الأخبار
(يسرائيل هيوم): هكذا حاولت حماس اختراق قاعدة سرية إسرائيلية عبر شركة تنظيفجندي إسرائيلي ينتحر حرقاً بعد معاناته النفسية من مشاركته في حرب غزةالهدنة على الأبواب.. وتجار الحرب إلى الجحيممسؤولون أميركيون: ترامب يريد الاتفاق مع نتنياهو على شروط إنهاء حرب غزةنتنياهو: لقائي مع ترامب قد يسهم في التوصل إلى اتفاق بغزةالاحتلال يستدعي 15 محامياً للتحقيق لمشاركتهم في انتخابات النقابةفلسطين تقدم أول سفير لها لدى "الكاريكوم"البايرن يتلقى ضربة قوية.. الكشف عن حجم إصابة موسيالا ومدة غيابهصحيفة: إيران ضربت خمس منشآت عسكرية إسرائيلية بشكل مباشر خلال الحربريال مدريد يكمل المربع الذهبي لكأس العالم للأنديةفقه التفاوض الإسرائيليّ: من أسطرة السياسة إلى الابتزاز المقدس"الإعلامي الحكومي" بغزة: مؤسسة غزة الإنسانية متورطة في مخطط تهجير جماعي لسكان قطاع غزة(حماس): يجب أن يكون ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء لسريان وقف النارارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 57.418إسرائيل تقر مشروع قانون يمنع توظيف المعلمين الذين درسوا في جامعات فلسطينية
2025/7/7
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

رحلة في غياهب المجهول بقلم:أحمد ابراهيم الحاج

تاريخ النشر : 2008-06-15
رحلة في غياهب المجهول
لماذا الإصرار على حق العودة؟؟؟
...............................................
قصة حقيقية رواها فلسطيني اسمه أحمد وجد نفسه مبعداً عن مسقط رأسه ووطنه وأمه وأبيه إبعاداً قسريّاً بسبب العدوان الاسرائيلي عام 1967 ، ويروي فيها ما جال بخاطره عن سحر وقوة الجاذبية اللاإرادية للوطن بالرغم مما رأى في بعده ما توافق مع غرائزه وشهواته من مغريات جاذبة ومستقطبة لما كان في حياة الريف من فقر وقساوة ، إنها جاذبية الأرض لمكوناتها والتي تتفوق على كل جاذبية جارية لا يعتريها خلل أو توقف بعكس الجاذبية من صنع البشر ، والإنسان من مكونات الأرض لأنه خلق من طين ، ومن طينة بلادك طيِّن خدادك ، ونحن ولدنا على هذه الأرض من طينها الذي اختلط به طين آبائنا وأجدادنا وسرى في عروقنا ، وانتقل وسينتقل طين فلسطين منا الى أبنائنا وأحفادنا يسري في عروقهم من جيلٍ الى جيل ......الى آخر الدنيا (يوم القيامة) ، صفة سائدة في الفلسطيني لا تتنحى أبداً ، فما زلنا نحرص على الزيت والزيتون والزعتر والميرمية والجعدة والعنب والتين الذي شكَّل دماءنا كمكون رئيسي وأساسي في غذائنا وعلاجنا وسكن في حمضنا النووي يميزنا عن غيرنا إن اختلط الأمر في هويتنا ، ولا نستغني عنه أبداً ولن نستبدله بأي غذاء. فقد أدمنّا عليه إدماناً لا علاج له إلاّ بالعودة لهذا الوطن ومن يستغني عنه فهو ليس فلسطينيا أصيلاً بل مزوَّراً أو مهجَّناً.
...........................................................................................................................
الجزء الأول من الرحلة: من القرية الى المدينة العاصمة – عمّان
...........................................................................................................................
روي أحمد وقال: انقضى العام الدراسي 1966-1967 ، وأكملت الصف الأول ثانوي بنجاح باهر من المدرسة الإبراهيمية بالخليل، حيث لم يكن بقريتنا أو القرى المجاورة مدارس ثانوية ، وبدأت العطلة الصيفية والتي كنا ننتظرها بفارغ الصبر ، حيث كنت أنوي السفر وبعض من أقراني من الطلبة في قريتنا الى عمّان العاصمة وفي أول زيارة لي لعمان للعمل هناك طيلة العطلة ، وذلك لتوفير المصاريف الدراسية للعام المقبل لإراحة الأهل من كواهلها وأعبائها ، وقد كان أخي يعمل في عمان مع شركة مقاولات عملاقة في ذلك الوقت هي "شركة شاهين للهندسة والمقاولات" ، وكان قد وعدني بعمل مريح في مكتب الشركة. لقد كانت ظروفنا المادية صعبة في الضفة الغربية وخاصة في قرى الجنوب ، وكل المشاريع توجه للعاصمة الجديدة للمملكة وبناها التحتية ، وكان قسم كبير من العمال والموظفين والمهنيين قد هجروا الضفة الغربية الى الضفة الشرقية للعمل طلباً للرزق ، وقسم كبير التحق بالجيش وبالحرس الوطني براتب خمسة دنانير أردنية شهرياً ، وأتذكر الأيام التي كان يتقاضى فيها العامل خمسة قروش باليوم. كان الفقر والبطالة يضربان بسوطيهما على طموحات الشباب. وكانوا يتركون مقاعد الدراسة طلباً للرزق وقلة المادة.
استيقظت في الصباح الباكر في يوم 18 مايو (أيار) 1967 لألحق بالباص الذي كان يعمل لثلاثة قرى هي (بيت آولى-نوبا-خاراس) ، كان يعمل بين تلك القرى الثلاثة ومدينة الخليل وبالعكس، وكانت والدتي قد جهزت أغراض السفر في سرتين كبيرتين أو بالأحرى كيسين ، كيس خفيف فيه ملابسي وأغراضي المتواضعة وكيس ثقيل فيه هدايا من أمي لإبنها الغائب في عمان طلباً للرزق ولعائلته من منتجات فلسطين ، وكان هذا الكيس يحوي مرتباناً من الزيتون وآخر من الزيت واقفلتهما بإحكام، وسرة من الزعتر والميرمية والجعدة واللبن الجميد والزبدة البلدية والبامية المجففة وورق العنب المكبوس في مرتبان والقطين والزبيب وبزر البطيخ المجفف وأشياء كثيرة ملفلفة لا أدري ما كان بها وكأن عمان لا يوجد بها تموين، وأضافت سرّة من الفقوس (القثاء) وهذا ما أثار حفيظتي ، ولكنني أخفيت ذلك في نفسي عن والدتي التي كانت تودعني والدموع تتراشق من عينيها وتسقط كمطر الغيث الحنون على خديها شوقاً لإبنها البعيد ووداعاً لإبنها القريب والذي يغادر البلدة لأول مرة ، ونزلت عند رغبتها صاغراً ولم أعترض. وحملت معي الكيس الثقيل على رأسها الى موقف الباص الذي كان يبعد عن البيت حوالي مئة متر ، وطيلة الطريق وهي توصيني "دير بالك على حالك يمّه ، تغطّى بالليل واذا بردت إغلي مرمية واشرب ، واذا زافت معدتك وحسّيت بدك تراجع ومش عارف اغلي جعدة واشرب بتراجع على طول وبترتاح ووبرضاي عليك يمَّه تخليك خفيف دم خاصة مع مرة أخوك اخدم نفسك واغسل غسيلك انت يوم الجمعة خاصة غياراتك الداخلية ، سامعني مليح ، (فأومأت برأسي بالايجاب) ، لا تثقل عليها وأمانة عليك تبوِّس اولاد أخوك عني من الخدين وتلاعبهم وتجيب معاك وانت راجع تصاويرهم وخاصة الولد الصغير لأني ما شفته " وأنا اهز رأسي دون أن أنبس ببنت شفة حيث أثارت فيّ الشوق اليها والى حنانها الرؤوم قبل أن ابتعد عنها وحبست الكلام لكي لا يثير في البكاء. وعندما اقترب منا الباص اشتد هطول الدمع من عينيها وحضنتني طويلاً وأمطرتني بقبلاتها ، وبللت خدي بدمعها الحار وكأنها تودعني في خروج بلا عودة ، (سبحان الله إحساس الأم لا يخيب). وناداها سائق الباص أبو جهاد رحمه الله قائلاً: يلّه يا أم اسحق خلصينا بدنا نمشي هو مسافر لمالطا كلها شهرين وراجع الك وهي تمسك بي وكأنها لا تريد أن اتركها. مع السلامة يمَّه ، مع السلامة يا حبيبي أودعتك للّي ما يخون الأمانة.
