلى معنى الحزن ومن مدّه ذهب به إلى معنى الصوت " .
وقد وردت كلمة البكاء مقصورة وممدودة في الديوان في ستة مواضع، أربعة منها مقصورة واثنين ممدودة، تقول :
ألا ما لعينيك لا تهجع
تبكي لو أن البكا ينفع

.................

وإني والبكا من بعد صخر
كسالكة سوي قصد الطريق

.................

وكل عبرى تبيت الليل ساهرة
تبكي بكاء حزين القلب مشتاق

................
تبكي عليك بكا ثكلى مفجعةٌ
ما إن يجف لها من ذكره ماقي

................
لا تخذليني عن جدّ البكا
فليس ذا ياعين سوقت الخذول
ج


إذا قبح البكاء على قتيل
رأيت بكاءك الحسن الجميل ا


هذه هي المواضع التي وردت فيها كلمة البكاء مقصورة وممدودة، وإذا نظرنا إلى السياقات التي وردت فيها هذه الكلمة، والمعاني التي تنبثق عنها، وجدنا أنّ الجـو العـام الذي تـرد فيه كلمـة ( البكاء) مقصورة يكون الحديث عن الدموع وكثرتها، والحزن الذي يعصر قلبها، ويفتت كبدها وقد تطلب من عينيها أن لا تخذلها عن جدِّ البكاء فإن هذه اللحظة ليست لحظة خذلان وإنما هي لحظة تعبير عن الألم وإهراق الدمع .
كما أنها تشبه نفسها بالثكلى التي فقدت ولدها مفجوعة بمصابها، متألمة من داخلها .
أما إذا جاءت كلمة ( البكاء ) ممدودة فإن الجو العام الذي ترد فيه يكون الحديث عن صخر ومصابها به، وأن قلبها يتألم بفراقه، وتبيت الليل ساهرة على ذكراه، وإن البكاء إذا كان قبيحا فإن بكاء صخر حسنٌ وجميل .
فنبرة الحزن في الصورة الأولى أقوى، ونعمة البكاء موجهةٌ إلى الدموع والعين التي هي مصدر الدمع بينما في الصورة الثانية تكون النبرة أقل ويكون الخطاب إلى القلب وذكر السهر .
وهذا يفسر لنا أن بكاء الخنساء كان ذا لونين وبكاء بصوت قد يصحبه دمع وقد لا يصحبه ، وبكاء بدون صوت وإنما هي دموع تسيل وأحزان تتدفق، ولوعة تخرج .
فإذا كان بصوت صحبه تعداد لمناقب صخر وفضائله دائما، وإذا كان بدمع صحبة مخاطبة لعينيها لكي تهرق الدمع، وتسكب العبرات ، وأن لا تبخل عليها عينيها بهذه الدموع لكي تحقق شيئا مما تجد في قلبها وتشعر به في نفسها .
وفي هذا مناسبة صوتية لأن الكلمة إذا جاءت ممدودة يكون مد الصوت بها أكبر وأعلى وأطول نفساً من كونها مقصورة ، فإذا كان البكاء بدون صوت، وإنما مجرد دموع تنزل وحرارة حزن تخرج من القلب جاءت الكلمة مقصورة، وإذا صحب هذا البكاء صوت جاءت الكلمة ممدودة لأن خروج الصوت بالعويل والبكاء يحتاج إلى نفس طويل فكانت هذه المناسبة الصوتية بين الكلمتين .

حاولت الخنساء إثراء نصها الشعري بهذه الكلمة وهي ( البكاء ) للتعبير عن حزنها وألمها ولكثرة دورانها في قصائدها فقد تشكلت هذه الكلمة بصيغ صرفية متعددة فجاءت بصيغة الفعل المضارع اثنين وأربعين مرة، والأمر ستة وثلاثين مرة، والماضي ست مرات، والاسم خمسة عشر مرة بين اسم فاعل ومصدر .
والحقيقة أن الخنساء في استخدامها لهذه اللفظة، وبهذه الصيغ المتعددة جعلت تستغرق تركيب يؤدي معنى لم يتغير كثيرا، ولكنها نجحت في مواضع أخرى في تفجير الطاقة اللغوية لهذه الكلمة إلا أن الخنساء وبسبب إلحاحها على معنى واحد في ديوانها وعلى فعل محوري واحد وهو فعل البكاء، قد أحست في بعض القصائد بأنها استنفذت طاقة هذا الفعل التعبيرية فلجأت إلي العدول عنه إلى ما يحمل معناه من صور وأنماط تعبيرية أخري مثل :
ألا يا عين جودي
ألا يا عين فانهمري
لا تجف دموعها
نحيب، عويل
افضل الدمع

