بقلم / اسامه قاسم
يجتاز المجتمع الفلسطيني اليوم فترة عصبية من تاريخه إنها فترة زاخرة بالأزمات، أقل ما يقال فيها أنها تتسم بالخطورة البالغة ... وأوضح تشبيه لحالتنا في هذه الأيام أنها تمر في طور المخاض في من جهة تشهد ألوانا كثيرة من الصراع العنيف المصحوب بآلام عميقة الثر وهي من جهة ثانية تنتظر أحداثاً جديدة، وتحولاً جذرياً جديداً في طريق المصير.
أما ألوان الصراع هذه التي تثير الضمير الإنساني في هذه المنطقة من المجتمع الفلسطيني فتشير كلها وإن تعددت، إلى وجود مشكلة أو مشاكل سياسية لأمتنا وإلى أن هذه المشكلة أو المشاكل هي المصدر لكل ما يجري من أحداث والمحرك العميق بجميع مظاهر الصراع والقلق. وإذا بحثت عن تحديد واضح لهذه المشكلة أو المشاكل السياسية. فهنا ينتصب أمامك حجاب كثيف من الغموض والإبهام. وهذا أغرب ما يمكن أن نصادفه في تفهم مشكلة من مشاكل المجتمعات.
ما هي مشكلة المجتمع السياسية ؟
إن أبرز تلك المشكلات الجاري بحثها بنضال وتكرار مسألة الوحدة الوطنية. والوحدة الوطنية هدف تليد من أهداف المجتمع المحلي ولكن الكلام عنها استأثر بالاهتمام في الآونة الأخيرة على أثر عض ما وقع في العامين الماضيين من أحداث وتطورات وقد كان من الطبيعي أن تشحذ تلك الأحداث الأقلام لتجتهد في بحث الأسباب تعيين المسؤوليات، سعياً وراء تقويم اتجاه العمل القومي. وهكذا ظهر سيل من المقالات والكتب والمناقشات والحوارات التي تحاول اكتشاف " العوامل التي عاقت تحقيق هذا الهدف القومي الكبير" وبالتالي تقديم الحلول اللازمة لتحقيقه .
ونحن حيث نبحث هذه المنشورات ونحوها، نلمس وجود نقاش حاد حول موضوعاتها. ولكن حين نمعن النظر قليلاً، يهو لنا أن نجد أن معظم هذه الأبحاث تدور بعيداً عن المجال الحقيقي لتلك الموضوعات. والملاحظة الرئيسية التي انتباهنا حول هذه الأبحاث، أنها في الغالب تستطرد حتى تتيه في أجواء التفكير النظري والمبادئ المجردة العامة، مهملة بذلك النزول إلى الواقع الفلسطيني، فهي بذلك تسبه أحياناً عملية إماض2 العين لرؤية الأشياء، ويكاد محتواهما يكون مجرد مجموعة أفكار تعجيزية، أي هي بتعبير آخر لون من الجدل البيزنطي.
الاعتماد على الجماهير وإطلاق حرية العمل الحزبي
وللمثال على ذلك تأخذ فكرة غدت أشبه ما تكون بالقاسم المشترك لمعظم المباحث القومية... وهي تدعو إلى ( ضرورة التركيز على المجهود الشعبي، وإلى السماح بالمزيد من تدخل الجماهير لحماية المكاسب الوطنية ).... وعن هذه الفكرة تفرعت دعوات أخرى كثيرة، مثل ضرورة " أخلاق الحرية للعمل الحزبي " " قيام تنظيم حزبي ينبثق من صفوف الجماهير الواعية وبإرادتها، ... الخ ومن اليسير أن نلاحظ إلى جانب النية الذي يمكن أن نفترضه في مثل هذا الكلام أن أصحابه شديد والثقة بالجماهير العربية، أقوياء الإيمان بوجود وعي قومي فلسطيني. ولكن لا يوجب البحث العلمي التحقيق أولاً من صحة كل فرضية أو فكرة تستعمل أساساً له؟ أليس الأحرى بنا قبل إطلاق حرية شعب ما أن نتحقق من جدارة هذا الشعب بتحمل الكامل للمسؤوليات، ومن إن هذه الحرية لا تكون وبالاً عليه؟ ثم أليس من الخطأ العلمي أن نتجاهل واقع موضوع بحث معين، لنتكلم عن النظريات والمفاهيم العامة، كأن نتحدث عن الشعب بوجه عام، بدلا ًمن أن نتحدث عن الشعب العربي بالذات .
الوعي القومي شئ والتعبيرات العاطفية شئ آخر!!
