
جدل "الأزمة السكانية" في مصر!
جواد البشيتي
في مصر جدل قديم ـ جديد في شأن ما يسمَّى "الأزمة السكانية" التي تعانيها، وسُبُل حلها، أو تخطيها، أو مكافحتها، أو حَدِّها. وهذا الجدل، كلَّما تقادم اشتدت الحاجة إلى الخوض فيه مُجدَّداً، وإلى تجديد محتواه من الخلاف والمختلفين.
لقد تجدَّد عندما أطلق الرئيس حسني مبارك، في خلال المؤتمر القومي الثاني للسكان، حملة لمواجهة "الأزمة السكانية" من خلال "تنظيم النسل"، معتبراً هذا "التنظيم" الحل الأفضل لما تعانيه مصر من أزمات اقتصادية، وكأنَّ "التكاثر" هو "الجذور" لتلك الأزمات.
وسرعان ما اختلط الدين، كما حدث مراراً من قبل، في هذا الجدل، الذي يَفْقِد كثيراً من جديته، وأهميته الفكرية والعملية، مع كل تخطٍّ لحدوده الطبيعية، التي هي من طبيعة دنيوية، اقتصادية وسياسية في المقام الأوَّل.
بدأ هذا الخلط الضار وزير الأوقاف حمدي زقزوق إذ أورد أحاديث نبوية في سعيه إلى إلباس مسألة "تحديد (أو تنظيم) النسل" لبوس "الشرعية الدينية"، فما كان من عضو اللجنة الدينية في البرلمان النائب علي لبن إلاَّ أن أورد أحاديث نبوية ضدَّ هذا "التحديد"، أو "التنظيم"، ليس من بينها "تناكحوا تكاثروا"، لكونه "حديثاً ضعيفاً"، على ما قيل.
هذا الجدل، على أهمية ما أنتج وطوَّر من أفكار، لم يتخطَّ بَعْد، في كثير من أجوبته، حدود "سؤاله الفاسِد"، الذي من نمط سؤال "هل المطر مفيد أم ضار؟". إنَّ "سؤال المطر" هذا "سؤال فاسِد"؛ ولكنَّ فساده ليس متأتياً من ذاته، وإنَّما من فساد أجوبته، فكل جواب مُطْلَق، غير نسبي، هو فاسِد، مُفْسِد للسؤال ذاته، فالمطر الضار لي الآن (مع المعنى المكاني لـ "الآن") قد يكون مفيداً لكَ الآن، وفي مكانك.
و"التناسل (أو التكاثر) البشري" يمكن ويجب أن يُفْهَم ويُقوَّم في ظروفه التاريخية والاقتصادية..، فهو قد يكون خيراً عميماً، كما قد يكون شرَّاً مستطيراً.
على أنَّ الأمر الذي لا يقل أهمية، إن لم يَزِدْ، هو ألاَّ يَضْرِب المتجادلون صفحاً عن حقيقة أنَّ للسكان قانوناً اقتصادياً ـ اجتماعياً موضوعياً، فـ "فائض السكان" في مصر لا يمكن فهمه وتفسيره إلاَّ على أنَّه "فائض نسبي"، فهو ليس بـ "فائضٍ" إلاَّ نسبةً إلى "نظامها الاقتصادي والاجتماعي"، والذي على صورته ومثاله أُنْتِج، ويُعاد إنتاجها، "نظامها السياسي".
لماذا السكان، أي التكاثر السكاني، "أزمة"، و"أزمة خانقة"، في مصر، وليسوا كذلك في الصين والهند، اللتين فيهما يتركَّز أكبر جزء، إن لم يكن الجزء الأكبر، من سكان العالم؟ إنَّ طرح هذا السؤال يكفي في حدِّ ذاته لإظهار وتأكيد "النسبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية" لظاهرة "الفائض السكاني".
في مصر، لا تُنْتَج "الثروة"، وتوزَّع، إلاَّ في طريقة تفضي حتماً إلى إظهار التزايد السكاني فيها على أنَّه "أزمة"، و"أزمة خانقة"؛ ولو تبدَّلت تلك الطريقة، أي لو عرفت منسوباً أعلى من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، لانتهى ما كان يُنْظَر إليه على أنَّه "أزمة"، ولتحوَّل "الفائض" من السكان إلى نقيضه؛ وقد تغدو مصر، على الرغم من استمرار التكاثر السكاني، في "أزمة نقص سكاني".
"النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي" في مصر ليس بالنظام الذي يسمح بترجيح كفَّة الإيجاب في التكاثر السكاني على كفَّة السلب، أو بتحويل أضراره إلى منافع، فإنتاجية هذا النظام ضئيلة متضائلة، فهو كمثل "آلة" لا تُنْتِج بسبب عيوبها الخَلْقية إلى القليل، مع أنَّ لديها من "المواد الأولية" ما يسمح بإنتاج الكثير؛ أمَّا توزيعه لِمَا يُنْتِج فيجعله كرأس برناردشو: غزارة (نسبية) في الإنتاج، وسوء في التوزيع.
ما معنى أن يعيش المصريون في حيِّز يعدل 6% فقط من مساحة مصر، وأن يَظْهَر التزايد السكاني، بالتالي، على شكل "أزمة"؟!
إنَّ ضغوطاً اقتصادية (معيشية) يولِّدها "النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي"، في مصر، كما يُولِّد الفسفور اللمعان، هي التي أكرهت المصريين على ترك كل غُرَف المنزل الواسع ليعيشوا في غرفة واحدة ضيِّقة.
"السكان" لا يخلقون أزمة للاقتصاد إلاَّ في مجتمع تأسَّس اقتصادياً واجتماعياً (وسياسياً) بما يجعل "الحبَّة" من نموِّه السكاني في حجم "قُبَّة"، فالتكاثر السكاني لا يؤثِّر سلباً في الاقتصاد إلاَّ إذا كان الاقتصاد ذاته، أي بطبيعته وخواصه، مُنْتِجاً لأزمات "الفائض السكاني". ليس الاقتصاد هو ضحية السكان؛ بل السكان هم ضحية الاقتصاد.
"الفائض السكاني" في مصر إنَّما هو فائض نسبي، أي نسبة إلى اقتصادها، أي نسبة إلى النظام الذي يقوم عليه اقتصادها؛ وهذا "الفائض"، الذي نراه في اتِّساع حجم "جيش العاطلين عن العمل"، وفي هبوط "الأجر الواقعي" إلى الدرك الأسفل من الفقر، وفي انتشار واستفحال الفقر والأمراض والأمية، وفي طرد الملايين من العقول والأيدي العاملة إلى الخارج، وفي حشر الغالبية العظمى من الناس في الجزء الأصغر من الأرض، هو ما يُوَلِّد ويُنمِّي تلك "المخاطر"، التي لدرئها عمَّن لهم مصلحة في الإبقاء على "سبب" هذا "الفائض السكاني" تُطْلَق حملات "تحديد (أو تنظيم) النسل"، فـ "تناكحوا تكاثروا" أصبح حديثاً "ضعيفاً"؛ لأنَّ مصلحة معيَّنة (فئوية ضيِّفة) قضت بجعله "ضعيفاً".
تلك المصلحة هي التي قضت أيضاً، أو في الوقت نفسه، بإظهار "التكاثر السكاني"، في مصر، على أنَّه السبب الذي يُفْسِد ثمار التنمية الاقتصادية (التي لا ريب فيها ولا في ثمارها!). أمَّا المصلحة المضادة، أي المصلحة العامة، فتقضي بفهم هذا "السبب" على أنَّه "نتيجة"، فـ "الطريقة الاجتماعية" لإنتاج وتوزيع الثروة هي التي تسبَّبت بظاهرة "الفائض السكاني"؛ ولسوف يظل ذوو المصلحة في بقاء هذه الطريقة أسرى أبديين للتناقض الآتي: إنَّ لهم مصلحة في الإبقاء على نظام اقتصادي ـ اجتماعي مُنْتِج دائماً لظاهرة "الفائض السكاني؛ ولهم، في الوقت نفسه، مصلحة مضادة.. مصلحة في مكافحة ومحاربة هذه الظاهرة. إنَّهم ما زالوا مصرِّين على أكل نصف التفاحة، وعلى الاحتفاظ بها كاملة في الوقت نفسه!
جواد البشيتي
في مصر جدل قديم ـ جديد في شأن ما يسمَّى "الأزمة السكانية" التي تعانيها، وسُبُل حلها، أو تخطيها، أو مكافحتها، أو حَدِّها. وهذا الجدل، كلَّما تقادم اشتدت الحاجة إلى الخوض فيه مُجدَّداً، وإلى تجديد محتواه من الخلاف والمختلفين.
لقد تجدَّد عندما أطلق الرئيس حسني مبارك، في خلال المؤتمر القومي الثاني للسكان، حملة لمواجهة "الأزمة السكانية" من خلال "تنظيم النسل"، معتبراً هذا "التنظيم" الحل الأفضل لما تعانيه مصر من أزمات اقتصادية، وكأنَّ "التكاثر" هو "الجذور" لتلك الأزمات.
وسرعان ما اختلط الدين، كما حدث مراراً من قبل، في هذا الجدل، الذي يَفْقِد كثيراً من جديته، وأهميته الفكرية والعملية، مع كل تخطٍّ لحدوده الطبيعية، التي هي من طبيعة دنيوية، اقتصادية وسياسية في المقام الأوَّل.
بدأ هذا الخلط الضار وزير الأوقاف حمدي زقزوق إذ أورد أحاديث نبوية في سعيه إلى إلباس مسألة "تحديد (أو تنظيم) النسل" لبوس "الشرعية الدينية"، فما كان من عضو اللجنة الدينية في البرلمان النائب علي لبن إلاَّ أن أورد أحاديث نبوية ضدَّ هذا "التحديد"، أو "التنظيم"، ليس من بينها "تناكحوا تكاثروا"، لكونه "حديثاً ضعيفاً"، على ما قيل.
هذا الجدل، على أهمية ما أنتج وطوَّر من أفكار، لم يتخطَّ بَعْد، في كثير من أجوبته، حدود "سؤاله الفاسِد"، الذي من نمط سؤال "هل المطر مفيد أم ضار؟". إنَّ "سؤال المطر" هذا "سؤال فاسِد"؛ ولكنَّ فساده ليس متأتياً من ذاته، وإنَّما من فساد أجوبته، فكل جواب مُطْلَق، غير نسبي، هو فاسِد، مُفْسِد للسؤال ذاته، فالمطر الضار لي الآن (مع المعنى المكاني لـ "الآن") قد يكون مفيداً لكَ الآن، وفي مكانك.
و"التناسل (أو التكاثر) البشري" يمكن ويجب أن يُفْهَم ويُقوَّم في ظروفه التاريخية والاقتصادية..، فهو قد يكون خيراً عميماً، كما قد يكون شرَّاً مستطيراً.
على أنَّ الأمر الذي لا يقل أهمية، إن لم يَزِدْ، هو ألاَّ يَضْرِب المتجادلون صفحاً عن حقيقة أنَّ للسكان قانوناً اقتصادياً ـ اجتماعياً موضوعياً، فـ "فائض السكان" في مصر لا يمكن فهمه وتفسيره إلاَّ على أنَّه "فائض نسبي"، فهو ليس بـ "فائضٍ" إلاَّ نسبةً إلى "نظامها الاقتصادي والاجتماعي"، والذي على صورته ومثاله أُنْتِج، ويُعاد إنتاجها، "نظامها السياسي".
لماذا السكان، أي التكاثر السكاني، "أزمة"، و"أزمة خانقة"، في مصر، وليسوا كذلك في الصين والهند، اللتين فيهما يتركَّز أكبر جزء، إن لم يكن الجزء الأكبر، من سكان العالم؟ إنَّ طرح هذا السؤال يكفي في حدِّ ذاته لإظهار وتأكيد "النسبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية" لظاهرة "الفائض السكاني".
في مصر، لا تُنْتَج "الثروة"، وتوزَّع، إلاَّ في طريقة تفضي حتماً إلى إظهار التزايد السكاني فيها على أنَّه "أزمة"، و"أزمة خانقة"؛ ولو تبدَّلت تلك الطريقة، أي لو عرفت منسوباً أعلى من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، لانتهى ما كان يُنْظَر إليه على أنَّه "أزمة"، ولتحوَّل "الفائض" من السكان إلى نقيضه؛ وقد تغدو مصر، على الرغم من استمرار التكاثر السكاني، في "أزمة نقص سكاني".
"النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي" في مصر ليس بالنظام الذي يسمح بترجيح كفَّة الإيجاب في التكاثر السكاني على كفَّة السلب، أو بتحويل أضراره إلى منافع، فإنتاجية هذا النظام ضئيلة متضائلة، فهو كمثل "آلة" لا تُنْتِج بسبب عيوبها الخَلْقية إلى القليل، مع أنَّ لديها من "المواد الأولية" ما يسمح بإنتاج الكثير؛ أمَّا توزيعه لِمَا يُنْتِج فيجعله كرأس برناردشو: غزارة (نسبية) في الإنتاج، وسوء في التوزيع.
ما معنى أن يعيش المصريون في حيِّز يعدل 6% فقط من مساحة مصر، وأن يَظْهَر التزايد السكاني، بالتالي، على شكل "أزمة"؟!
إنَّ ضغوطاً اقتصادية (معيشية) يولِّدها "النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي"، في مصر، كما يُولِّد الفسفور اللمعان، هي التي أكرهت المصريين على ترك كل غُرَف المنزل الواسع ليعيشوا في غرفة واحدة ضيِّقة.
"السكان" لا يخلقون أزمة للاقتصاد إلاَّ في مجتمع تأسَّس اقتصادياً واجتماعياً (وسياسياً) بما يجعل "الحبَّة" من نموِّه السكاني في حجم "قُبَّة"، فالتكاثر السكاني لا يؤثِّر سلباً في الاقتصاد إلاَّ إذا كان الاقتصاد ذاته، أي بطبيعته وخواصه، مُنْتِجاً لأزمات "الفائض السكاني". ليس الاقتصاد هو ضحية السكان؛ بل السكان هم ضحية الاقتصاد.
"الفائض السكاني" في مصر إنَّما هو فائض نسبي، أي نسبة إلى اقتصادها، أي نسبة إلى النظام الذي يقوم عليه اقتصادها؛ وهذا "الفائض"، الذي نراه في اتِّساع حجم "جيش العاطلين عن العمل"، وفي هبوط "الأجر الواقعي" إلى الدرك الأسفل من الفقر، وفي انتشار واستفحال الفقر والأمراض والأمية، وفي طرد الملايين من العقول والأيدي العاملة إلى الخارج، وفي حشر الغالبية العظمى من الناس في الجزء الأصغر من الأرض، هو ما يُوَلِّد ويُنمِّي تلك "المخاطر"، التي لدرئها عمَّن لهم مصلحة في الإبقاء على "سبب" هذا "الفائض السكاني" تُطْلَق حملات "تحديد (أو تنظيم) النسل"، فـ "تناكحوا تكاثروا" أصبح حديثاً "ضعيفاً"؛ لأنَّ مصلحة معيَّنة (فئوية ضيِّفة) قضت بجعله "ضعيفاً".
تلك المصلحة هي التي قضت أيضاً، أو في الوقت نفسه، بإظهار "التكاثر السكاني"، في مصر، على أنَّه السبب الذي يُفْسِد ثمار التنمية الاقتصادية (التي لا ريب فيها ولا في ثمارها!). أمَّا المصلحة المضادة، أي المصلحة العامة، فتقضي بفهم هذا "السبب" على أنَّه "نتيجة"، فـ "الطريقة الاجتماعية" لإنتاج وتوزيع الثروة هي التي تسبَّبت بظاهرة "الفائض السكاني"؛ ولسوف يظل ذوو المصلحة في بقاء هذه الطريقة أسرى أبديين للتناقض الآتي: إنَّ لهم مصلحة في الإبقاء على نظام اقتصادي ـ اجتماعي مُنْتِج دائماً لظاهرة "الفائض السكاني؛ ولهم، في الوقت نفسه، مصلحة مضادة.. مصلحة في مكافحة ومحاربة هذه الظاهرة. إنَّهم ما زالوا مصرِّين على أكل نصف التفاحة، وعلى الاحتفاظ بها كاملة في الوقت نفسه!