
صحافة جيفرسون أم صحافة همبولت؟!
جواد البشيتي
في الحاضر يجتمع دائماً الماضي والمستقبل؛ ولكنَّ "سُكَّان الحاضر" ليسوا سواسية، فبعضهم، ونحن منهم، ينتمي أكثر إلى الماضي، وبعضهم ينتمي أكثر إلى المستقبل.
قبل نحو قرنين من الزمان، زار البارون همبولت رئيس الولايات المتحدة جيفرسون، فوجد جريدة على مكتبه، فلمَّا تناولها وجد فيها مقالاً قد امتلأ بكلمات السباب والقذف في الرئيس، فنظر إلى الرئيس، وقال: "كيف تسمحون بهذا السباب؟!"، فأجابه الرئيس قائلاً: "خُذْ هذه الجريدة وضَعْها في جيبك، فإذا وجدت من يشك في حقيقة حرِّيتنا، أو حرِّية الصحافة في الولايات المتحدة، فأعْطِها له"!
في هذه القصة ثلاثة أبطال، هم: الرئيس جيفرسون، وكاتب المقال، والبارون همبولت. وغني عن البيان أنَّنا أغنياء بأمثال همبولت، فقراء بأمثال جيفرسون و"كاتب المقال"!
شعبنا أنضجته وحنَّكته وصقلت وعيه السياسي والقومي والديمقراطي كثرة المآسي والمصائب التي حلَّت بالأمَّة، فتخطَّى مرحلة "البحث في رائحة الشيء" إلى مرحلة "البحث في الشيء ذاته"، فما عاد ممكناً، بالتالي، أن يتمكَّن "تمويل أجنبي"، أو "غير أجنبي"، من "غسل" عقول أبنائه ومشاعرهم القومية الأصيلة بإعلام يستمر فيه (ويتعزَّز) حُكْم الأموات للأحياء"، يلبس لبوس "الجديد" لمحاربة كل جديد حقَّاً، متحجِّباً بحجاب "الليبرالية"، التي، في واقعها الموضوعي، ليست سوى هذا المزيج من الأوتوقراطية الآسيوية العريقة والليبرالية الاقتصادية التي مُسِخَت مَسْخَاً لا تقوى ساحرات الإغريق على الإتيان بمثله.
نحن وهُم نعيش في عالمٍ اختلف فيه كل شيء تقريباً؛ ولكنَّهم يأبون أنْ ينظروا إلى ما اختلف بعيون مختلفة، ضاربين صفحاً عن حقيقة أنَّ أحداً في هذا الزمن الذي نعيش لا يستطيع خداع أحد.
إنَّنا نعيش حقبة إعلامية جديدة وثورية، اتَّسعت فيها الهوة بين المواطن وبين ذلك النمط من الصحافة والصحافيين، الذي ديدنه التزمير والتطبيل والندب والبكاء على الأطلال.. وحراسة النعوش والقبور والليل بالأقلام والألسن.
لقد زمَّروا وطبَّلوا كثيراً فما رقص أحد، وندبوا كثيراً فما بكى أحد، واستنفدوا الجهد والوقت والمال من أجل "تسليع" مزيدٍ من الضمائر والذمم والأفكار، ولإرغام "رأس البوصلة" على تغيير اتِّجاهها الثابت، ولاستنبات أجنحة للحمير، لعلَّها تطير؛ ولكنَّهم لم يحصدوا سوى الفشل، فتراكضهم بالرؤوس والأرْجُل وراء مصالح وهمية لم يَرْوِ للجمهور، الذي جاءوا لغسل عقله، سوى قصة ميِّت يأبى أهله الاعتراف بموته إلاَّ بعد دفنه؛ ولقد حان للموتى أن يدفنوا موتاهم!
مأساة الصحافة التي يمثِّلون أنَّها نشأت وترعرعت في كنف "ساسة" يعتقدون أنَّ الله حباهم القدرة على جعل البشر يؤمنون بأنَّهم "رجال الحقيقة"، وقد أرْسِلوا لمحاربة "كائنات الوهم"، فصَدَق أبو العلاء المعري إذ قال فيهم: يسوسون الأمور بغير عقل فيُنْفَذُ أمرهم فيقال ساسة!