إن هذا ما يدفعنا إلى القول أن القاعدة الأساسية في العمل لتحقيق أهداف القومية الوطنية، هي في تفهم نفسية الشعب الفلسطيني أولاً، وقبل أي بحث لنظريات أو مفاهيم أو مبادئ عامة.
أما ما يمكن أن نستخلصه من بحث النفسية الفلسطينية الراهنة، فهو بكل الصراحة التي يفرضها مبدأ نقد الذات: عدم نضوج الوعي... أجل، ليس لدى الشعب الفلسطيني وعي قومي حقيقي وأن جل ما بدأ منه في السنوات الماضية من انتفاضات ، لا يعد وأن يكون بمثابة تعبيرات عاطفية خالية في الغالب من أي دفع قومي ايجابي.... ولا ضرورة هنا لتعداد مظاهر هذا الوضع وعوامله، ولكن حسبنا لفت النظر إلى النتائج التي ترتبت في المدة الأخيرة على ممارسة الحرية الحزبية في بعض الأقاليم الفلسطينية... فالواقع أن الوعي الفلسطيني ليس إلا تعبير عاطفياً يواكب قيادة قومية قديرة أمينة، هنا أو هناك استحوذت على الثقة إذا حققت أعمالا بطولية لم تكن في الحسبان، وقد أثبتت الأيام أن هذا التعبير العاطفي لم يقترن بعد بعمل ايجابي يحقق الصفة الكاملة لمفهوم الوعي... من هذا المنطلق يحسن بنا أن ننظر إلى الأمور لدى بحث قضايانا القومية بصورة عامة، ومسألة الوحدة الوطنية والسلم الاهلي بوجه خاص. فمنه نستطيع أن نعلم أن خمود الوعي الفلسطيني يجعل الاعتماد على المجهودات الشعبية خطأ كبيراً، وأن مناداة بعض رجال الفكر بالرجوع إلى الشعب والتحويل على نشاطه القومي " وإعادة العمل الحزبي ليكون الطليعة القيادية في العمل الوطني " ما هي إلا تجاهل أو إغفال لهذا الواقع الأليم ومن ثم دعوة إلى ارتكاب خطأ ينبغي تجنب الوقوع فيه وليس أدل على هذا من أن التطورات الأخيرة، والأحداث المختلفة التي ما زلنا نعيش فيها، لم تثبت فقط فقدان الوعي الشعبي وغيابه عن ميدان العمل، بل أثبتت ضرر النشاط الشعبي في بعض الأحيان نتيجة لعدم نضوج الوعي.
الوعي لا يتكامل إلا بالقوة الروحية.
كان لا بد لنا من الإشادة إلى مسألة ( تحديد ) المشاكل الفلسطينية هذه لكي نلمس مدى غياب المشاكل الحقيقية عن ميدان البحث الفكري في أيامنا هذه. والمثال الذي قدمناه يبين أهمية هذه المسألة، وخطرها الذي يهدد بطمس الحقائق الجوهرية للواقع الفلسطيني.
والحقيقة أن ما أووصلنا إليه بحث النفسية الفلسطينية يقودنا بكل يسر إلى تحديد أدق لطبيعة مشاكل الشعب القومية. إن ظاهرة انعدام نضج الوعي الفلسطيني ذاتها جديدة بان تضيء لنا سبيل النظر في واقع الفلسطينيين. نحن نعلم أن الوعي القومي ظاهرة نفسية اجتماعية، تجمع بين التقاليد والعرف والقيم وبين التنبه لهذه العناصر القومية بنوع من الإيمان الحقيقي المصحوب بالعمل الايجابي. فالقاعدة الأساسية للوعي القومي كما نرى هي التصور الذي يتناول عناصر القومية المتصلة بماضي الدولة الفلسطينية وحاضرها ومستقبلها. ولكن هذا التصور لا يكفي لإيجاد وعي متكامل، إن لم يقترن بقوة روحية مبنية على الإيمان بالقيم، فهذه القوة هي العالم الوحيد الذي يدفع إلى العمل الايجابي.فهل بإمكان الواقع الفلسطيني أن ينبئنا بوجود قوة روحية ما، تعمل وتؤثر في مصيره؟ لكي نجيب على هذا السؤال نستطيع أن نتناول جميع الأعمال والمنجزات الفلسطينية التي تحققت في الآونة الأخيرة على الصعيد الشعبي، ونجردها من مظاهر الانفعال العاطفي، فماذا يبقى أمامنا؟! لا شئ... لا شئ من مظاهر القوة الروحية، وكذلك لا شئ من مظاهر العمل الحقيقي. وإذا كانت هناك قوة روحية قد تجلت، وأعمال مجيدة قد تحققت، فلدي صفوة مختارة من الشعب وعلى يدي هذه الصفوة التي لم يتجاوب الشعب معها بعد بمثل الروح التي واجهته بها، لعجزة عن إدراك المستوى الحقيقي لوعيها. فلا بد لنا إذا، إذا أردنا التزام مبدأ نقد الذات، وعدم تملق الجماهير، من