الأخبار
الاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينيةمستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية مشددة من قوات الاحتلالعائلات أسرى الاحتلال تطالب الوفد بتسريع إنجاز الصفقة خلال هذا الأسبوعنعيم قاسم: لن نكون جزءاً من شرعنة الاحتلال في لبنان ولن نقبل بالتطبيعفتوح: تهجير عشرات العائلات من عرب المليحات امتداد مباشر لسياسة التطهير العرقي والتهجيرالنيابة والشرطة تباشر إجراءاتهما القانونية في واقعة مقتل شابة في مدينة يطا
2025/7/6
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المفهوم البعثي للقومية أعادة بقلم:محمد العتال أبو ياسر

تاريخ النشر : 2008-06-19
بسم الله الرحمن الرحيم
المفهوم البعثي للقومية
أعادة بقلم / محمد العتال أبو ياسر
في الأربعينيات من القرن العشرين تبلورت توليفة جديدة من الأفكار والاتجاهات ، التي لم تعد القوالب القديمة تستوعبها ، ومن بين أعظم مظاهر التوليفة الجديدة ، بلورة مفهوم تقدمي وأنساني للقومية العربية ، فبعد أن كانت هذه القومية ، في نظر من كتب عنها ، تمجيدا للجنس العربي وانغماس في مهاترات مع أبناء القوميات الأخرى وتركيز على الجنس والنسب الأصيل الخ000 رأينا نظرة قومية منفتحة وذات طابع أنساني ، عمادها تجسيد الشخصية القومية للأمة العربية ، على أسس ثقافية وسيكولوجية وتاريخية ومصلحيه ، وليس عرقية ، وهنا نفهم لماذا أعلن حزب البعث بولادته الرسمية في عام 1947 بأنه حزب قومي ، لكن قوميته ليست عرقية بل ثقافية وتاريخية ، بمعنى أنها ليست انتسابا عرقيا للعرب القدماء ، بل هي انتسابا اختياريا تقرره مقومات ثقافية واجتماعية وتاريخية.
وكان تعريف العربي هو أفضل تعبير عن هذه النظرة القومية غير العرقية ، إذ أن دستور الحزب عرف العربي ، بان كل من تكلم العربية وقبل الانتماء إلى الأمة العربية واخلص لها ، فهو عربي بغض النظر عن أصله العرقي ، وهذا التعريف للعربي مستمد مباشرة من التعريف المحمدي النبوي للعربي ، حيث قال النبي العربي الكريم (ليست العربية في أحدكم بأمه وأبيه بل بلسانه فمن تحدث العربية فهو عربي) وبطبيعة الحال فان التحدث بالعربية ليس وحده ما يمنح العروبة ، بل هناك متطلبات أخرى ، وهي حب العرب والإخلاص لهم وتركز الولاء للعروبة ، وإلا فان المترجم اليهودي والانكليزي والروسي يتحدث العربية لكنه ليس عربيا لان ولاءه لأصله أو لامته ، وبهذا التعريف حسم البعث مسالة من هو العربي وسمح ذلك بتأكيد أن الأمة العربية من موريتانيا إلى عمان هي ليست مفهوما عرقيا ، بل مفهوما ثقافيا تاريخيا ، بمعنى أن العربي اكتسب عروبته بتثقفه بثقافة العرب وأخلاقهم وسيكولوجيتهم وقطعه لصلة الولاء بأصله واقتصاره على الأمة العربية ، ولكن هذه العروبة لا تختمر أو تتبلور عند الإنسان الذي اختارها ، لأنها تحتاج لزمن طويل تجري فيه عمليات تفاعل خلاق بين مكونات هذا الإنسان السيكولوجية والثقافية والاقتصادية تكون نتيجتها صهره في بوتقة العروبة وقطعه لصلاته القديمة كليا ، أو تعامله معها على أساس أنها تاريخ انقضى وأصبح مجرد ذكريات ، أو أصول يعتز بها لأنها أصله0
أن تفاعل التكون النفسي مع عملية الاندماج التاريخية ثقافيا ونفسيا واقتصاديا ، تستغرق زمنا ليس بالقصير، وهنا تظهر أهمية التاريخ في خلق الإنسان العربي ، فبدون التاريخ بصفته الرحم الذي تنمو فيه عروبة الإنسان والقابلة التي تولده صحيحا وسليما لا يمكن تصور وجود عروبة سليمة أن ما يوجد في المجتمع العربي من مكونات ثقافية ونفسية واقتصادية وبيئة جغرافية وأرث ديني يشكل المصدر الأساس لبناء الشخصية العربية ، من هنا نرى أن عربية الإنسان تعني أول ما تعني ، انه تشرب بثقافة الأمة بكافة مكوناتها ، خصوصا الإسلام بصفته الطاقة الروحية الجبارة التي تضع الإنسان على الطريق الصحيح قيما وإنسانيا0
وانطلاقا من هذا الفهم نستطيع أن نفهم حقيقة الدعوة القومية للوحدة العربية ، فهي ليست نتاج ميل للاستقواء بالكم العربي على الآخرين ، بل هي حاجة تفرضها الهوية المشتركة لكل عربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي ، فالإنسان بطبيعته الفطرية منجذب تلقائيا لمحيطة وأبناء محيطه ، وكل مجتمع يبنى على أساس القسمات المشتركة بين إفراده والتي تتشكل منها جماعة متميزة عن غيرها ليس عرقيا بل ثقافيا وسيكولوجيا ولغويا ، أن الإنسان مخلوق اجتماعي وصفته هذه تجعله لا يستطيع العيش ألا ضمن جماعة ، ولذلك يختار تلقائيا الاقتران بعائلته النووية (أي الأصغر) ثم بعائلته الأوسع ، ثم بعشيرته ثم بقبيلته وأخيرا بوطنه الذي هو مجموع القبائل المتشكلة هرميا ، لكنه مجموع وان كان يعبر عن مكوناته إلا انه تطور نوعي أرقى من القبيلة أو الأسرة أو العشيرة أو المنطقة ، لأنه حصيلة اندماج تطوري بطئ أنتج مجتمعا صلته الأقوى هي الصلة الوطنية والقومية وليس العشائرية أو الأسرية0
في كل مجتمع أنساني ، بل حتى في الكثير من المجتمعات الحيوانية ، توجد حلقات متدرجة من الصلات تبدأ بالحلقة الأصغر وهي العائلة النووية وتكبر تدريجيا لتصل إلى حلقة الأمة ، والتي يبدو أن أوضح رابط بين أبناءها هو اللغة المشتركة ، أن اللغة تختزن ثقافة الأمة وتشكل الأداة الرئيسية للتفاهم بين أبناءها ، ولهدا فهي الميسم الأبرز في تشكل الأمة وتميزها عن غيرها ، وحينما يختار الإنسان بصفته عضوا في جماعة متكونة ، أن يعبر عن ذاته فانه يدرك انه بحاجة للاتحاد مع بقية أبناء أمته الناطقين بلغته والناشئين في مناخه السيكولوجي والثقافي منذ مئات السنين وربما ألاف السنين كالعرب ، وبهذا المعنى فان القومية بالنسبة للبعث هي وجود اجتماعي ثقافي لمجموعة من البشر تربطهم لغة مشتركة ومصالح مشتركة وتقاليد مشتركة وارض مشتركة وتاريخ مشترك ومسقبل مشترك ، تعبر عن اندياح الصلات لإنسانية كما تنداح موجات المياه حينما تلقي حجرا في بركة ماء فتتكون أولا حلقة صغيرة ثم اكبر فاكبر ، والأمة هي الحلقة الأكبر في درجات اندياح حركة المجتمع الإنساني ، وهي لذلك تحتوي الحلقات الأصغر والأقدم منها وتصهرها في بوتقتها وتحولها إلى عنصر مندمج في ثقافة الأمة وسايكولوجيتها المتبلورة.
