بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام وثقافة السلام
بقلم: السيد حسين بركة.. رئيس منتدى الأمة
الحمد لله؛ السلام المؤمن المهيمن.. والصلاة والسلام على رسول الإنسانية، رسول السلام المبعوث رحمةً للعالمين وبعد..
* الحياة فرصة عظيمة ومقدسة لا تُمنح للإنسان مرتين, وهي قصيرة في كل الأحوال, وهي ،أي الحياة، العمر- الزمن- الوقت.. أعظم وأثمن رأسمال لمن يريد أن يصنع انجازاً, أو يحقق طموحاُ. بشكل أوضح العمر ،أو الوقت، هو الإنسان نفسه, لذلك قال الحسن البصري رحمه الله [يا ابن آدم أنت أيام مجتمعة إذا ضاع يومٌ ضاع بعضُك].
* وهذا يعني أن رأسمال الحياة -كل الحياة- هو الإنسان, وبالتالي؛ الدول التي تتقدم وتزدهر هي الدول التي انتبهت لهذه الحقيقة, فبقدر ما يكون الانتباه إلى عظمة وقداسة حرية وقدرات وحرمات الإنسان بقدر ما تتفجر طاقاته وتكون إبداعاته في ترجمة قانون التسخير الإلهي. {ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض, وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرةً وباطنةً}(لقمان:20)
{وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه, إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون}(الجاثية:13)
* بوضوح تام؛ الله خلق الإنسان ونفخ فيه روحاً منه, وكرّمه على جميع المخلوقات, وجعله خليفة في الأرض, وأمر كل من ،وما، فيها أن يكون في خدمته، وجعل مهمته فيها هي التعمير {هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}(هود:61).
* أي طلب منكم عمارتها, وأعطاه دليلاً شاملاً للحياة, وقال له: أريد منك بهذا الدليل أن تعيش سعيداً {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}(طه:1-2).. يا طه؛ يا محمد.. أنزلنا عليك القرآن لتسعد!.
إذن؛ نحن أمام إنسان عظيم لا شيء أقدس منه في الوجود بعد الله, كل المخلوقات طوع بنانه إنْ هو اعتمد الدليل, وكل المطلوب منه أن يكتشف أقصر الطرق للإنجاز، وللإبداع, وللتعمير, وللخير والسعادة, كي يفوز في الاختبار من خلال صناعـة ما يشبـه الجنـة على الأرض؛ كي يكون جديراً بالجنـة الأخرويـة الأبديـة التـي هي فوق كـل ما يمكـن أن يخطـر على بال بشـر.
* هذا الإنسان؛ الذي هو عمادُ كل نهضة, وأساس أي انجاز؛ أول خطوة يريدها الله منه هي حريته واستقلاليته, وخير ضمان لذلك هو ألاَّ يصبح مادة للشراكة, أو يصبح وسيلة للربح؛ لأنه يجب أن يبقى غاية كل دين, وكل ثورة, وكل مسعى مهما كانت طبيعته أو غايته, وهذا ما جاءت الآية العظيمة لتُثبِّتَه.
{ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون, ورجلاً سَلًماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً, الحمد لله, بل أكثرهم لا يعلمون}(الزمر:29)
* إذن النموذج الذي تُبنى منه وعليه المجتمعات المدنية المتحضرة هو النموذج الحرّ الذي لا تتنازعه المرجعيات, ولا يخضع إلاّ للقانون الذي يضمن له حريته, ويجعله أسمى من أن يكون سلعة للشركاء, وحسب الدين؛ فإن القانون الوحيد الذي يضمن أن يبقى الإنسان حراً عزيزاً سيداً كريماً هو القانون الذي يريد للإنسان ولا يريد منه, والوحيد الذي لا يحتاج أحداً ويحتاجه كل أحد هو الله. إذن؛ ميزانُ الله هو أرقى الموازين التي تضمن للإنسان الذهاب نحو الحرية والكرامة وسعادة الدارين شريطة أن يُفهم ميزان الله كما أراد الله له أن يُفهم, وهذا هو التحدي, وهذا هو جوهر البحث!.
فلنذهب إذاَ إلى الدليل ،القرآن – الميزان، لنرى ما عنده حول ثقافة السلام ومعاني السلام. ولكي نصل إلى السلم الأهلي ،السلم الاجتماعي, أو نحققه ،من وجهة نظر الدين, فلا بد بدايةً من تحديد نقطتين هامتين كضمانة حاسمة لذلك: نقطة الانطلاق, ونقطة الوصول. وبقدر ما نضمن وضوح هاتين النقطتين وحضورهما في الوعي والسلوك بقدر ما نضمن ما نريد من السِّلْم الأهلي – السلم الاجتماعي.
النقطـة الأولى: معرفـة الله في اليوم الأول (الحياة الدنيـا).
والنقطـة الأُخرى: الاعتقاد باليوم الآخـر؛ الذي تكتمل فيـه معرفتنـا بالله من خلال رؤيـة وجهـه الكريـم.
* فبقدر ما نحاول التعرّف على الله عبر آياتـه الدالّـة عليـه (مسطورة في الكتاب أو منظورة في الكون) بقدر ما نكون مؤهليـن لصناعـة الـعـيـش المبارك والحيـاة السعـيـدة.
* وبقدر ما نستحضـر اليوم الآخـر ،الذي هو أقرب للمرء من لمـح البصـر, بقدر مـا يكون لدينـا القدرة علـى التحمـل والصفــح والتجاوز, ودفع كل ثمـن في سبيـل نجاح فرصـة العيش الممنوحـة لـنـا؛ والتـي يكون النجاحُ فيهـا شرطـاً للفوز بالحيـاة الأُخرى الخالدة . لأنه سبحانه يقول: {من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً}(الإسراء:72)
إذا سلمنا بكل ما سبق؛ فتعالوا لنرى جمال السلم والسلام الذي يدعونا إليه ربُّ العالمين من خلال الدليل: القرآن:-
• أولاً:- السلام أحد أسماء الله الحسنى: {هو الله الذي لا إله إلاَّ هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر, سبحان الله عما يشركون}(الحشر:23).
وفي الأدعية المأثورة: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام).
والمسلم في كل صلاة ،فريضة أو نافلة، يردد: (السلام عليك أيها النبي, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) كما ورد في التشهد.
* إذن؛ لو كنّا جادين صادقين في عبادتنا لما سمحنا لأنفسنا أن نعيش هذا التناقض الصارخ ما بين الاعتقاد ،وهو السلام كمطلب اجتماعي، وما بين السلوك الذي يهدد السلام أو السلم الأهلي–السلم الاجتماعي.
• ثانياً :- أ) الله يطالبنا أن ننخرط في حركة مجتمعية سلمية بدون استثناء وذلك في قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين}(البقرة:208).
والجمال هنا؛ أن القرآن الكريم طابق ما بين "الإسلام" و"السلم" وكأنه يقول: "الابتعاد عن دروب الشيطان وإتباع درب الرحمن يؤدي إلى السلم حتماً" وهذه حقيقة يجب الاعتراف والاعتزاز بها.. خصوصاً أن هذه الآية جاءت تتويجاً لآيات تُسفه النموذج الذي يُعجبنا قوله, لكن سلوكه يفضح حقيقته ،حسب وصف القرآن الكريم, نذكر الآيات من: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام, وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد, وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ فحسبه جهنم ولبئس المِهاد, ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاتِ الله والله رؤوفٌ بالعباد, يأيها الذين آمنوا ادخُلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مُبين}(البقرة:204)
{وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}.. وليس أدل على ما يهدد السلم الأهلي من أن يهلك المرءُ الحرث؛ إشارة إلى الإنتاج القومي والنسل، أي المواطنين.
* ما أروع هذه المجموعة من النصوص التي بدأت بإدانة نموذج التخريب للحرث والنسل – الاقتصاد وحياة المواطنين {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا, وُيشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام...} وإذا تولى الآية– ثم جاءت بالنموذج الذي باع نفسه لله الرءوف بالعباد، وهو النموذج المطالب بالالتزام بصبغة السلم الأهلي {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد, يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}..
ب) الله يبين لنا بوضوح أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يعني السير في سبيل ودروب السلام {يا أهل الكتاب قد جاءكم رَسُولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تُخفونَ من الكتاب ويعفوْ عن كثير، قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام، ويُخرجُهم من الظلمات إلى النور بإذنه, ويهد يهم إلى صراطٍ مستقيم}(المائدة:15-16).
* إذن؛ الله-السلام يأمرنا أن ننخرط في حركة مجتمعية سلمية, ثم يأمرنا بالسير في سبل أو دروب السلام, ثم يختم هذه المطالبة بضرورة إيجاد مجتمع أو "دار السلام".. وهل أوضح من هذه الدعوة الرائعة؟! حيث يقول السلام سبحانه: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاءُ إلى صراط مستقيم}(يونس:25)
إذن؛ هي دعوة صريحة من السلام إلى من يؤمن بالسلام؛ أن يتبِعوا سُبل ودروب السلام؛ كي يصلوا إلى مجتمع ودار السلام.
ثالثاً:- من البديهي أن "السلام" هو عكس "الحرب" وأن رمز الحرب هو القتل والقتال, والقتل هو ثمرة رفع اليد, والله سبحانه ،منذ بدء الخليقة، وضّح أن يحتضن النموذج الذي يدعو إلى السلام ويبغض النموذج الذي يدعو إلى القتل, وذلك في قصة ابني آدم ،قابيل وهابيل، حيث يقول السلام سبحانه: {واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبلْ من الآخر, قال لأقتلنك..} -الحرب- // ماذا قال الآخر: {..قال إنما يتقبل الله من المتقين} إذن نحن أمام نموذج عينه على الدنيا جاهزٌ لرفع اليد وممارسة القتل, ونموذج يعرف الله وعينه على الآخرة, لكن همّه أن يُقبل هناك ولو خسر حياته. لذلك أكمل نموذج السلام حديثه {لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} والسبب؛ ليس الضعف أو عدم القدرة؛ بل السبب: {إني أخاف الله رب العالمين}.
ثم يخبرنا "السلام" كيف انتهت القصة, ودفع هابيل حياته ثمناً لأفكاره ومعتقداته السلمية {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله, فأصبح من الخاسرين}(المائدة:27-30).
* إذن؛ هذا هو النموذج المؤسس لمجتمع أو دار السلام , هابيل ،الذي ضحًّى بنفسه ليصبح رمزاً خالداً للسلام وللرحمة والمحبة, هابيل إذن؛ هو النموذج الذي يدعونا له السلام سبحانه, ويدعونا أيضاً رسولُ السلام محمد صلى الله عليه وسلم حينما يقول بوضوح (كُن خير ابني آدم) أي كن هابيل, ولا تكن قابيل!.
* إذن؛ أمرٌ صريح وواضح لكل من يًّدعي الالتزام بالقرآن والسُنة: كن النموذج الذي لا يعتمد: العنف - أو رفع اليد – أو القتل – أو حمل السلاح في حل الخلافات والنزاعات مهما كان الأمر, ومهما كانت الدوافع, ومهما كانت الغايات!.
• رابعاً:- السلام ،سبحانه، اعتبر في شرعه أنه من قتل نفساً –أياً كان إيمانها ومعتقداتها– فكأنما قتل الناس جميعاً، وفي المقابل من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً وذلك في قوله سبحانه: {أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً, ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}(المائدة:32) إذن الحرمة والقداسة هنا للنفس البشرية عموماً.
وفي آخِر بلاغ لرسول السلام محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ترك الوصية الخلاصة حيث قال: (أيها الناس؛ إسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخٌ للمسلم, وأن المسلمين إخوة, فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاًّ ما أعطاه عن طيب نفس منه, فلا تظلمنًّ أنفسكم, اللهم هل بلغت)؟!
ثم يختم سلام الله وصلاته عليه: (أيها الناس؛ إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا –وكررها– كحرمة شهركم هذا – كحرمة بلدكم هذا). والنصوص كثيرة؛ التي تدل على حرمة دم الإنسان, وحرمة أو قداسة حقوقه.
خامساً:- السلام يدعونا إلى السلام -وحتى لو وقعت الحرب والقتال– فهي مكروهة, وهي استثناء، وهي اضطرار: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم...} وحتى لو وقعت العداوة يجب ألاًّ نؤسس عليها وكأنها دائمة, وذلك في قوله سبحانه: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير, والله غفورٌ رحيم}.. {لا ينهاكـم الله عن الذين لم يقاتلوكـم في الدين ولم يخرجوكـم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهـم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة:7-8).
سادساً:- رسول الإنسانية, رسول السلام؛ الذي طالبه ربه أن يخاطب الناس ،كل الناس، بقوله سبحانه: {قل يا أيها الناس إني رسولُ الله إليكم جميعاً} هذا الرسول ،وصف الله نفسيته ومشاعره تجاه كل الناس ,وخصوصاً تجاه الكفار والمشركين, وصفاً غاية في الرقة وغاية في الإنسانية, حينما قال سبحانه وتعالى: {فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}(الكهف:6).
أي؛ يامحمد؛ هل تقتل نفسك أسفاً وحسرةً على هؤلاء الذين لم يعرفوا قيمة هذا الحديث الذي تدعوهم له؟ وفي آية أُخرى: {فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات, إن الله عليهم بما يصنعون}(فاطر:8)
فالله يعاتب محمداً صلى الله عليه وسلم: لماذا تكاد نفسك تخرج ،يا محمد، حسرة على العباد الذين لا يزالون معرضين عن الخير والسلام الذي تدعوهم له؟.
سابعاً:- السلام سبحانه حينما وصف مجتمع رسول السلام؛ جعل عنوانه "الرحمة" وتجري في عروق أبنائه "الذلة والتواضع" لبعضهم البعض، وذلك في قوله سبحانه: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(محمد:29).
وفي قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللهُ بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين}(المائدة:54).
إذن؛ التواضع ،إلى درجة الذلًّة، لأعضاء مجتمع السلام هي الصفة المحبوبة لأحباب الله, والرحمة هي عنوان هذا المجتمع. لذلك؛ كان وصف القدوة ،رسول الإنسانية والسلام، رائعاً في قوله سبحانه {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك, فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}(آل عمران:159).
هذه الرحمة، وهذه الرقة، وهذا التواضع، تجعل العفو والصفح والتجاوز والتسامح أمراً إلهياً واجب الاتباع, وسلوكاً نبوياً لمن يريد الاقتداء, والآيات كثيرة جدا؛ً التي تدعونا إلى فضيلة العفو؛ منها: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}(النور:22).
وقوله سبحانه: {وأن تعفوا أقرب للتقوى, ولا تنسوا الفضل بينكم}(البقرة:237).
وقوله سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}(آل عمران:143).
أما التوجيهات النبوية فهي كثيرة جداً؛ نكتفي منها بقوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يخطئ أحدكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة). وما أجمل هذا التوجيه الإلهي للمؤمنين بأن يغفروا لأعدائهم الذين لا يريدون وجه الله ولا لقاء الله وذلك في قوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماٌ بما كانوا يكسبون، من عمل صالحاً فلنفسه, ومن أساء فعلها, ثم إلى ربكم ترجعون}(الجاثية:14-15).
ثامناً وأخيراً:- السلام سبحانه يأمرنا باتباع الأحسن في كل شئ؛ قولاً وعملا، فأيهم أحسن يا تُرى: الحرب الأهلية أم السلم الأهلي؟ هل يُوجد عاقل يعتبر حرب الإخوة هي الأحسن؟!.
فالله يصف كتابه –الدليل– للسلم الأهلي قائلاً سبحانه وتعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}(الزمر:23)
ثم يطالبنا بإتباع "الأحسن" قائلاً: {واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم}(الزمر:55)
ثم أمرنا أيضاً بتقديم أحسن ما عندنا: {إدفع بالتي هي أحسن, فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليًّ حميم}(فصّلت:34).
وأمرنا كذلك بأن نتعمد قول الأحسن، وإلاَ فالشيطان جاهزٌ لأن يعمل عمله فينا: {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن, إن الشيطان ينزغ بينهم}(الإسراء:53).
ثم جعل سبحانه وتعالى البشرى لمن يتبع الأحسن في كل شئ , وذلك في قوله سبحانه: {لهمُ البشرى؛ فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}(الزمر:18).
الخلاصة
* السلم الأهلي في مجتمعاتنا –لا بل السلم العالمي- من وجهة نظر الدين يحتاج إلى إنسان عرف ربه فعرف نفسه, أو عرف نفسه فعرف ربه, ثم عرف الحياة، ثم عرف هدفه في هذه الحياة.
* لأن الدين أولاً يعرفنا بأن السلام هو اسم من أسماء الله؛ وهو يُطالبُنا أن نسير في دروب وسُبلْ السلام, لا بل يطالبنا بأن ننشئ مجتمع أو "دار السلام" وهذا يعني أن العلاقات التي يريدها الله هي العلاقات القائمة على المحبة والسلام, وليس العلاقات القائمة على الإكراه والعنف والقوة.
* لذلك قدس الله حياة الإنسان, وحرّم المساس بها بغير وجه حق وجعل الله "هابيل" المسالم هو النموذج المقبول عنده سبحانه مقابل "قابيل" القاتل, واعتبر الخُسرانْ مصير قابيل, والفوز والنجاة لهابيل.
* ومن ثم حرم الله الترويع أو التخويف للناس ولو بالمزاح، وأمر الدين أتباعه باعتماد الأحسن في كل شيء؛ من قول أو عمل, وبالتالي؛ الأحسن للإنسان والمجتمع هو إتباع الحوار والحجة والكلمة الطيبة كوسائل لحسم الخلافات بين أبناء المجتمع الإنساني فرادى أو جماعات, وبالتالي؛ يمكننا القول أن السلم الأهلي والحفاظ على أمن الناس هو في صُلب كافة التوجيهات والأوامر الإلهية المخاطب بها الإنسان, ولعل هذا مُتضح أيضاً وأخيراً من خلال مدح الله لذاته بوصفه: {..الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.
* وكأن الله سبحانه وتعالى يُقدم نفسه ويُعرف الناس على نفسه من خلال كونه الضامن للطعام والضامن للأمن, وهاتان هما دعامتا السلم الأهلي, ألا يكون المرء مُهدداً في قوته ولا مُهدداً في حياته.
* فهل الثقافة الدينية اليوم تُؤمن بهذا الطرح وبهذه الرؤية؟!.
الإسلام وثقافة السلام
بقلم: السيد حسين بركة.. رئيس منتدى الأمة
الحمد لله؛ السلام المؤمن المهيمن.. والصلاة والسلام على رسول الإنسانية، رسول السلام المبعوث رحمةً للعالمين وبعد..
* الحياة فرصة عظيمة ومقدسة لا تُمنح للإنسان مرتين, وهي قصيرة في كل الأحوال, وهي ،أي الحياة، العمر- الزمن- الوقت.. أعظم وأثمن رأسمال لمن يريد أن يصنع انجازاً, أو يحقق طموحاُ. بشكل أوضح العمر ،أو الوقت، هو الإنسان نفسه, لذلك قال الحسن البصري رحمه الله [يا ابن آدم أنت أيام مجتمعة إذا ضاع يومٌ ضاع بعضُك].
* وهذا يعني أن رأسمال الحياة -كل الحياة- هو الإنسان, وبالتالي؛ الدول التي تتقدم وتزدهر هي الدول التي انتبهت لهذه الحقيقة, فبقدر ما يكون الانتباه إلى عظمة وقداسة حرية وقدرات وحرمات الإنسان بقدر ما تتفجر طاقاته وتكون إبداعاته في ترجمة قانون التسخير الإلهي. {ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض, وأسبغ عليكم نعمهُ ظاهرةً وباطنةً}(لقمان:20)
{وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه, إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون}(الجاثية:13)
* بوضوح تام؛ الله خلق الإنسان ونفخ فيه روحاً منه, وكرّمه على جميع المخلوقات, وجعله خليفة في الأرض, وأمر كل من ،وما، فيها أن يكون في خدمته، وجعل مهمته فيها هي التعمير {هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}(هود:61).
* أي طلب منكم عمارتها, وأعطاه دليلاً شاملاً للحياة, وقال له: أريد منك بهذا الدليل أن تعيش سعيداً {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}(طه:1-2).. يا طه؛ يا محمد.. أنزلنا عليك القرآن لتسعد!.
إذن؛ نحن أمام إنسان عظيم لا شيء أقدس منه في الوجود بعد الله, كل المخلوقات طوع بنانه إنْ هو اعتمد الدليل, وكل المطلوب منه أن يكتشف أقصر الطرق للإنجاز، وللإبداع, وللتعمير, وللخير والسعادة, كي يفوز في الاختبار من خلال صناعـة ما يشبـه الجنـة على الأرض؛ كي يكون جديراً بالجنـة الأخرويـة الأبديـة التـي هي فوق كـل ما يمكـن أن يخطـر على بال بشـر.
* هذا الإنسان؛ الذي هو عمادُ كل نهضة, وأساس أي انجاز؛ أول خطوة يريدها الله منه هي حريته واستقلاليته, وخير ضمان لذلك هو ألاَّ يصبح مادة للشراكة, أو يصبح وسيلة للربح؛ لأنه يجب أن يبقى غاية كل دين, وكل ثورة, وكل مسعى مهما كانت طبيعته أو غايته, وهذا ما جاءت الآية العظيمة لتُثبِّتَه.
{ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون, ورجلاً سَلًماً لرجلٍ هل يستويان مثلاً, الحمد لله, بل أكثرهم لا يعلمون}(الزمر:29)
* إذن النموذج الذي تُبنى منه وعليه المجتمعات المدنية المتحضرة هو النموذج الحرّ الذي لا تتنازعه المرجعيات, ولا يخضع إلاّ للقانون الذي يضمن له حريته, ويجعله أسمى من أن يكون سلعة للشركاء, وحسب الدين؛ فإن القانون الوحيد الذي يضمن أن يبقى الإنسان حراً عزيزاً سيداً كريماً هو القانون الذي يريد للإنسان ولا يريد منه, والوحيد الذي لا يحتاج أحداً ويحتاجه كل أحد هو الله. إذن؛ ميزانُ الله هو أرقى الموازين التي تضمن للإنسان الذهاب نحو الحرية والكرامة وسعادة الدارين شريطة أن يُفهم ميزان الله كما أراد الله له أن يُفهم, وهذا هو التحدي, وهذا هو جوهر البحث!.
فلنذهب إذاَ إلى الدليل ،القرآن – الميزان، لنرى ما عنده حول ثقافة السلام ومعاني السلام. ولكي نصل إلى السلم الأهلي ،السلم الاجتماعي, أو نحققه ،من وجهة نظر الدين, فلا بد بدايةً من تحديد نقطتين هامتين كضمانة حاسمة لذلك: نقطة الانطلاق, ونقطة الوصول. وبقدر ما نضمن وضوح هاتين النقطتين وحضورهما في الوعي والسلوك بقدر ما نضمن ما نريد من السِّلْم الأهلي – السلم الاجتماعي.
النقطـة الأولى: معرفـة الله في اليوم الأول (الحياة الدنيـا).
والنقطـة الأُخرى: الاعتقاد باليوم الآخـر؛ الذي تكتمل فيـه معرفتنـا بالله من خلال رؤيـة وجهـه الكريـم.
* فبقدر ما نحاول التعرّف على الله عبر آياتـه الدالّـة عليـه (مسطورة في الكتاب أو منظورة في الكون) بقدر ما نكون مؤهليـن لصناعـة الـعـيـش المبارك والحيـاة السعـيـدة.
* وبقدر ما نستحضـر اليوم الآخـر ،الذي هو أقرب للمرء من لمـح البصـر, بقدر مـا يكون لدينـا القدرة علـى التحمـل والصفــح والتجاوز, ودفع كل ثمـن في سبيـل نجاح فرصـة العيش الممنوحـة لـنـا؛ والتـي يكون النجاحُ فيهـا شرطـاً للفوز بالحيـاة الأُخرى الخالدة . لأنه سبحانه يقول: {من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً}(الإسراء:72)
إذا سلمنا بكل ما سبق؛ فتعالوا لنرى جمال السلم والسلام الذي يدعونا إليه ربُّ العالمين من خلال الدليل: القرآن:-
• أولاً:- السلام أحد أسماء الله الحسنى: {هو الله الذي لا إله إلاَّ هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر, سبحان الله عما يشركون}(الحشر:23).
وفي الأدعية المأثورة: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام).
والمسلم في كل صلاة ،فريضة أو نافلة، يردد: (السلام عليك أيها النبي, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) كما ورد في التشهد.
* إذن؛ لو كنّا جادين صادقين في عبادتنا لما سمحنا لأنفسنا أن نعيش هذا التناقض الصارخ ما بين الاعتقاد ،وهو السلام كمطلب اجتماعي، وما بين السلوك الذي يهدد السلام أو السلم الأهلي–السلم الاجتماعي.
• ثانياً :- أ) الله يطالبنا أن ننخرط في حركة مجتمعية سلمية بدون استثناء وذلك في قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين}(البقرة:208).
والجمال هنا؛ أن القرآن الكريم طابق ما بين "الإسلام" و"السلم" وكأنه يقول: "الابتعاد عن دروب الشيطان وإتباع درب الرحمن يؤدي إلى السلم حتماً" وهذه حقيقة يجب الاعتراف والاعتزاز بها.. خصوصاً أن هذه الآية جاءت تتويجاً لآيات تُسفه النموذج الذي يُعجبنا قوله, لكن سلوكه يفضح حقيقته ،حسب وصف القرآن الكريم, نذكر الآيات من: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام, وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد, وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ فحسبه جهنم ولبئس المِهاد, ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاتِ الله والله رؤوفٌ بالعباد, يأيها الذين آمنوا ادخُلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مُبين}(البقرة:204)
{وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}.. وليس أدل على ما يهدد السلم الأهلي من أن يهلك المرءُ الحرث؛ إشارة إلى الإنتاج القومي والنسل، أي المواطنين.
* ما أروع هذه المجموعة من النصوص التي بدأت بإدانة نموذج التخريب للحرث والنسل – الاقتصاد وحياة المواطنين {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا, وُيشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام...} وإذا تولى الآية– ثم جاءت بالنموذج الذي باع نفسه لله الرءوف بالعباد، وهو النموذج المطالب بالالتزام بصبغة السلم الأهلي {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد, يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}..
ب) الله يبين لنا بوضوح أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يعني السير في سبيل ودروب السلام {يا أهل الكتاب قد جاءكم رَسُولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تُخفونَ من الكتاب ويعفوْ عن كثير، قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام، ويُخرجُهم من الظلمات إلى النور بإذنه, ويهد يهم إلى صراطٍ مستقيم}(المائدة:15-16).
* إذن؛ الله-السلام يأمرنا أن ننخرط في حركة مجتمعية سلمية, ثم يأمرنا بالسير في سبل أو دروب السلام, ثم يختم هذه المطالبة بضرورة إيجاد مجتمع أو "دار السلام".. وهل أوضح من هذه الدعوة الرائعة؟! حيث يقول السلام سبحانه: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاءُ إلى صراط مستقيم}(يونس:25)
إذن؛ هي دعوة صريحة من السلام إلى من يؤمن بالسلام؛ أن يتبِعوا سُبل ودروب السلام؛ كي يصلوا إلى مجتمع ودار السلام.
ثالثاً:- من البديهي أن "السلام" هو عكس "الحرب" وأن رمز الحرب هو القتل والقتال, والقتل هو ثمرة رفع اليد, والله سبحانه ،منذ بدء الخليقة، وضّح أن يحتضن النموذج الذي يدعو إلى السلام ويبغض النموذج الذي يدعو إلى القتل, وذلك في قصة ابني آدم ،قابيل وهابيل، حيث يقول السلام سبحانه: {واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبلْ من الآخر, قال لأقتلنك..} -الحرب- // ماذا قال الآخر: {..قال إنما يتقبل الله من المتقين} إذن نحن أمام نموذج عينه على الدنيا جاهزٌ لرفع اليد وممارسة القتل, ونموذج يعرف الله وعينه على الآخرة, لكن همّه أن يُقبل هناك ولو خسر حياته. لذلك أكمل نموذج السلام حديثه {لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} والسبب؛ ليس الضعف أو عدم القدرة؛ بل السبب: {إني أخاف الله رب العالمين}.
ثم يخبرنا "السلام" كيف انتهت القصة, ودفع هابيل حياته ثمناً لأفكاره ومعتقداته السلمية {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله, فأصبح من الخاسرين}(المائدة:27-30).
* إذن؛ هذا هو النموذج المؤسس لمجتمع أو دار السلام , هابيل ،الذي ضحًّى بنفسه ليصبح رمزاً خالداً للسلام وللرحمة والمحبة, هابيل إذن؛ هو النموذج الذي يدعونا له السلام سبحانه, ويدعونا أيضاً رسولُ السلام محمد صلى الله عليه وسلم حينما يقول بوضوح (كُن خير ابني آدم) أي كن هابيل, ولا تكن قابيل!.
* إذن؛ أمرٌ صريح وواضح لكل من يًّدعي الالتزام بالقرآن والسُنة: كن النموذج الذي لا يعتمد: العنف - أو رفع اليد – أو القتل – أو حمل السلاح في حل الخلافات والنزاعات مهما كان الأمر, ومهما كانت الدوافع, ومهما كانت الغايات!.
• رابعاً:- السلام ،سبحانه، اعتبر في شرعه أنه من قتل نفساً –أياً كان إيمانها ومعتقداتها– فكأنما قتل الناس جميعاً، وفي المقابل من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً وذلك في قوله سبحانه: {أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً, ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}(المائدة:32) إذن الحرمة والقداسة هنا للنفس البشرية عموماً.
وفي آخِر بلاغ لرسول السلام محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ترك الوصية الخلاصة حيث قال: (أيها الناس؛ إسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخٌ للمسلم, وأن المسلمين إخوة, فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاًّ ما أعطاه عن طيب نفس منه, فلا تظلمنًّ أنفسكم, اللهم هل بلغت)؟!
ثم يختم سلام الله وصلاته عليه: (أيها الناس؛ إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا –وكررها– كحرمة شهركم هذا – كحرمة بلدكم هذا). والنصوص كثيرة؛ التي تدل على حرمة دم الإنسان, وحرمة أو قداسة حقوقه.
خامساً:- السلام يدعونا إلى السلام -وحتى لو وقعت الحرب والقتال– فهي مكروهة, وهي استثناء، وهي اضطرار: {كُتب عليكم القتال وهو كره لكم...} وحتى لو وقعت العداوة يجب ألاًّ نؤسس عليها وكأنها دائمة, وذلك في قوله سبحانه: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير, والله غفورٌ رحيم}.. {لا ينهاكـم الله عن الذين لم يقاتلوكـم في الدين ولم يخرجوكـم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهـم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة:7-8).
سادساً:- رسول الإنسانية, رسول السلام؛ الذي طالبه ربه أن يخاطب الناس ،كل الناس، بقوله سبحانه: {قل يا أيها الناس إني رسولُ الله إليكم جميعاً} هذا الرسول ،وصف الله نفسيته ومشاعره تجاه كل الناس ,وخصوصاً تجاه الكفار والمشركين, وصفاً غاية في الرقة وغاية في الإنسانية, حينما قال سبحانه وتعالى: {فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}(الكهف:6).
أي؛ يامحمد؛ هل تقتل نفسك أسفاً وحسرةً على هؤلاء الذين لم يعرفوا قيمة هذا الحديث الذي تدعوهم له؟ وفي آية أُخرى: {فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات, إن الله عليهم بما يصنعون}(فاطر:8)
فالله يعاتب محمداً صلى الله عليه وسلم: لماذا تكاد نفسك تخرج ،يا محمد، حسرة على العباد الذين لا يزالون معرضين عن الخير والسلام الذي تدعوهم له؟.
سابعاً:- السلام سبحانه حينما وصف مجتمع رسول السلام؛ جعل عنوانه "الرحمة" وتجري في عروق أبنائه "الذلة والتواضع" لبعضهم البعض، وذلك في قوله سبحانه: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(محمد:29).
وفي قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللهُ بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين}(المائدة:54).
إذن؛ التواضع ،إلى درجة الذلًّة، لأعضاء مجتمع السلام هي الصفة المحبوبة لأحباب الله, والرحمة هي عنوان هذا المجتمع. لذلك؛ كان وصف القدوة ،رسول الإنسانية والسلام، رائعاً في قوله سبحانه {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك, فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}(آل عمران:159).
هذه الرحمة، وهذه الرقة، وهذا التواضع، تجعل العفو والصفح والتجاوز والتسامح أمراً إلهياً واجب الاتباع, وسلوكاً نبوياً لمن يريد الاقتداء, والآيات كثيرة جدا؛ً التي تدعونا إلى فضيلة العفو؛ منها: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}(النور:22).
وقوله سبحانه: {وأن تعفوا أقرب للتقوى, ولا تنسوا الفضل بينكم}(البقرة:237).
وقوله سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}(آل عمران:143).
أما التوجيهات النبوية فهي كثيرة جداً؛ نكتفي منها بقوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يخطئ أحدكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة). وما أجمل هذا التوجيه الإلهي للمؤمنين بأن يغفروا لأعدائهم الذين لا يريدون وجه الله ولا لقاء الله وذلك في قوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماٌ بما كانوا يكسبون، من عمل صالحاً فلنفسه, ومن أساء فعلها, ثم إلى ربكم ترجعون}(الجاثية:14-15).
ثامناً وأخيراً:- السلام سبحانه يأمرنا باتباع الأحسن في كل شئ؛ قولاً وعملا، فأيهم أحسن يا تُرى: الحرب الأهلية أم السلم الأهلي؟ هل يُوجد عاقل يعتبر حرب الإخوة هي الأحسن؟!.
فالله يصف كتابه –الدليل– للسلم الأهلي قائلاً سبحانه وتعالى: {الله نزّل أحسن الحديث}(الزمر:23)
ثم يطالبنا بإتباع "الأحسن" قائلاً: {واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم}(الزمر:55)
ثم أمرنا أيضاً بتقديم أحسن ما عندنا: {إدفع بالتي هي أحسن, فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليًّ حميم}(فصّلت:34).
وأمرنا كذلك بأن نتعمد قول الأحسن، وإلاَ فالشيطان جاهزٌ لأن يعمل عمله فينا: {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن, إن الشيطان ينزغ بينهم}(الإسراء:53).
ثم جعل سبحانه وتعالى البشرى لمن يتبع الأحسن في كل شئ , وذلك في قوله سبحانه: {لهمُ البشرى؛ فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}(الزمر:18).
الخلاصة
* السلم الأهلي في مجتمعاتنا –لا بل السلم العالمي- من وجهة نظر الدين يحتاج إلى إنسان عرف ربه فعرف نفسه, أو عرف نفسه فعرف ربه, ثم عرف الحياة، ثم عرف هدفه في هذه الحياة.
* لأن الدين أولاً يعرفنا بأن السلام هو اسم من أسماء الله؛ وهو يُطالبُنا أن نسير في دروب وسُبلْ السلام, لا بل يطالبنا بأن ننشئ مجتمع أو "دار السلام" وهذا يعني أن العلاقات التي يريدها الله هي العلاقات القائمة على المحبة والسلام, وليس العلاقات القائمة على الإكراه والعنف والقوة.
* لذلك قدس الله حياة الإنسان, وحرّم المساس بها بغير وجه حق وجعل الله "هابيل" المسالم هو النموذج المقبول عنده سبحانه مقابل "قابيل" القاتل, واعتبر الخُسرانْ مصير قابيل, والفوز والنجاة لهابيل.
* ومن ثم حرم الله الترويع أو التخويف للناس ولو بالمزاح، وأمر الدين أتباعه باعتماد الأحسن في كل شيء؛ من قول أو عمل, وبالتالي؛ الأحسن للإنسان والمجتمع هو إتباع الحوار والحجة والكلمة الطيبة كوسائل لحسم الخلافات بين أبناء المجتمع الإنساني فرادى أو جماعات, وبالتالي؛ يمكننا القول أن السلم الأهلي والحفاظ على أمن الناس هو في صُلب كافة التوجيهات والأوامر الإلهية المخاطب بها الإنسان, ولعل هذا مُتضح أيضاً وأخيراً من خلال مدح الله لذاته بوصفه: {..الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.
* وكأن الله سبحانه وتعالى يُقدم نفسه ويُعرف الناس على نفسه من خلال كونه الضامن للطعام والضامن للأمن, وهاتان هما دعامتا السلم الأهلي, ألا يكون المرء مُهدداً في قوته ولا مُهدداً في حياته.
* فهل الثقافة الدينية اليوم تُؤمن بهذا الطرح وبهذه الرؤية؟!.