
عبدالوهاب المسيري.. كان هنا ولايزال nnد. فوزية أبو خالد *n nn n n nلا نقول وداعاً nnلك الجنة بإذن الله أيها الفارس غير الملثم على ما سهرت وعلى ما حلمت وعلى ما كابدت وتكبدت. nnلك الفردوس الأعلى أيها المحارب السافر بالحق والجمال بما نحت من جُنح الحرف وعلى غياهب اللغة في جنح النهار أو وضح الليل. nnلك الخلود المقيم على ما اقترفت من مقاومة لجبروت الهزائم وذل الانكسار ولما ارتكبت من معاصي في حق جنايات الجهل وما هتكت من ستر الصمت بسحر وسفر الكتابة. nnوليس لي في رحيلك إلا أن أزهو بانتحاب حَر كما تزهو الفراشات باحتراقها بأنني كنتُ واحدة من جيل عريض تربت أكتاف أبجديته وريش حبره على ما نفثت من هواء طلق وما أطلقت من شموس صغيرة. nnكان هنا ولا يزال لو أمعنا nnليس لي في شعور اليتم الذي اجتاح صبحي نهار الجمعة الثالث من شهر تموز كأنه اعصار موجه ضدي شخصيا في هذه اللحظة الملتبسة التي يواجه فيها العالم العربي من الفرات والخليج إلى بحيرة طبريا والأطلس بتهديد محو عام إلا أن أفتح دفاتر الذاكرة بوجل ووجع وإن بامتنان للرحمن بأنني حين كنت مجرد برعمة التقيت أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الملك سعود بمكتب محمد جبريل سكرتير مركز الدراسات الجامعية للبنات وقتها منتصف الثمانينات حين كانت الجامعة تحاول أن تكون جامعة ولم تتحول بعد لأن تكون مجرد (جمعة) لأصحاب الشهادات والطلاب كما حدث في العشرين عاما التي تلت ذلك التاريخ إلى وقت قريب يبدو كما لو أنه مبشر. nnكنت معيدة صغيرة للتو التحقت للعمل بمركز الدراسات الجامعية للبنات الذي كان عميده د. منصور الحازمي ومشرفته لاحقا د. هند الخثيلة. وكانت لم تمسني بعد عصا الطاعات الطاعنة في التخلف ولم أتعرض بعد للتمرس في المواجهات بين المواقف إلا أنني استطعت أن اميز في ذلك الغسق الباكر بأن ذلك المعلم أمامي ليس مجرد (أستاذ متعاقد) كما يطلق عادة على أساتذة الجامعة من الدول العربية الأخرى إنما هو عبد الوهاب المسيري صاحب أول مبادرة في العالم العربي لتقديم تحليل منهجي (للأيدولوجية الصهيونية). nnشحنات الأسئلة nnكنت في أول طلعتي كمواطنة سعودية أكن في إيهابي المرهف بعد موقفاً إنسانياً ووطنياً مبدأيا ولوعة شعرية ووجدانية مندلعة تجاه القضية الفلسطينية مستقاة مما رضعناه منذ طفولتنا وما فتح جيلي عينه عليه من قصص شهود احياء في عمرنا وعمر أمهاتنا لرعب المذابح التي اقتلعت الشعب الفلسطيني من أرضه, ومما صار بعده يفتننا ويرد الاعتبار لعنفواننا الفتي من مد المقاومة الفلسطينية في شعر محمود درويش وسميح قاسم وزياد توفيق (سجل أنا عربي) وفدوى طوقان بل وفي الشعر العربي عموما عن فلسطين الذي لم يخل ديوان شعر عربي وقتها من تفجعات اختطاف تلك الصبية الصهباء من أهلها بيد (الاستعمار الاستيطاني الصهيوني) مع ما قرأته لاحقا على مقاعد الصفوف الجامعية الأولى بالجامعة الأمريكية ببيروت من أدب غسان كنفاني عائد إلى حيفا ورجال تحت الشمس. وكذلك ما رددناه في المظاهرات الطلابية بأمريكا عندما انتقلت دراستنا إلى هناك من شعارات (فلسطين عربية) و(الصهيونية عنصرية تضاهي النازية) و(بأيدينا للقدس سلام). إلا أن ذلك الحس الوطني والعروبي المشتعل ما لبث عبر سنوات الدراسة وبالبحث والقراءة والتعمق والاحتكاك بمختلف وجهات النظر ومدارس الفكر الاجتماعي والسياسي بل والفلسفي وخاصة في تياراته اليسارية الناقدة للهيمنة الغربية بأشكالها الاستعمارية التقليدية إلى منتصف القرن العشرين وبأشكالها الامبريالية المتصاعدة وقتها في الربع الأخير منه أن تبلور إلى موقف متأمل في جذور تلك الاشكالية الإنسانية بمعناها الابستمولوجي المعرفي ومتسائلا عن الأمشاج والعلائق السياسية والتاريخية لابعاد تراجيديتها الإنسانية الفادحة. nnدراسة حالة في علم اجتماع المعرفة nnفلما حان دوري على مسرح أو مذبح التدريس الجامعي كنت حفية بأن أحول الحس العاطفي لدى طالباتنا بهذا الموضوع المفصلي من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إلى معرفة تحليلية يمكن اختبارها على أرض الواقع بأدوات منهجية. وقد لاحت اللحظة مواتية حين أوكل لي تدريس مقرر (علم اجتماع المعرفة) بما يتيحه من إمكانيات التفكيك والربط بين مختلف اشكال الأوعية المعرفية من تقاليد وعادات وأعراف وأفكار ومبادئ وإيدولوجيات وأخلاق وعداوات وصداقات ومثاليات وأخيلة وسواها مما يعرف بثقافة المجتمعات والخطاب السياسي وبين الواقع في راهنه وفي سياق حركة التاريخ الاجتماعي للمجتمعات وفي هواجسه المستقبلية. nnإلا أنه ما كان لي إلا أن أتوه دون ذلك الهدف على طريق الطرائد بتعبير الشاعر قاسم حداد لولا أنني في خضم بحثي عن مراجع لمثل هذه النقلة النوعية في وعينا بتلك القضية الوطنية العادلة والشائكة على مستوى العالم العربي والعالم عثرت على ضالتي في الكتاب الصادر عن عالم المعرفة بالكويت في جزأين (الأيدولوجية الصهيونية) للدكتور عبدالوهاب المسيري. فكان ذلك الكتاب بالنسبة لي بمثابة (اكتشاف حقل قمح) في مجاعة أو مصادفة نهر في مفاوز صحراء. ولابد أن من جرب من أساتذة الجامعات خاصة الناشئين مثلي حينها محنة الاضطرار للترجمات بجهد ذاتي غير مدرب عليها أو الاضطرار للالتجاء إلى (رثاثة) الكثير من الكتب الجامعية وتلفيق (المذكرات) الشائع في العلوم الاجتماعية يعرف قيمة اي كنز وضعت يدها عليه (البنت المحاضرة) لطالباتها (كما كانوا يسمونها) بمثل هذا الكتاب خاصة بالنسبة لحقل معرفي (كعلم اجتماع المعرفة) مما كان ولايزال من المجالات الغفل في جامعاتنا. ولا بد أن أعترف في هذا السياق أن اختياري لتخصصي الدقيق في علم اجتماع المعرفة (الخطابات السياسية والنساء) أنه كان ربما في الشعور واللاشعور بتأثير مما أثارته أطروحته في عقلي من شحنات الأسئلة. nnعلى أنني في تلك المرحلة عندما أعيتني الاجراءات البيروقراطية المعيقة للتجريب والابداع والحوار عن استضافة الدكتور عبدالوهاب المسيري في بعض محاضرات ذلك المقرر عبر (القناة التلفزيونية المغلقة) ليستمع الطالبات مباشرة إلى تحليلات صاحب الكتاب, لم اكتف بقراءتي ومحاضراتي في الموضوع العلمي للكتاب بل كثيرا ما كنت أشق عليه بمناقشات (هاتفية) طويلة لم تخل من شغب وفضول النهل من المعين المعني مباشرة بالمادة التاريخية الصلبة والتحليل الاجتماعي لأطروحته. nnبوارق معرفية مرت بنا nnلقد مر على جامعاتنا ومنها جامعة الملك سعود في تلك الحقبة عدد من القامات السامقة من الأساتذة والأستاذات مثل البرفسور النمساوي السعودي د. طلال أسد, د. سلمى خضرا الجيوسي زائرة, د. علي أبوليلة, الأستاذة التركية د. يكن أرتورك, د. عبدالكريم الأحول, د. عائشة عبدالرحمن - بنت الشاطئ, الأستاذ الإيراني الأمريكي د. أسعد نظامي د. فاطمة شداد, د. وفاء السنديوني، د. نذير العظمة, د. نجوى حافظ، د. ناديا حليم, د.شكري عياد, د. ليلى العاصي، د. سميرة أمين, د. الحاج بلال, فوزية بريون، د. عبدالغفار محمد أحمد, د. سامية عطا، د. بلقيس بدري, د. حسن ظاظة, د. الفت الألبي، د. إدريس الحسن, د. فاطمة موسى, والروائية أستاذة الأدب الإنجليزي أيضاً د. أهداف سويف, بالإضافة إلى د. سلوى ناظم متخصصة أدب اللغة العبرية المقارن والأستاذة السعودية الزائرة د. ثريا التركي وسواهم من المتميزين في حقول مختلف التخصصات. nnإلا أن أحداً لا يدري كم عرفنا قيمة وجودهم بيننا وفينا ومجموعة منهم تعد شخصيات عالمية في علمها. كما أن أحداً لا يدري كم بقي من رائحة تضوعهم العلمي الجميل في هوائنا إلا ما علق بأرواح بعضنا من عبيرهم المعرفي. وقد احسست ذلك بشكل باذخ غائر وحارق برحيل عبدالوهاب المسيري وهو لا يزال فينا كما أحسسته قبل حين برحيل أستاذتي الغالية د. فاطمة موسى ود. سلوى كاظم. (وربما على جامعة الملك سعود ان تحفل وهي تحاول اليوم تصحيح الصورة والأصل لواقعها الأكاديمي أن تضع ما يشبه السجل الشرفي التوثيقي لما مر بعمرها من بوارق معرفية). nnإلى أصدقاء جرأته في الحق وصبره على النحت nnالمدهش أنني حيني التقيت د. عبدالوهاب المسيري بعد ذلك التاريخ بعشرين عاماً تقريباً بمحاضرة له بمعرض فرانكفورت للكتاب الذي كان فيه العالم العربي ضيف الشرف للعام 2004م، وجدت أنه لا يزال يحمل في روحه حباً عميقاً لتراب هذه الأرض وناسها وكأنه لم يغادرها قط. فأي وفاء لهذا الرمز الوفي الذي ظل يحمل مشعل المقاومة لا يهن أو يساوم. ولعله لم يرد الرحيل إلا بعد التأكد في كل ما كتب أنه ترك تلك الشعلة أمانة لمن يأتي بعده من أجيال. nnفلذلك الفارس الممشوق في تاريخنا من كل مريديه وقرائه الكثر ومني وكافة الأصدقاء عبر القارات ممن يملكون من الضمير والجرأة ما يواصلون به مشتركاتهم معه في مواقفه الشجاعة وفكره الموضوعي المستنير وإنسانيته الضاهية رحمة من الله لا تنفد وله ما يُنشد من سلام. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد. nnnn* أكاديمية وشاعرة من السعودية [email protected] n n