محاولة التخلص من التعبير الصريح من البكاء إلى ما يقرب من هذا المعنى .
واستخدام الشاعرة للفعل المضارع بهذه الكثرة في ديوانها وهو من أكثر الأفعال تكراراً في الديوان في معنى البكاء، وتنوع الضمير، فأحياناً يكون ظاهراً، وأحياناً يكون مستتراً ، ليدل على استمرار حزنها وكثرة بكاءها، فكما هو معلومٌ في اللغة أن الفعل المضارع يدل على الحال، والمستقبل، وهو يفيد استمرار الحدث مستقبلا ومباشرته حالاً .
ويأتي بعده كثرة فعل الأمر الذي يدل بتركيبه على المستقبل أيضا .
ثم يأتي بعدهما الفعل الماضي وهو من أقل الأفعال تكرار في النص .
كما أنها عبرت بالمصدر الذي يدل على الحدث دون اقترانه بزمن ، واسم الفاعل الذي يدل على الثبات .
نستخلص من هذا أن الخنساء عبرت بهذه الصيغ للفعل لتدلل على عمق حزنها، وفجيعة مصابها وأنها ستظل تبكيه ما عاشت، وتذكره ما بقيت .
فهذه ألفاظ منتقاة للتعبير عن معاناة نفسية دائمة، ولتعكس حجم هذه المعاناة والتنويع في الأسلوب واستخدام الألفاظ بصيغ متعددة وصور مختلفة، من الأشياء التي تؤثر في نفس السامع، وتضفي على النص حياة متجددة وتكسبه رونقا يستلذه المتلقي ويستعذبه القارئ .



لونت الخنساء شعرها بألوان لغوية متعددة، ومتنوعة، محاولة التأثير في الآخرين، بما تشعر وتحس من ألم وحزن .
فمن مظاهر هذا التلوين استخدامها للنداء وتشكل هذا اللون اللغوي باستخدام أكثر من أداة فاستخدمت من أدوات النداء " الياء " و " الهمزة " وأحيانا الباء المقرونة بأداة تنبيه .تقول :
يا عين ابكي فارسا
حسن الطعان على الفرس


وقولها :
يا عين بكي بدمع غير انزاف
وابكي لصخر فلن يكفيكه كاف

ففي هذه الأبيات وغيرها استخدمت حرف النداء " يا " وكما هو معلوم في اللغة أن هذا الحرف يستخدم لنداء البعيد، ولكنها استخدمته لنداء القريب وهي العين، وذلك من نتاج الفاجعة التي ألمت بها، ومن إحساسها الشديد بالفقد اللذين جعلاها تنادي عينيها بصوتٍ عالٍ لتحقيق هدفها بصيغة الإلزام. كما أن المنادي يستخدم " الياء " لنداء القريب حيث يكون المنادى قريباً من المنادي معنوياً أي لتمكنه من نفسه، وقربه من قلبه ، ولشعوره بضيق أو قصر المسافة بين المنادي والمنادى .
كما أن الخنساء استخدمت الهمزة في النداء وذلك لتركيز الإنفعال الداخلي بلوحة خارجية تعتبر رمزاً لما هو داخلي، تقول :

أعيني جودا بالدموع على صخر
على البطل المقدام والسيد الغمر


واستخدامها لأداة التنبيه الهمزة مع " ياء " النداء في قولها :
أيا عيني ويحكما استهلا
بدمع غير منزور وعلا


يدل على الشعور النفسي الذي يغلي ولا يتوقف وما أن تشعر بتوقفه أو فتوره تلجأ إلي التنبيه لمصدر التعبير عن هذا الشعور بعدم الفتور أو التوقف .
ومن الألوان اللغوية التي استخدمتها الخنساء، العرض والتحضيض.
والعرض كما يقول علماء العاني : طلب الشيء أو الفعل برفقٍ ولين .
أما التخصيص : فهو طلب الفعل أو الشيء بشدة وعنف .
وبالنظر إلى هذين الأسلوبين في شعر الخنساء، نجدها تقول :
أعيني هلا تبكيان على صخرٍ
بدمع حثيثٍ لا بكي ولا نزر


فاستخدمت أداة التحضيض " هلا " حيث شعرت أن عينيها قد نزرت في البكاء وضعفت عن التعبير فتطلب من عينيها البكاء وسكب الدمع بأسلوب المعنف للمخاطب .
وفي أسلوب آخر تقول :
أعيني جودا ولاتجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا


فالنبرة هنا تختلف، تخاطب عينيها بصورة التودد والتلطف والطلب بصورة بعيدة كل البعد عن الشدة والعنف, فهي بعد الطلب تردد مناقب الفقيد ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجميل ألا تبكيان الفتى السيدا
تعلل سبب طلبها وكأن هناك علاقة حميمة بين عينيها وإحساسها الداخلي .
وهكذا حاولت الخنساء تلوين قصائدها بألوان لغوية متعددة، لتجسد المعاناة الذاتية ولتبرز بؤس حياتها من جراء فقدها لصخر . ولتظهر الشعور الداخلي، والإحساس النفسي محاولة التأثير في نفس المستمع، وإشراكه في حزنها وألمها .