القول أن الوعي الفلسطيني يعاني اليوم نقصاً عميقاً في التكوين من حيث الإيمان الروحي والإرادة الفاعلة فضلاً عن التصور السليم في معظم الأحيان. وهذا النقص هو السبب في تخلف القوى الشعبية عن اللحاق بركب القيادة القومية، وهو كذلك يمثل، خطراً يهدد بتعطيل عمل هذه القيادة، وتحطيم منجزاتها ولا يصلح هذا الوضع أن نطالب ـ كما ينادي بعضهم ـ بحرية العمل للجماهير وبتنظيم قواها، فهذا التنظيم يجب أن يصدد عنها بصورة تلقائية، وذلك ما يتم على نحو طبيعي بعد اكتمال أهليتها للعمل.إن ما يشكل الميدان الحقيقي للبحث والعمل في سبيل الإصلاح هو حالة الوعي القومي. والواقع أن أهم ما يستدعي الاهتمام من هذه الحالة، بعد وضوح تصور الأهداف لدى القيادة القومية، هو عنصر القوة الروحية الواجب توفره لدى الأمة لدفع عجلة النضال العربي البناء.
القاعدة الرئيسية هي الأخلاق
ونحن إذا تعمقنا مفهوم القوة الروحية هذه، نجد أنها تنبثق بصورة مباشرة عن الحالة الخلقية، فالأخلاق التي هي القاعدة الرئيسية لنهضة كل شعب من الشعوب، هي بالنسبة إلى العرب المنطلق الحقيقي للعمل القومي على صعيد الشعب. إن القيم الروحية التي تشكل روح الحضارة الحديثة بالرغم من مظاهرها المادية وعامل التقدم الأصيل للإنسانية، ما زالت عند العرب مجرد شعارات خالية من أي مضمون ايجابي. وقد كان هذا الوضع سبباً في كل تخلف لديهم سواء في الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة. والبحث في هذا الباب لو أردناه بطول، ولكن حسبنا منه هنا موجز لما يتصل بصميم موضوعنا فعلى صعيد السياسة والوعي القومي. يلمس الباحث لدى الفلسطينيين اليوم انهياراً أخلاقياً على أربع درجات: هي الخيانة، ثم ازدواج الشخصية والنفاق، ثم إعدام الإيمان عند بعض ذوي الاتجاه القومي الصحيح، وهؤلاء كثرة في بعض الأقطار، حيث نشهد أعنف صراع بين المبادئ والأوهام. وعلى هذا الصراع تولد في المجتمع تيار ذهني قوامه الانحراف الايجابي، إذا شئت، وهو نابع في الأصل من سيطرة المادية وتغلبها على الإيمان بالقيم الروحية ويتميز هذا الانحراف عن الخيانة الصريحة بأنه يصيب ذوي الاتجاهات القومية السليمة عن طريق ضعف الإيمان، ثم هو يختلف عن ازدواج الشخصية والنفاق بأنه ايجابي لا يتستر بل يعلن عن نفسه ووجوده بنوع من الفخر، ناسبا ًذاته إلى عمق النظر، ومنتميا ًفي واقع الأمر إلى سطحية النظر وفقدان الإيمان بالقيم الروحية، بما فيها القومية. ولذا فإن هذا الانحراف هو أخطر مظاهر التفسخ الأخلاقي، وتأتي بعد هذه الدرجات، درجة الجبن القائم على عقدة النقص، والذي يجمد نشاط المرء ويجرده من القدرة على إتيان أي فعل أو قول .... أما على صعيد الحياة الاجتماعية فيتمثل هذا التفسخ الأخلاقي أولاً في إيمان بالتفاوت الاجتماعي قائم على الأثرة، ثم في شك في إمكانية تطبيق المساواة والعدل الاجتماعي مع الإيمان كمبدأ وهمي، بحيث ينتج عن ذلك محاولة استغلال هذا المبدأ كلما سنحت الفرصة لصالح الخاص، واعتباره مجرد شعار يرفع للكشف الأدبي والمادي وليس للتطبيق.... لا ريب في أن الاستعمار الراحل يحمل الشئ الكثير من وزر هذا التفسخ الأخلاقي، ولكن ما لا يمكن تجاهله هو عقدة النقص لدى الشعب الفلسطيني وطريقة إقباله على تمثل الحضارة الحديثة تمثلا ًمعكوساً، يعطيه القشور دون الجوهر المتركز في قيمها الروحية من هذا المنطلق نستطيع أن نرى أن مشكلة الأخلاق هي رأس المشكلات القومية عند الشعب الفلسطيني. وبل أننا نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن كل ما لدي الفلسطينيين من مشاكل لا يعني شيئا ًولا أهمية له بإزداء هذه المشكلة الكبرى ،التي يؤدي حلها مباشرة إلى زوال تأثير المشكلة .
