بسم الله الرحمن الرحيم
نحن وأبناؤنا:
من يعلم من؟!
بقلم: عزيز العصا
البريد الالكتروني: [email protected]
لم يكن بإمكان صديقي، والد "زينة"، وهو أستاذ جامعي، أن يخفي ما ينتابه من مشاعر متناقضة تتراوح بين الانزعاج والغِبطة.. فهو يحب "زينة"؛ لأنها فلذة كبده، ولكنه يخشى أن "يغرد خارج السرب".
"زينة" طفلة لم تتجاوز ست السنوات. لديها محبة، وعشق غير عادي لمدرستها، ولمعلماتها، ولمديرة مدرستها، ولزملائها.. كيف لا وقد تربَّت بينهم، وهي تشعر بينهم بالأمن والأمان، بهم كَبُرَت وبينهم نَمَت وتَرَعرَعَت؛ تحبهم كما تحب والدها ووالدتها وشقيقها "محمد"..
ليس في الأمر غرابة حتى اللحظة، فهذا هو حال غالبية أطفالنا. إلا أن ما يزعج صاحبنا، ويجعله يشعر بالحرج، أن "زينة" لا يعجبها ما يعجبنا، ولا يقنعها ما يقنعنا، فهي ترفض كل أنواع الكذب، وعلى رأسها "الكذب الأبيض". "زينة" ترفض مخالفة تعليمات معلماتها، فهي تتابع النظافة كما تعلمتها، وتحترم مجتمعها وفق الأسس والثوابت التي تحترم الآخر، وترفض تَخوين المعارضين، أو تَكفيرَهم، أو إخراجهم من المِلّةِ.. وترى أن حُرِّيتَها تنتهي عندما تَبدأُ حُرِّية الآخَرين.
ليست هذه الخصائص التي تتمتع بها "زينة" فقط.. فـ "زينة" طفلة حيية، جريئة؛ لا تخشى في "تنفيذ ما تعلمته" لَومَةَ لائِمٍ. وهي صاحبة قرار فيما يتعلق بحياتها اليومية، وتعتبر أن في عنقها أمانة بأن تنقل لأسرتها كل ما تعلمته من قيمٍ، ومثل عليا، وسلوكات حميدةٍ.. كما أنها تعلمت التفكير الناقد، دون أن تغوص في تعريفاته ولا في أنواعه؛ فتنتقد بأدب، وببنائية، وبما يصحح المعوج.
ترفض "زينة" المجاملة على حساب المفاهيم والأسس التي تعلمتها؛ فهي تؤمن إيمان العجائز، بأن البيئة ليست إرث من الآباء، بل هي أمانة في عنقها، وأبناء جيلها، لكي ينقلوها للأجيال القادمة خالية من الشوائب والمنغصات التي تهلك الحرث والنسل. بيئة بلا هواء ملوث، وبلا جو يحبس الحرارة التي تذيب الجليد، فترفع منسوب مياه البحر والمحيط الذي يغمر الحجر والبشر.
وعليه، فإن "زينة" أستاذة في كل ما يتعلق بالبيئة، وأول من تَتَلمَذَ على يديها الأستاذ الجامعي المذكور أعلاه، صاحب الحظ والحظوة، إنه والد "زينة".
فوالد "زينة" أستاذ في المكان الذي يعمل فيه، يقف محاضراً بارعاً أمام تلاميذه لكي يتخرجوا على يديه باحثين متميزين، إلا أن "أستذته" تتوقف عندما تبدأ أستذة "زينة". فالأستاذ الجامعي لا يملك من الإرادة ما تملكه "زينة". فهو يقبل أن يوضع طعامه في أوانٍ بلاستيكية و/أو نايلونية، ويقبل أن يخلط النفايات دون أن يصنفها بين الزجاجي، والبلاستيكي، وغير ذلك.. ولا ينزعج كثيراً عندما ينسى الثلاجة مفتوحة.. وإذا زاره أصدقاؤه "المدخنون" فإنه يوفر لهم كل ما يلزم من بروتوكولات التدخين؛ كالمنفضة وغيرها. كما يسمح -ولو على مضض- بالتدخين في غرفة الضيوف الضيقة؛ لتبقى نواتج التدخين السامة ملتصقة بالأثاث، ومنتشرة في الأجواء دون أن تغادر المكان.
أما "زينة" فهي اسم على مسمى؛ لأنها زينَةُ المكانِ والزمانِ، وكثيراً ما تُخضع الأشياء، والناس، والمكان لبراءتها التي تستوعب كل شيء.. "زينة" ترفض، وبصوت مرتفعٍ، عالٍ، يخترق عنان السماء التي لُوِّثَت بالغازات المنبعثة من مصانعنا.. صوت يغوص في أعماق الأرض التي غضبت منا، وغضبت علينا، وغضبت من أجلنا ونرجو الله، الرحمن الرحيم، أن ينجينا من حممها التي تذيب الصخور، و"تُطيِّرُ" المياه من أحشاء البحار.
"زينة" ترفض كل المساحات الخاطئة التي يتحرك فيها والدها، فهي ترفض إلا أن تضع طعامها المحمول في أوانٍ/ أكياسٍ من الورق أو من القماش، وتدافع بقوة عن وجهة نظرها، قائلة: البلاستيك أو النايلون، وهو مصنوع من مواد بترولية، يضر بالطعام الذي يوضع فيه، كما أن وجوده في النفايات يعني أنه مصدر تلوث. فحرقه يُنتِجُ غازات تضر بالصحة وتلوث الهواء، وطمره يضر بالتربة الزراعية ويؤذي المزروعات.
هذه هي واحدة من رسائل "زينة" التي يقول لسان حالها: نحن جيل الصغار، نناشدكم أيها الكبار ألا تُثقِلوا علينا بأنانيتكم التي لم تُبقِ لنا ماءً نقياً نشربه، ولا هواءً منعشاً نتنفسه، ولا تربة صالحةً نزرع فيها حبة قمح نأكلها، أو وردة جميلة تسر ناظرنا.
لـِ "زينة" أقول: عذراً بُنَيَّتي فقد تعلمتُ منك الكثير، وأنتِ أول من جعلني أطمئن إلى مستقبل جيلك، فأنتِ واحدة ممن تخرجهم مدرستك الرائعة. هذه المدرسة التي علينا أن نتعرف عليها، وعلى معلماتها، وعلى مديرتها لندرس حالها وأحوالها.. فهذا واجب علينا اتجاه مؤسسة تربوية تجعل الأطفال يسلكون سلوكيات إيجابية اتجاه حياتهم، وليس مجرد شعارات، وأغانٍ، وأناشيد، يرددونها عن ظهر قلب.. أي أنه لا خوف على جيلٍ فيه "زينة".. وندعو إلى تكرار نموذجها بين مدارس الوطن ومؤسساته التربوية.. وها نحن نقولها، بعزة وشموخ، بأننا سنتعلم من "زينة" ومن أبناء جيلها، فهم الشعاع القادم من بعيد؛ ليشق ظلمة الزمان والمكان.
العبيدية، 15 تموز 2008 م
نحن وأبناؤنا:
من يعلم من؟!
بقلم: عزيز العصا
البريد الالكتروني: [email protected]
لم يكن بإمكان صديقي، والد "زينة"، وهو أستاذ جامعي، أن يخفي ما ينتابه من مشاعر متناقضة تتراوح بين الانزعاج والغِبطة.. فهو يحب "زينة"؛ لأنها فلذة كبده، ولكنه يخشى أن "يغرد خارج السرب".
"زينة" طفلة لم تتجاوز ست السنوات. لديها محبة، وعشق غير عادي لمدرستها، ولمعلماتها، ولمديرة مدرستها، ولزملائها.. كيف لا وقد تربَّت بينهم، وهي تشعر بينهم بالأمن والأمان، بهم كَبُرَت وبينهم نَمَت وتَرَعرَعَت؛ تحبهم كما تحب والدها ووالدتها وشقيقها "محمد"..
ليس في الأمر غرابة حتى اللحظة، فهذا هو حال غالبية أطفالنا. إلا أن ما يزعج صاحبنا، ويجعله يشعر بالحرج، أن "زينة" لا يعجبها ما يعجبنا، ولا يقنعها ما يقنعنا، فهي ترفض كل أنواع الكذب، وعلى رأسها "الكذب الأبيض". "زينة" ترفض مخالفة تعليمات معلماتها، فهي تتابع النظافة كما تعلمتها، وتحترم مجتمعها وفق الأسس والثوابت التي تحترم الآخر، وترفض تَخوين المعارضين، أو تَكفيرَهم، أو إخراجهم من المِلّةِ.. وترى أن حُرِّيتَها تنتهي عندما تَبدأُ حُرِّية الآخَرين.
ليست هذه الخصائص التي تتمتع بها "زينة" فقط.. فـ "زينة" طفلة حيية، جريئة؛ لا تخشى في "تنفيذ ما تعلمته" لَومَةَ لائِمٍ. وهي صاحبة قرار فيما يتعلق بحياتها اليومية، وتعتبر أن في عنقها أمانة بأن تنقل لأسرتها كل ما تعلمته من قيمٍ، ومثل عليا، وسلوكات حميدةٍ.. كما أنها تعلمت التفكير الناقد، دون أن تغوص في تعريفاته ولا في أنواعه؛ فتنتقد بأدب، وببنائية، وبما يصحح المعوج.
ترفض "زينة" المجاملة على حساب المفاهيم والأسس التي تعلمتها؛ فهي تؤمن إيمان العجائز، بأن البيئة ليست إرث من الآباء، بل هي أمانة في عنقها، وأبناء جيلها، لكي ينقلوها للأجيال القادمة خالية من الشوائب والمنغصات التي تهلك الحرث والنسل. بيئة بلا هواء ملوث، وبلا جو يحبس الحرارة التي تذيب الجليد، فترفع منسوب مياه البحر والمحيط الذي يغمر الحجر والبشر.
وعليه، فإن "زينة" أستاذة في كل ما يتعلق بالبيئة، وأول من تَتَلمَذَ على يديها الأستاذ الجامعي المذكور أعلاه، صاحب الحظ والحظوة، إنه والد "زينة".
فوالد "زينة" أستاذ في المكان الذي يعمل فيه، يقف محاضراً بارعاً أمام تلاميذه لكي يتخرجوا على يديه باحثين متميزين، إلا أن "أستذته" تتوقف عندما تبدأ أستذة "زينة". فالأستاذ الجامعي لا يملك من الإرادة ما تملكه "زينة". فهو يقبل أن يوضع طعامه في أوانٍ بلاستيكية و/أو نايلونية، ويقبل أن يخلط النفايات دون أن يصنفها بين الزجاجي، والبلاستيكي، وغير ذلك.. ولا ينزعج كثيراً عندما ينسى الثلاجة مفتوحة.. وإذا زاره أصدقاؤه "المدخنون" فإنه يوفر لهم كل ما يلزم من بروتوكولات التدخين؛ كالمنفضة وغيرها. كما يسمح -ولو على مضض- بالتدخين في غرفة الضيوف الضيقة؛ لتبقى نواتج التدخين السامة ملتصقة بالأثاث، ومنتشرة في الأجواء دون أن تغادر المكان.
أما "زينة" فهي اسم على مسمى؛ لأنها زينَةُ المكانِ والزمانِ، وكثيراً ما تُخضع الأشياء، والناس، والمكان لبراءتها التي تستوعب كل شيء.. "زينة" ترفض، وبصوت مرتفعٍ، عالٍ، يخترق عنان السماء التي لُوِّثَت بالغازات المنبعثة من مصانعنا.. صوت يغوص في أعماق الأرض التي غضبت منا، وغضبت علينا، وغضبت من أجلنا ونرجو الله، الرحمن الرحيم، أن ينجينا من حممها التي تذيب الصخور، و"تُطيِّرُ" المياه من أحشاء البحار.
"زينة" ترفض كل المساحات الخاطئة التي يتحرك فيها والدها، فهي ترفض إلا أن تضع طعامها المحمول في أوانٍ/ أكياسٍ من الورق أو من القماش، وتدافع بقوة عن وجهة نظرها، قائلة: البلاستيك أو النايلون، وهو مصنوع من مواد بترولية، يضر بالطعام الذي يوضع فيه، كما أن وجوده في النفايات يعني أنه مصدر تلوث. فحرقه يُنتِجُ غازات تضر بالصحة وتلوث الهواء، وطمره يضر بالتربة الزراعية ويؤذي المزروعات.
هذه هي واحدة من رسائل "زينة" التي يقول لسان حالها: نحن جيل الصغار، نناشدكم أيها الكبار ألا تُثقِلوا علينا بأنانيتكم التي لم تُبقِ لنا ماءً نقياً نشربه، ولا هواءً منعشاً نتنفسه، ولا تربة صالحةً نزرع فيها حبة قمح نأكلها، أو وردة جميلة تسر ناظرنا.
لـِ "زينة" أقول: عذراً بُنَيَّتي فقد تعلمتُ منك الكثير، وأنتِ أول من جعلني أطمئن إلى مستقبل جيلك، فأنتِ واحدة ممن تخرجهم مدرستك الرائعة. هذه المدرسة التي علينا أن نتعرف عليها، وعلى معلماتها، وعلى مديرتها لندرس حالها وأحوالها.. فهذا واجب علينا اتجاه مؤسسة تربوية تجعل الأطفال يسلكون سلوكيات إيجابية اتجاه حياتهم، وليس مجرد شعارات، وأغانٍ، وأناشيد، يرددونها عن ظهر قلب.. أي أنه لا خوف على جيلٍ فيه "زينة".. وندعو إلى تكرار نموذجها بين مدارس الوطن ومؤسساته التربوية.. وها نحن نقولها، بعزة وشموخ، بأننا سنتعلم من "زينة" ومن أبناء جيلها، فهم الشعاع القادم من بعيد؛ ليشق ظلمة الزمان والمكان.
العبيدية، 15 تموز 2008 م