صورة البكاء عند الخنساء

البكاء صورة تعبيرية عن ألم نفسي، وحزنٍ في قلب الإنسان، وهو طريقة من ألوان التعبير المادي . والبكاء يندرج تحت فن من فنون الشعر العربي وهو الرثاء الذي يعد من أبرز الموضوعات في الشعر العربي بعامة والشعر الجاهلي بخاصة، لأنه يرتبط بظاهرة الموت التي تعد من الظواهر الإنسانية التي شغلت عقول المفكرين والأدباء والفلاسفة على حد سواء من قديم الزمان .
ومن الحقائق التاريخية المسلّم بها أن الأمة العربية احتفظت عبر تاريخها الطويل بتراث ضخم من المراثي وجلّ هذه المراثي التي وصلت إلينا تميزت بصدق العاطفة وحرارة اللوعة، ولا سيما التي تقوم على صلة الرحم ورابطة القربى التي تجمع بين الراثي والمرثي فكلما دنت القرابة بين الشاعر والمرثي ازداد الرثاء حرة وتفجعاً
ومن أجل ذلك عدة المراثي الجاهلية من أفضل أشعار العرب الجاهليين وأجودها وقد أفصح عن ذلك أحد الأعراب حين سُئل " ما بال المراثي أجود أشعاركم ؟ فقال /: لأننا نقول وأكبادنا تحترق . وقد كان للمرأة حضور ومشاركة في هذا اللون التعبيري، وساهمت إسهاما فاعلاً في إثراء ديوان العرب بهذا الفن الشعري المتميز . وربما يكون ذلك الفن من طبيعة المرأة الوجدانية، وتركيبتها النفسية، بوصفها أكثر ميلاً للحزن والأسى والبكاء على عكس الرجل من ذلك، الذي فرضت عليه الأعراف الاجتماعية بأن يتسم بالصبر والتحمل، وخاصة أن العرب كانت تعير من يبكي من الرجال
كما جاء على لسان المهلهل بن ربيعة في قوله :
يبكى علينا ولا نبكي على أحد
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل


وقول عمرو بن معد يكرب :
وإنا لقومٌ لا تفيض دموعنا
على هالكٍ منا وإن قصم الظهر



يقول بروكلمان : إن إظهار الحزن لم يكن يناسب رجال القبيلة كما كان لائقاً بنسائها، وخاصة الأخوات، ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتى عصر التسجيل التاريخي .
ونتيجة لذلك كثر الرثاء في العصر الجاهلي، وصدر عن الشواعر العربيات استجابة لموجات الحزن والأسى الممتزجة بالانفعال الحاد وبفقدان عزيز أو بطل أو فارس .
وتعد الخنساء من أبرز الشاعرات العربيات وخاصة في فن الرثاء . فقد أكثرت منه، وأسهمت فيه اسهاما كثيرا، ولكنها مع ذلك أبدعت في شعرها، ولونت في تعبيرها،وأصبحت من الشعراء البارزين قديما وحديثاً .
والمتأمل في شعر رثاءها يجدها استخدمت عبارة البكاء كثيراً وترددت في قصائدها بألوان مختلفة وأغراض متعددة .
ويمكن حصر البكاء الذي ورد في ديوانها في ثلاثة محاور :
الأول : التأبين
الثاني : الندب
الثالث : العزاء













التأبيــن

هو نوع من أنواع الرثاء للميت ويتخذ شكل الثناء على الميت وتعداد مناقبه وذكر فضائله، يقول الأزهري : التأبين مدح الرجل بعد موته " جاء في اللسان : أبّن الرجل تأبيناً : يعني ( ذكـر معايبه وذماً له ) تهذيب اللغة 5/502 بالإضافة إلى مدحه فالتأبين يكون للحي والميت، فالحي يؤبن بذكر محاسنه ومساوئه، أما الميت فيقتصر على محاسنه وفضائله فقط .
وقد أبدعت الخنساء في هذا اللون الرثائي، , وأضفت على مرثيها كل الصفات المعنوية والمادية، وجسدت الصور الفنية الرائعة في هذا المجال .
واتجهت الشاعرة إلى المرثي لسرد صفاته وتعداد مآثره الحميدة، وفيها تظهر صورة المرثي على الراثي، بشكل واضح وجلي، أي أن صورة المرثي تبدو شاخصة في الوقت الذي تكون فيه مشاعر الراثية مستترة، وتتخذ الخنساء تأبينها وسيلة لتخليد المرثي وذلك عن طريق رسم صورة مثالية له يعجز الواقع أن يصور مثلها، فنلاحظها تجعل المرثي نموذجا للكرم، والشجاعة، والوفاء وحماية الجار، وإغاثة اللهفان، والحكم والسيادة، والشرف، والعفة، والجمال، وكل ما يزين الرجل من صفات ، وهي بذلك كله تحاول تخليد المرثي معنويا . تقول :
أعيني جودا ولاتجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجري الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العماد
ساد عشيرتة أمردا

إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مد إليه يدا

يكلفه القوم ما عالهم
وإن كان أصغرهم مولدا

جموع الضيوف إلى بيته
يرى أفضل المجد أن يحمدا

وإن ذكر المجد ألفيته
تأزر بالمجد ثم ارتدى


وفي هذا النص تبدأ مطلعة بمخاطبة عينيها .
وتوجه النداء لها لتجودا عليها بالدمع إعلاناً عن حزنها العميق، فالألم يمزق نياط قلبها . ويعصر فؤادها، ثم تبدأ في ذكر صفات المرثي والقيم التي يقدسها المجتمع، والمبادئ التي هي مقياس للمثالية ((ألا فجودا)) لأن صخراً الكريم جدير بأن تنهمر على فقده الدموع، ألا أيتها العينان تدفقا على ذلك الرجل الجريء ذي الخصال الجميلة، فابكيا على هذا السيد الفتى، طويل القامة رفيع المكانة، الذي تمكن رغم صغر سنه أن يكون في الصدارة بين عشيرته، يقتحم الصفوف إلى المجد حتى يحظى بما لم يستطع غيره أن يناله، ثم يمضي في درجات المجد صاعداً، وهذا الذي جعل قومه يوكلوا إليه ما كانواس ينوءون به حتى وإن كان من أصغرهم سنا وأحدثهم عمرا .
فنهض بهذه المسؤوليات لينال من قومه الثناء الحسن، والذكر الجميل، فهو يرى أن أفضل الكسب أن يثني عليه الناس وأن يذكروه بكل ما هو حسن .
.................

ثم تمضي في الإشادة بالمرثي، وإضفاء كل ما تستطيع من قيم ومثل هي موقع اعتزاز المجتمع العربي، وتحاول أن تجعل المرثي مثالاً يحتذي به حتى أصبحت صورته كصورة المثال المتعالي الذي تشكل المحسوسات مثالاً له تشبهه ولا تساويه .
فنتحدث عن صفة الكرم، والشجاعة، والوفاء، والمروءة، وغيرها، وما تمثله هذه الصفات من قيمة اجتماعية، بألفاظ مختارة، وأصوات متناسقة، ومعاني تجسد شخصية المرثي وصفاته العالية تقول :
وإن صخراً لوالينا وسيدنا
وإن صخرا إذا نشتوا لنحار

وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا
وإن صخرا إذا جاعوا لعقار

وإن صخرا لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار

جلد جميل المحيا كامل ورع
وللحروب غداة الروع مسعار

حمال ألوية هباط أودية
شهاد أندية للجيش جرار

نحار راغية ملجأ طاغية
فكاك عانية للعظم جبار



إلى أن تقول :
لم تره جارة يمشي بساحتها
لريبة حتى يخلي بيته الجار

ولا تراه ومافي البيت يأكله
لكنه بارز بالصحن مهمار


ومطعم القوم شحا عند مسغبهم
وفي الجدوب كريم الجد ميسا



ثم تختم بهذا البيت :
ليبكه مقتر أفنى حريبته
دهر وحالفه بؤس وإقتار



وقولها :
ياعين جودي بدمع منك مدرار
جُهْدَ العويلِ كماءِ الجَدْولِ الجاري

وابكي أخاك ولا تنسي شمائله
وابكي أخاك شجاعا غير خوار

وابكي أخاك لأيتام وأرملة
وابكي أخاك بحق الضيف والجار

جَمُّ فواضله تندى أنامله
كالبدر يجلو ولايخفىعلى الساري


وفي صورة أخرى من صور التأبين لدى الخنساء، تحاول تجسيد معاني البطولة، والقوة، والقدرة على إشعال نار الحرب وإخمادها خدمة للقبيلة كما يظهر ذلك في قولها :
وكان ثمال الحي في كل أزمة
وَعِصْمتُهمْ والفَارِسَ المُتَغشِّما

وينهض للعليا إذا الحرب شمّرتْ
فَيَطْفِئُها قهراً وإنْ شاءَ أضْرما


وتلجأ أحياناً إلى نعي تلك الفضائل مع المرثي فكأنها ذهبت بذهابه، فلم يصبح بعده من يجيب الندى ولا من يحمي الحمى، ويغيث الملهوف، ويفك العاني، ويدافع عن العرض ويقود الحرب فقد دُفِنَتْ المكارم بدفنه وضاعت الأخلاق النبيلة في ثراه، تراها تجسد ذلك كله في قولها :
دق عظمي وهاض مني جناحي
هلك صخر وفما أطيق براحا

من لضيف يحل الحي عان
بعد صخر إذا دعاه صياحا

وعليه أرامل الحي والسفر
ومعترهم به قد تلاحا

وعطايا يهزها بسماح
وطماح لمن أراد طماحا

ظفر بالأمور جلد نجيب
وإذا ماسمى لحرب أباحا

ويحلم إذا الجهول اعتراه
يردع الجهل بعد ما قد أشاحا

إنني قد علمت وجدك بالحمد
وإطلاقك العناة سماحا

فارس يقرب الكتيبة بالسيف
إذا أردف العويل الصياحا

يقبل الطعن للنحور بشزر
حين يسمو حتى يلين الجراحا


إلى أن تقول :
فارس الحرب والمعمم فيها
مدرة الحرب حين يلقى نطاحا



وتظهر الفكرة جلية واضحة في قولها :
يا صخر قد كنت بدراً يستضاء به
فقد ثوى يوم مت المجد والجودُ


وفي قولها :
فمن للحرب إذا صارت كلوحا
وشمر مشعلوها للنهوض

وهكذا حاولت الخنساء أن تحفر في الأذهان مناقب المرثي ومحاسنه، حتى لا تنمحي على مر الزمن وحتى لا يصيبها شيء من زوال أو نسيان، إنها كل ما تملك لتبقي على المرثي بينهم وليجعه دائما ماثلاً أمامهم .

