بسم الله الرحمن الرحيم
علماؤنا:
شعاع أمل أم عبءٌ على صانعي القرار ؟!
بقلم: عزيز العصا
البريد الالكتروني: [email protected]
لم يكن يوم الخميس الماضي (26/6/2008م) يوماً عادياً بالنسبة لكل من يهتم بالشأن العلمي. فقد زفَّت لنا وسائل الإعلام المختلفة خبراً يتعلق بـِ "إنجاز علمي عالمي في مجال فيزياء الفضاء بجامعة القدس للبروفيسور عماد أحمد البرغوثي"، أو هكذا كان العنوان في صحيفة القدس على صفحتها الثالثة عشر صبيحة اليوم المذكور. إن لكل كلمة في ذلك العنوان دليلاً يكاد يشكل عنواناً لحديث طويل.
فالانجاز ليس محلياً، بل مكرس لخدمة البشرية جمعاء، أما مجال الانجاز فهو في فضاء كرتنا الأرضية التي يسعى الأقوياء لتلويثه والعبث في محتوياته التي حبانا بها الخالق، جل شأنه، لكي تحفظ لنا حياة هانئة. وأما مكان الانجاز فهو في مؤسسة تربوية عريقة تحمل اسم عاصمة الدولة الفلسطينية شاء من شاء وأبى من أبى، إنها جامعة القدس التي تربض على تلال أبو ديس ملاصقة للعاصمة وترنو إلى الأقصى الأسير والقيامة المكلومة.
البروفيسور "عماد أحمد البرغوثي" هو واحد من الجيل الذي وُلِدَ بين النكبة والنكسة، فلا النكبة التي ورثها ووُلِد في رحابها أحبطته عن البحث عن حقيقة هذا الكون، ولا النكسة التي عاش تفاصيلها ومرارتها أعاقته عن أن يكون عالِماً متميزاً ينزع له علماء هذا الكوكب قبعاتهم. وأما بيت ريما، ذلك المكان الذي ترعرع فيه البروفيسور عماد، فقد شهد لها القاصي والداني بأنها مصنع الرجال كما باقي قرى فلسطين ومدنها وأزقتها وحاراتها. وأما "البرغوثي"، عائلة البروفيسور عماد، فإن جميع شرائح المجتمع الفلسطيني، ومن جميع الأجيال، تشهد لهذه العائلة التي تُذكر في السياسة، والشعر، والأدب، والاقتصاد، وعَمَاَدة الأسرى، والشهداء، والجرحى.. ففي كل تفاصيل تلك العناوين تجد "برغوثياً" مبدعاً، ضالعاً، متميزاً.
أما موضوع البحث فيتعلق بـِ "صعود أيون الأكسجين من فضاء الأرض إلى الفضاء الخارجي". حيث قام البروفيسور عماد بوضع تصور خاص به ومقارنته مع "نموذج وضعه مجموعة من علماء معهد ماكس بلانك في ألمانيا" و"نموذج خَلَصَ إليه مجموعة من علماء فيزياء الفضاء في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا في بوسطن"، فكانت النتيجة أن قَبِلَت "مجلة أبحاث الجيوفيزياء-قسم فيزياء الفضاء" بـِ "نموذج البرغوثي". وقد ارتأت هذه المجلة العالمية المتخصصة في فيزياء الفضاء بأن " نموذج البرغوثي" هو الأفضل من بين النماذج الثلاثة حيث دُعِّمَ بـِ "عشرة أدلة علمية" تؤكد صحته وتفوقه على النموذجين الآخرين.
لمناقشة الموضوع، وبعيداً عن التعقيدات التي تحملها فيزياء الفضاء، وبلغة شعبية بحتة، يمكننا القول بأن لنا الحق أن نزهو بهذا العالِم الفلسطيني لأنه، وبالرغم من شح الموارد والإمكانيات، استطاع أن يتنافس مع معهدين عالميين، مشهود لهما عالمياً في مجال أبحاث الفضاء.
ونحن ندرك ما معنى "نموذج" في عالَم العلم، فكلنا سمعنا بـِ العالِم "رذرفورد" صاحب نموذج الذرة، وجميعنا ننبهر بذلك العالِم الذي صاغ نموذجاً يُمَكِّننا من تصور "شكل الذرة" التي لا يمكننا رؤيتها قط، ويتمنى أن يرى صورة له، ويحرص على أن يتعرف على حياته الخاصة والعامة. أما الآن فإننا نعيش مع صاحب "نموذج البرغوثي" الخاص بـِ "أكسجين الفضاء" ونعرفه جيداً، ويمكننا مخاطبته مباشرة والتعرف عليه لكي يكون، هو وغيره من علماء هذا الوطن وباحثيه، نموذجاً حياً لأطفالنا يشجعهم على البحث والتطوير رغم صعوبة الظروف وقسوتها.
إن النتيجة التي توصل إليها العالِم عماد في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها مجتمع العلماء والباحثين الفلسطينيين، توصِلنا إلى النتائج التالية:
يتمتع علماؤنا بقدرة عالية على تحدي الصعاب، مهما اشتد الخطب، ومهما ارتفعت الأمواج فوق المركب الفلسطيني المتجه نحو الاستقلال والدولة. فحاجتهم القصوى للبحث والتوصل لنتائج عالمية تدفعهم إلى "اختراع" الوسائل، والأساليب، والطرائق المختلفة التي تؤدي إلى نجاحات منقطعة النظير لأن "الحاجة أم الاختراع".
وإلى "المتذمرين" والمُحبَطين والمُحبِطين، الذين يرفضون العمل إلا وفق مقاييس وتفاصيل محددة، لا يسعنا إلا أن نذكرهم بالمثل الفلسطيني القائل: "من يعجز عن الرقص يقول الأرض عوجة".
وإلى صانعي القرار في وطننا الغالي أقتبس مما قاله الدكتور عماد الخطيب/ أمين عام أكاديمية فلسطين للعلوم والتكنولوجيا ونُشِر في صحيفة القدس بتاريخ (19/5/2008م) صفحة 30 حول واقع البحث العلمي والباحثين الفلسطينيين، وباعتبار هذه المؤسسة نموذجاً يمكن تعميمه، إذ يقول الخطيب: "حافظنا على وجود هذه المؤسسة رغم الصعاب الكبيرة بل أننا قمنا بتطوير إستراتيجية للمؤسسة في العام 2001 ووضعنا لتنفيذها ثلاثة سيناريوهات. وقد كان وللأسف الشديد أننا عملنا ضمن السيناريو الأسوأ الذي تميز بشح بل غياب التمويل الحكومي وتعقيد الوضع السياسي الذي كان من نتيجته أن تم تخريب مكاتب الأكاديمية في رام الله خلال الاجتياح الإسرائيلي للمدينة عام 2002م." وينتهي الخطيب بالاشارة إلى "ضآلة الاهتمام بالبحث العلمي على المستوى الوطني".
لقد اخترت الاقتباس من واقع هذه الأكاديمية التي نعرف العاملين فيها ونعلم بحرصهم الشديد على السير حفاة على شوك الواقع المر بتعقيداته المتعددة المصادر، هذا الواقع الذي لم يتحسن حتى تاريخ نشر المقابلة مع الأمين العام للأكاديمية.
في الختام أتوجه إلى علمائنا وباحثينا، من خلال البرغوثي صاحب النموذج الذي حُفر بأظافر فلسطينية تحدَّت صخور هذا العالَم الظالم، الذي شرد شعبنا وشتته في بقاع الأرض، مؤكداً لهم بأنهم، فرادى ومجتمعين، يشكلون البعد العلمي للهوية الفلسطينية التي يسعى العالم لتمزيقها لصالح "اسرائيل" التي تحظى بالدعم والاسناد على كافة المستويات السياسية، والعسكرية، والبحثية.. أما صانع القرار في هذا الوطن الغالي فإنه مطلوب منه، وبالرغم من التعقيدات المحيطة به، أن يرعى العلماء والباحثين والمبدعين الذين يشكلون، في ظلمة ليالينا الدامسة، شعاع أمل ينبثق ليكون جزءاً من إثبات الوجود الفلسطيني والهوية الوطنية التي "نعض عليها بالنواجذ" منذ أكثر من قرن من الزمن.
عزيز العصا
العبيدية، 29/6/2008م
علماؤنا:
شعاع أمل أم عبءٌ على صانعي القرار ؟!
بقلم: عزيز العصا
البريد الالكتروني: [email protected]
لم يكن يوم الخميس الماضي (26/6/2008م) يوماً عادياً بالنسبة لكل من يهتم بالشأن العلمي. فقد زفَّت لنا وسائل الإعلام المختلفة خبراً يتعلق بـِ "إنجاز علمي عالمي في مجال فيزياء الفضاء بجامعة القدس للبروفيسور عماد أحمد البرغوثي"، أو هكذا كان العنوان في صحيفة القدس على صفحتها الثالثة عشر صبيحة اليوم المذكور. إن لكل كلمة في ذلك العنوان دليلاً يكاد يشكل عنواناً لحديث طويل.
فالانجاز ليس محلياً، بل مكرس لخدمة البشرية جمعاء، أما مجال الانجاز فهو في فضاء كرتنا الأرضية التي يسعى الأقوياء لتلويثه والعبث في محتوياته التي حبانا بها الخالق، جل شأنه، لكي تحفظ لنا حياة هانئة. وأما مكان الانجاز فهو في مؤسسة تربوية عريقة تحمل اسم عاصمة الدولة الفلسطينية شاء من شاء وأبى من أبى، إنها جامعة القدس التي تربض على تلال أبو ديس ملاصقة للعاصمة وترنو إلى الأقصى الأسير والقيامة المكلومة.
البروفيسور "عماد أحمد البرغوثي" هو واحد من الجيل الذي وُلِدَ بين النكبة والنكسة، فلا النكبة التي ورثها ووُلِد في رحابها أحبطته عن البحث عن حقيقة هذا الكون، ولا النكسة التي عاش تفاصيلها ومرارتها أعاقته عن أن يكون عالِماً متميزاً ينزع له علماء هذا الكوكب قبعاتهم. وأما بيت ريما، ذلك المكان الذي ترعرع فيه البروفيسور عماد، فقد شهد لها القاصي والداني بأنها مصنع الرجال كما باقي قرى فلسطين ومدنها وأزقتها وحاراتها. وأما "البرغوثي"، عائلة البروفيسور عماد، فإن جميع شرائح المجتمع الفلسطيني، ومن جميع الأجيال، تشهد لهذه العائلة التي تُذكر في السياسة، والشعر، والأدب، والاقتصاد، وعَمَاَدة الأسرى، والشهداء، والجرحى.. ففي كل تفاصيل تلك العناوين تجد "برغوثياً" مبدعاً، ضالعاً، متميزاً.
أما موضوع البحث فيتعلق بـِ "صعود أيون الأكسجين من فضاء الأرض إلى الفضاء الخارجي". حيث قام البروفيسور عماد بوضع تصور خاص به ومقارنته مع "نموذج وضعه مجموعة من علماء معهد ماكس بلانك في ألمانيا" و"نموذج خَلَصَ إليه مجموعة من علماء فيزياء الفضاء في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا في بوسطن"، فكانت النتيجة أن قَبِلَت "مجلة أبحاث الجيوفيزياء-قسم فيزياء الفضاء" بـِ "نموذج البرغوثي". وقد ارتأت هذه المجلة العالمية المتخصصة في فيزياء الفضاء بأن " نموذج البرغوثي" هو الأفضل من بين النماذج الثلاثة حيث دُعِّمَ بـِ "عشرة أدلة علمية" تؤكد صحته وتفوقه على النموذجين الآخرين.
لمناقشة الموضوع، وبعيداً عن التعقيدات التي تحملها فيزياء الفضاء، وبلغة شعبية بحتة، يمكننا القول بأن لنا الحق أن نزهو بهذا العالِم الفلسطيني لأنه، وبالرغم من شح الموارد والإمكانيات، استطاع أن يتنافس مع معهدين عالميين، مشهود لهما عالمياً في مجال أبحاث الفضاء.
ونحن ندرك ما معنى "نموذج" في عالَم العلم، فكلنا سمعنا بـِ العالِم "رذرفورد" صاحب نموذج الذرة، وجميعنا ننبهر بذلك العالِم الذي صاغ نموذجاً يُمَكِّننا من تصور "شكل الذرة" التي لا يمكننا رؤيتها قط، ويتمنى أن يرى صورة له، ويحرص على أن يتعرف على حياته الخاصة والعامة. أما الآن فإننا نعيش مع صاحب "نموذج البرغوثي" الخاص بـِ "أكسجين الفضاء" ونعرفه جيداً، ويمكننا مخاطبته مباشرة والتعرف عليه لكي يكون، هو وغيره من علماء هذا الوطن وباحثيه، نموذجاً حياً لأطفالنا يشجعهم على البحث والتطوير رغم صعوبة الظروف وقسوتها.
إن النتيجة التي توصل إليها العالِم عماد في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها مجتمع العلماء والباحثين الفلسطينيين، توصِلنا إلى النتائج التالية:
يتمتع علماؤنا بقدرة عالية على تحدي الصعاب، مهما اشتد الخطب، ومهما ارتفعت الأمواج فوق المركب الفلسطيني المتجه نحو الاستقلال والدولة. فحاجتهم القصوى للبحث والتوصل لنتائج عالمية تدفعهم إلى "اختراع" الوسائل، والأساليب، والطرائق المختلفة التي تؤدي إلى نجاحات منقطعة النظير لأن "الحاجة أم الاختراع".
وإلى "المتذمرين" والمُحبَطين والمُحبِطين، الذين يرفضون العمل إلا وفق مقاييس وتفاصيل محددة، لا يسعنا إلا أن نذكرهم بالمثل الفلسطيني القائل: "من يعجز عن الرقص يقول الأرض عوجة".
وإلى صانعي القرار في وطننا الغالي أقتبس مما قاله الدكتور عماد الخطيب/ أمين عام أكاديمية فلسطين للعلوم والتكنولوجيا ونُشِر في صحيفة القدس بتاريخ (19/5/2008م) صفحة 30 حول واقع البحث العلمي والباحثين الفلسطينيين، وباعتبار هذه المؤسسة نموذجاً يمكن تعميمه، إذ يقول الخطيب: "حافظنا على وجود هذه المؤسسة رغم الصعاب الكبيرة بل أننا قمنا بتطوير إستراتيجية للمؤسسة في العام 2001 ووضعنا لتنفيذها ثلاثة سيناريوهات. وقد كان وللأسف الشديد أننا عملنا ضمن السيناريو الأسوأ الذي تميز بشح بل غياب التمويل الحكومي وتعقيد الوضع السياسي الذي كان من نتيجته أن تم تخريب مكاتب الأكاديمية في رام الله خلال الاجتياح الإسرائيلي للمدينة عام 2002م." وينتهي الخطيب بالاشارة إلى "ضآلة الاهتمام بالبحث العلمي على المستوى الوطني".
لقد اخترت الاقتباس من واقع هذه الأكاديمية التي نعرف العاملين فيها ونعلم بحرصهم الشديد على السير حفاة على شوك الواقع المر بتعقيداته المتعددة المصادر، هذا الواقع الذي لم يتحسن حتى تاريخ نشر المقابلة مع الأمين العام للأكاديمية.
في الختام أتوجه إلى علمائنا وباحثينا، من خلال البرغوثي صاحب النموذج الذي حُفر بأظافر فلسطينية تحدَّت صخور هذا العالَم الظالم، الذي شرد شعبنا وشتته في بقاع الأرض، مؤكداً لهم بأنهم، فرادى ومجتمعين، يشكلون البعد العلمي للهوية الفلسطينية التي يسعى العالم لتمزيقها لصالح "اسرائيل" التي تحظى بالدعم والاسناد على كافة المستويات السياسية، والعسكرية، والبحثية.. أما صانع القرار في هذا الوطن الغالي فإنه مطلوب منه، وبالرغم من التعقيدات المحيطة به، أن يرعى العلماء والباحثين والمبدعين الذين يشكلون، في ظلمة ليالينا الدامسة، شعاع أمل ينبثق ليكون جزءاً من إثبات الوجود الفلسطيني والهوية الوطنية التي "نعض عليها بالنواجذ" منذ أكثر من قرن من الزمن.
عزيز العصا
العبيدية، 29/6/2008م