سار بنا الباص حتى وصلنا الخليل ، وكلما صعد راكب كبير بالسن أو فتاة أو امرأة كنا نقوم لإجلاسهم ، وقضينا الرحلة وقوفاً ولم يتسنى لي أن أسرح بخيالي لأستحضر ما تخبؤه لنا الأيام القادمة في المدينة العاصمة ، وكنت دائماً أحب وأتلذذ بركوب الباص وخاصة بقرب الشباك الذي ما كنت أحظى به إلاّ نادراً حيث كان الباص يبدؤ رحلته من خاراس ويمر على نوبا قبل أن يصل للموقف قرب بيتنا الذي كان يقع بعد القريتين قبل بيت اولى، وكنت أسرح بخيالي ونظري يستعرض الطبيعة الجميلة لبلدي كلما سنحت لي الفرصة بالجلوس قرب الشباك.
ركبنا الباص الذي يعمل بين الخليل والقدس ، ووصلنا القدس ثم ركبنا الباص الذي يعمل بين القدس وعمان ، وكانت لي فرصة الجلوس بجانب الشباك. وطيلة الطريق وانا استعرض شريطاً مفترضاً في الخيال عن حياتي الجديدة بالمدينة العاصمة ، اتخيل نفسي في السينما ، حيث أن الخليل لم يكن بها سينما واعتقد أنها كذلك حتى هذا التاريخ لأن البلدية كانت ترفض وجودها بالمدينة من منطلق ديني وبقيت البلديات اللاحقة والسابقة على هذا الموقف المتوارث ، فكان الشباب يذهبون لبيت لحم لحضور السينما تارة وحضور الاحتفالات بأعياد الميلاد ويحدثوننا عما شاهدوه في السينما ويقصون علينا قصص الأفلام ويصفون لنا الأبطال والبطلات وتبادل القبل بين البطل والبطلة حيث لم يتسنى لي أنا الذهاب لبيت لحم من أجل حضور السينما وكذلك احتفالات عيد الميلاد. افترضت اشياء كثيرة وكثيرة سأراها في المدينة ، تخيلت البنات تسير بالميني جوب كما كنا نسمع ممن يعملون بها وممن حضروا الأفلام ، وربما التقي بفتاة تحبني وأحبها وأراسلها وتراسلني بعد عودتي ، تصورت نفسي في المطاعم آكل بالشوكة والسكين وفي المقاهي العب الورق مع اقراني حيث كنا ممنوعين منه في القرية نحن الطلبة ، فقد كان مدير المدرسة من القرية مداوماً في القهوة ، وكانت أمهاتنا تشتكينا اليه عندما نشاكسهن ، وكان الأستاذ خميس (مدير المدرسة) رحمه الله لا يقصِّر في العقاب بالضرب والفلقة والوقوف طيلة الدرس على رجل واحدة ووجوهنا الى الحائط ، وكانت القهوة ذلك حكراً على الكبار ،. توقعت نفسي أمارس كل ما يتاح في المدينة وتفتقر اليه قريتنا ، وتخيلت نفسي بالعمل أجلس على كرسي هزاز وأمامي القلم والسجلات وعلبة من السجائر وعلبة من الكبريت كأبطال الأفلام.كما وصفها لنا من شاهدوا السينما ، ولكن كيف؟ سيعلم أخي بذلك وربما يُعلم والدي لا بل ربما يصل الخبر الى الأستاذ خميس لأن والدي لم يكن يحب العقاب بالضرب ، وكان يجلب لنا سجائر اللولو عندما يذهب لحضور الأعراس والجنائز وتلك هي الطامة الكبرى ،وسأنال العقاب الرادع منه.
سار بنا الباص متوجهاً الى عمان ، وعند مدخل المدينة عمان ، في أول راس العين ، رأيت عمارة تحت البناء وبها عمال ، فخطر على بالي أنها المكان الذي يعمل به أخي وكأن عمان لا يوجد بها الاّ هذا المشروع ، فطلبت من سائق الباص أن ينزلني بقربها ، وكان ذلك ، فحملت الكيسين على كتفي وتوجهت للبناية تحت الإنشاء ، والتقيت بعامل في المدخل ، وبادرته بالسؤال : أهذه العمارة التي تبنيها شركة شاهين للهندسة والمقاولات؟ ، فابتسم العامل وقال : هذه عمارة صغيرة لا تقوم بمثلها شركة شاهين ، ولماذا تسأل؟ فقلت له انني قادم من الضفة الغربية عند أخي الذي يعمل بها ، فقال لي: مكاتب الشركة في أول طلوع جبل الحسين ، في شارع السلط على دخلة درج ، فقلت له وكيف لي أن أصل اليها؟ فقال لي: لن تجد تكسي من هنا ، عليك أن تمشي حتى تدخل للبلد وتوكِّف تكسي ليوصلك هناك وأوعى يفكرك غشيم ويضحك عليك الشفير هيني بكلّلك هه، التكسي إن طارت بِ 15 كِرِش. فعرفت من لهجته أنه من ريحة بلادنا وشعرت بتعاطفه معي.
حملت الكيسين وبدأت أمشي وأمشي ، وكتفاي تتناوبان الكيس الثقيل، حتى دخلت البلد وكان عرقي مرقي كما يقول المثل ، وكان المارة في الشوارع ينظرون إليّ باستغرابٍ واستهجان، ولم أعرف السيارات التي تعمل على الخطوط من تكسيات الطلب ، وإذا بي وسط سوق السكر وبجانبه سوق الخضار خلف الجامع الحسيني ، لقد كان سوقاً مزدحماً بالنساء ، وتتصاعد منه أصوات الباعة " بقرشين كيلو البندورة ، حمرا حمرا البَنَدورة، بثلاثة يا كوسا ، بأربعة يا بامية ، طرية هالبامية، تفضلي يا ست الدّار ، نعنع بقدونس وخيار ، وفلفل بحرق مثل النار ، يطيِّر عقلات الختيار ، وتدلّلي يا ست الدار ، مدلّع وأخضر يا خيار ، بلدي واصفر يا موز ، حالي وريحاوي هالموز ، وعندي أرخص الأسعار، يالله عالملوخية ، بقرش ونص الملوخية ، هالله هالله عَ الملوخ ، مندّي ومشطّب يا تين، زراقي وحماري يا تين ، موازي وخضاري يا تين ، العنب الخليلي هيّو ، دابوقي وحالي هيّو ، أحمر وأخضر يا تفاح ، والله يسعد هالصباح ، وعالسكين يا بطيخ ، أحمر وحالي البطيخ ، من جنين هالبطيخ ). ورأيت الشباب تتلاقف البطيخ من السيارات الى البسطات كلعبة كرة السلة التي عرفتها وشاهدتها فيما بعد ، ولكنني في وقتها شبهتها بلعبة كرة الطائرة التي كنت أمارسها مع فريق المدرسة ، ورأيت عتالين يحملون سلالاً فارغة وينادون (سلة ، يلّه سلة ، سلة )، وآخرين يحملون سلالاً مليئة بالخضار يسيرون خلف نساء تسوقت ليوصلوهن لبيوتهن أو لمواقف الباصات وسيارات الأجرة ، فأوقفت سلاّلاً يحمل سلة فارغة ، وطلبت منه أن يوصلني لمكتب شركة شاهين في شارع السلط في طلعة جبل الحسين ، فطلب مني 15 قرش أجرة ، فوافقت وسرت خلفه وهو يحمل الكيسين ويسأل كل محل يمر عليه عن مقر الشركة الى أن وصلنا أول طلعة جبل الحسين ، وصعدنا الدرج لمكاتب الشركة ، ودخلت وراء السلال الى داخل مقر الشركة ، فطالعتنا فتاة جميلة لم يخطر على بالي أنها ستكون مديرتي بالعمل وقالت" برّه برّه" ، فقال لها السلال متبلداً ومحملقاً بها: هذا الولد قادم اليوم من الضفة الغربية ولا يعرف شيئاً بالمدينة ويريد أخاه الذي يعمل عندكم. فقالت وما اسم أخيه؟ فقلت لها الاسم ، فقالت ضعوا الأكياس خارج المكتب حتى أناديه ، وكان أخي ولحسن الحظ موجوداً حيث كان يأتي للمكتب ليسلم كرتات العمال في نهاية كل اسبوع للمحاسب لحساب مستحقاتهم واستلامها لتوزيعها عليهم في يوم السبت التالي حيث كان يعمل مراقباً. أتى أخي مسرعاً وأخذني بالأحضان ، وسمعت السكرتيرة تقول له : سُري sorry-- ما كنت أعرف إنّو أخوك ، فقال لها هذا الذي حدثتك عنه وكان من العشرة الأوائل على المملكة في مترك الإعدادي العام الماضي وحليتكم بمناسبة نجاحه. فنظرت اليّ نظرة استغراب فيها ما ينم عن عدم التصديق، حيث كانت شفتاي مشققتان من حر الصيف في القرية وموسم الحصاد والدرس، وشعري غير مرتب يبلله العرق ، وشعر ذقني الدقيق يتناثر على وجهي في بداية نموه كالزرع النابت في ارض قفر أو كالزغب على جسم الفراخ. ثم أخذني أخي الى مطعم مجاور كان يعمل به ابن خالتي ، ووضع الكيسين عنده ، وطلب لي صحناً من الحمص وصحناً من الفول وكأساً من الشاي ، وقال لي تناول طعامك حتى أكمل عملي في الشركة وآتيك لآخذك للبيت. وجاء أخي، وأخذني الى محل حبيبة للكنافة النابلسية ، وتناولنا الكنافة اللذيذة، وأخذ معه بعضاً منها لزوجته واولاده واستأجر تكسي وذهبنا الى بيته في وادي الحدادة، وفي الطريق أخبرني أنني سأعمل مراسلاً في المكتب من يوم السبت القادم حيث وافق المدير على ذلك ، وسألته وما هو عملي كمراسل "ايش يعني مراسل" ، فقال لي يعني مثل آذن المدرسة تقريباً ، تأتي وتمسح الطاولات في الصباح وتنظف المكتب ، وتعمل ما تطلبه منك سكرتيرة المدير وطبعاً ما يطلبه المدير والموظفين. وشعرت بالصدمة لأن ذلك تنافى مع توقعات خيالي بينما كنت قادماً في الباص. ولكن ما خفف علي الصدمة ما ستطلبه مني السكرتيرة حيث سأختلط بفتاة لأول مرة وجهاً لوجه ، إنه يكفي للموافقة من فتىً في بداية مرحلة المراهقة يسيطر عليه جنوح الغريزة المتدفقة ويعاني من حرمان الإختلاط بالجنس اللطيف سيما وقد بهرتني السكرتيرة بجمالها المكشوف لبصري وهو ما رأيته لأول مرة.