الندب
هو لون أيضا من ألوان الرثاء أو التعبير عن فراق المحبوب، ويتمثل في البكاء والنواح والعويل على الميت .
والمعنى الأصلي لكلمة " ندب " يدور حول ثلاثة محاور ( الأثر، والخطر، وخفة الحركة وسرعتها ) والذي يعنينا من هذه المحاور معنى الأثر " فالأثر هنا من أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد " " ويبدو أن اثر الجرح وما يسببه من ألم تطور مجازا إلى أثر جرح الفراق للأحبة وهو جرح غائر ولا يندمل، ونتائجه تظهر في الحزن المستمر والبكاء الموجع " وهذا المعنى هو غرضنا في هذه الدراسة .
وقد يسمى هذا اللون بالنعي أيضا، لان النعي معناه " إشاعة شيء ثم تطور مجازاً إلى إشاعة خبر الموت، قال الشاعر :
قام النعي فأسمعا
ونعى الكريم الأروعا



والنعي كثير الورود في شعر الرثاء بلفظه وبمعنى إعلان الحزن والبكاء على الفقيد، كقول طرفة

إذا مت فانعيني بما أنا أهله

وشقي علي الجيوب ياابنة معبد
ج

والخنساء من الشعراء الذين استخدموا هذا الفن التعبيري ، والشكل المادي لتجسيد صورة الحزن والأسى والنواح والبكاء الذي يعبر عن عواطف داخلية، يعكس آثار الصدمة النفسية التي تعاني منها الشاعرة من جرّاء فقدها لأعز الناس عندها .
فالصورة التي نجدها في هذا النوع من الرثاء عند الخنساء تتمثل في ندب المرثي والنواح والبكـاء عليه .
ولعل خير ما يصور ذلك، ويؤازره هو شيوع المطالع البكائية في ندبها وبكائها، والتي تعبر عن شدة الحزن وكثرة البكاء .


تقول :
يا عين فيضي بدمع منك مغزار
وابكي لصخر بدمع منك مدرارا

إني ارقت فبت الليل ساهرة
كأنما كحلت عيني بعوار


وقولها :
أمن حد الأيام عينيك تهمل
تبكي على صخر وفي الدهر مذهل

ألا من لعين لا تجف دموعها
إذا قلت أفثت تستهل فتجفل


كما أن تكرار المطالع البكائية يكشف عن وعيٍ ذاتي بمأساة الشاعرة الإنسانية الذي يتضح في قولها :
يا عين بكي على صخرٍ لاشجان
وهاجس في ضمير القلب حزان

اني ذكرت ندى صخر فهيجني
ذكر الحبيب على سقم واحزان

فابكي اخاك لايتام أضربهم
ريب الزمان وكلُّ الضر يغشاني


كما انه يعكس رغبة الشاعرة في إبراز حزنها وفجيعتها وحجم الخسارة التي لحقت بها وخاصة بعد رحيل أعز الناس عندها الذي كان مصدر سعادتها، وسندها وما نع الضيم عنها، تقـول :
ريب الزمان وكلُّ الضر يغشاني
لقد أضحكتني زمنا طويلا

بكيتك في نساءٍ معولات
وكنت أحق من أبدى العويلا

دفعت بك الجليل وأنت حيٌ
فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل
رأيت بكاءك الحسن الجميلا


ويزداد بكاء الخنساء وحزنها فتقسم بأن لن ينفك دمعها ولن يتوقف عويلها على للميت، وهذا نابعٌ من ارتباطها الوثيق بالميت، تقول :
فأقسمت لا ينفك دمعي وعولتي
عليك بحزنٍ مادعا الله داعية



وقولها :

لأبكينك ما ناحت مطوقة
وما سريت مع الساري على الساق


وتتحدث عن نفسها مبينة أن غروب الشمس وطلوعها قد يصل بها إلى أنها ستقتل نفسها، ولكنها تسلي نفسها بكثرة الباكين حولها وإن كانوا لا يبكون مثل أخيها، ولا يوجد من الحزن عندهم كما يوجد عندها، فهي فارقت لذاتها يوم فارفت صخر، وسلب منها انسها يوم ودعت صخر، تقـول :
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي

ولكن لا أزال أرى عجولا
وباكية تنوح ليوم نحس

أراها والها تبكي أخاها
عشية رزئه أو غب أمس

وما يبكون مثل آخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي



ثم تتحدث عن سؤال الناس لها عن سبب شيبها رغم حداثة سنها فتجيبهم أن هذا اقل تعبير عن الحزن، وأقصر بيان عن الألم فكيف يطيب عيش بعد أبي حسان تقول :
تقول نساء نساء شبت من غير كبرة
وأيسر مما لقيت يشين