أمَّا هم، أي هذا النمط من الصحافيين، فكانوا (وكيف لهم ألاَّ يكونوا) آذاناً صاغية، يُمْسِكون بأقلام مرتجفة، لا يخرج منها غير التسبيح، بكرة وأصيلا، بكل ما يجري على ألسنة أصحابهم من أصحاب الأيادي العليا، الذين لا شيء يستبدُّ بعقولهم الصغيرة سوى الرغبة في تفصيل البشر على قياس مصالحهم، وفي حَمْلِهم على الإتيان بكل ما تستحسنه وتستسيغه أهواؤهم ونزواتهم الشخصية.
جمهورنا يريد (ولم يَنَلْ حتى الآن ما يريد) إعلاماً جديداً، رجاله ليسوا من نمط أولئك الذين تربوا في مزارع الدواجن، عيونهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، وعقولهم لا تعقل، ظاهرها فكر، وباطنها ما مكانه غير الرأس. رجالٌ طلَّقوا الأفواه المُكمَّمة، والأقلام المكسَّرة، والفكر الرمادي المغترب عن الواقع النابض بالحياة.. وكفُّوا عن تسويق "المُعلَّبات الفكرية"، التي انتهت صلاحية استهلاكها منذ زمن طويل.
يريد صحافة للغد، تبثُّ الكلمة الحيَّة، تحلُّ "الحوار" محل "الإصغاء"، و"الكتابة" محل "الإملاء".. صحافة، فيها، وبها، يصبح عدد "القرَّاء" أكثر من عدد "الكتَّاب"!
يريد صحافة تشفي الأمَّة من عقرها السياسي والديمقراطي، فأمَّتنا ذات الرسالة الخالدة لم تتمكَّن حتى الآن من إنجاب ثلاثة أشياء: "الحكومة"، و"المعارضة"، و"الصحافة".
من خارجنا تأتي "الحكومة"؛ ومن "الحكومة" تأتي "المعارضة"؛ ومن "زواج المِتْعة" بين "الحكومة" و"المعارضة" تأتي "الصحافة"!
لقد ضَمِن لنا "الدستور" حرِّيةً لا حاجة إلى أن يضمنها، هي "حرِّية الفكر والمعتقد"، فالسَمَك لا يحتاج إلى من يعلِّمه السباحة. ضَمِنها لنا؛ ثمَّ وسَّع المسافة، أو الهوة، بينها وبين "حرِّية التعبير".
وضَمِن لنا "حرِّية التعبير"؛ ولكنَّها غدت كمثل ظلٍّ فَقَد جسمه بسبب تقييد "حرِّية الصحافة".
وضَمِن لنا "حرِّية الصحافة" حتى كاد أن يلغيها إلغاء "حرِّية الأحزاب". وضَمِن لنا "حرِّية الأحزاب" حتى ألْغَتْها "الحرِّية المسؤولة"!
صحافتنا كثيرة، وصحافيونَّا قِلَّة؛ حرِّياتنا كثيرة، وأحرارنا قِلَّة؛ ديمقراطيتنا كثيرة، وديمقراطيونا قِلَّة؛ فكيف لنا أن نبتني مجتمعاً، يزدهر صحافةً وحرِّيةً وديمقراطيةً، في غياب الصحافيين والأحرار والديمقراطيين؟!
إنَّنا لا نملك من الصحافيين، ومن أهل الفكر والقلم، إلاَّ من يجيدون التحدُّث بكلمات تقع موقعاً حسناً من نفوس أولياء أمورهم، وكأنَّ رسالتهم في الحياة أن يجدوا سبيلاً إلى إقناع هؤلاء بأنَّهم أفضل من يخدمهم في الحلال والحرام. وإذا كان من "فضيلة" يتحلون بها فهي "فضيلة فقدان الإحساس بالواقع"، فإنْ هم سنحت لهم فرصة لمجالسة "ولي أمرهم" تراهم ينصتون إليه وهو يشكو شكوى فضيلة أسيء فهمها. إنَّه يريهم من نفسه "العبقرية"، فيجهدون في إقناعه بأنَّ "عبقريته" كالنهار لا تحتاج إلى دليل، ولو أنَّ الدنيا قاطبة نظرت إليه على أنَّه أبله!
إنَّنا لسنا بحاجة إلى صحافة يقوم عليها، تمويلاً وتحريراً، من ينتسبون بالروح إلى همبولت. نحن في أمسِّ الحاجة إلى صحافة من ذلك "الأمس البعيد"، الذي فيه ظهر أمثال الرئيس جيفرسون، و"كاتب ذلك المقال"!
جواد البشيتي
في الحاضر يجتمع دائماً الماضي والمستقبل؛ ولكنَّ "سُكَّان الحاضر" ليسوا سواسية، فبعضهم، ونحن منهم، ينتمي أكثر إلى الماضي، وبعضهم ينتمي أكثر إلى المستقبل.
قبل نحو قرنين من الزمان، زار البارون همبولت رئيس الولايات المتحدة جيفرسون، فوجد جريدة على مكتبه، فلمَّا تناولها وجد فيها مقالاً قد امتلأ بكلمات السباب والقذف في الرئيس، فنظر إلى الرئيس، وقال: "كيف تسمحون بهذا السباب؟!"، فأجابه الرئيس قائلاً: "خُذْ هذه الجريدة وضَعْها في جيبك، فإذا وجدت من يشك في حقيقة حرِّيتنا، أو حرِّية الصحافة في الولايات المتحدة، فأعْطِها له"!
في هذه القصة ثلاثة أبطال، هم: الرئيس جيفرسون، وكاتب المقال، والبارون همبولت. وغني عن البيان أنَّنا أغنياء بأمثال همبولت، فقراء بأمثال جيفرسون و"كاتب المقال"!
شعبنا أنضجته وحنَّكته وصقلت وعيه السياسي والقومي والديمقراطي كثرة المآسي والمصائب التي حلَّت بالأمَّة، فتخطَّى مرحلة "البحث في رائحة الشيء" إلى مرحلة "البحث في الشيء ذاته"، فما عاد ممكناً، بالتالي، أن يتمكَّن "تمويل أجنبي"، أو "غير أجنبي"، من "غسل" عقول أبنائه ومشاعرهم القومية الأصيلة بإعلام يستمر فيه (ويتعزَّز) حُكْم الأموات للأحياء"، يلبس لبوس "الجديد" لمحاربة كل جديد حقَّاً، متحجِّباً بحجاب "الليبرالية"، التي، في واقعها الموضوعي، ليست سوى هذا المزيج من الأوتوقراطية الآسيوية العريقة والليبرالية الاقتصادية التي مُسِخَت مَسْخَاً لا تقوى ساحرات الإغريق على الإتيان بمثله.
نحن وهُم نعيش في عالمٍ اختلف فيه كل شيء تقريباً؛ ولكنَّهم يأبون أنْ ينظروا إلى ما اختلف بعيون مختلفة، ضاربين صفحاً عن حقيقة أنَّ أحداً في هذا الزمن الذي نعيش لا يستطيع خداع أحد.
إنَّنا نعيش حقبة إعلامية جديدة وثورية، اتَّسعت فيها الهوة بين المواطن وبين ذلك النمط من الصحافة والصحافيين، الذي ديدنه التزمير والتطبيل والندب والبكاء على الأطلال.. وحراسة النعوش والقبور والليل بالأقلام والألسن.
لقد زمَّروا وطبَّلوا كثيراً فما رقص أحد، وندبوا كثيراً فما بكى أحد، واستنفدوا الجهد والوقت والمال من أجل "تسليع" مزيدٍ من الضمائر والذمم والأفكار، ولإرغام "رأس البوصلة" على تغيير اتِّجاهها الثابت، ولاستنبات أجنحة للحمير، لعلَّها تطير؛ ولكنَّهم لم يحصدوا سوى الفشل، فتراكضهم بالرؤوس والأرْجُل وراء مصالح وهمية لم يَرْوِ للجمهور، الذي جاءوا لغسل عقله، سوى قصة ميِّت يأبى أهله الاعتراف بموته إلاَّ بعد دفنه؛ ولقد حان للموتى أن يدفنوا موتاهم!
مأساة الصحافة التي يمثِّلون أنَّها نشأت وترعرعت في كنف "ساسة" يعتقدون أنَّ الله حباهم القدرة على جعل البشر يؤمنون بأنَّهم "رجال الحقيقة"، وقد أرْسِلوا لمحاربة "كائنات الوهم"، فصَدَق أبو العلاء المعري إذ قال فيهم: يسوسون الأمور بغير عقل فيُنْفَذُ أمرهم فيقال ساسة!
أمَّا هم، أي هذا النمط من الصحافيين، فكانوا (وكيف لهم ألاَّ يكونوا) آذاناً صاغية، يُمْسِكون بأقلام مرتجفة، لا يخرج منها غير التسبيح، بكرة وأصيلا، بكل ما يجري على ألسنة أصحابهم من أصحاب الأيادي العليا، الذين لا شيء يستبدُّ بعقولهم الصغيرة سوى الرغبة في تفصيل البشر على قياس مصالحهم، وفي حَمْلِهم على الإتيان بكل ما تستحسنه وتستسيغه أهواؤهم ونزواتهم الشخصية.
جمهورنا يريد (ولم يَنَلْ حتى الآن ما يريد) إعلاماً جديداً، رجاله ليسوا من نمط أولئك الذين تربوا في مزارع الدواجن، عيونهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، وعقولهم لا تعقل، ظاهرها فكر، وباطنها ما مكانه غير الرأس. رجالٌ طلَّقوا الأفواه المُكمَّمة، والأقلام المكسَّرة، والفكر الرمادي المغترب عن الواقع النابض بالحياة.. وكفُّوا عن تسويق "المُعلَّبات الفكرية"، التي انتهت صلاحية استهلاكها منذ زمن طويل.
يريد صحافة للغد، تبثُّ الكلمة الحيَّة، تحلُّ "الحوار" محل "الإصغاء"، و"الكتابة" محل "الإملاء".. صحافة، فيها، وبها، يصبح عدد "القرَّاء" أكثر من عدد "الكتَّاب"!
يريد صحافة تشفي الأمَّة من عقرها السياسي والديمقراطي، فأمَّتنا ذات الرسالة الخالدة لم تتمكَّن حتى الآن من إنجاب ثلاثة أشياء: "الحكومة"، و"المعارضة"، و"الصحافة".
من خارجنا تأتي "الحكومة"؛ ومن "الحكومة" تأتي "المعارضة"؛ ومن "زواج المِتْعة" بين "الحكومة" و"المعارضة" تأتي "الصحافة"!
لقد ضَمِن لنا "الدستور" حرِّيةً لا حاجة إلى أن يضمنها، هي "حرِّية الفكر والمعتقد"، فالسَمَك لا يحتاج إلى من يعلِّمه السباحة. ضَمِنها لنا؛ ثمَّ وسَّع المسافة، أو الهوة، بينها وبين "حرِّية التعبير".
وضَمِن لنا "حرِّية التعبير"؛ ولكنَّها غدت كمثل ظلٍّ فَقَد جسمه بسبب تقييد "حرِّية الصحافة".
وضَمِن لنا "حرِّية الصحافة" حتى كاد أن يلغيها إلغاء "حرِّية الأحزاب". وضَمِن لنا "حرِّية الأحزاب" حتى ألْغَتْها "الحرِّية المسؤولة"!
صحافتنا كثيرة، وصحافيونَّا قِلَّة؛ حرِّياتنا كثيرة، وأحرارنا قِلَّة؛ ديمقراطيتنا كثيرة، وديمقراطيونا قِلَّة؛ فكيف لنا أن نبتني مجتمعاً، يزدهر صحافةً وحرِّيةً وديمقراطيةً، في غياب الصحافيين والأحرار والديمقراطيين؟!
إنَّنا لا نملك من الصحافيين، ومن أهل الفكر والقلم، إلاَّ من يجيدون التحدُّث بكلمات تقع موقعاً حسناً من نفوس أولياء أمورهم، وكأنَّ رسالتهم في الحياة أن يجدوا سبيلاً إلى إقناع هؤلاء بأنَّهم أفضل من يخدمهم في الحلال والحرام. وإذا كان من "فضيلة" يتحلون بها فهي "فضيلة فقدان الإحساس بالواقع"، فإنْ هم سنحت لهم فرصة لمجالسة "ولي أمرهم" تراهم ينصتون إليه وهو يشكو شكوى فضيلة أسيء فهمها. إنَّه يريهم من نفسه "العبقرية"، فيجهدون في إقناعه بأنَّ "عبقريته" كالنهار لا تحتاج إلى دليل، ولو أنَّ الدنيا قاطبة نظرت إليه على أنَّه أبله!
إنَّنا لسنا بحاجة إلى صحافة يقوم عليها، تمويلاً وتحريراً، من ينتسبون بالروح إلى همبولت. نحن في أمسِّ الحاجة إلى صحافة من ذلك "الأمس البعيد"، الذي فيه ظهر أمثال الرئيس جيفرسون، و"كاتب ذلك المقال"!