صحوت مبكراً في يوم السبت لأبدأ الدوام في عملي، وانتظرت على باب الشركة الذي لم استلم مفتاحه بعد منذ الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة الثامنة موعد دوام الموظفين، وشعرت بالحيرة وخيبة الأمل لعدم قدوم السكرتيرة مع الموظفين، وفي الساعة التاسعة سمعت طرقات متناغمة متسارعة على الدرج ، وإذا بها السكرتيرة لوسي ، كانت طرقات حذائها وهي تمتطي الدرج بخفة ورشاقة وتواتر منتظم وسريع ،كالفارس المغوار الذي يجوب ساحة المعركة متحفزاً للقتال ، وبعد ذلك صرت أعرف موعد قدومها من تلك الطرقات التي أطربتني ، لوسي شابة في العشرينيات من عمرها ، من قوم عيسى ، فائقة الجمال ، جسمها مفتول مبروم ، وقامتها معتدلة الطول ، وبشرتها بين البياض والسمرة ، وقوامها متناسق كالغزال، رقيقة الخصر ، ممتلئة الأرداف امتلاءً معتدلاً، بارزة الصدر بروزاً جميلاً كاللوحة الجميلة في صدر البيت ، دخلت بسرعة الى مكتبها كالمهرة الجامحة ، ولدى مرورها شممت رائحة زكية تفوح من حولها وتهب بكل اتجاه في المكتب ، وكانت تحمل شنطة أنيقة ، وتلبس تنورة سوداء قصيرة ، تكشف عن ساقين ممشوقتين ، وكانت ترتدي قميصاً أبيضاً ضيقاً يحاصر تضاريس صدرها من كل الجهات ويشد عليه بخفة ورفق ، ويحكي قصة حقيقية تشابه الخيال عن صدر نافر مندفعٍ للأمام ، وحيوية مبهرة ، وثقة بالنفس ظاهرة على محياها المبتسم ، لمحتني ونادتني ، فتوجهت نحو مكتبها مبهوراً لما أرى وخطواتي متواترة متلاطمة ، أقول في نفسي: شابة بهذا الجمال الصارخ الذي يتحدث عن نفسه بصراحة لم أعهدها لا في القرية ولا في مدينة الخليل وسوف تكلمني وأعمل معها تحت سقف واحد ، يا للهول!! كنا في القرية لا نرى إلاّ جمال الوجه ، فالمنديل ينسدل ليغطي الجسم ، والثوب فضفاض لا يكشف تفاصيل جمال الجسم ، وكان يجن جنوننا إن رأينا طرف ساق الفتاة وهي تشمر ثوبها عن قدميها وبداية ساقيها لتعتلي شجرة التين لقطف ثمارها ، أو لتحمل جرة الماء على رأسها ، أو لتنشل الماء بالدلو من البئر ، كنا نترصد الفتيات لكي نحظى برؤية كعوبهن وقليلاً من سيقانهن التي كانت تصدمنا من وقع المنظر في نفوسنا ، إنني في عالم آخر وكأنني شاب مراهق صحا في ليلة القدر واستجيب لدعاءه بأن يرزقه الله بالحور العين. كان مثالنا في الجمال صورة فاطمة المغربية التي كنا نعلقها في بيوتنا في القرية ولا نرى إلاّ وجهها. حقاً إن المرأة مخلوق في غاية الجمال ، بكل تفاصيلها ، بوجهها وجسمها. إنه اكتشاف جديد في عالم المرأة الذي كنا نجهله في القرية ، ولا نعرف ما يخبؤه الثوب والمنديل من اسرار الجمال والفتنة. ربما كان جمال لوسي عاديّا في نظر البعض ، ولكنه كان في نظر فلاّحٍ مراهقٍ يعيش في بيئة محافظة ، مُبهراً بتفاصيله التي انكشفت عليه.
سلمتني نسخة من مفتاح باب الشركة ، وقالت لي وهي تعبث بشنطتها ولا تنظر اليّ ، فاغتنمنت الفرصة وبدأت أتفحص جسمها من أعلى الرأس الى أخمص القدمين ، واشتم الرائحة الزكية التي تنبعث منها ، وثورة تعتمل في دواخلي ، ثورة الغريزة وثورة الدهشة والرهبة والخوف ، قوىً تتحرك في اتجاهات متعددة ومختلفة ومتلاطمة ، وينتج عنها محصلة ليس لها اتجاه أو مقدار معروف لدي تذهب بي وتؤوب تارة ، وتصعدو وتنزل تارةً أخرى ، وشعرت بعدم السيطرة على نفسي ، وبالخفقان السريع لقلبي ، وبتوهج بالأحشاء والصدر والوجه ، وصعوبة في التقاط الأكسجين من الهواء ، شهيق طويل وزفير محبوس في رئتيّ، وكأنني أصبت بحمّى على إثر لفحة من البرد. وأحسست بصوت ينادي من داخلي ويقول: أثبت واستعد توازنك أيها الرّعديد ، شجاعٌ في الخيال وجبان في الواقع، واستمع الى ما ستقوله لك عن عملك وواجباتك في العمل حتى لا تنسى أيها الفتى لتنال بعضاً من إعجابها واستحسانها لك ، لعلها تكن لك بعضاً من حبها وتبادلك القليل مما يعتمل بداخلك ، لا يهمّ إن كنت أصغر منها بخمسة أو سبعة سنين ، ولا يهم إن كانت من قوم عيسى ، فالحب الذي تحمله الغريزة برياحها المجنونة لا يعترف بالحدود ، فالزهرة عندما تتفتح لا تعبؤ بتمزيق الورق المحيط بها لتعلن عن وجودها وطموحها في التحول الى ثمرة ناضجة ، عد الى رشدك أيها الفلاح الصغير ، وكف عن توهانك في موقف لم تحسب له حساباً ولم تتخيله رغم سعة خيالك. وبدأت تلقي علي درساً عن واجباتي وقالت وهي ما تزال تتفحص مكتبها ولا تنظر إليّ: تأتي للمكتب كل يوم مبكراً الساعة السابعة صباحاً ، وتنظف أرضية المكتب كلها بعد كنسها ، وتمسح الطاولات ، وتمسح طاولة المدير وطاولتي مسحاً جيداً ونظيفاً ، وأخذتني الى زاوية في المكتب بها أدوات التنظيف لتدلني عليها ، (وهنا انتابني شعور جامح بالإمساك بها ، ولكن عقلي تدخل في الوقت المناسب) واستمرت في القاء تعليماتها قائلة : وتنفذ ما أطلبه أنا منك ، وما يطلبه المدير أولاً قبل كل الموظفين ، وعندما يصل المدير بسيارته سأعلمك لتنزل وتفسح له موقف السيارة المحجوز له على الشارع الرئيسي. وإن أرسلتك لأي مكان لا تتأخر ، تعرَّف على شوارع البلد ومطاعمها ومحلاتها. واكوِ ملابسك ، وإن استبدلتها بملابس جديدة أفضل ، وغير حذاءك ، وحاول أن لا تسرح كثيراً كما لاحظت ذلك عليك ، وكن منتبهاً دائماً ، وحاضر البديهة والذهن ، واستمع لكلام المدير جيداً إن خاطبك لأنه لا يعيد كلامه ، وإن لم تفهمه وتنفذ ما يريده منك يرفضك ، ولا ترد على التلفون إلا إذا كنت لوحدك في المكتب ، وإن حصل ذلك ترد بالآتي : ألو نعم ، شركة شاهين معك ، وإن اتصلت بالمكتب زوجة المدير وطلبته وكنت أنا في مكتبه وخاصة بعد انتهاء الدوام فقل لها :عفواً مدام إنه في اجتماع مغلق مع مدراء المشاريع ، أو إنه في جولة على المشاريع ، ولا تقل لها إنه غير موجود أبداً. ولا تغادر المكتب إلا بإذن مني حتى لو انتهى الدوام لأن بعضاً من عملك سيكون بعد انتهاء الدوام. وحاول أن تكون مبتسماً وبشوشاً دائماً وما بدي أشوف هالتكشيرة والجدية لدرجة التصلب والجمود ، إفرد اساريرك وفك المرابط التي على جبينك وعلى تقاسيم وجهك ، إن فيك خامة لرجل وسيم ، لماذا تهملها ولا تهتم بها. كان درساً ثقيلاً خفيفاً ، بطيئاً سريعاً على فلاح يعيش بحرية دون قيود أو مراسيم ، ثقيلاً في تعليمات وأوامر السكرتيرة والمدير والموظفين معظم وقته ، وكان خفيفاً في أويقات حين أن قالت لي السكرتيرة إن فيك خامة لرجل وسيم ، وفي أويقات كانت توجه لي بعض المزاح حين تكون في حالة الرضا من مديرها. فعدت الى البيت أراجع الدرس الجديد ، وسألني أخي عن شعوري ورضائي عن العمل ، فقصصت عليه ما جرى في أول يوم ، فأخذني في المساء الى سوق المدينة واشترى لي قميصاً أبيضاً وبنطلوناً أسوداً جديدين وحذاءً جديداً ، وقلت له متردداً وخجلاً خوفاً من عدم موافقته : أريد أن أحلق لحيتي فاشترى لي ماكينة حلاقة وشفرات ومعجون حلاقة ومعجون أسنان لأمارس الحلاقة لأول مرة في حياتي ، وكانت آثار الجروح على خديّ كالأخاديد في السهل المتشقق من الخصوبة بعد ممارستها لأول مرة.