في عالم لا يمكن للإنسان أن يعيش فيه إلا أذا كانت له هوية مميزة تقررها لغته بصفها المظهر الأول الذي يتعامل معه الإنسان ، فأنت حينما ترى أنسانا لا تعرفه تبدأ بالتعرف إليه من خلال لغته ، ثم تتعرف على ثقافته وتقاليده وسيكولوجيته ، وهذه الحقيقة الواقعية تثبت أن الإنسان منقسم سواء أردنا ذلك أم رفضناه ، إلى أمم وثقافات مختلفة ، والرابط الأساس بينها هو أنها جميعا تنتمي إلى المخلوق الإنساني وان الاختلافات في اللون أو الثقافة لا تعبر عن تباين في قيمة الإنسان المطلق ، لان أصله واحد وقدراته الكامنة واحدة من حيث الجوهر ، ومن ثم فان كل إنسان مساوي للإنسان الأخر من حيث القيمة والاحترام والذكاء ، وما يظهر من اختلافات في الذكاء مثلا ليس نتيجة للأصول العرقية بل للوضع الاقتصادي والاجتماعي والفرص التي تتاح للإنسان كي يفجر طاقاته الإبداعية ، لهذا فان البعث تعامل مع القومية على أساس أنها الحلقة الأساسية في عالم توجد فيه أمم وقوميات مختلفة ، نشب بينها صراع أو قامت بينها صداقة ، لكنها كلها تنتمي لجنس واحد هو الجنس البشري ، وهذا الانتماء يفرض على الإنسان أن يقيم علاقات أممية مستندة على فكرة المساواة والتعاون الجاد من اجل الإنسان كل إنسان وحريته واحترام أدميته.
أذن القومية بالنسبة للبعث تتشكل من عدة عناصر ، العنصر الأول أنها ( هوية وجودية) ، تميز قوما ما عن غيرهم ثقافيا وليس عرقيا ، والعنصر الثاني ( هو أن الجماعة ذات الهوية الواحدة من حقها أن تتوحد أذا كانت مجزئة ) ، لان العالم يمر بمرحلة من تطور البشر تتميز ببروز وحشي للأنانية والاعتداء ، نتيجة نظم الإنتاج الاستغلالية كالنظام الرأسمالي ، والعنصر الثالث ( هو أن القومية العربية ليست مفهوما عرقيا بل تاريخيا وثقافيا ) ، ولذلك تجد بين العرب من هو اسمر ومن هو ابيض ومن هو اسود ، والعنصر الرابع ( هو أن القومية العربية ليست استثناء في عالمنا من حيث الحق في التوحد القومي) ، لان اغلب الأمم توحدت وبقي العرب وحدهم من بين الأمم الكبيرة مجزئين ، مع أن العالم الحالي هو عالم الكتل الكبيرة ، كما وصفه التقرير العقائدي (أو المنطلقات النظرية) الذي صدر عن المؤتمر القومي السادس للحزب عام 1963، وفي عالم الكتل الكبيرة تأكل الحيتان الكبيرة الأسماك الصغيرة ، لذلك لابد من الوحدة العربية لمواجهة محاولات الافتراس التي تتعرض لها الأمة العربية من قبل أطراف عديدة إقليمية ودولية ، وما اغتصاب فلسطين من قبل الصهيونية والاحواز (تضم ثمانية ملايين عربي ومنطقة النفط والمياه) من قبل إيران ، والاسكندرون ، من قبل تركيا ، واحتلال العراق ، إلا أمثلة واضحة لإضرار التجزئة في الوطن العربي ، فلو كان العرب امة موحدة تتألف من أكثر من مائة مليون عربي ، عند اغتصاب فلسطين والاحواز والاسكندرون ، لما استطاع الاستعمار والصهيونية وإيران وتركيا اغتصابها ، ولولا تناثر العرب لما نجحت أمريكا وإيران في احتلال العراق وتدميره مع أنهم الآن أكثر من 300 مليون إنسان.
لذلك فإن الوحدة العربية بهذا المعنى ليست مفهوما عرقيا ولا هي حركة عدوانية وتوسعية ، بل هي حركة دفاعية في عالم تسوده القوة ومنطقها الظالم ، لذلك فان أول واهم ميكانيزم دفاعي قومي عربي ، هو أقامة الوحدة العربية ، كما أن عالم اليوم هو عالم التكامل بين أجزاءه المكونة ، فإذا كانت الأمم الكبيرة الموحدة تبحث عن الاندماج مع غيرها، كالأمم الأوربية التي أتحدت رغم أنها تتشكل من قوميات مختلفة وليس من قومية واحدة كالعرب ، فهل يجوز أن لا يعمل العرب على تحقيق وحدتهم من أجل تامين متطلبات ، التنمية والسوق القومي الواسع والاستثمار الأمثل للموارد العربية المتنوعة والمتكاملة ، مع أنهم شعب واحد وينتمون لقومية واحدة ؟؟؟؟؟؟؟
ما معنى هذا الشرح من زاوية خصوصية القومية العربية ؟ أن ما قلناه عن القومية العربية يطرح أمامنا حقيقة جوهرية يجب أن لا تنسى عند فهم القومية العربية ، وهي أن هناك نوعين من القوميات ، النوع الأول قوميات وظيفية ، والنوع الثاني قوميات هوية، فالقوميات الأوربية هي التي تجسد القوميات الوظيفية ، لأنها تبلورت وظهرت للقيام بوظيفة اقتصادية اجتماعية وهي توفير أطار لغوي قومي للتوسع الرأسمالي ، أن الرأسمالية التي نشأت في أحضان الإقطاع الأوربي ، والذي قام على التشتت الاجتماعي على شكل إقطاعيات متنافسة متصارعة ومنعزلة ، رغم وجود عامل التوحيد اللغوي ، رأت أي الرأسمالية ، في رحمها الذي نشأت فيه وهو الإقطاع عائقا أمام توسعها الرأسمالي وأمام الانتقال من الإنتاج البضاعي الصغير ، ثم من رأس المال التجاري المحدود النشاط ، إلى رأس المال الصناعي الذي كان بحاجة لسوق اكبر من السوق التناثري المجزئ الذي أوجده الإقطاع ، فجاءت الدعوة القومية لتوحيد الإقطاعيات المتناثرة في أوربا في دولة واحدة في كل جماعة لغوية خاصة ، أداة لضمان انطلاق التوسع الرأسمالي ليشمل أرضا ومجتمعا كبيرين وواسعية يمكن فيهما ترويج السلع الصناعية ، وطمر مرحلة الإنتاج البضاعي الصغير في المشاغل البيتية والتخلص من ضيق رأس المال التجاري0
استنادا لهذه الحقيقة الاقتصادية كان ظهور القوميات الأوربية كالفرنسية والبريطانية والألمانية ، عبارة عن استجابة قاهرة لأهم قوانين النظام الرأسمالي الصاعد : السوق الكبير ، لقد ولدت اللغات الأوربية الحالية أما من اللاتينية أو الجرمانية أو السلافية لتنهي مرحلة الغموض اللغوي ، وهو عامل مرافق للإقطاع ، لان المطلوب كان تحديد هوية بدائية خاصة وظيفية مهمتها هي تحشيد الناس المنتمين ما خلف زعيم ما لأجل السيطرة على السوق في اكبر رقعة جغرافية ممكنة وهي الرقعة المتشابهة لغويا ، أن اللغة التي سبقت نشوء الأمة ومهدت له لم تكن تكفي وحدها لقيام الأمة ما دام العامل التجميعي والانصهاري لم يظهر بعد وهو الحافز الاقتصادي ، لذلك وبتوفر البيئة المناسبة لتجاوز الإقطاع ، ظهرت الحاجة للقومية في أوربا ، لقد طغت الوظيفة الرأسمالية على تلك القوميات وتنحت الهوية الثقافية وخضعت للهوية الوظيفية ، وهذا ما يفسر فقر الفكر القومي الأوربي وضعف منطقه واعتماده أساسا على القوة لتحقيق أهدافه التوسعية ، وما حروب أوربا الدموية بين أبناء القومية الواحدة وبين القوميات المختلفة ، إلا تعبير عن افتقار الفكر الأوربي إلى الهوية الثقافية المزدهرة والناضجة.
أما قوميات الهوية فهي لم تكن نتاج نشوء النظام الرأسمالي ولا أي نظام اقتصادي أخر بل كانت نتاج تطور تاريخي طويل أنتج مياسم مشتركة بين كتل سكانية هائلة وميزها بلغة وثقافة خاصة ، كانت من القوة بحيث ولدت حروب تغيير الهوية في الجانب الأخر ، أن العرب والفرس والصينيين ، هم أمثلة حية لهذا النوع من قوميات الهوية ، والتي تخضع فيها العوامل الاقتصادية وتطورها للعامل الثقافي القومي ، أن قوميات الهوية نشأت منذ ألاف السنين وليس منذ مئات السنين كما كان حال أوربا ، ففي حين كانت أوربا تشهد مرحلة الحياة السابقة للإقطاع كان العرب والفرس والصينيون أصحاب حضارات كبرى وإبداعات ثقافية عظيمة ، وكان العامل الطاغي في ذلك النشوء هو الثقافة المشتركة وليس التطور الاقتصادي ، فلم تكن هناك رأسمالية ولا أقطاع كلاسيكي ، وإنما كانت هناك أنظمة هي مزيج من الاستبداد الإقطاعي والعبودية وغيرها دون اقترانها بنمط أنتاجي محدد ، وهذه الحقيقة تنقض النظيرات التي قدمها ماركس أو انجلز عما يسمى ب(الاستبداد الشرقي) أو(نمط الإنتاج الأسيوي) والتي بنيت على قاعدة معلومات سطحية وعابرة ، على العكس من قراءتهما لواقع أوربا والتي كانت عميقة وثرية جدا.
في قوميات الهوية تمتزج قوانين مراحل تاريخية مختلفة وتتداخل حتى أن المحلل والمؤرخ يحير في تفسير الواقع وفق قاعدة تحليل متماسكة ويبقى أي تحليل ناقصا إلا إذا عالج حالة محددة بذاتها ، وهو ما يؤدي إلى الغرق في خيار تجزيئي لمشاكل شعوب قوميات الهوية ، ولكن أهم ما في قوميات الهوية هي أنها نتاج تطور طويل استغرق ألاف السنين كانت نتيجته هوية قومية تتوسط الجوهر منها ثقافة وطنية خاص وقوية وراسخة إلى حد أنها توصل أحيانا إلى التعصب القومي واستهداف هوية الأخر سواء بالحروب أو النزعة الاستعلائية ، وفي هذه القوميات تتنحى العوامل الاقتصادية وتسود العوامل الثقافية المعبرة عن هوية خاصة ، أن القومية الفارسية مثال ممتاز لهذه الحالة من التشبث بالهوية وتغليبها على رابطة طرأت فيما بعد على الهوية القومية ، وهي رابطة الإسلام ، فبالرغم من اعتناق بلاد فارس للإسلام إلا أن الهوية القومية الفارسية بقيت هي المحرك الأساس للنخب القومية الفارسية في تعاملها مع (أشقاءهم) في الإسلام العرب ، وكانت نزعة الانتقام من العرب والتطرف في العمل لإقامة إمبراطورية فارسية اقوي من رابطة الإسلام ، لذلك شهدت العلاقات العراقية الفارسية حروبا بعد ظهور الإسلام أشرس من الحروب التي وقعت في المنطقة قبله0
أما العرب فأنهم ، وبالإضافة لتشربهم برسالة الإسلام التي حدت من التعصب القومي وعدته من أثار الجاهلية ، فأنهم تبنوا مفهوما للقومية حدده النبي الكريم بتعريفه التطبعي للعربي ، فأزال عنصر الاستعلاء من الفكر القومي العربي وجعله فكرا يعبر عن انتماء ثقافي ، سمح للعروبة أن تخرج من جزيرة العرب وتصل إلى المغرب العربي وتدمج في بوتقتها أجناسا شتى دون تمييز أو تعصب لعرق ما ، بعكس القومية الفارسية التي كانت ، وبسبب تعصبها القومي ونزعة الاستعلاء لديها، عاجزة عن التوسع بقبول هويتها من قبل الأقوام الأخرى والاندماج بها ، فلجأت إلى الحروب والدسائس للتوسع ، وفي مقدمة الدسائس فبركة هوية طائفية بين المسلمين استخدمتها وتستخدمها لاختراق حصون العرب وتمزيقهم ، فصاغ مفكروها منظومة طائفية لا صلة لها بالإسلام ، بل هي نتاج فكر قومي فارسي عنصري ، يتمثل في تمجيد تراث ما قبل الإسلام بما في ذلك القيم والتقاليد الزرادشتية ، أن النزعة التآمرية الفارسية بعد الإسلام ليست سوى تعبير أصيل عن تجذر الرابطة القومية الفارسية ، وتحكمها في النخب الفارسية وكان ابرز مظاهرها التاريخية ، إضافة لفبركة الطائفية داخل الإسلام، عملها وفقا لخطط طويلة المدى لتدمير الهوية العربية واختراق الإنسان العربي0
هذه الحقيقة التاريخية هي التي استخدمها بعض المنتمين لتيارات الإسلام السياسي لاتهام القومية العربية بتهمتين خاطئتين، التهمة الأولى وصفها بأنها تعصب جاهلي، والثانية القول بأنها متأثرة بالقوميات الأوربية ، وفي كلا الاتهامين نجد الخطأ واضحا وفاضحا ، فالتعصب القومي في القومية العربية غير موجود لان المكون الجوهري لها ، وهو الإسلام كما سنوضح، يمنع التمييز بين البشر بشكل عام وبين المسلمين بشكل خاص على أسس العرق واللغة ، صحيح أن هناك نزعات تعصب قومية عربية تظهر في فترات محددة تقف في مواجهة تعصب قومي أخر، لكنها رد فعل أني وليست فعلا أصليا ودائما ، والمثال هو الموقف من الدولة العثمانية ، حيث ساهم العرب في بناءها على أساس أنها دولة أسلامية لكنهم انقلبوا عليها حينما بدأت تمارس سياسة التتريك وتذويب هوية العرب ، كما أن العرب وقفوا ضد النخب الشوفينية الفارسية ، أثناء قيام الدولة العباسية لأنها تعمدت شتم العرب ، بل أنها كانت تسيطر على البيئة الثقافية والسياسية في بغداد العباسية بعد أن وصلت إلى مركز الخلافة بالزواج والأموال وغيرها ، فاضطر الكتاب العرب للرد على شتائم الكتاب الفرس ومعاداتهم للعرب مثلما فعل الجاحظ 0
في هذين المثالين فان حالات التعصب القومي العربي ضد الأتراك والفرس كانت نتيجة طبيعية ، وان كانت خاطئة ، لعمل مسبق وسابق ولم يصدر من مبادرة عربية أبدا لذلك فان من يصف القومية بالجاهلية عليه إن يدرس تاريخ الإسلام وما جرى فيه لأنه سيكتشف أن العرب تمسكوا بقوميتهم ولكن مع التمسك التام بثقافة الإسلام المتجاوزة لثقافة الجاهلية ، وان من خرق ثقافة الإسلام هي النخب الفارسية والتركية ، أما اتهام القومية العربية بأنها متأثرة بالقوميات الأوربية ، أو أنها نشأت بعد بروز القوميات الأوربية ، فهو اتهام يدل على الجهل بالتاريخ وهو جهل محزن تماما ، لان القومية العربية كما وضحنا نشأت قبل ألاف السنين في جزيرة العرب واليمن ومنهما توسعت مع الهجرات التي فرضتها ظاهرة التصحر التي اجتاحت الجزيرة العربية بعد انقضاء العصر الجليدي الأخير ، وفي فترة نشوء القومية العربية كظاهرة لغوية وثقافة صحراوية جمعت القبائل العربية كان الأوربيون عبارة عن مخلوقات تعيش فوق أغصان الأشجار ، وتقتصر لغتها على كلمات قليلة وهمهمات كثيرة ، مصحوبة بإشارات يدوية وجسدية أكثر.
وفي ضوء ما تقدم فان القومية الوظيفية ، كما في أوربا ، أخذت تضمر وتضعف ثقافتها وتحل محلها ثقافة الضياع والعولمة وتبديل الهوية بسهولة ، والسبب هو أن الوظيفة التي من اجلها نفخت القوميات الأوربية قد تراجعت بعد تحول الرأسمالية إلى ظاهرة كونية وتجاوزها لحدود الأمة ، خضوعا لقوانين النظام الرأسمالي أيضا فالذي أنتج القوميات الأوربية هو نفسه الذي قرر سحبها من التداول في السوق واحل محلها العولمة ، بصفتها الغطاء الجديد لتوسع السوق وممارسة عبادة الدولار، ولكن قوميات الهوية ذات الأعمار الألفية ما زالت ارسخ من أي نظام اقتصادي أو ظاهرة اجتماعية ، فالصين مثلا ورغم اعتناقها للشيوعية ذات الجوهر الاممي تغلبت فيها الرابطة القومية على الرابطة الأممية ، ولم تستطع كل قوانين الشيوعية والأممية وكل الحملات الثقافية أن تمحو الهوية القومية الصينية ، وهذا الحال نجده كذلك في الأجزاء المقتطعة من الصين (تايوان مثلا)،فبرغم من مرور أكثر من مائة عام على فصل بعضها وخمسون عام على بعضها الأخر نجدها محافظة على هويتها القومية الصينية وتتطلع للعودة إلى الوطن الأم رغم وجود التناقض الجذري بين النظام الاقتصادي الاجتماعي الصيني والأخر الموجود في الأجزاء المقتطعة.
وهذا الحال ينطبق على إيران ، فهي بالرغم من دخولها الإسلام فإنها ما زالت متمسكة بهويتها القومية وعلى نحو متطرف جعلها تبتكر طرقا مموهة لفرض المصلحة القومية الفارسية على العرب المجاورين، من خلال اكبر فتنة صنعتها وهي التشيع الصفوي الذي حول الخلاف السياسي حول الخلافة في بلاد العرب إلى مذهب جديد ثم دين جديد ، كما أن الدستور الإيراني لما يسمى (جمهورية إيران الإسلامية) هو من حيث الجوهر دستور قومي دون أدنى شك لأنه يؤكد مرارا وتكرار على مصالح إيران بصفتها هي المقرر للسياسات الإيرانية ، أما الأمة العربية فإنها ورغم المؤامرات التي نفذت وتنفذ ضدها كسلب فلسطين ومحاولة تهويدها ، فأنها لم تضعف ولم تتراجع ونجد الشعب العربي بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص يتمسك بقوة بحقوقه وهويته لدرجة أن المشروع الصهيوني وبعد نصف قرن على تأسيسه في فلسطين يواجه اكبر تحد الآن ، لان العرب متمسكون بهويتهم التي أفشلت كل محاولات التهويد والصهينة ، ولو أن هذا الذي يواجهه العرب من تحديات ونكبات تعرض له شعب أوربي لما صمد ولتمزقت هويته لأنها هوية سطحية ، أن على من يتعاملون مع القومية العربية أن يدرسوا التاريخ أولا لا أن يسمعوا قصصا أسطورية نسجتها السن تمتهن حرفة ترديد ما يسمع من الآخرين دون التدقيق والتمحيص مباشرة0
الموضوع أعلاه ضمن سلسلة ثقافية لحزب البعث العربي الاشتراكي ولأهميته الكبيرة كان هدف نشره 0

انتهي
بتاريخ 19/6/2008

[email protected]
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف