رمضان جربوع:
الشرطة الثقافية وحضـّانات المبدعين!
إعادة هيكلة قطاع الثقافة:
"موسى الحاج سيصبح الحاج موسى"!
(نشرت بالقدس العربي/ لندن يوم الخميس 19/6/2008)
هذه المرة، ولله الحمد والمنة، الموضوع ليس مسودة، ولكن هو مقترح إعادة هيكلة الثقافة، علي وزن إعادة هيكلة ديون أو شركات أو مصارف، يتحدث عن هيكلة بنية تحتية للثقافة أو قطعتها من جسم الدولة بمعني قطاع الثقافة والإعلام ... لو كنت سودانيا لقلت شنو يا زول؟
من الذي أصدره؟.. وزارة الإعلام والثقافة الليبية، التي هي مثل بقية الوزارات تتنفس هذه الأيام بوتيرة الوقت الضائع أو اللهاث من أجل البقاء وإثبات الجدوي، ومن ثم دوام النعم.
قبل الولوج في الورقات الثلاث أحب أن أذكركم ومن يهمه الأمر ببعض البديهيات:
الإعلام، لم يعد موضوع وزارة في العالم الذي نسعي للوصول إليه، وزارات الإعلام العربية أضرت ببلدانها أكثر مما نفعتها. الحكومة أو أي وزارة أو مؤسسة عامة (بما فيها أجهزة الأمن) تستطيع أن تقول ما تشاء، عن طريق تصريح رسمي، يصدر عن ناطق باسمها من مكتب إعلامي خاص بها. ووكالات الأنباء وقنوات التلفزيون العربية والعالمية (التي أصبحت تتكلم عربي هي الأخري في معظمها) سوف تتلقف الدرر الثمينة التي سيصرح بها، وتنقلها علي الهواء، وتسوّد بها الفاكسات والإيميلات وأوراق الصحف والمجلات... لماذا إذن يلزمنا وزارة بحجم الديناصور أصلا؟
وكالات الأنباء الرسمية هي الأخري غير ذات جدوي، أي مجموعة من القطاع الخاص تستطيع أن تنشئ وكالة أنباء، دون أي تكلفة علي الدولة، ونحن بفضل من الله (وكذلك ممن قام بتسهيل أمر الانترنت، لنا في ليبيا، في صورة تظل أفضل من غيرها من بلاد العربان) لدينا مواقع في الداخل والخارج تقوم بالمهمة بكل إبداع، وبدون تكاليف علي المواطن الذي صار يعرف ما يجري في بلاده، بل وحتي في الحي المجاور عن طريق لندن وبلاد الأمريكان.
كل الإعلام الذي نريده من الحكومة هو الجريدة الرسمية التي تنشر فيها قراراتها وقوانينها فقط لا غير.
أما عن الثقافة والإبداع، فأولا وآخرا لكي تكون ثقافة (لا عملية غسيل دماغ أو طمس أو تعتيم) فيجب أن تكون في مناخ حرية كامل، يتاح فيه النشر لمن يشاء، فالأموال والمؤسسات والأصرح لا تصنع ثقافة ولا مثقفين، ولا تنتج إبداعاً يستحق النعت.
الثقافة بكل بساطة هي تفاعل ما بين المبدع والمتلقي، وهي تعبير يصرخ عاليا بأنه رأي ورؤية، يعبر عنه بتميز واتقان، قد يكون شعرا أو رواية أو لوحة أو مسرحية أو كتابا او بحثا أو فيلما أو صورا فوتوغرافية أو سيناريو أو تماثيل أو غناء أو موسيقي أو مقالة أو نقدا.. الخ. ويختلف تعبير المبدع عن تعبير رجل الشارع بأنه أكثر إحكاما ووقعا، حيث تتجسد فيه روح الفن التي هي بدورها ليست سوي نفس مرهفة شديدة الحس.
الثقافة والإبداع نبع من قريحة المبدع، بوحي اللحظة، ولا تستدعي في كل آن. والمبدع يستمتع بما ينتج، لأنه حول ما يهيج في خاطره إلي منتج مغر وجذاب، قابل للاستهلاك من قبل المتلقي. المتلقي يتفاعل مع المنتج وبه يستمتع. والمبدع الآخر، أو مشروع المبدع، يتفاعل هو الآخر، والكل يتآلف ويتفاعل، والناتج ثقافة ووعي وأصالة متواصلة، والتفاعل يثير في نفس المتلقي الذي لديه مثل هذه النفس، ولا يدري عنها شيئا، فيحثه التعاطي مع إبداع غيره لتجربة الإبداع بذاته، وقد يكون له شأن، وبمقدار ما يوجد من فرص للتفاعل الحر بمقدار ما تتقدم الثقافة والإبداع في بلد ما، وبمقدار ما تتقدم الثقافة والإبداع بمقدار ما تتقدم الأمة.
لا أعلم مفهوما آخر للثقافة غير هذا...
ثقافة حكومية؟
وزارة أو مؤسسة أو إدارة للثقافة لا تنتج ثقافة ولا إبداعاً، فمن ساعة تأسيسها تتحول إلي كتلة ديناصورية تلتهم الأموال، وتبدد القدرات، وفي معظم الأحوال تتحول إلي شرطة ثقافية تحاول الولوج داخل عقول المبدعين، فتسدّ منافذها، وتقتل ما قد يكون علي وشك الولادة في أرحامها، ولا يعود يخرج حينئذ سوي العبث والهزال.
فرنسا بلد النور ـ كما يقولون ـ لم تنشأ بها ثقافة إلا بهذا المفهوم، فحتي عندما عين الرئيس الفرنسي، ربيب الاشتراكية والقطاع العام السابق (فرانسوا ميتيران)، المفكر والمناضل اليساري (جاك لانغ) علي رأس وزارة للثقافة .. لم ينتج عن ذلك شيء علي الإطلاق، اللهم إلا معاناة جاك لانغ نفسه من السخرية به، لقبوله المنصب المفتعل. والمعني أنه لا يمكن فرض ثقافة بلون معين من عل، فالحكم في نهاية المطاف، سواء علي إبداع المبدعين في جو الحرية، أو إبداع مثقفي الحكومة عن طريق السيطرة عن بعد (الريموت كونترول)، كان وسيظل حكم السوق، والسوق هنا هو مجموع المتلقين، بل حتي النقاد لا دور لهم في نجاح مبدع أو فشله، خصوصا بعد مرور سنين.
ونرجع لمقترح وزارة الثقافة والإعلام لدينا، فنصطدم، عند التمعن فيه، بصورة قيد الإنتاج مستنسخة عن وضعها هي الآن، وما سبقها من وزارات عقيمة، تعلن بأن قطاع الثقافة أو وزارة الثقافة والإعلام سابقا، سيتولي نيابة عن الدولة، أي عن الشعب، أنشطة معينة وصفتها بالسيادية بسبب خصوصيتها ولكونها غير اقتصادية وهي:
السيطرة من خلال مؤسسة للإعلام تختلق للغرض، علي وكالة الأنباء، والإذاعات المرئية والمسموعة بأنواعها.... ماذا تغير؟
ثم الصحافة الرسمية للدولة التي تطبع كل يوم أطنانا وأطنانا من الورق قلما تجد من يقرؤها تستمر كما هي.
ثم الإعلان بدون حرج بأن قطاع الثقافة يعتبر سياديا، وأنا لا أفهم: سيادة علي من؟ علي عقول المبدعين؟ ثم يبرر ذلك بأنه سيكون الأداة التي يناط بها تنفيذ التوجهات العامة للمجتمع! (اختزال المجتمع؟) في مجال الثقافة، وهنا لا يتحرج إطلاقا في أن يقول بأنه، أي القطاع، سيكون أيضا الحاضنة (حرفيا كما وردت) لمختلف المبدعين، لا أعلم إذا كان المقصود تفقيسهم في الحضّانات، مثل مزارع دجاج الكنتاكي! ويسترسل صاحبنا المقترح في شرح دور اقتراح القوانين واللوائح وإصدار القرارات.. في كل ما يتعلق بالثقافة ومنها تحرير المنشورات التي تنظم! نشاط القطاع الخاص في قطاع الثقافة (وأين الخصخصة؟)، ويوالي بذكر أحقيته في تعزيز العلاقات الثقافية مع الدول الشقيقة وغير الشقيقة (وماذا تعمل وزارة الخارجية؟)... ويطول السرد، فالحق يقال إن رجال الوزارة لم يقصروا في جهدهم الشمولي نحو تحقيق الهيمنة الكاملة علي سريب الثقافة والإبداع والبحث والبحوث، ووضع المعايير لتقييم المنتج وتخريط البلاد وإدارة المناشط الجماهيرية ومنح الجوائز، ولكنه يؤكد علي اللحمة الوطنية؟!.. والإصرار علي حق الليبيين في التعويض عن أضرار الاستعمار الإيطالي! (كِده مرة واحدة!) واسترداد المسروق، ثم يحتكر ترسيخ الثقافة الإسلامية والعربية ورعاية الفكر والأدباء (بعد التفقيس طبعا).. باختصار شمولية المقترح السياسية قد يكون من شأنها دفع أصحاب المعلقات للخجل والانكفاء علي الذات والصمت!... وحتي لا أطيل عليكم، السيد المقترح يقول بأن مجلس قطاع الثقافة المزمع إنشاؤه سيمد شباكه علي مجمع اللغة العربية ومركز دراسات جهاد الليبيين والمركز الوطني للمخطوطات ومركز المأثورات الشعبية ومركز أبحاث الموسيقي العربية ودار الكتب الوطنية ومكتبة القذافي العالمية وجائزة القذافي للآداب والفرقة الوطنية للموسيقي والغناء، وكذلك الفنون الشعبية، ثم الهيئة العامة للسينما والمسرح.. يعني الحمد لله قطاع الثقافة ومجلسه سيكونان (بتاع كله في كله).. نسيت أنه أيضا سيتولي العمل علي استرداد ما سرق من آثار والحفاظ علي ما تبقي (آه يا راسي!)...
أين الثقافة في بلادنا في ظل هذه الوزارة وما سبقها؟
إلي فترة قريبة لم يكن لدينا سوي أربع صحف يومية حكومية، تكرر نفسها بتغيير الخط وترتيب المواد، ولا تقرأ فيها إلا ما تريد الحكومة لك أن تقرأ.. ومن يهمه الأمر فعليه بإذاعات اللاسلكي من لندن، أو نشرة أخبار (من فم لأذن المحلية) والتي سدّت فراغا هائلا، أما التلفزيون الرسمي فلم يخبره أحد إلي الآن بأن هنالك شيئاً في البلاد اسمه الفضائيات والانترنت، ولكن الإخوان يفترضون بأن الشعب الليبي منصاع لهم ولا يسمع ويشاهد غيرهم... وبالتالي لا حاجة له للكلام!
المبدعون، فيما عدا قلة قليلة، لم يخرجوا للساحة. ومن اشتهر بإبداع من الليبيين حدث له ذلك في خارج البلاد وأحيانا بلغات أخري... أما مبدعو الإعلام والثقافة الرسمية فهم خير مثال علي نجاعة حل تفقيس البيض في حضانات، فيخرج المنتج متشابها متطابقا إلا من اختلاف وضعية ريشة هنا أو هناك.. وإن كان علي الاعتراف بأنه حتي في هذه الظروف خرج مبدعون رائعون، ولكن ذلك لم يكن إلا بفضل من الله ومنته وليس من أفضال الوزارة.
المسرح، درة الإبداع في ليبيا عن حق، لم تقم به الدولة، بل مجموعات من الشباب المبدع في بنغازي ودرنه وطرابلس ومصراته، رغم كل العوائق والصعوبات، بل وحتي تحقيقات أجهزة الأمن التي، حسب ما يقال، كانت تريد أن تعرف ما هو المقصود من جملة كذا أو كذا! - الدولة شيدت قرابة العشرين مسرحا حديثا (شركة سويدية)، ولكن أين؟ ليس في مراكز التجمعات الحضرية الكبري، حيث بيئة المسرح، ولكن في بقاع شبه نائية لا يوجد بها سوي بضع مئات من السكان، انتهي الأمر ببعضها لاستعماله كمخازن أعلاف حيوانات. النشاط الحقيقي المصحوب بالهمة والحماسة كان في مراقبة المطبوعات، حيث كانت تمنع كتب الإمام أبي حامد الغزالي، هل تعرفون لماذا؟... بسيطة، الرقيب كان يعتقد بأنه ينتمي بصلة القرابة للراحل الشيخ محمد الغزالي!
إلي أين ستذهب بنا وزاراتنا الثقافية؟... أخشي أننا سنرجع لبداية الخمسينات من القرن الماضي، حيث كتب ضابط التحقيق في إدبارته اليومية يستدعي الرفيق الأعلي للتحقيق ... كان ذلك بعدما ما قيل له بأن المطلوب القبض عليه قد التحق بالرفيق الأعلي! باختصار لا نريد! لا نريد وزارة ثقافة، لا نريد وكالة أنباء رسمية، لا نريد إذاعة حكومية، أو تلفزيونا رسميا، لا نريد رقابة (الرقابة الذاتية تكفي ومن يخرج عنها يسقط بذاته)، لا نريد إعلاماً علي نمط (غوبلز) أو إذاعة (راديو فانتي أيام موسيلليني)، ولا نريد إذاعة تيرانا من ألبانيا أيام زمان، ولا نريد كي. جي. بي. الثقافة السوفييتية ولا نريد عبثيات (كافكا) الألمانية المعاد إنتاجها ليبيا، ولا نريد (أحمد سعيد) صوت العرب، ولا نريد إذاعة (سوا) وما علي منوالها من فضائيات العرب اليوم... لا نريد مراكز ثقافية في سفاراتنا، لا تفعل شيئا سوي إهدار المال العام، ولا تحاول تقليد مثيلاتها في سفارات العالم الآخر..
ارفعوا أيديكم!
نريد من الدولة أن ترفع يديها عن الإبداع والرقابة والإقصاء والتصنيف.. لا نريد وزارة جديدة، تلقي شباكها علي المؤسسات البحثية الكبري المذكورة أعلاه، ولا نريدها أن تتدخل في تراث الوطن، فلقد تعثرت أيما تعثر فيه، ويكفي للدلالة علي ذلك أن صار علماء الآثار عندنا ومن يفقهون في قيمتها يتمنون بأن تبقي الآثار حيث هي تحت الأرض، لأننا لم نعد نعرف ما هي ولا قيمتها (إلي من يرجع الفضل يا تري في ذلك؟) لقد شاهدت بأم عيني البقر والماعز ترعي في آثار الإغريق بمدينة شحات (قورينا)!
ولعلمكم معبد (زيوس) هناك يتفوق حجما وجمالا علي معبد أبوللو في أثينا.... آثارنا تسرق وتنهب بتسهيل من بعض المناط بهم الأمر، بل إن بعض كبار موظفي الدولة لا يتحرجون في الاستيلاء علي بعضها...
دعم من المجتمع فقط
وفي الختام، لا بد مــــن الإشــــارة إلي أن نجاح الصحافة والمسرح والفنون والآداب يعتمد علي استــــهلاك المتلقي، أي المواطن الليبي، وهذا المواطن في معظــــم الأحوال ضعيف الحال وفقير ولا يملك تحمل تكاليف ما قد يود اقتــناءه، ومن هــــنا أطالب بحق المواطن في أن تتولي الـــدولة دعم الثقافـــــة الحرة بجميع تجلياتها، ولن يكون ذلك منـّـا أو إكرامية، فالمـــــال مال هذا المواطــــن، سواء من الضرائب أو من النفـــــط، وعلي السلطة التشريعية أس سلطة الشعب أن ترصد الميزانيات، ولكن علـــــيها ألا توكل الأمر إلي موظفي ثقافة من خزانة الـــبيروقراطية، بل عن طريـــــق جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، بعد إثبات جدارتها، والسبب في ذلك أن مفهوم الجمعيات المدنية يقوم علي العمل بالمجان، من قبل مثقفين ذوي جدارة يحبون أن يبذلوا بدون طموح في مزايا شخصية أو سلطان. وتستطيع الدولة، وفي هذه الحالة الشعب، أن تدعم الصحافة عن طريق نشر إعلانات العطاءات فيها، وأن تشجع النشر عن طريق شراء أعداد معينة من كل ما يطبع، لوضعه في المكتبات العامة من النوعية المفقودة لدينا، وأيضا الاشتراكات في الصحف والمجلات لتوزيعها علي المدارس والجامعات والمعاهد. رقي المنتج، أيا كان، سيتحدد عن طريق التنافس في الإبداع والاتقان وقبول المستهلك بالمنتج ولا شيء غير ذلك. إذا كنا نريد إحراز القدرة علي التنمية والتقدم والتطور، فلا بد ولا مفر من شعب يتفاعل مع الثقافة الحرة، حيث سيعرف الإبداع وكيف السبيل إليه.. أختتم بالتذكيــــــر، بأن الأمل، علي الرغــــــم من كل ما سلف، صار يحدونا، حيث أصبـــــحنا نقول الرأي والرأييــــن، ولا قصد في ما ورد أعلاه سوي نــــــقد الــظاهرة التي نعاني منها في هذا الوطن، ويعاني منها كافة بني يعرب في كافة مضاربهم... والكلمة الأخيرة: لا أمل في ثقافة وتقدم إلا عن طريق منظمات المجتمع المدني، التي يجب أن تكون المتلقي الوحيد للدعم من أموال الشعب...
الشرطة الثقافية وحضـّانات المبدعين!
إعادة هيكلة قطاع الثقافة:
"موسى الحاج سيصبح الحاج موسى"!
(نشرت بالقدس العربي/ لندن يوم الخميس 19/6/2008)
هذه المرة، ولله الحمد والمنة، الموضوع ليس مسودة، ولكن هو مقترح إعادة هيكلة الثقافة، علي وزن إعادة هيكلة ديون أو شركات أو مصارف، يتحدث عن هيكلة بنية تحتية للثقافة أو قطعتها من جسم الدولة بمعني قطاع الثقافة والإعلام ... لو كنت سودانيا لقلت شنو يا زول؟
من الذي أصدره؟.. وزارة الإعلام والثقافة الليبية، التي هي مثل بقية الوزارات تتنفس هذه الأيام بوتيرة الوقت الضائع أو اللهاث من أجل البقاء وإثبات الجدوي، ومن ثم دوام النعم.
قبل الولوج في الورقات الثلاث أحب أن أذكركم ومن يهمه الأمر ببعض البديهيات:
الإعلام، لم يعد موضوع وزارة في العالم الذي نسعي للوصول إليه، وزارات الإعلام العربية أضرت ببلدانها أكثر مما نفعتها. الحكومة أو أي وزارة أو مؤسسة عامة (بما فيها أجهزة الأمن) تستطيع أن تقول ما تشاء، عن طريق تصريح رسمي، يصدر عن ناطق باسمها من مكتب إعلامي خاص بها. ووكالات الأنباء وقنوات التلفزيون العربية والعالمية (التي أصبحت تتكلم عربي هي الأخري في معظمها) سوف تتلقف الدرر الثمينة التي سيصرح بها، وتنقلها علي الهواء، وتسوّد بها الفاكسات والإيميلات وأوراق الصحف والمجلات... لماذا إذن يلزمنا وزارة بحجم الديناصور أصلا؟
وكالات الأنباء الرسمية هي الأخري غير ذات جدوي، أي مجموعة من القطاع الخاص تستطيع أن تنشئ وكالة أنباء، دون أي تكلفة علي الدولة، ونحن بفضل من الله (وكذلك ممن قام بتسهيل أمر الانترنت، لنا في ليبيا، في صورة تظل أفضل من غيرها من بلاد العربان) لدينا مواقع في الداخل والخارج تقوم بالمهمة بكل إبداع، وبدون تكاليف علي المواطن الذي صار يعرف ما يجري في بلاده، بل وحتي في الحي المجاور عن طريق لندن وبلاد الأمريكان.
كل الإعلام الذي نريده من الحكومة هو الجريدة الرسمية التي تنشر فيها قراراتها وقوانينها فقط لا غير.
أما عن الثقافة والإبداع، فأولا وآخرا لكي تكون ثقافة (لا عملية غسيل دماغ أو طمس أو تعتيم) فيجب أن تكون في مناخ حرية كامل، يتاح فيه النشر لمن يشاء، فالأموال والمؤسسات والأصرح لا تصنع ثقافة ولا مثقفين، ولا تنتج إبداعاً يستحق النعت.
الثقافة بكل بساطة هي تفاعل ما بين المبدع والمتلقي، وهي تعبير يصرخ عاليا بأنه رأي ورؤية، يعبر عنه بتميز واتقان، قد يكون شعرا أو رواية أو لوحة أو مسرحية أو كتابا او بحثا أو فيلما أو صورا فوتوغرافية أو سيناريو أو تماثيل أو غناء أو موسيقي أو مقالة أو نقدا.. الخ. ويختلف تعبير المبدع عن تعبير رجل الشارع بأنه أكثر إحكاما ووقعا، حيث تتجسد فيه روح الفن التي هي بدورها ليست سوي نفس مرهفة شديدة الحس.
الثقافة والإبداع نبع من قريحة المبدع، بوحي اللحظة، ولا تستدعي في كل آن. والمبدع يستمتع بما ينتج، لأنه حول ما يهيج في خاطره إلي منتج مغر وجذاب، قابل للاستهلاك من قبل المتلقي. المتلقي يتفاعل مع المنتج وبه يستمتع. والمبدع الآخر، أو مشروع المبدع، يتفاعل هو الآخر، والكل يتآلف ويتفاعل، والناتج ثقافة ووعي وأصالة متواصلة، والتفاعل يثير في نفس المتلقي الذي لديه مثل هذه النفس، ولا يدري عنها شيئا، فيحثه التعاطي مع إبداع غيره لتجربة الإبداع بذاته، وقد يكون له شأن، وبمقدار ما يوجد من فرص للتفاعل الحر بمقدار ما تتقدم الثقافة والإبداع في بلد ما، وبمقدار ما تتقدم الثقافة والإبداع بمقدار ما تتقدم الأمة.
لا أعلم مفهوما آخر للثقافة غير هذا...
ثقافة حكومية؟
وزارة أو مؤسسة أو إدارة للثقافة لا تنتج ثقافة ولا إبداعاً، فمن ساعة تأسيسها تتحول إلي كتلة ديناصورية تلتهم الأموال، وتبدد القدرات، وفي معظم الأحوال تتحول إلي شرطة ثقافية تحاول الولوج داخل عقول المبدعين، فتسدّ منافذها، وتقتل ما قد يكون علي وشك الولادة في أرحامها، ولا يعود يخرج حينئذ سوي العبث والهزال.
فرنسا بلد النور ـ كما يقولون ـ لم تنشأ بها ثقافة إلا بهذا المفهوم، فحتي عندما عين الرئيس الفرنسي، ربيب الاشتراكية والقطاع العام السابق (فرانسوا ميتيران)، المفكر والمناضل اليساري (جاك لانغ) علي رأس وزارة للثقافة .. لم ينتج عن ذلك شيء علي الإطلاق، اللهم إلا معاناة جاك لانغ نفسه من السخرية به، لقبوله المنصب المفتعل. والمعني أنه لا يمكن فرض ثقافة بلون معين من عل، فالحكم في نهاية المطاف، سواء علي إبداع المبدعين في جو الحرية، أو إبداع مثقفي الحكومة عن طريق السيطرة عن بعد (الريموت كونترول)، كان وسيظل حكم السوق، والسوق هنا هو مجموع المتلقين، بل حتي النقاد لا دور لهم في نجاح مبدع أو فشله، خصوصا بعد مرور سنين.
ونرجع لمقترح وزارة الثقافة والإعلام لدينا، فنصطدم، عند التمعن فيه، بصورة قيد الإنتاج مستنسخة عن وضعها هي الآن، وما سبقها من وزارات عقيمة، تعلن بأن قطاع الثقافة أو وزارة الثقافة والإعلام سابقا، سيتولي نيابة عن الدولة، أي عن الشعب، أنشطة معينة وصفتها بالسيادية بسبب خصوصيتها ولكونها غير اقتصادية وهي:
السيطرة من خلال مؤسسة للإعلام تختلق للغرض، علي وكالة الأنباء، والإذاعات المرئية والمسموعة بأنواعها.... ماذا تغير؟
ثم الصحافة الرسمية للدولة التي تطبع كل يوم أطنانا وأطنانا من الورق قلما تجد من يقرؤها تستمر كما هي.
ثم الإعلان بدون حرج بأن قطاع الثقافة يعتبر سياديا، وأنا لا أفهم: سيادة علي من؟ علي عقول المبدعين؟ ثم يبرر ذلك بأنه سيكون الأداة التي يناط بها تنفيذ التوجهات العامة للمجتمع! (اختزال المجتمع؟) في مجال الثقافة، وهنا لا يتحرج إطلاقا في أن يقول بأنه، أي القطاع، سيكون أيضا الحاضنة (حرفيا كما وردت) لمختلف المبدعين، لا أعلم إذا كان المقصود تفقيسهم في الحضّانات، مثل مزارع دجاج الكنتاكي! ويسترسل صاحبنا المقترح في شرح دور اقتراح القوانين واللوائح وإصدار القرارات.. في كل ما يتعلق بالثقافة ومنها تحرير المنشورات التي تنظم! نشاط القطاع الخاص في قطاع الثقافة (وأين الخصخصة؟)، ويوالي بذكر أحقيته في تعزيز العلاقات الثقافية مع الدول الشقيقة وغير الشقيقة (وماذا تعمل وزارة الخارجية؟)... ويطول السرد، فالحق يقال إن رجال الوزارة لم يقصروا في جهدهم الشمولي نحو تحقيق الهيمنة الكاملة علي سريب الثقافة والإبداع والبحث والبحوث، ووضع المعايير لتقييم المنتج وتخريط البلاد وإدارة المناشط الجماهيرية ومنح الجوائز، ولكنه يؤكد علي اللحمة الوطنية؟!.. والإصرار علي حق الليبيين في التعويض عن أضرار الاستعمار الإيطالي! (كِده مرة واحدة!) واسترداد المسروق، ثم يحتكر ترسيخ الثقافة الإسلامية والعربية ورعاية الفكر والأدباء (بعد التفقيس طبعا).. باختصار شمولية المقترح السياسية قد يكون من شأنها دفع أصحاب المعلقات للخجل والانكفاء علي الذات والصمت!... وحتي لا أطيل عليكم، السيد المقترح يقول بأن مجلس قطاع الثقافة المزمع إنشاؤه سيمد شباكه علي مجمع اللغة العربية ومركز دراسات جهاد الليبيين والمركز الوطني للمخطوطات ومركز المأثورات الشعبية ومركز أبحاث الموسيقي العربية ودار الكتب الوطنية ومكتبة القذافي العالمية وجائزة القذافي للآداب والفرقة الوطنية للموسيقي والغناء، وكذلك الفنون الشعبية، ثم الهيئة العامة للسينما والمسرح.. يعني الحمد لله قطاع الثقافة ومجلسه سيكونان (بتاع كله في كله).. نسيت أنه أيضا سيتولي العمل علي استرداد ما سرق من آثار والحفاظ علي ما تبقي (آه يا راسي!)...
أين الثقافة في بلادنا في ظل هذه الوزارة وما سبقها؟
إلي فترة قريبة لم يكن لدينا سوي أربع صحف يومية حكومية، تكرر نفسها بتغيير الخط وترتيب المواد، ولا تقرأ فيها إلا ما تريد الحكومة لك أن تقرأ.. ومن يهمه الأمر فعليه بإذاعات اللاسلكي من لندن، أو نشرة أخبار (من فم لأذن المحلية) والتي سدّت فراغا هائلا، أما التلفزيون الرسمي فلم يخبره أحد إلي الآن بأن هنالك شيئاً في البلاد اسمه الفضائيات والانترنت، ولكن الإخوان يفترضون بأن الشعب الليبي منصاع لهم ولا يسمع ويشاهد غيرهم... وبالتالي لا حاجة له للكلام!
المبدعون، فيما عدا قلة قليلة، لم يخرجوا للساحة. ومن اشتهر بإبداع من الليبيين حدث له ذلك في خارج البلاد وأحيانا بلغات أخري... أما مبدعو الإعلام والثقافة الرسمية فهم خير مثال علي نجاعة حل تفقيس البيض في حضانات، فيخرج المنتج متشابها متطابقا إلا من اختلاف وضعية ريشة هنا أو هناك.. وإن كان علي الاعتراف بأنه حتي في هذه الظروف خرج مبدعون رائعون، ولكن ذلك لم يكن إلا بفضل من الله ومنته وليس من أفضال الوزارة.
المسرح، درة الإبداع في ليبيا عن حق، لم تقم به الدولة، بل مجموعات من الشباب المبدع في بنغازي ودرنه وطرابلس ومصراته، رغم كل العوائق والصعوبات، بل وحتي تحقيقات أجهزة الأمن التي، حسب ما يقال، كانت تريد أن تعرف ما هو المقصود من جملة كذا أو كذا! - الدولة شيدت قرابة العشرين مسرحا حديثا (شركة سويدية)، ولكن أين؟ ليس في مراكز التجمعات الحضرية الكبري، حيث بيئة المسرح، ولكن في بقاع شبه نائية لا يوجد بها سوي بضع مئات من السكان، انتهي الأمر ببعضها لاستعماله كمخازن أعلاف حيوانات. النشاط الحقيقي المصحوب بالهمة والحماسة كان في مراقبة المطبوعات، حيث كانت تمنع كتب الإمام أبي حامد الغزالي، هل تعرفون لماذا؟... بسيطة، الرقيب كان يعتقد بأنه ينتمي بصلة القرابة للراحل الشيخ محمد الغزالي!
إلي أين ستذهب بنا وزاراتنا الثقافية؟... أخشي أننا سنرجع لبداية الخمسينات من القرن الماضي، حيث كتب ضابط التحقيق في إدبارته اليومية يستدعي الرفيق الأعلي للتحقيق ... كان ذلك بعدما ما قيل له بأن المطلوب القبض عليه قد التحق بالرفيق الأعلي! باختصار لا نريد! لا نريد وزارة ثقافة، لا نريد وكالة أنباء رسمية، لا نريد إذاعة حكومية، أو تلفزيونا رسميا، لا نريد رقابة (الرقابة الذاتية تكفي ومن يخرج عنها يسقط بذاته)، لا نريد إعلاماً علي نمط (غوبلز) أو إذاعة (راديو فانتي أيام موسيلليني)، ولا نريد إذاعة تيرانا من ألبانيا أيام زمان، ولا نريد كي. جي. بي. الثقافة السوفييتية ولا نريد عبثيات (كافكا) الألمانية المعاد إنتاجها ليبيا، ولا نريد (أحمد سعيد) صوت العرب، ولا نريد إذاعة (سوا) وما علي منوالها من فضائيات العرب اليوم... لا نريد مراكز ثقافية في سفاراتنا، لا تفعل شيئا سوي إهدار المال العام، ولا تحاول تقليد مثيلاتها في سفارات العالم الآخر..
ارفعوا أيديكم!
نريد من الدولة أن ترفع يديها عن الإبداع والرقابة والإقصاء والتصنيف.. لا نريد وزارة جديدة، تلقي شباكها علي المؤسسات البحثية الكبري المذكورة أعلاه، ولا نريدها أن تتدخل في تراث الوطن، فلقد تعثرت أيما تعثر فيه، ويكفي للدلالة علي ذلك أن صار علماء الآثار عندنا ومن يفقهون في قيمتها يتمنون بأن تبقي الآثار حيث هي تحت الأرض، لأننا لم نعد نعرف ما هي ولا قيمتها (إلي من يرجع الفضل يا تري في ذلك؟) لقد شاهدت بأم عيني البقر والماعز ترعي في آثار الإغريق بمدينة شحات (قورينا)!
ولعلمكم معبد (زيوس) هناك يتفوق حجما وجمالا علي معبد أبوللو في أثينا.... آثارنا تسرق وتنهب بتسهيل من بعض المناط بهم الأمر، بل إن بعض كبار موظفي الدولة لا يتحرجون في الاستيلاء علي بعضها...
دعم من المجتمع فقط
وفي الختام، لا بد مــــن الإشــــارة إلي أن نجاح الصحافة والمسرح والفنون والآداب يعتمد علي استــــهلاك المتلقي، أي المواطن الليبي، وهذا المواطن في معظــــم الأحوال ضعيف الحال وفقير ولا يملك تحمل تكاليف ما قد يود اقتــناءه، ومن هــــنا أطالب بحق المواطن في أن تتولي الـــدولة دعم الثقافـــــة الحرة بجميع تجلياتها، ولن يكون ذلك منـّـا أو إكرامية، فالمـــــال مال هذا المواطــــن، سواء من الضرائب أو من النفـــــط، وعلي السلطة التشريعية أس سلطة الشعب أن ترصد الميزانيات، ولكن علـــــيها ألا توكل الأمر إلي موظفي ثقافة من خزانة الـــبيروقراطية، بل عن طريـــــق جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، بعد إثبات جدارتها، والسبب في ذلك أن مفهوم الجمعيات المدنية يقوم علي العمل بالمجان، من قبل مثقفين ذوي جدارة يحبون أن يبذلوا بدون طموح في مزايا شخصية أو سلطان. وتستطيع الدولة، وفي هذه الحالة الشعب، أن تدعم الصحافة عن طريق نشر إعلانات العطاءات فيها، وأن تشجع النشر عن طريق شراء أعداد معينة من كل ما يطبع، لوضعه في المكتبات العامة من النوعية المفقودة لدينا، وأيضا الاشتراكات في الصحف والمجلات لتوزيعها علي المدارس والجامعات والمعاهد. رقي المنتج، أيا كان، سيتحدد عن طريق التنافس في الإبداع والاتقان وقبول المستهلك بالمنتج ولا شيء غير ذلك. إذا كنا نريد إحراز القدرة علي التنمية والتقدم والتطور، فلا بد ولا مفر من شعب يتفاعل مع الثقافة الحرة، حيث سيعرف الإبداع وكيف السبيل إليه.. أختتم بالتذكيــــــر، بأن الأمل، علي الرغــــــم من كل ما سلف، صار يحدونا، حيث أصبـــــحنا نقول الرأي والرأييــــن، ولا قصد في ما ورد أعلاه سوي نــــــقد الــظاهرة التي نعاني منها في هذا الوطن، ويعاني منها كافة بني يعرب في كافة مضاربهم... والكلمة الأخيرة: لا أمل في ثقافة وتقدم إلا عن طريق منظمات المجتمع المدني، التي يجب أن تكون المتلقي الوحيد للدعم من أموال الشعب...