أقول أبا حسان : لا العيش طيب
وكيف ، وقد أفردت منك يطيب



ذكرتك فاستعبرت والصدر كاظم
على غصة منها الفؤاد يذوب

لعمري لقد أوهيت قلبي عن العزا
وطأطأت رأسي والفؤاد كئيب

لقد قصمت مني قناة صليبة
ويقصم عود النبع وهو صليب

ولم تكتف بذلك بل حاولت إشراك الطبيعة في حزنها وألمها الذي تعيشه محاولة بذلك نقل مصابها من الإطار الذاتي الخاص إلى إطار عام، فتقول أن الأرض تزلزلت لموت أخيها وزالت الكوكب، وبدت الشمس كاسفة، والدنيا مظلمة، وان السيوف والخيول وغيرها أضحت باكية على رحيل أخيها، تقـول :
فخر الشوامخ من قتله
وزلزلت الأرض زلزالها

وزال الكواكب من فقده
وجللت الشمس إجلاها


وقولها :
فيا عين بكي لأمرى طال ذكره
له تبكي عين الراكضات السوابح

وكل طويل المتن أسمر ذابلٌ
وكل عتيق في جياد الصفائحِ

وكل دلاص كالإضاءة مذالة
وكل جواد بين العتق قارح


فنرى أن الشاعرة تحاول إسقاط مشاعرها على الطبيعة ، لا أنها تصور حقيقة قائمة ، وإنما تحاول إشراك هذه المظاهر بتجربتها المؤلمة ، وهذا فيه دليل على شدة الإحساس بوطأة المعاناة ، ومرارة الفقد .






العـــــــزاء


قال ابن منظور : " العزاء يعبر عن كل ما فقدت ..... ويقال إنه لعزي صبور إذا كان حَسَنَ العزاء على المصائب ..... وأمرته بالعزاء فتعزى تعزيا أي تصبر تصبرا "
وجاء في مقاييس اللغة :
" وعَزَ : العين والزاي أصل صحيح واحد يدل على شدة وقوة " و" العزاء الصبر " .
وقال ابن دريد : والعزاء من التعزي وهو التأسي ".
هذا هو المعنى اللغوي للعزاء وهو من التعزية أي الصبر على المصائب ، وتحمل شدة الألم ، ولوعة الفراق .
والعزاء ماهو إلا لون من ألوان الرثاء أيضا يتمثل في صبر الإنسان على مصابه ، وتلمسه سلوانا لمعاناته ، والرضى بما حل به والاستسلام للقدر .
وقد استخدمت الخنساء هذا اللون من ألوان الرثاء معزية نفسها تارة بكثرة الباكين حولها ، كقولها :
ولولا كثرة الباقين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزّي النفس عنه بالتأسي

يا أم عمرو ألا تبكين معولة
على أخيك وقد أعلى به الناعي

فابكي ولا تسأمي نواحا مسلبة
على أخيك رفيع الهم والباع



وتارة تنادي قومها بأن يشاركوها بكاءها بعد أن فقدوا فارسهم ، وحامي الذمار، تقول :
بني سليم ألا تبكون فارسكم
خلى عليكم أمورا ذات أمراس

ما للمنايا تغادينا وتطرقنا
كأننا أبدا نحتز بالفاس

تغدوا علينا فتأبى أن تزايلنا
للخبر فالخبر منا رهن أرماسي

ولايزال حديث السن مقتبلا
وفارسا لايرى مثل له راس

منــا يعافصنه لو كان يمنعه
بأس لصادقنا حيا ألي بأس


ومن صور تلمس التعزية للنفس والحزن عند الخنساء حديثها عن الدهر، والمصير الإنساني وعجز الإنسان أمام هذه الحقيقة الكونية التي لا يستطيع حيالها أن يفعل شيئاً، وأن المنية ستخترم جميع البرية ، تقـول :
فاليوم أمسيت لا يرجوك ذو أملٍ
لما هلكت وحوض الموت مورود


وقولها :
فكل حي صائر للبلى
وكل حبل مرة لاندثار


وقولها عن المصير المحتوم :
مضى وسنمضي على إثره
كذاك لكل فتى مصرعُ


وقولها :
لاتكذبن فإن الموت مخترم
كل البرية غير الواحد الباقي


ومن قولها في الدهر :
لا خير في عيشٍ وإن سرّنا
والدهر لا تبقي له باقية




وقولها :
أرى الدهر يرمي ما تطيش سهامهُ
وليس لمن قد غاله الدهر مرجع


أرى الدهر يرمي ما تطيش سهامهُ وليس لمن قد غاله الدهر مرجع
وخلاصة القول إن الخنساء وظفت كلمة البكاء للتعبير عن حزنها وألمها فأتت بها في سياقات مختلفة للتعبير عن أغراض متعددة .
وحاولت تلوين بكائها بألوان تستطيع من خلالها التأثير في نفس السامع ، وإيصال الفكرة إلى المتلقي .
كما أنها رسمت صور فنية رائعة استطاعت من خلالها حفر صورة فنية في ذهن القارىء بحيث لا يستطيع أحد نسيانها أو الأعراض عنها وبشكل متجدد ومتنوع .

















الخنسـاء والإسـلام

مرّ معنا فيما سبق أن الخنساء مرّت بمرحلتين، وفي كل مرحلة يوجد حدثٌ مهم في حياة الخنساء فالمرحلة الأولى : ماقبل الإسلام وأهم حدث فيها موت صخر ومعاوية .
والمرحلة الثانية : ما بعد الإسلام وأهم حدثٍ موت ابنائها الأربعة .
لقد عاشت الخنساء مرحلتين مهمتين في حياتها كان لها في كل مرحلة موقف من مصابها، وتعبير يعطي تصوراً لفكرٍ معين، ونفسية مختلفة .
ففي المرحلة الأولى : عاشت الخنساء في الجاهلية، وسط مجتمع لا يقدس إلا الحياة، ولا يؤمن بما وراءها، أو لا يوجد عنده تصورٌ لما بعد الموت، ولا تفسيرٌ لظواهر الحياة من موتٍ وغيره .
مجتمع يعيش عاداتٍ تقدس الذات، وتفخر بالنسب وتذكي في النفوس العصبية القبلية، ويحض على الحمى القبلي .
فكيف نتصور شخصاً يعيش وسط هذه المعاني، ويتشرب هذه الأفكار، لا بل هو من ينادي ويحض عليها .
ثم في لحظة تنقلب هذه المفاهيم، وتنعكس هذه التصورات وتختل الموازين، لتبدأ نقطة التحول وبداية حياة جديدة، بفكرٍ جديد، وتصورٍ مخالف للمألوف، ويبدأ العقل الإنساني يجد تفسيراً لكل ما هو حوله من غموض وحيرة بناءً على وحي إلهي من السماء .
لقد عاشت الخنساء هاتين المرحلتين بما فيهما من تصور وفكر وإذا جئنا لنسبر فكرها قبل الإسلام، وننظر في النفسية التي كانت تعيش بها، وكيف تعاملت مع مصابها، من فقدها لصخر ومعاوية، اللذان انتزعتهما أيدٍ حاقدة وحزازات عصبية قبلية، نجد أن الخنساء قد أفرطت في الجزع عليهما، ونظمت فيها المراثي الطوال التي ضاهت بها أكابر الشعراء، ودأبت على أن تشهد سوق عكاظ كل سنةٍ على هودج مكلل بالسواد تنشد المراثي، وتنعي أخويها القتيلين بأشعارٍ تصور بها لوعتها المحمومة، وصبرها الذائب في أتون الحقد والضغينة . تقول في صخر :
يؤرقني التذكر حين امسي
فأصيح قد بُليتُ بفرط نكسي

على صخرٍ وأي فتى كصخر
ليوم كريهة وطعان خلس

فلم أر مثله رزءً لجنٍ
ولم أر مثله رزءً لإنس

فلا والله لا أنساك حتى أفارق مهجتي ويشق رَمْسِ



وأظهرت كل مظاهر الحزن والأسى لفقدها أخويها صخر ومعاوية وأسهبت في صخر حيث كانت عادات الجاهلية في الحزن حلق الرأس ولبس صدرٍ من الشعر وضرب الرأس بنعلين، وغيره من العادات الجاهلية ، تقول الخنساء :
هريقي من دموعك أو أفيقي
وصبراً إن أطقت ولن تطيقي

وقولي إن خير بني سليمٍ
وفارسهم بصحراء العقيق

وإني والبكا من بعد صخرٍ
كسالكة سوى قصد الطريق

فلا وأبكيك ما سليت نفسي
بفاحشة أتيت ولا عقوق

ولكني وجدت الصبر خيراً
من النعلين والرأس الحليق



ثم هي تقسم أنها ستبكي أخويها ما عاشت أبداً تقول :
سأبكيهما والله ما حن واله
وما أثبت الله الجبال الرواسيا


وقولها :
فأقسمت لا ينفك دمعي وعولتي
عليك بحزنٍ ما دعا لله داعية



وتقول أنها ستبكي صخر في كل مساء وشروق، وكل ما ناحت مطوقة، مبالغة منها في الحزن والأسى، تقول :
إني سأبكي أبا حسان نادبةً
ما زلت في كل إمساء وإشراق


وقولها :
وسوف أبكيك ما ناحت مطوقة
وأضاءت نجوم الليل للساري


وتارة أخرى تراها تتعجب من المنايا التي لا تفتأ تقدم اليهم دائماً، صانعة بأهلها الأفاعيل، تمزقهم تمزيق الفؤوس، تقول :
ما للمنـايا تغـادينا وتطرقنا
كأننا أبداً نحتز بالفاسِ

تغدو علينا فتأبى أن يزالنــا

للخير فالخير منه رهن أرماس


وتتحدث عن الزمان، والدهر وكيف أنهما فجعاها وأفنيا أقاربها وأبناء عشيرتها، تقول :
وفجعني ريب هذا الزمان به المصائب قد تفجع
وقولها :
أرى الدهر يرمي ما تطيش سهامه
وليس لمن قد غاله الدهر مرجع


وقولها :
أرى الدهر أفنى معشري وبني أبي
ج فأمسيت عبرى لا يجف بكائيا
ج

وقولها :
تعرقني الدهر نحسا وحزّا
أوجعني الدهر قرعاً وغمزا

وأفنى رجالي فبادوا معاً
فغودر قلبي بهم استقزا


وهكذا تمضي الخنساء في نوحها وبكاءها، بنفسية حزينة، وقلب كئيب، تلوم الدهر وتعاتب الزمان، وتقسم أنها ستستمر في بكاءها وحزنها، إلى أن تشرق شمس الرسالة، ويظهر نور الهداية فتسلم الخساء مع من أسلم وهي لا تزال باكية أخويها ليل نهار حتى تتقرح أجفانها لذلك .
فيجدها عمر بن الخطاب تطوف بالبيت محلوقة الرأس، تبكي وتلطم وقد علقت نعل صخر في خمارها فوعظها، فقالت : إني رزئت فارساً لم يرزأ أحد مثله، فقال : إن في الناس من هم اعظم من مرزئة منك، وإن الإسلام قد غطى ما كان قبله، وأنه لا يحل لك لطم وجهك ، وكشف رأسك فكفت عن ذلك .
وأما رواية إقرار عمر لها على فعلها وقوله " دعوها فإنها لاتزال حزينة أبدا " فإني في شك منها لأنها تتصادم مع نصوص الشريعة التي تحرم النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب " .
وبعد دخول نور الإسلام إلى قلب الخنساء، وتتغلغل الهداية في نفسها، تصاب الخنساء بموت أبنائها في يوم القادسية، فهل موقفها هذا كموقفها من موت أخويها صخر ومعاوية؟ وهل ناحت عليهما طويلاً وبكت دونهما كثيراً؟ هل تقرحت عينيها واحترقت نفسها ؟ كل ذلك تجيب عليه الخنساء بكلمات قالتها حين ورود نبأ موت أبنائها " الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم "
فأي انقلاب هذا في الموقف؟ وأي تغير في النفس ؟ هل وُجِدَتْ خنساء غير الخنساء الأولى : لا . ولكنه الإسلام الذي يداوي الجراح، ويسلّي النفوس، ويضمد الجراح .
لقد قرأت الخنساء قول الله تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون " . وسمعت قوله  للشهيد عند الله سبع كرامات : يغفر له عند اول قطرة من دمه... ويشفع في سبعين من أهله " . وغير ذلك من النصوص الشرعية هذا من جهة ومن جهة ثانية انهم لم يقتلوا نتيجة لعصبية جاهلية، أو ثأر لدماء ولكنهم، ماتوا تلبيةً لنداء ربانيُ وغاية سامية، وهدف نبيل، وهو إعلاء كلمة الله .
ففي الجاهلية المصير مجهول وفي الإسلام المصير جنة الخلد، في الجاهلية الموت لأجل سقط
المتاع، بينما في الإسلام، الجهاد في سبيل الله أسمى أمانينا، في الجاهلية الحياة مقدسة، وشهوتها محببة، بينما في الإسلام الحياة طريقٌ إلى الآخرة والذي يُحْرَمُ من ملذات الدنيا وطيباتها، يعوض في الآخرة : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين " .
فكم من خنساء تعيش اليوم بين ظهرينا ولا نعلم عنها شيئا ، وكم من امرأة مناضلة صالحة عالمة خيرة ، تفضل وتتميز عن كثير من الرجال الجهلة ، وكم من خنساء سمعنا عنها في وقتنا الحاضر في فلسطين والعراق والكثير من البلدان الإسلامية والعربية ما زلنا سائرات في درب الخنساء الأولى .
فلقد جعل سبحانه وتعالى أهلية المرأة كاملة كأهلية الرجال سواء بسواء ، واعتبرها محلا للخطاب ، والتكليف ، والاستجابة ، ولا عجب إن نرى في مسيرة الخنساء الأنموذج المطلوب في عالمنا العربي والإسلامي الحالي .

إعداد / د. محمد ناصر










قائمة المصادر والمراجع
1- الأغاني، لأبي فرج الأصفهاني
2- الشعر والشعراء، لأبي محمد الدينوري ( ابن قتيبة )
3- معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين ( ابن فارس )
4- لسان العرب، ابن منظور
5- تهذيب اللغة،، لأبي منصور الأزهري
6- الأدب العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، بطرس البستاني
7- البيان والتبيين، الجاحظ
8- شرح ديوان الحماسة، التبريزي
9- ديوان الخنساء، الخنساء
10- تاريخ الأدب العربي، بروكلمان
11- الرثاء في الشعر الجاهلي وصدر الإسلام
12- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم
13- السيرة النبوية، ابن هشام
14- تاريخ الطبري، الطبري
15- صحيح ابن ماجة، ابن ماجة
16- الخنساء، بنت الشاطيء، عائشة عبد الرحمن
17- في رحاب الخنساء، فتحي كواملة
18- الخنساء شاعرة بني سليم
19- الخنساء في مرآة عصرها ( بحث ونقد وتوجيه )
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف