
بسم الله الرحمن الرحيم
وداعاً أخي اللواء عبود... والى جنات الخلد
بقلم : منذر ارشيد
العاصفة أطلقت رصاصتها الأولى "عام 65 " ولكننا وبعد أن التحقنا فيها وكنا فتيان يافعين لم نكن نعرف أن هذا الفلاح الذي كان يتردد على أقاربي في جنين وقد أحضر لأحدهم حصانا غريباً في الشكل والهيئة كأكبر حصانٍ رأيته في حياتي وقد غنمه من مزارع الصهاينة "
لم أكن أتخيل أنه سيكون أخي وزميلي ورفيقي في دورة عسكرية في القاهرة " كنت صغيراً وكان كبيراً" كنت وديعاً وكان فدائياً صلباً
يا إلاهي كم الدنيا غريبة عجيبة عندما كان هؤلاء الأبطال عبود إبراهيم ويوسف فياس وغيرهما من الفدائين الذين لم يهدأوا ومنذ النكبة في دخول دائم الى المحتل من أرضنا حتى إنضموا الى قوات العاصفة
هؤلاء الذين لم نكن نعرفهم ولكن اسمائهم كانت تردد كالأساطير التي كنا نسمعها في قص ابو زيد الهلالي والزيناتي خليفة كحالات نادرة من البطولة
وعندما كنا نسمع عنهم أنهم أعتقلوا (هذا كان قبل الحرب طبعاً وأيام الأردن ) ورغم انعدام وسائل الأعلام مثل هذه الأيام الا أن اخبارهم في السجن كانت تناقلها الناس كأخبار سرية جداً " وعندما كانوا يخرجون من السجن بعد تعهداتهم بعدم القيام بأي عمل وتصبح حياتهم كلها إثبات وجود بالمخافر
ورغم هذا كانوا يدخلون ويعملون اعمال بطولية ولو في ساعات ويعودون كأن شيئاً لم يكن " كانوا يتنقلون كأنهم أشباح يدخلون الأرض المحتلة يشتبكون ويأتون بالغنائم لتكون علامة فارقة على قدرتهم على إقتحام خطوط الهدنة وإثبات أحقيتنا في فلسطين
كنت اطلب من عمي سليمان رحمه الله أن يريني هذا العبود الذي كان اسمه يتردد في منطقتنا كبطل تاريخي " كنت أتخيله ليس كبقيه البشر " وتمر السنوات دون أن تتحق أمنيتي " فهي صعبة جداً ذلك الوقت "
فعمي كان يُدخله الى منزله في القرية سراً ويُخرجه سراً ، وهو أصلاً لم يكن يعرف متى يأتيه هذا الشبح الخفي الذي لا يدخل الا ليلاً ولا يغادر الا ليلاً
ومرت السنوات وكانت الحرب وبقدرة قادر أصبحنا أعضاء مع العاصفة .!
بعد عام 68 ذهبت في دورة الى مصر وكنت قبلها قد إجتزت دورة معلمي صاعقة وبتقدير عالٍ فأرسلني أبو عمار مشرفا عسكريا ً على الدورة " وإذا بي وجها لوجه أمام عملاق العاصفة عبود إبراهيم أكبر فدائي فلسطيني وأولهم في ذلك الوقت
وكانت المفاجئة بالنسبة لي أني ورغم صغر سني وإذا بي امام فريق من الرجال العمالقة أصغرهم يكبرني بخمس سنوات العسكري ودوري ليس سهلاً أقف وأقدم الطابور للمدربين المصريين وأتقدم بالدورة الى كل أماكن الدرس وميادين التدريب
وكم كانت المفاجئة محرجة وأنا أقف أمام متدرب مع الدورة إسمه (عبود )
يا الآهي..! نظر الي وقال : أنت فلان إبن فلان .! وعمك فلان وابتسم
لكن ليست إبتسامة عادية لهذا الغضنفر الذي في وجهه كل علامات القوة والرجولة والشجاعة والتي كادت تطيحني أرضاً وهو ينظر الي من رأسي الى قدمي وكأنه يريد أن يعرف كيف وصلت الى هذا المكان بهذه السرعة.!
وأنا ذك الولد إبن العز والدلال " ولا يبدوا على وجهي علامات الخشونة التي توحي بأني على حجم هذه المسؤولية " هزَ رأسه هزة هزتني وأرجفتني وبأبتسامة فيها تساؤل وكأنه يقول
( شو بلشت الواسطات حتى هون .!!)
ولكنه أسعفني حين قال: مادام عمك فلان خلينا نشوف شو بيطلع منك.!
أدركت حينها انه وضعني في حالة مخيفة من الأمتحان " وأعتقد أن هذا الأمر كان بالنسبة لي نقطة إنطلاق كبيرة أسست قواعد التحدي لدي
قلت له وبقوة : تأكد يا قائدي سأكون عند حسن ظنك
العم أبو إبراهيم (هكذا كنا نناديه ) نظر الي وبأبتسامة عريضة
وقال وبصوت حاد وجاد .. إسمع يا ولد إنضبط ، ونفذ شغلك وما يهمك مني انا ، هون أنا عسكري وانت مدرب فاهم " يا الله إقلب وجهك " إنت فاهم أو أرقعك خماسي ( الكف الحامي )
قلت له لا خماسي ولا سداسي " إستعد ... الى الأمام سر
شهران متكاملان لم أرى في حياتي عسكريا منضبطاً كما كان القائد عبود
وأفادني وجوده كثيراً حيث كانت دورة من أعظم الدورات في الأتزام والأنضباط العسكري لأنه كان قدوة رائعة لكل من كان معنا في الدورة .
جاء الشهيد أبو عمار ومعه المشير احمد اسماعيل قائد الجيش المصري آنذاك رحمه الله (شهيد حرب أوكتوبر ) كانت المناسبة حفل تخرج الدورة
وبينما كنا جالسين وكان أبو عمار يلقي كلمته قال : أبلغك يا سيادة المشير أن في هذه الدورة بطل العاصفة الأخ عبود وأستار الى عبود قائلاً ..فينك
يا عبود تعال تعال هنا تعال إجلس بيني وبين سيادة المشير
بقي أو ابراهيم مكانه ولم يتزحزح ورفض أ يقوم من مكانه وقال لا أغادر
مكاني هنا ..أنا أجلس في مكاني الصحيح بين زملائي الذين عشت معهم
شو يا أبو عمار بدك تكبر راسي من شان أبطل اشوف الناس لا ما بغير مكاني لأجلس في مكان أكبر مني مرة واحدة
هكذا كان عبود متواضعا محباً لأبنائه وإخوانه مدافعاً عن حقوقهم في كل أماكن تواجده من أيام الأردن الى لبنان حتى عاد مع العائدين الى أرض الوطن
سأله أبو عمار وقال له اطلب وتمنى يا عبود " أين تريد ان تخدم سأعينك محافظاً لجنين " نظر الى أبو عمار وقال : أسمع يا ختيار
هذه الوظيفة تحتاج لأشخاص متعلمين ومدربين ومخلصين " وعندك ما شاء الله من أبناء شعبك الآلآف" أنا فقط اريد مكتباً " يعني ديوانية صغيره أستقبل فيها الناس وأقضي مصالحهم وأقوم بخدمتهم " وكان فعلا ً... لقد كان الحضن الدافيء لكل من تقطعت بهم السبل من أبناء شعبنا وخاصة رفاق النضال
" لا يكف ولا يهدأ عن التواصل مع القيادة وخصوصاً مع الشهيد أبو عمار حاملاً هموم الناس ولا يعود من غزة أو رام الله الا ومعه الحل لكل من طلب مساعدته
مرض وأعياه المرض وبقي يعاني طيلة عشر سنوات الى أن اصطفاه الله الى جواره "أحبه كل من عرفه ولم أعرف او أسمع ان أحداً غضب منهرحل الأخ والفارس الكبير احد صانعي العاصفة الخالدة كان في حياته رجلاً شهماً صلباً كريماً وقلبه كبير
هكذا كان عبود وهكذا رحل " رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
منذر ارشيد
وداعاً أخي اللواء عبود... والى جنات الخلد
بقلم : منذر ارشيد
العاصفة أطلقت رصاصتها الأولى "عام 65 " ولكننا وبعد أن التحقنا فيها وكنا فتيان يافعين لم نكن نعرف أن هذا الفلاح الذي كان يتردد على أقاربي في جنين وقد أحضر لأحدهم حصانا غريباً في الشكل والهيئة كأكبر حصانٍ رأيته في حياتي وقد غنمه من مزارع الصهاينة "
لم أكن أتخيل أنه سيكون أخي وزميلي ورفيقي في دورة عسكرية في القاهرة " كنت صغيراً وكان كبيراً" كنت وديعاً وكان فدائياً صلباً
يا إلاهي كم الدنيا غريبة عجيبة عندما كان هؤلاء الأبطال عبود إبراهيم ويوسف فياس وغيرهما من الفدائين الذين لم يهدأوا ومنذ النكبة في دخول دائم الى المحتل من أرضنا حتى إنضموا الى قوات العاصفة
هؤلاء الذين لم نكن نعرفهم ولكن اسمائهم كانت تردد كالأساطير التي كنا نسمعها في قص ابو زيد الهلالي والزيناتي خليفة كحالات نادرة من البطولة
وعندما كنا نسمع عنهم أنهم أعتقلوا (هذا كان قبل الحرب طبعاً وأيام الأردن ) ورغم انعدام وسائل الأعلام مثل هذه الأيام الا أن اخبارهم في السجن كانت تناقلها الناس كأخبار سرية جداً " وعندما كانوا يخرجون من السجن بعد تعهداتهم بعدم القيام بأي عمل وتصبح حياتهم كلها إثبات وجود بالمخافر
ورغم هذا كانوا يدخلون ويعملون اعمال بطولية ولو في ساعات ويعودون كأن شيئاً لم يكن " كانوا يتنقلون كأنهم أشباح يدخلون الأرض المحتلة يشتبكون ويأتون بالغنائم لتكون علامة فارقة على قدرتهم على إقتحام خطوط الهدنة وإثبات أحقيتنا في فلسطين
كنت اطلب من عمي سليمان رحمه الله أن يريني هذا العبود الذي كان اسمه يتردد في منطقتنا كبطل تاريخي " كنت أتخيله ليس كبقيه البشر " وتمر السنوات دون أن تتحق أمنيتي " فهي صعبة جداً ذلك الوقت "
فعمي كان يُدخله الى منزله في القرية سراً ويُخرجه سراً ، وهو أصلاً لم يكن يعرف متى يأتيه هذا الشبح الخفي الذي لا يدخل الا ليلاً ولا يغادر الا ليلاً
ومرت السنوات وكانت الحرب وبقدرة قادر أصبحنا أعضاء مع العاصفة .!
بعد عام 68 ذهبت في دورة الى مصر وكنت قبلها قد إجتزت دورة معلمي صاعقة وبتقدير عالٍ فأرسلني أبو عمار مشرفا عسكريا ً على الدورة " وإذا بي وجها لوجه أمام عملاق العاصفة عبود إبراهيم أكبر فدائي فلسطيني وأولهم في ذلك الوقت
وكانت المفاجئة بالنسبة لي أني ورغم صغر سني وإذا بي امام فريق من الرجال العمالقة أصغرهم يكبرني بخمس سنوات العسكري ودوري ليس سهلاً أقف وأقدم الطابور للمدربين المصريين وأتقدم بالدورة الى كل أماكن الدرس وميادين التدريب
وكم كانت المفاجئة محرجة وأنا أقف أمام متدرب مع الدورة إسمه (عبود )
يا الآهي..! نظر الي وقال : أنت فلان إبن فلان .! وعمك فلان وابتسم
لكن ليست إبتسامة عادية لهذا الغضنفر الذي في وجهه كل علامات القوة والرجولة والشجاعة والتي كادت تطيحني أرضاً وهو ينظر الي من رأسي الى قدمي وكأنه يريد أن يعرف كيف وصلت الى هذا المكان بهذه السرعة.!
وأنا ذك الولد إبن العز والدلال " ولا يبدوا على وجهي علامات الخشونة التي توحي بأني على حجم هذه المسؤولية " هزَ رأسه هزة هزتني وأرجفتني وبأبتسامة فيها تساؤل وكأنه يقول
( شو بلشت الواسطات حتى هون .!!)
ولكنه أسعفني حين قال: مادام عمك فلان خلينا نشوف شو بيطلع منك.!
أدركت حينها انه وضعني في حالة مخيفة من الأمتحان " وأعتقد أن هذا الأمر كان بالنسبة لي نقطة إنطلاق كبيرة أسست قواعد التحدي لدي
قلت له وبقوة : تأكد يا قائدي سأكون عند حسن ظنك
العم أبو إبراهيم (هكذا كنا نناديه ) نظر الي وبأبتسامة عريضة
وقال وبصوت حاد وجاد .. إسمع يا ولد إنضبط ، ونفذ شغلك وما يهمك مني انا ، هون أنا عسكري وانت مدرب فاهم " يا الله إقلب وجهك " إنت فاهم أو أرقعك خماسي ( الكف الحامي )
قلت له لا خماسي ولا سداسي " إستعد ... الى الأمام سر
شهران متكاملان لم أرى في حياتي عسكريا منضبطاً كما كان القائد عبود
وأفادني وجوده كثيراً حيث كانت دورة من أعظم الدورات في الأتزام والأنضباط العسكري لأنه كان قدوة رائعة لكل من كان معنا في الدورة .
جاء الشهيد أبو عمار ومعه المشير احمد اسماعيل قائد الجيش المصري آنذاك رحمه الله (شهيد حرب أوكتوبر ) كانت المناسبة حفل تخرج الدورة
وبينما كنا جالسين وكان أبو عمار يلقي كلمته قال : أبلغك يا سيادة المشير أن في هذه الدورة بطل العاصفة الأخ عبود وأستار الى عبود قائلاً ..فينك
يا عبود تعال تعال هنا تعال إجلس بيني وبين سيادة المشير
بقي أو ابراهيم مكانه ولم يتزحزح ورفض أ يقوم من مكانه وقال لا أغادر
مكاني هنا ..أنا أجلس في مكاني الصحيح بين زملائي الذين عشت معهم
شو يا أبو عمار بدك تكبر راسي من شان أبطل اشوف الناس لا ما بغير مكاني لأجلس في مكان أكبر مني مرة واحدة
هكذا كان عبود متواضعا محباً لأبنائه وإخوانه مدافعاً عن حقوقهم في كل أماكن تواجده من أيام الأردن الى لبنان حتى عاد مع العائدين الى أرض الوطن
سأله أبو عمار وقال له اطلب وتمنى يا عبود " أين تريد ان تخدم سأعينك محافظاً لجنين " نظر الى أبو عمار وقال : أسمع يا ختيار
هذه الوظيفة تحتاج لأشخاص متعلمين ومدربين ومخلصين " وعندك ما شاء الله من أبناء شعبك الآلآف" أنا فقط اريد مكتباً " يعني ديوانية صغيره أستقبل فيها الناس وأقضي مصالحهم وأقوم بخدمتهم " وكان فعلا ً... لقد كان الحضن الدافيء لكل من تقطعت بهم السبل من أبناء شعبنا وخاصة رفاق النضال
" لا يكف ولا يهدأ عن التواصل مع القيادة وخصوصاً مع الشهيد أبو عمار حاملاً هموم الناس ولا يعود من غزة أو رام الله الا ومعه الحل لكل من طلب مساعدته
مرض وأعياه المرض وبقي يعاني طيلة عشر سنوات الى أن اصطفاه الله الى جواره "أحبه كل من عرفه ولم أعرف او أسمع ان أحداً غضب منهرحل الأخ والفارس الكبير احد صانعي العاصفة الخالدة كان في حياته رجلاً شهماً صلباً كريماً وقلبه كبير
هكذا كان عبود وهكذا رحل " رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
منذر ارشيد