الحديث عن الأنظمة السياسية لغو لا غناء فيه
لقد أثبتت التجارب الأخيرة انعدام الجدوى من البحث ففي كثير من قضايا الفلسطينيين السياسية .لقد أثبتت مثلاً أن حديث البحث عن أصلح الأنظمة السياسية للفلسطينيين هو حديث لاغناء فيه ،لان القاعدة الأساسية لأي عمل سياسي، وهي الأخلاق، إذا انعدمت أو فسدت كانت نتيجة العمل فاسدة، ولان تفسير فساد هذا العمل تفسير وحيد، وهو يعود إلى عدم صلاحية النظام المطبق، ولكن إلى انعدام قاعدته الأساسية التي هي الأخلاق...أما تعدد النظريات وتضارب الأفكار وتغلب بعض المبادئ على أخرى في العالم، فيجب أن لا تثنينا عن رؤية واقعنا النفسي أولاً، لندرك احتياجاته وإمكانيات عطائه ونلمس مدى تفاعله الحضاري فإذا ما اكتشفنا فيه نقصاً أو ضعفاً يتصل بقوته الروحية التي تشكل صلب الوعي القومي، كان ذلك أول ما ينبغي أن نتناوله بالعلاج عن طريق العمل الاجتماعي الهادف إلى تعميم للثقافة و الوعي القومي، يقترن ببث الإيمان العميق بقيم الحق والخير والجمال وسائر القيم الفرعية الأخرى، وذلك بمختلف الوسائل والأساليب التي منها وأهمها تجسيد هذه القيم في الأشخاص وإعطاء القدوة والمثال.
إن مجهوداً اجتماعيا ًكهذا أجدى على الأمة الفلسطينية من المناداة بإطلاق حرية العمل الحزبي التي لابد أن ترفع إلى الميدان السياسي، ونحن في وضعنا الأخلاقي الراهن، بمختلف عناصر الانتهازية والاحتراف السياسي. وأما أعطاء القدوة والمثال لتقمص القيم الروحية الذي يتمثل بظهور الشخصيات البطولية العاملة، فقد لمسنا فعلاً في أجزاء دولتنا مدى تأثيره الكبير على الشعور القومي، والانتقال به إلى مرحلة تحضيرية هامة تؤذن باكتمال وعي وليد.
الوحدة الوطنية : لماذا لا تتحقق؟!
من أبرع الملاحظات التي نسمعها من أشخاص أجانب قول بعضهم أنه يستغرب كيف لا يحققون هذه الوحدة أن هذا التساؤل هو جد منطقي إذ حينما يريد الإنسان الحر تحقيق أمر ما ويتمكن فعلاً من تحقيقه، وكذلك هو شأن الشعوب المستقلة. ولا شئ يمكن أن يتعرض هذه الشعوب إلا إذا كانت حريتها ناقصة. والمعروف أنه من الناحية القانونية لا شئ يشوب استقلال الدولة العربية وحريتها. فما العلة إذاً؟؟
الواقع أن هذا التساؤل يعطي مجمل الوصف لمشاكل العرب السياسية. فهو يثير التفسير بوجود مساعي، الاستعمار ومؤتمراته، وذلك أمر خطير يجعل الوحدة الوطنية أجل قيمه وأعظم أهمية. الإرادة الشعبية وبتعبير آخر، فقدان القوة الروحية وانهيار الأخلاق فلولا ذلك ما وجد الاستعمار جيش العملاء العاملين في الداخل، واللذين يعتمد عليهم في تنفيذ مؤتمراته تلك هي مشكلتنا الرئيسية. وإن أهميتها لتجعل جميع ما نعرف من قضايا سياسية للعرب تنحصر وتذوب فيها مؤكدة أن ليس للعرب مشاكل سياسية متعددة، بل مشكلة سياسية واحدة، وأن هذه المشكلة هي في منتهى التحليل: مشكلة أخلاق.
يجتاز المجتمع الفلسطيني اليوم فترة عصبية من تاريخه إنها فترة زاخرة بالأزمات، أقل ما يقال فيها أنها تتسم بالخطورة البالغة ... وأوضح تشبيه لحالتنا في هذه الأيام أنها تمر في طور المخاض في من جهة تشهد ألوانا كثيرة من الصراع العنيف المصحوب بآلام عميقة الثر وهي من جهة ثانية تنتظر أحداثاً جديدة، وتحولاً جذرياً جديداً في طريق المصير.
أما ألوان الصراع هذه التي تثير الضمير الإنساني في هذه المنطقة من المجتمع الفلسطيني فتشير كلها وإن تعددت، إلى وجود مشكلة أو مشاكل سياسية لأمتنا وإلى أن هذه المشكلة أو المشاكل هي المصدر لكل ما يجري من أحداث والمحرك العميق بجميع مظاهر الصراع والقلق. وإذا بحثت عن تحديد واضح لهذه المشكلة أو المشاكل السياسية. فهنا ينتصب أمامك حجاب كثيف من الغموض والإبهام. وهذا أغرب ما يمكن أن نصادفه في تفهم مشكلة من مشاكل المجتمعات.
ما هي مشكلة المجتمع السياسية ؟
إن أبرز تلك المشكلات الجاري بحثها بنضال وتكرار مسألة الوحدة الوطنية. والوحدة الوطنية هدف تليد من أهداف المجتمع المحلي ولكن الكلام عنها استأثر بالاهتمام في الآونة الأخيرة على أثر عض ما وقع في العامين الماضيين من أحداث وتطورات وقد كان من الطبيعي أن تشحذ تلك الأحداث الأقلام لتجتهد في بحث الأسباب تعيين المسؤوليات، سعياً وراء تقويم اتجاه العمل القومي. وهكذا ظهر سيل من المقالات والكتب والمناقشات والحوارات التي تحاول اكتشاف " العوامل التي عاقت تحقيق هذا الهدف القومي الكبير" وبالتالي تقديم الحلول اللازمة لتحقيقه .
ونحن حيث نبحث هذه المنشورات ونحوها، نلمس وجود نقاش حاد حول موضوعاتها. ولكن حين نمعن النظر قليلاً، يهو لنا أن نجد أن معظم هذه الأبحاث تدور بعيداً عن المجال الحقيقي لتلك الموضوعات. والملاحظة الرئيسية التي انتباهنا حول هذه الأبحاث، أنها في الغالب تستطرد حتى تتيه في أجواء التفكير النظري والمبادئ المجردة العامة، مهملة بذلك النزول إلى الواقع الفلسطيني، فهي بذلك تسبه أحياناً عملية إماض2 العين لرؤية الأشياء، ويكاد محتواهما يكون مجرد مجموعة أفكار تعجيزية، أي هي بتعبير آخر لون من الجدل البيزنطي.
الاعتماد على الجماهير وإطلاق حرية العمل الحزبي
وللمثال على ذلك تأخذ فكرة غدت أشبه ما تكون بالقاسم المشترك لمعظم المباحث القومية... وهي تدعو إلى ( ضرورة التركيز على المجهود الشعبي، وإلى السماح بالمزيد من تدخل الجماهير لحماية المكاسب الوطنية ).... وعن هذه الفكرة تفرعت دعوات أخرى كثيرة، مثل ضرورة " أخلاق الحرية للعمل الحزبي " " قيام تنظيم حزبي ينبثق من صفوف الجماهير الواعية وبإرادتها، ... الخ ومن اليسير أن نلاحظ إلى جانب النية الذي يمكن أن نفترضه في مثل هذا الكلام أن أصحابه شديد والثقة بالجماهير العربية، أقوياء الإيمان بوجود وعي قومي فلسطيني. ولكن لا يوجب البحث العلمي التحقيق أولاً من صحة كل فرضية أو فكرة تستعمل أساساً له؟ أليس الأحرى بنا قبل إطلاق حرية شعب ما أن نتحقق من جدارة هذا الشعب بتحمل الكامل للمسؤوليات، ومن إن هذه الحرية لا تكون وبالاً عليه؟ ثم أليس من الخطأ العلمي أن نتجاهل واقع موضوع بحث معين، لنتكلم عن النظريات والمفاهيم العامة، كأن نتحدث عن الشعب بوجه عام، بدلا ًمن أن نتحدث عن الشعب العربي بالذات .
الوعي القومي شئ والتعبيرات العاطفية شئ آخر!!
إن هذا ما يدفعنا إلى القول أن القاعدة الأساسية في العمل لتحقيق أهداف القومية الوطنية، هي في تفهم نفسية الشعب الفلسطيني أولاً، وقبل أي بحث لنظريات أو مفاهيم أو مبادئ عامة.
أما ما يمكن أن نستخلصه من بحث النفسية الفلسطينية الراهنة، فهو بكل الصراحة التي يفرضها مبدأ نقد الذات: عدم نضوج الوعي... أجل، ليس لدى الشعب الفلسطيني وعي قومي حقيقي وأن جل ما بدأ منه في السنوات الماضية من انتفاضات ، لا يعد وأن يكون بمثابة تعبيرات عاطفية خالية في الغالب من أي دفع قومي ايجابي.... ولا ضرورة هنا لتعداد مظاهر هذا الوضع وعوامله، ولكن حسبنا لفت النظر إلى النتائج التي ترتبت في المدة الأخيرة على ممارسة الحرية الحزبية في بعض الأقاليم الفلسطينية... فالواقع أن الوعي الفلسطيني ليس إلا تعبير عاطفياً يواكب قيادة قومية قديرة أمينة، هنا أو هناك استحوذت على الثقة إذا حققت أعمالا بطولية لم تكن في الحسبان، وقد أثبتت الأيام أن هذا التعبير العاطفي لم يقترن بعد بعمل ايجابي يحقق الصفة الكاملة لمفهوم الوعي... من هذا المنطلق يحسن بنا أن ننظر إلى الأمور لدى بحث قضايانا القومية بصورة عامة، ومسألة الوحدة الوطنية والسلم الاهلي بوجه خاص. فمنه نستطيع أن نعلم أن خمود الوعي الفلسطيني يجعل الاعتماد على المجهودات الشعبية خطأ كبيراً، وأن مناداة بعض رجال الفكر بالرجوع إلى الشعب والتحويل على نشاطه القومي " وإعادة العمل الحزبي ليكون الطليعة القيادية في العمل الوطني " ما هي إلا تجاهل أو إغفال لهذا الواقع الأليم ومن ثم دعوة إلى ارتكاب خطأ ينبغي تجنب الوقوع فيه وليس أدل على هذا من أن التطورات الأخيرة، والأحداث المختلفة التي ما زلنا نعيش فيها، لم تثبت فقط فقدان الوعي الشعبي وغيابه عن ميدان العمل، بل أثبتت ضرر النشاط الشعبي في بعض الأحيان نتيجة لعدم نضوج الوعي.
الوعي لا يتكامل إلا بالقوة الروحية.
كان لا بد لنا من الإشادة إلى مسألة ( تحديد ) المشاكل الفلسطينية هذه لكي نلمس مدى غياب المشاكل الحقيقية عن ميدان البحث الفكري في أيامنا هذه. والمثال الذي قدمناه يبين أهمية هذه المسألة، وخطرها الذي يهدد بطمس الحقائق الجوهرية للواقع الفلسطيني.
والحقيقة أن ما أووصلنا إليه بحث النفسية الفلسطينية يقودنا بكل يسر إلى تحديد أدق لطبيعة مشاكل الشعب القومية. إن ظاهرة انعدام نضج الوعي الفلسطيني ذاتها جديدة بان تضيء لنا سبيل النظر في واقع الفلسطينيين. نحن نعلم أن الوعي القومي ظاهرة نفسية اجتماعية، تجمع بين التقاليد والعرف والقيم وبين التنبه لهذه العناصر القومية بنوع من الإيمان الحقيقي المصحوب بالعمل الايجابي. فالقاعدة الأساسية للوعي القومي كما نرى هي التصور الذي يتناول عناصر القومية المتصلة بماضي الدولة الفلسطينية وحاضرها ومستقبلها. ولكن هذا التصور لا يكفي لإيجاد وعي متكامل، إن لم يقترن بقوة روحية مبنية على الإيمان بالقيم، فهذه القوة هي العالم الوحيد الذي يدفع إلى العمل الايجابي.فهل بإمكان الواقع الفلسطيني أن ينبئنا بوجود قوة روحية ما، تعمل وتؤثر في مصيره؟ لكي نجيب على هذا السؤال نستطيع أن نتناول جميع الأعمال والمنجزات الفلسطينية التي تحققت في الآونة الأخيرة على الصعيد الشعبي، ونجردها من مظاهر الانفعال العاطفي، فماذا يبقى أمامنا؟! لا شئ... لا شئ من مظاهر القوة الروحية، وكذلك لا شئ من مظاهر العمل الحقيقي. وإذا كانت هناك قوة روحية قد تجلت، وأعمال مجيدة قد تحققت، فلدي صفوة مختارة من الشعب وعلى يدي هذه الصفوة التي لم يتجاوب الشعب معها بعد بمثل الروح التي واجهته بها، لعجزة عن إدراك المستوى الحقيقي لوعيها. فلا بد لنا إذا، إذا أردنا التزام مبدأ نقد الذات، وعدم تملق الجماهير، من القول أن الوعي الفلسطيني يعاني اليوم نقصاً عميقاً في التكوين من حيث الإيمان الروحي والإرادة الفاعلة فضلاً عن التصور السليم في معظم الأحيان. وهذا النقص هو السبب في تخلف القوى الشعبية عن اللحاق بركب القيادة القومية، وهو كذلك يمثل، خطراً يهدد بتعطيل عمل هذه القيادة، وتحطيم منجزاتها ولا يصلح هذا الوضع أن نطالب ـ كما ينادي بعضهم ـ بحرية العمل للجماهير وبتنظيم قواها، فهذا التنظيم يجب أن يصدد عنها بصورة تلقائية، وذلك ما يتم على نحو طبيعي بعد اكتمال أهليتها للعمل.إن ما يشكل الميدان الحقيقي للبحث والعمل في سبيل الإصلاح هو حالة الوعي القومي. والواقع أن أهم ما يستدعي الاهتمام من هذه الحالة، بعد وضوح تصور الأهداف لدى القيادة القومية، هو عنصر القوة الروحية الواجب توفره لدى الأمة لدفع عجلة النضال العربي البناء.
القاعدة الرئيسية هي الأخلاق
ونحن إذا تعمقنا مفهوم القوة الروحية هذه، نجد أنها تنبثق بصورة مباشرة عن الحالة الخلقية، فالأخلاق التي هي القاعدة الرئيسية لنهضة كل شعب من الشعوب، هي بالنسبة إلى العرب المنطلق الحقيقي للعمل القومي على صعيد الشعب. إن القيم الروحية التي تشكل روح الحضارة الحديثة بالرغم من مظاهرها المادية وعامل التقدم الأصيل للإنسانية، ما زالت عند العرب مجرد شعارات خالية من أي مضمون ايجابي. وقد كان هذا الوضع سبباً في كل تخلف لديهم سواء في الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة. والبحث في هذا الباب لو أردناه بطول، ولكن حسبنا منه هنا موجز لما يتصل بصميم موضوعنا فعلى صعيد السياسة والوعي القومي. يلمس الباحث لدى الفلسطينيين اليوم انهياراً أخلاقياً على أربع درجات: هي الخيانة، ثم ازدواج الشخصية والنفاق، ثم إعدام الإيمان عند بعض ذوي الاتجاه القومي الصحيح، وهؤلاء كثرة في بعض الأقطار، حيث نشهد أعنف صراع بين المبادئ والأوهام. وعلى هذا الصراع تولد في المجتمع تيار ذهني قوامه الانحراف الايجابي، إذا شئت، وهو نابع في الأصل من سيطرة المادية وتغلبها على الإيمان بالقيم الروحية ويتميز هذا الانحراف عن الخيانة الصريحة بأنه يصيب ذوي الاتجاهات القومية السليمة عن طريق ضعف الإيمان، ثم هو يختلف عن ازدواج الشخصية والنفاق بأنه ايجابي لا يتستر بل يعلن عن نفسه ووجوده بنوع من الفخر، ناسبا ًذاته إلى عمق النظر، ومنتميا ًفي واقع الأمر إلى سطحية النظر وفقدان الإيمان بالقيم الروحية، بما فيها القومية. ولذا فإن هذا الانحراف هو أخطر مظاهر التفسخ الأخلاقي، وتأتي بعد هذه الدرجات، درجة الجبن القائم على عقدة النقص، والذي يجمد نشاط المرء ويجرده من القدرة على إتيان أي فعل أو قول .... أما على صعيد الحياة الاجتماعية فيتمثل هذا التفسخ الأخلاقي أولاً في إيمان بالتفاوت الاجتماعي قائم على الأثرة، ثم في شك في إمكانية تطبيق المساواة والعدل الاجتماعي مع الإيمان كمبدأ وهمي، بحيث ينتج عن ذلك محاولة استغلال هذا المبدأ كلما سنحت الفرصة لصالح الخاص، واعتباره مجرد شعار يرفع للكشف الأدبي والمادي وليس للتطبيق.... لا ريب في أن الاستعمار الراحل يحمل الشئ الكثير من وزر هذا التفسخ الأخلاقي، ولكن ما لا يمكن تجاهله هو عقدة النقص لدى الشعب الفلسطيني وطريقة إقباله على تمثل الحضارة الحديثة تمثلا ًمعكوساً، يعطيه القشور دون الجوهر المتركز في قيمها الروحية من هذا المنطلق نستطيع أن نرى أن مشكلة الأخلاق هي رأس المشكلات القومية عند الشعب الفلسطيني. وبل أننا نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن كل ما لدي الفلسطينيين من مشاكل لا يعني شيئا ًولا أهمية له بإزداء هذه المشكلة الكبرى ،التي يؤدي حلها مباشرة إلى زوال تأثير المشكلة .
الحديث عن الأنظمة السياسية لغو لا غناء فيه
لقد أثبتت التجارب الأخيرة انعدام الجدوى من البحث ففي كثير من قضايا الفلسطينيين السياسية .لقد أثبتت مثلاً أن حديث البحث عن أصلح الأنظمة السياسية للفلسطينيين هو حديث لاغناء فيه ،لان القاعدة الأساسية لأي عمل سياسي، وهي الأخلاق، إذا انعدمت أو فسدت كانت نتيجة العمل فاسدة، ولان تفسير فساد هذا العمل تفسير وحيد، وهو يعود إلى عدم صلاحية النظام المطبق، ولكن إلى انعدام قاعدته الأساسية التي هي الأخلاق...أما تعدد النظريات وتضارب الأفكار وتغلب بعض المبادئ على أخرى في العالم، فيجب أن لا تثنينا عن رؤية واقعنا النفسي أولاً، لندرك احتياجاته وإمكانيات عطائه ونلمس مدى تفاعله الحضاري فإذا ما اكتشفنا فيه نقصاً أو ضعفاً يتصل بقوته الروحية التي تشكل صلب الوعي القومي، كان ذلك أول ما ينبغي أن نتناوله بالعلاج عن طريق العمل الاجتماعي الهادف إلى تعميم للثقافة و الوعي القومي، يقترن ببث الإيمان العميق بقيم الحق والخير والجمال وسائر القيم الفرعية الأخرى، وذلك بمختلف الوسائل والأساليب التي منها وأهمها تجسيد هذه القيم في الأشخاص وإعطاء القدوة والمثال.
إن مجهوداً اجتماعيا ًكهذا أجدى على الأمة الفلسطينية من المناداة بإطلاق حرية العمل الحزبي التي لابد أن ترفع إلى الميدان السياسي، ونحن في وضعنا الأخلاقي الراهن، بمختلف عناصر الانتهازية والاحتراف السياسي. وأما أعطاء القدوة والمثال لتقمص القيم الروحية الذي يتمثل بظهور الشخصيات البطولية العاملة، فقد لمسنا فعلاً في أجزاء دولتنا مدى تأثيره الكبير على الشعور القومي، والانتقال به إلى مرحلة تحضيرية هامة تؤذن باكتمال وعي وليد.
الوحدة الوطنية : لماذا لا تتحقق؟!
من أبرع الملاحظات التي نسمعها من أشخاص أجانب قول بعضهم أنه يستغرب كيف لا يحققون هذه الوحدة أن هذا التساؤل هو جد منطقي إذ حينما يريد الإنسان الحر تحقيق أمر ما ويتمكن فعلاً من تحقيقه، وكذلك هو شأن الشعوب المستقلة. ولا شئ يمكن أن يتعرض هذه الشعوب إلا إذا كانت حريتها ناقصة. والمعروف أنه من الناحية القانونية لا شئ يشوب استقلال الدولة العربية وحريتها. فما العلة إذاً؟؟
الواقع أن هذا التساؤل يعطي مجمل الوصف لمشاكل العرب السياسية. فهو يثير التفسير بوجود مساعي، الاستعمار ومؤتمراته، وذلك أمر خطير يجعل الوحدة الوطنية أجل قيمه وأعظم أهمية. الإرادة الشعبية وبتعبير آخر، فقدان القوة الروحية وانهيار الأخلاق فلولا ذلك ما وجد الاستعمار جيش العملاء العاملين في الداخل، واللذين يعتمد عليهم في تنفيذ مؤتمراته تلك هي مشكلتنا الرئيسية. وإن أهميتها لتجعل جميع ما نعرف من قضايا سياسية للعرب تنحصر وتذوب فيها مؤكدة أن ليس للعرب مشاكل سياسية متعددة، بل مشكلة سياسية واحدة، وأن هذه المشكلة هي في منتهى التحليل: مشكلة أخلاق.