في اليوم الثاني بدأت برنامج العمل ، وعندما أتت مديرتي لوسي وراجعت واجباتي على الواقع ، لم يعجبها عملي ، وبدأت تعيد علي الدرس ، وتطبق أمامي بعض الواجبات الخفيفة كتنظيف المروحة والمكتب بيديها الجميلتين الرقيقتين وأظافرها الملونة الساحرة ، وكدت أن أقول لها إحفظي هذا الجمال الساحر من التلوث بخرقة التنظيف ودعي الأمر لي، وقالت لي معك ثلاثة أيام لتريني عملك المتقن وإن لم أرض عنه سوف ترفض من العمل في المكتب. لقد مارست الكنس والمسح لأول مرة في حياتي ، وبذلت أقصى جهدي لإرضائها ، وأعطتني بعد اليوم الثالث تقدير مقبول ، وقالت لي إن لم تؤدِ عملك بتقدير جيد بعد اسبوع سترفض ، وفي يوم الجمعة سألت زوجة أخي كيف تكنس البيت وتشطفه بالماء وتنشفه فتعلمت منها وكانت النتيجة أن حصلت على تقدير جيد من مديرتي.
وفي أحد الأيام احترقت شمعة الكهرباء في مكتب المدير ، فقالت لي لوسي أحضر شمعة جديدة من مخزن المكتب مع السلم واصعد على السُّلم وغيِّر الشمعة المحترقة ، ولم أكن متعوداً على شموع الكهرباء ، حيث كناّ نستنير في قريتنا بمصباح صغير وبسيط الإستخدام يعمل على الكاز ، وكنت أخشى الكهرباء لما سمعت عن قابلية سريانها بجسم الإنسان وحرقه إن كان يجهل استخدامها ، فترددت وقلت لها : أنا أجهل استخدامها ، فقالت لي سأغيِّرها أنا وتعلّم أنت ذلك لتغييرها في المستقبل إن احترقت أي شمعة في المكتب ، فأحضرت أنا الشمعة والسلم ، وصعدت هي على السلم بكل جرأة ، وعجبت من عدم اكتراثها لوجودي أسفل السلم أكشف ما تخبأ من ساقيها وملابسها الداخلية لأناولها الشمعة الجديدة وأتعلم طريقة التغيير، ووقفت أسفل السلم مشدوها وفاقداً لحواسّي الخمسة إلاّ حاسة النظر ، وكانت تناديني لإعطائها الشمعة الجديدة ولم أكن أسمعها ، حتى صاحت بي بصوت عالٍ "ناولني الشمعة يا مسطِّل وين سارح" وصحوت من غيبوبتي وناولتها الشمعة وغيّرتها ، وتحسِّفت على قصر الوقت الذي استغرقته في صعودها السلم لتغيير الشمعة ، ولم ألتفت الى طريقة تغييرها حسب تعليماتها، بل ركَّزت بنظري مشدوداً الى ما انكشف من جسمها ودواخل ملابسها وهي على السلم ، وتساءلت في نفسي :هل تحسبني طفلاً أمامها أو زميلة لها؟ يا للعجب!!إنها إهانة لرجولتي المشرقة المتدفقة ، وتمنيت في نفسي أن تحترق كل الشمعات في ذلك الوقت ، وراودتني نفسي بتكسيرها في اليوم التالي لتقوم هي بتغييرها ، ولكن ما منعني أنني تذكرت أن تغييرها أصبح من واجباتي كما أخبرتني وتمنيت عدم احتراق أية شمعة ، لكي لا أتعرَّض للإحراج بعدم استطاعتي تأدية العمل المطلوب منّي وعدم تعلمي الدرس العملي الذي دربتني عليه.
كانت لوسي تطلب مني يوماً بعد يوم تقريباً وقبل انتهاء الدوام بنصف ساعة أن أذهب لمطعمٍ كان مشهوراً في عمان هو مطعم السردي ، وأحضر غداءً لإثنين ، وبعد أن أحضره تطلب مني الإنصراف للبيت. وكنت عندما أعود في الفترة المسائية ألاحظ أن سلال المهملات مليئة بمحارم الفاين (الكلينكس) ، ولا أعبؤ أو أنتبه أو أتساءل أو أسأل عن ذلك لأنني لم أكن أفهم ما يدور في المكتب خلال القيلولة بنية الفلاح الطيّب .
في أحد الأيام دخلت لوسي لمكتب المدير وأغلقت الباب قبل انتهاء الدوام بربع ساعة وخرج كل الموظفين، وبدأت انتظر الأوامر للعودة للبيت وتناول الغداء، ويبدو أنها نسيت وجودي بانتظار التعليمات بالإنصراف ، وكانت قبل ذلك قد أرسلتني الى مطعم السردي أثناء الدوام لإحضار غداءٍ لشخصين ، وأثارت فيّ رائحة الطعام من اللحم المشويّ براكين الجوع التي كانت تتفجر في بطني ، وخلال انتظاري خارج مكتب المدير وبدافع من نداء معدتي الخاوية المستثارة برائحة الشواء ، اقتربت من مكتبه متردداً وخائفاً من طرق الباب لآخذ الإذن بالإنصراف لسد رمق الجوع الذي يهاجمني ، استرقت السمع من خلف الباب لأستطلع الموقف في داخل غرفة المدير لأكشف نوعية النقاش إن كان يسمح بالمداخلة بطلب الإذن أم لا ، سمعت تأوهات داخل الغرفة ، صوت المدير ممزوجاً بصوت السكرتيرة. يا للهول ، مصيبة ، جريمة وكارثة في عرفي وثقافتي وديني ، وبدأ الصوت يتراوح من علوٍّ الى تناقص تدريجي الى تخافت الى هدوءٍ ثم الى علو من جديد متردداً كأمواج الصوت وأخيراً ران صمت تام كتوقف القلب عن النبض تماماً كالرسم البياني لتخطيط القلب لمريض يحتضر ويعاني من سكرات الموت المتواترة بين الصحوة والغيبوبة وأخيراً وافته المنية وصار الرسم البياني خطّاً مستقيماً. وهنا تسللت على رؤوس أصابع قدمي عائداً لمكاني المعتاد في ردهة الإستقبال بالمدخل بعيداً عم مكتب المدير وكأنني لم أسمع أو أكنشف السر ، .وبعد لحظات وفي استراحة للمحاربين خرجا من الغرفة وهما يعدلان هندامهيما وشعوريهما ، ولاحظت احمرار وجه لوسي وكأن الدماء تكاد أن تتدفق منه ، وآثار القبلات على وجنتيها وقد حشرت الدماء فيهما في احمرار أضفى عليها مزيداً من الفتنة، والفوضى على شعرها الذي بدا مبعثراً قليلاً على غير العادة ، ولاحظت قميص المدير محشواً تحت بنطاله بطريقة غير مرتبة كما اعتدت أن أراه ، ولكنني لم ألحظ آثاراً لأحمر الشفاة ، فقد كانت لوسي لا تحتاج له ، فقد وهبها الله جمالاً طبيعياً يفوق تأثير المساحيق ، وكانت المصيبة أن رأياني أنتظر فصاح فيها المدير : لوسي لماذا ينتظر هذا الولد هنا؟ ، إنه مرفوض لا أريد أن أرى وجهه بعد الآن في الشركة ، وكانت لوسي شجاعة وقالت له: هذه غلطتي ، لأنني أخبرته ألاّ يغادر المكتب بدون إذني ، ونسيت أن آذن له بالإنصراف. فقال ، إنقليه الى مشروع العبدلي عند أخيه ليعمل أي شييء. فردت لوسي إن نقلناه لمكان آخر سوف يختلط بالعمال والمراقبين والنجارين والمهندسين ويبوح إليهم بأسرار وقرارات الشركة التي كنت أطبعها ، نحتفظ به في المكتب لأننا بحاجة اليه و....ثم همست بأذنه بكلمات فهمت معناها وقصدها بدون سماع تفاصيلها ، وهنا تدخلت بشجاعة ودهاء وقلت: عن ماذا تتحدثون وأي أمر سأتحدث به ، انا لم أرَ ولم أسمع شيئاً دار بينكما عن الشركة لقد كنت نائماً على الكنبة الطويلة أصارع الجوع ، فقال المدير ألم تسمع سرّاً من اسرار الشركة ومشاريعها وتنقلات المدراء والمهندسين والقرارات الجديدة التي سأتخذها والتي كنت أمليها على السكرتيرة لطباعتها ، قلت له: يا سيدي والله ما سمعت اسرارا عن الشركة ومشاريعها وقراراتها السرية وكان يميني صادقاً. وهنا أشار باستمراري في العمل. ظناً منه أنني لم أكتشف السر الذي كان بينهما وكذلك لا تعلمه زوجة المدير المسكينة. كان المدير شاباً وسيماً في بداية الثلاثينيات من عمره ، مفتول العضلات ، رشيق القوام ، وطويل القامة ، برونزي البشرة ، وهو من أبناء أحد مالكي الشركة وزوجته ابنة عمه (ابنة المدير العام للشركة). وكانت سيارته من طراز جاكور زرقاء اللون أنيقة وفاخرة وملابسه متناسقة الألوان تحتضن جسده المفتول بخفة ورقة وانسجام وكان يشبه الممثل المصري أحمد رمزي في شبابه.
لقد انهارت في مخيلتي وفي خيالي وفي نفسي صورة الجمال التي رسمتها للوسي ، وانتابني شعور بالقنوط من صداقتها أو من أن تبادلني الإعجاب وقليلاً من الحب ، شعرت أنها كانت تمثل لي صرحاً من خيال عشعش بداخلي فهوى ، وشعرت بالهزيمة في أول مواجهة مع امرأة ، وانطفأ بصيص الأمل بحبها بالرغم من إشارات عدم الإهتمام بي أثناء العمل ، ومعاملتي كخادم لها ولمآربها ، واكتشفت أن خيالي كان جامحاً ومتخطياً للخطوط الحمر والحدود ، وبدأت مفاهيم الحب العذري تتزعزع بداخلي وبوجداني ، سمعت الخيانة بأذني ، ولمست تفريط المرأة بالأمانة التي أودعها الله بها للمحافظة عليها ، كيف لهذا الجمال الصارخ أن يهب نفسه لعلاقة محرمة في مهمة مؤقتة ومن أجل راتب شهري مادي ، ذلك ما استنتجته خلال عملي هناك ، أين رسالة الحياة؟ ، أين الوفاء والإخلاص والشرف؟ والذي تربيننا عليه بالقرية ، وآلمني خيانة المدير لزوجته ، لقد كانت صدمة بكل المقاييس ، طلبت من أخي أن أنتقل للعمل معه في الورشة مساعد نجار ، وسألني عن الأسباب ، فقلت له لا أتحمل طبيعة هذا العمل ، أوامر ونواهي وتعليمات ، إن فيه نوع من الإذلال والدونية ، فأنا على استعداد أن اتحمل العمل الشاق تحت الشمس في سبيل الخلاص من العبودية ، وأن أكف عن مشاهدة وسماع انتهاك الأخلاق والمباديء التي تعلمناها وتربينا عليها. فهم أخي كل شيء ، وقال لي أكمل الدوام كما كنت ، وسأحاول مع المدير للموافقة ، فهم بحاجة اليك الآن في المكتب. شعرت بطول الموضوع وعدم حسمه في وقت قريب عاجل. وبدأت أفكر بالخلاص من هذا المأزق. وقرّرت أن أمسح من ذاكرتني كل ما راودني من خيال جامح غير متعقل حيال لوسي.
وفي اليوم التالي ذهبت للعمل ، حيث لم أنم إلاّ قليلاً في تلك الليلة الفائتة لتصارع الأفكار في خلدي ووجداني وذاكرتي وعواطفي وأحاسيسي وعقلي وخيالي ، وتلاطم الغريزة المتدفقة بين جدار الرغبة الجامحة وجدران الحرمان والأخلاق والدين والخوف والرهبة وقلة الخبرة في ممارسة تلك المواقف والتعامل معها ، وكانت الأحلام في لحظات عابرة قصيرة من النوم تأخذني الى بستان الحب في واحة جميلة تعمر بالمياه في ذهاب يظلله السعادة وقلة الظمأ ويعود بي الواقع في إيابٍ بصدمة الحرمان واللامعقول والظمأ الشديد ، وكانت الفرصة قد سنحت عند قدوم لوسي للمكتب ، كانت تحمل بيدها كيساً لا أعرف ما بداخله ، ونادتني ، وأعطتني الكيس وقالت لي : خذ هذا الكيس وإذهب الى أحذية القبطي في شارع بسمان ، واستبدل الحذاء الذي فيه بنمرة أقل درجة ، فأنا كلمتهم بالهاتف وهم يعلمون ما أريد ، ولا تتأخر ، فقلت في نفسي لقد سنحت الفرصة ، فمسكت الكيس من يديها ، وقلت لها : أنا أعمل مع شركة شاهين ولها ، ولا أعمل معك ولك ، ورميت الكيس على مكتبها وأدرت ظهري ومسكت الباب في انصراف بلا عودة. وراحت تناديني أحمد أحمد تعال ، خلاص ما بدي تروح ، ولم أستمع لكلامها ونزلت الدرج بسرعة أتنفس رياح الحرية والإنطلاق تماما كما كنت في القرية ، وانتابني شعور عارم بالسعادة كمن يخرج ويتخلص ناجياً من مأزق محدقٍ وصعب وقع فيه. اتجهت الى مقهىً في سوق السكر كان يجلس عليه بعض من شباب القرية يلعبون الورق ، منهم من أتى معي ولم يجد عملاً ومنهم من يعمل أصلاً ويأتي وقت الراحة للمقهى.
جاء أخي مساء من عمله ، وقصصت عليه ما حصل ، فقال لي : إنك تدللت في حياتك من كل أهل البيت بسبب شطارتك في المدرسة ، لا أريدك أن تعمل ، خذ مصروفك وخليك عندنا بالعطلة تسلي الأولاد ، وطلبت منه أن أعمل بالورشة ولكنه رفض ، وقال لي لا تهتم سأعطيك مصاريف الدراسة عند عودتك للبلد. ولكنني ألحَّيت عليه ، فنزل عند رغبتي وأخذني معه في صباح اليوم التالي لأعمل في ورشة العبدلي مساعد نجار، عملت فيها اسبوعاً كاملاً ، وكان مُعلِّمي نجاراً متعلماً ومثقفاً إضطر لترك الدراسة ، وكان اسمه سليم الأسمر من بلدة تفوح ، وكان اسمراً اسماً على مسمى ، وربما لم تكن الأسمر هي العائلة بل اللقب من منطلق تميزه بهذا اللون ، وكان دمث الأخلاق وصاحب نكتة ونخوة ووطنية، وقد تعاطف معي وكان يسمح لي بالإستراحة بين الفينة والأخرى ، ولا يكلفني بأعمال شاقة عليّ ، وقد علمت فيما بعد أنه أصرّ على إكمال دراسته وحصل على درجة الدكتوراة.وفي أحد الأيام وبينما كنت مُزوِّغاً عن العمل في استراحة بالظل ، وفي جولته متفقداً للمشاريع لمحني مدير المشاريع الذي كنت أعمل مراسلاً بمكتبه ، فناداني وأنبني على جلوسي بدون عمل بعبارات قاسية ومؤلمة لم أسمعها من قبل وتركت في نفسي أثراً مؤذياً أشعرني بقلة قيمتي وبالإهانة ، وكان يحمل عليّ لتركي العمل بالمكتب كمراسل له ولسكرتيرته ، وتحدث مع سليم الأسمر ومع أخي ، وفهمت بعد ذلك أنه أمر بوقفي عن العمل ، لقد كان أسيوعاً ممتعاً ، والمتعة فيه هي الاستيقاظ المبكر ، والدوام في موعده ، وكنا نسعد باستراحة الغداء ، وكان غداؤنا خبزاً وحبات من البندورة وخياراً ، وأحياناً خبزاً وعنباً وجبنة من جبنة البلاد ، وحقيقة الأمر كنت استمتع بهذا الطعام ، وبالأحاديث والمزاح بين العمال وقت القيلولة يعبرون عن سعادتهم وراحة بالهم وامتنانهم وشكرهم لله بنفوس راضية قانعة ، وهمة قوية وعالية ، و سعدت بالنوم المبكر ، لقد كانت حياة منتظمة طيلة ايام الأسبوع ، والأمتع من ذلك يوم الجمعة الذي كنا نقضيه في التجوال والتنزه في شوارع عمان واسواقها. ولم تستمر سعادتي بذلك حيث اوقفت عن العمل ، وهنا أصرّ أخي على قضاء ما تبقى من العطلة دون عمل ، وقد قبضت بنهاية الأسبوع دينار و80 قرشاً بمعدل 30 قرشاً باليوم وكان مبلغاً محترماً في ذلك الوقت. كان ذلك قبل بداية حرب حزيران 1967 بخمسة أيام ، وعدت أرتاد المقهى المعتاد في سوق السكر.
حضرت السينما في عمان (سينما الحسين وبسمان وزهران ورغدان والكواكب والخيام والحمراء) ، حضرتها بالنهار في عرض مستمر ، وفي أيام الجمعة بالليل مع أقاربي ممن كانوا يعملون هناك ، كنا نخرج الساعة الحادية عشرة ليلاً حيث كان السكون يخيم على شوارع عمان الرئيسية ، وكانت تعليقات مرتادي السينما تنتهك هذا السكون بألفاظ تخرج عن اللياقة والآداب ، يتغزلون بالبطلة أو الراقصة ، ويطلقون الآهات من جمالهن ويعيدون بعض الفاظ الغزل والحب التي كان يتبادلها البطل مع البطلة ، ويعدون القبل المتبادلة بينهما ، واحد ،إثنين ،ثلاثة ...الخ. وكانت اسراب الخارجين من مختلف دور السينما تلتقي بشوارع عمان الرئيسية ويتجمعون بساحة مواقف السرفيس ، ورأيت المترنحين بالشوارع ، كمن فقد السيطرة على عقله وراح يتلفظ بالبذاءة ويتمايل في الشارع مترنحاً ، وسألت عن هؤلاء فقالوا لي إنهم السّكارى الذين يشربون الخمر وكانت المرة الآولى التي أرى فيها تأثير الخمر على شاربيه وفهمت ما كان يقال عن أسباب تحريمه عملياً من مشاهدتي لشاربيه ، وكانت الدرجة الثالثة في السينما التي كنا غالباً ما نختارها لتناسب امكاناتنا المادية ومع هدفنا من الذهاب للسينما ، كانت تلك الأماكن تتسم بالفوضى والتعليقات والتصفيقات والتصفيرات والتشويشات التي يتراشقها ويتبادلها الشباب والتي كانت تتسق مع ردة فعلهم المراهقة لمنظر غرامي أو لرقصة راقصة شبه عارية ، وتمتزج أصواتهم مع صوت مقدمي الخدمات للناس (قهوة ، كزوز ، تسالي، شاي ، بارد) والذين يطوفون بين المقاعد لا يهدؤون ولا يسكتون ، ولم نكن نهتم بموضوع الفيلم بقدر اهتمامنا بما يحويه من حب وغزل وعناق وقبل وكشف عن العورات، ولعبت الورق ، وأكلت الحمص والفول والمسبحة والقدسية وفتة الحمص وساندويشات الفلافل من مطعم هاشم ومطعم الكلحة، ولفت نظري كيف كان الجرسون يحمل الصحون العديدة بيد واحدة ، وأكلت الكباب والشقف من مطعم السُّردي ، والكنافة النابلسية من محلات حبيبة ، وكرابيج الحلب في الصباح الباكر من بائعيها المتجولين بالعربات ، والكعك المسمسم مع الجبنة ، وشربت عصير السوس والخروب والتمر الهندي واللبن المخيض ولم يعجبني أيامها عصير السوس ، وحضرت مباراة كرة قدم بين الفيصلي والجزيرة في ملعب الكلية العلمية الإسلامية الذي كان يتربع وحيداً في أول جبل عمان ، وشاهدت الملك حسين مبتسماً وملوحاً للناس بيديه محيياً حينما كانت مواكبه ترتاد شوارع المدينة ، وصرت أرتاد المقهى في سوق السكر وأرتاد سوق الخضار المكتظ بالنساء في الصباح وسط زحام النساء ، وأعود في المساء عند عودة أخي من عمله ، لقد كانت أياماً حلوة فيها من الذكريات الجميلة والسعيدة . كانت عمان في ذلك الوقت جبل التاج بدون اكتظاظ والذي كان يشتهر بجمال فتياته ، حيث كان من أرقى وأحدث الأحياء المعمورة بالسكان ، وجبل الجوفة والمحطة وبعضاً من الأشرفية وبداية لجبل النصر ووادي الحدادة وجبل القلعة وسقف السيل والمدرج الروماني والمتحف في جبل القلعة ، وبدايات قليلة في أول جبل الهاشمي بشماله وجنوبه وجبل الحسين (كلية الحسين الثانوية ومدرسة رغدان الثانوية ومدرسة الصناعة) ومخيم الحسين ، وأتذكر عندما كانت منطقة دوار مكسيم مزارع (مقاثي) ، والوحدات وراس العين والعبدلي واللوبيدة وبداية جبل عمان وبداية جبل القصور والقصور الملكية (قصر رغدان) ، وبيوت متناثرة في جبل القصور والنزهة. وكنا نلتقي في المسجد الحسيني وسط عمان وقت القيلولة لنستريح قليلا بقسط من النوم نتمدد في المسجد، وكنا نتجول في شارع السلط. وشارع طلال ، حيث باعة الساعات والملابس المتجولين الذين يحملون الملابس على أكتافهم ، وسوق الملابس المستعملة (الرابش) والذي صار يسميه البعض سوق نيكسون، ومحلات العطارين ، وكنا نجوب مناطقها وجبالها مشياً على الأقدام بعد العصر. وكنت أحلق ذقني يومياً ، وقد تعلمنا معاكسة البنات مممن كانوا يعملون في عمان (ايش هالحلاوة ، ويسعد هالطلة ، ما تحِنّ علينا بنظرة والاّ بابتسامة يا حلو، الكبرة لألله ، بحقلك تتكبر يا حلو بس ما تظلم ، ايش يا غزال يا ابو عيون جريئة ، يسعد اليّ صوّرك وبعض الألفاظ المصرية التي تعلموها من الأفلام المصرية....الخ) ، وكان ابن عمي الذي كان يعمل في عمان في مطعم هاشم جريئاً في مغازلة ومعاكسة البنات ويبتكر طرقاً للإحتكاك بهن ، وكان يصحبني معه في عصر كل يوم جمعة في جولة بالسوق والشوارع التي كانت تكتظ بالمتسوقين والمتنزهين من النساء والرجال والفتيات والشباب. فقد كان عندما يرى فتاة قادمة يرمي أمامها نقوداً في حركة تمثيلية توحي بعدم القصد ثم ينحني لالتقاطها من أمامها وقريباً جداً من جسمها يكاد يصطدم بها وأحياناً كان يصطدم جسمه بجسمها ، ثم يرفع رأسه ووجهه مواجهاً لوجهها تماماً ويرمي بكلام فيه غزل وألفاظ لا تخلو من قلة الأدب والوقاحة ، وكنت استغرب جرأته وأخجل من تصرفاته التي كنت أرى فيها خروجاً عن المألوف ، لكنني كنت أحياناً اتمنى لو كان عندي قوة جرأته ، وكنت أدعي أنني لا أمشي معه وأهرب عندما يتعرض للمساءلة من رجل غيور تخصه الفتاة التي يتعرض لها أو يغار بطبعه على الأخلاق ويتدخل لردعه إما ناصحاً وإما مؤنباً ، وكنا ندخل بالزحام لنحتك بفتاة أو امرأة متظاهرين بعدم القصد الذي هو في واقعه كان مخالفاً للنوايا السيئة ، وكنا نسمع من بعضهن المسبات ونرى من البعض الآخر الابتسامات الساخرة والإبتسامات المستحسنة لصدى التعليقات والتي تنم عن عدم ثقة الفتاة بجمالها وتثير غرورها بشكلها عندما تسمع إطراءاً عابراً.
لقد تركت في نفسي تلك الأيام أثراً بل آثاراً وذكريات طيبة اختزنت في حيز من ذاكرتي لن تزول إلاّ بفقد الذاكرة ، لقد عاصرت عمان في بدايات نشأتها وتمددها ، وتعرفت عليها وقضيت فيها لحظات ممتعة حقاً. وما زلت أحن اليها والى شوارعها وجبالها ووديانها ومقاهيها خاصة قهوة خبيني التي كان يرتادها المقاولون والعمال بحثاً عن عمل أو مقاولة لمشروع جديد. نسيت لبعض الوقت وفي زحمة التطورات السريعة، والأحداث المتلاحقة والإختلافات في طريقة الحياة بين المدينة والريف والصور المألوفة وغير المألوفة التي مرت على شريط الذاكرة في غضون تلك الأيام ، خبز الطابون ، والزيت والزيتون والزعتر ، واللبن المخيض والبيض والمفرّكة واليخني وقلاية البندورة والمنزَّلة، والعدس والمجدرة والرشته ( الرقاق مع العدس) والخبيزة واقراص السبانخ مع البصل الأخضر والسلق ، والتين والعنب والبطيخ والشمام والصّبر والملفوف ، والمحزّمة (البصل الأخضر يُلفُّ حول الخبز) ، وورق اللسان ، والزلابية والملاتيت والمطبّق والمفتول والكراديش والقراقيش والفطاير ، والصميدعة والقليَّة (القمح المحمص كالقهوة) نتسلى به على السهرة ، والهويسة (القمح المشوي قبل جفافه) والحميّضة والعكّوب. والمنسف والقدرة والمسخّن والمفتوتة (الحليب مع الخبز والسكر والسمن البلدي) (مثل أم علي المصرية). والحثيمة (حليب الشاة عند ولادتها) (حليب اللِّباء) والزبيب والقطين والدبس والملبن والعنصبيخ والقرنية والجعدة والميرمية والحلبة والبابونج (العصفر) ورجل الحمامة أو رجل العصفورة .....الخ). نسيت كانون النار بالشتاء وهو يلتهم الحطب الناشف من السويد والبلوط والعسوِد والزعرور ونحن نلتف حوله نتبادل الأحاديث والسوالف في جو من الدفء والحنان ، ننتظر ابريق الشاي وبعض المشويات من البلوط والشحيم والبلبوس ، نسيت محماس القهوة وطحنها بالهاون في الجرن في دقات منتظمة كان يجيدها والدي ونسمعها بعد صلاة الفجر وكنا نطرب لها ، كما كنا نخشع وهو يقرأُ القرآن بعد الصلاة وخلالها عندما يكون الجو ماطراً لا يستطيع الذهاب للمسجد البعيد عن بيتنا ، وحفظت عنه بعض آيات القرآن الكريم ، نسيت سيجارة دخان الهيشي والتي كنت دائماً استمتع بلفها لوالدي بالرغم من دخانها الكثيف الأسود كسحب الشتاء الماطرة ، نسيت منظر الربيع حيث أزهار النباتات التي تلون الطبيعة ، أزهار اللوز البيضاء وزهر الأقحوان الأحمر والأصفر ، أزهار التفاح والليمون ، نسيت قوس قزح ونسيت التمتع بالنظر الى الطبيعة الخلابة في الريف، كلوحة رائعة كاد وما استطاع أشهر الرسامين أن يحاكيها ، وخاصة مشاهدة الغروب ، ومناجاة الطبيعة عند الشعور بالوحشة والاكتئاب والملل والضجر ، وسماع خرير المياه ونقيق الضفادع ، لقد كانت الطبيعة في الريف بمثابة العيادة النفسية لجلاء الهموم وزوال الملل والقلق والضجر ولكن بدون الأعراض الجانبية التي تخلفها عقاقير الأدوية المضادة للقلق والاكتئاب التي يصفها الطبيب النفسي، نسيت نباح الكلاب ، وعواء الذئاب في عتمة الليل ، وفحيح الأفاعي ، ومواء القطط ، ونسيت صياح الديك وزقزقة العصافير في الصباح ونقيق الدجاج ، وثغاء الأغنام وخوار الأبقار ، ونهيق الحمير وركوبها ، وصر الصراصير وزن البعوض والهسهس، وصوت شبابة الرعيان ، وغناء الفلاح وهو يقطف الثمار ويحصد الحصاد ويدرسه ويذروه ، وغناء الفتيات وهي تنطر المقاثي وتقطف الثمار بأناملها الرقيقة ، ونسيت سوامر الأفراح والدبكة على وقع الشبابة والأرغول ، وزفة العريس ، وجلوة العروس التي كنا نختلس النظر اليها من على سطوح الدور المتصلة ، نسيت أمي وهي تعجن العجين ، وتحمله على رأسها في الصباح الباكر متوجهة الى الطابون ، نسيت خبز أمي ، وطبيخ أمي ، ودعاء أمي ورجاءها وحنانها ، ولكن الذاكرة ما زالت تختزن كل هذه الأمور التي غطتها طبقة طارئة من الجليد والثلج المتدحرج عليها والذي كان ينزف الماء في طريقه للذوبان للتلاشي وفي نزوة المراهقة وتدفق الغريزة التي اكتشفتها بالصدفة دون أن يعلمني بها أحد ، ولكنها كانت تعود تثير في رياح الشوق والحنين المحملة بعبير الأزهار وحلاوة الثمار وعبق الأصالة والوفاء الصادق ، تشدني اليها كلما أويت الى فراشي المؤقت في عمان ، وبالرغم من تشابهه بفراشي بالبلد حيث كنت أنام في الحوش المكشوف إلاّ انني كنت أفتقد أشياء كثيرة كنت استمتع بها في فراش الوطن ، حيث كنت أسمع في عمان زوامير السيارات ، وأصوات المذياعات والمسجلات بأغاني أم كلثوم وسميرة توفيق وعبد الحليم حافظ ، وكنت أحب أغنية أم كلثوم "إنت عمري" وأغنية عبد الحليم "صورة" وكنت أحب أغنية سميرة توفيق "وين عَ رام الله" و "أصلك خليلي يا عنب طعمك حليلي يا عنب" و "رف الحمام مغرِّب يا دادا مجوز والا فرداوي" وأغنية لمطربة مصريه لا تسعفني الذاكرة بتذكر اسمها تقول "فلاح كان فايت بتمشى من جنب السور من جنب السور، شافني وانا بقطف كم وردة بطبق بنور بطبق بنور ، قطع الموال وضحك لي وقال يا صباح الخيريا صباح الخير يا صباح النور يا اهل البندر" فتبدؤ ذاكرتي باسترجاع كل ما تختزنه من ذكريات الوطن في شريط سينمائي تبثه محطة الذكريات الجميلة تلتقطه من أقماري المضيئة التي تبزغ في سماء وطني المعطاء. وكانت أفكار الليل ، وعوارض الأرق التي كانت تعتريني أحياناً لتغيير مكان النوم وأجوائه وهبوب رياح الشوق لأمي وأبي تنازعني للعودة ، ولكنني عندما أصحو صباحاً وأجد فطور الحمص والفول مع زيت الزيتون والفلافل وخبز المدينة والشاي جاهزاً يلبي رغبة في شهية مفتوحة بسوط الجوع، والمس هدوءاً في النفس أضفاه علي نوم الليل وأحلامه التي كانت تختلط بين مشاهدات الريف والمدينة في نسيج متداخل الألوان والأصوات والصور ، وفي محصلة لأحلام تتواءم مع سن الشباب في ريعانه الطامح ، اتردد في تنفيذ ما جال في خاطري بالليل وأقول في نفسي : العودة أكيدة ، لماذا لا استمتع في ايام العطلة بمباهج المدينة في تغيير للأجواء وتعرف على عالم المدينة ، ولتجديد للعزيمة عند بدء العام الدراسي الجديد.
وفي غمرة السعادة العابرة بالرحلة الطارئة على أمل العودة للأصل ، وعلى وقع الأوقات الطيبة التي قضيتها في عمان ، وعلى غفلة وبدون انذار ، في ضحى يوم 5 حزيران 1967 ونحن في المقهى نلعب الورق ونحتسي الشاي والقهوة والكزوز ، سمعنا دوي طائرات قريب منا ، وكأنه فوق رؤوسنا ، وخرجنا للتو لدى سماعنا الصوت الى الشارع نستطلع الأمر ، فإذا بطائرات الميراج الفرنسية الصنع الإسرائيلية العدوان قد غارت على قصر رغدان وقفلت راجعة ، وإذا بالناس يصيحون مبتهجين ومهللين "لقد ابتدأت الحرب ،يا رب من عندك النصر"، فاتجهنا راكضين بسرعة البرق كل الى مقر اقامته فوراً متلهفين لسماع الأخبار وتاركين المقهى على حاله بدون دفع الحساب. واجتزت طلعة جبل الحسين لا أشعر بقدماي تلمسان الأرض وكأنني أطير في الهواء ، لا أعبؤ بحدة ارتفاع طلعة الحسين وطولها ، وطويت الطريق في دقائق معدودة انهبها نهباً بقدمي ، ونزلت الدرج المتدهور الذي يصل جبل القلعة بوادي الحدادة مهرولاً ومتخطياً أربع درجات في خطوة واحدة ، دخلت البيت فوجدت أخي قد عاد من عمله محتضناً المذياع بدلاً من أبنائه وتغمره نشوة السعادة بالنصر فقد استمع الى الأخبار من الإذاعات العربية. وكان صوت فهد بلاّن الجهوري يغني "ويلك يلّي تعادينا ويلك يا ويل ، شبه النار تلاقينا بظلام الليل ، حِنّا للضيف ، للضيف ، حنا للسيف للسيف ، حنا لليل والخيل يا ليل يا ليل ...الخ" وبادرني أخي قائلاً " ما سمعت؟ ، الجيوش العربية هجمت على اسرائيل ، وجلست مع أخي أسمع البلاغات العسكرية العربية ، فقلت له حط على إذاعة لندن نسمع الأخبار ، فقال لي بلا لندن بلا بطيخ اصفر ، هذي مثل اذاعة اسرائيل ، وكان أخي مسَرَّحاً من الحرس الوطني ، وقال لي سأذهب الى قيادة الجيش للتطوع ، دير بالك على الأولاد والعيال ، وغاب ساعتين ورجع الى البيت يبدي أسفه لعدم الحاجة له حالياً فالجيش على مايرام ، وخلال غيابه كنت اقلِّب مؤشر المذياع بين الاذاعة الأردنية من عمان والقدس ، واذاعة صوت العرب ، واذاعة سوريا فيرتفع عندي منسوب التفاؤل والنشوة والحمية ، وتارة اخرى لاذاعة لندن فينخفض منسوب التفاؤل والنشوة والحمية قليلاً مكذباً لها ولأخبارها ، وادرت المؤشر لاذاعة اسرائيل فاذا بها تذيع اغنية لأم كلثوم وكأنها لا تخوض حرباً ، فقلت "اطربوا في هذه الدنيا قليلاً قبل أن يقضي الله أمره بكم وتودعوها الى غير رجعه أيها المجرمون القتلة". والتم أقاربنا ومعارفنا في بيت أخي في احتفال بالحرب التي ستنهي اسرائيل ، نستمع للبلاغات العسكرية عن تقدم الجيوش العربية في كل الجبهات ، وللأناشيد العربية من كل المطربين والمطربات العرب ، ونطرب لها في نشوة عارمة واثقة بالنصر المؤكد استناداً لما كنا نسمعه من بلاغات تزخر بالقتلى الاسرائيليين والطائرات الاسرائيلية المتساقطة كأوراق الخريف ، والأراضي العربية المحررة ، والجيوش العربية الزاحفة للقدس والناصرة وصفد وللخطب والتعليقات المبشرة بالنصر والتحرير ، والى الوقت الضيق أمام اليهود لحزم حقائبهم والرحيل ، والى مصير بعضهم كطعام للسمك الذي يتضور جوعاً بالبحر على شولطيء حيفا ويافا وعكا ، والى سبايا اليهود من الفتيات والنساء الحسناوات ، والى الغنائم من أثرياء اليهود الكثر التي سيتركونها وراءهم وما سينالنا منها ، تخيلنا الغنائم من كوننا سكان قرية على التماس مع اسرائيل وجزء من أراضهيا كان وما زال محتلاً، حيث كنا نلمس ونرى الخيرات داخل المستعمرات وكان بعض المتسللين من القرية يغيرون عليها ليلاً ويحضرون معهم الأبقار الهولندية والمهر الجميلة والحاجيات التي كنا نفتقدها في عيشنا على الكفاف بفقر مدقع في تلك الأيام ، وكان يدور بيننا نقاش عن كيفية تقسيم الغنائم بعد المعركة وعن كيفية عودة اللاجئين لديارهم ، ومن سيقسم الأراضي والغنائم وعلى أي أساس ، ومن لا يحتفظ بالطابو (الكوشان) الذي يثبت حقه في أرضه ، وهل ستكون لنا دولة أو ننضم للأردن ، نقاش حاد وطويل يمتد لساعات متأخرة من الليل بالقهقهات والنكات والفرحة بالنصر والتحرير. وكل البيوت المحيطة بنا كانت على نفس النمط والمنوال. وكنت اسرح بخيالي عندما آوي الى فراشي وأتخيل طويلاً قبل النوم ،من خلال حديث جدي وجدتي ووالدي ووالدتي عن بيارات البرتقال والحمضيات والتي كنا محرومين من ثمارها ويتلذذ بها اليهود ويصدرونها للغرب ونحن أصحابها الشرعيون محرومون منها ، تخيلت مرج بن عامر الذي اشتهر بخصوبته الشديدة ، والكرمل بجماله وحفلات يافا وحيفا ومقاهيها ودور السينما فيها وشطآنها الجميلة التي حُرِّمت علينا وحُرِمنا من التنزه عليها والاستمتاع بها، تخيلت القدس الغربية وآثارنا فيها ، جبل المكبر والقرى المحتلة من قضاء القدس، تخيلت الناصرة بكنائسها القديمة ، تخيلت نفسي حاجاً الى مكة وماراً بالمدينة المنورة وحاطّاً رحالي في نهاية الرحلة بالقدس الشريف لأقدس حجتي مصلياً في المسجد الأقصى ومتتبعاً رحلة الرسول الكريم سارياً من مكة الى القدس الشريف ، تخيلت الثروة السمكية والسياحية والزراعية في تلك الأرض التي بارك الله فيها وحولها ، والتي وردت نباتاتها في مجملها بالقرآن الكريم من التين والزيتون والرمان والأعناب والثوم والأبصال والنخيل واليقطين والقثاء والعسل لكثرة أزهارها وورودها ورحيقها ، تخيلت نفسي في قارب يمخر عباب المتوسط في نزهة متنقلاً بين يافا وحيفا وعكا وبيروت واللاذقية ومن الاسكندرية الى السويس والعقبة وغزة هاشم اتجول في بحريين أحدهما أبيض والآخر أحمر عبر قناة جبارة حفرها اشقاؤنا المصريون بزنودهم القوية ، وفي وطن عربي كبير موحد ، تخيلت نفسي أقف على بحيرة طبريا ، تخيلت نفسي عريساً أقضي شهر العسل في فلسطين المحتلة ، تخيلت نفسي طبيباً أو مهندساً أو طياراً أو محامياً أو مدرسا أو شرطياً أو جندياً أو فلاحاًً أعمل في وزارة فلسطينية أو عربية في دولة فلسطينية أوعربية تبسط سيادتها على كل التراب الفلسطيني وأعمل في فلسطين المحتلة أخدم في بناء الدولة والوطن ، وأتنفس عبق الماضي من روايات الأجداد وآثارهم على تلك الأرض المباركة الطيبة ، وقد صوَّر لي الإعلام العربي أنني على أبواب تحقيق هذا الحلم الذي كان يراودني دائماً ، وأنني قاب قوسين أو أدنى من تحويل هذا الحلم الى حقيقة لا بل أصبح في عداد الحقائق والواقع بعد نهاية المعركة التي اقتربت من نهايتها بالحسم لصالحنا كما كنا نسمع ولا نرى. وقلت في نفسي : يا لها من رحلة عجيبة رأيت فيها العجب العجاب ، وتحقق فيها الحلم الدائم ، وعندها كنت أندم على مجيئي من الوطن لكي يكون تحقيق الحلم أسرع ، حيث أنني بعيداً عنه في لحظة التحرير والنصر وبعيداً عن والديّ اللذان طالما تحرقا شوقاً لهذا اليوم لأشاركهما فرحتهما بعد معاناتهما أيام الحروب والإحتلالات ورؤية أفواج المهجرين المنكوبين من فلسطين المحتلة. وكانت أحلامي أثناء النوم تلامس تخيلاتي قبل النوم وتحقق بعضاً منها ، وأصحو سعيداً مبتهجاً وجائعاً من شدة السعادة المفاجئة التي لم أكن على موعدٍ مسبقٍ معها. والتي سببت لي صدمة موجبة ارتفعت بي فوق سطح التوقعات والأحلام أطير معلّياً ومحلقاً بالجو كالقبَّرة تتفنن بقدرتها على الطيران بالعلو الشاهق والتحليق والحوم والدوران والوقوف سابحة عائمة في أجواء الوطن الجميل.متبخترة متباهية وسعيدة تعبِّر عن سعادتها بالرقص في كبد السماء والغناء المتواصل ، وكنت أشبه القبرة في كل شيء عدا أنها كانت تطير في الحقيقة بما وهبها الله من إمكانية الطيران وفنونه بالأجنحة وخفة الجسم ورشاقته والتحليق والغناء والتغريد والسعادة ، بينما كنت أنا أطير وأحلق وأغني في الخيال الذي صنعه إعلام المعركة متناغماً مع أحلام الناس وطموحاتها وتمنياتها وأمانيها وآمالها في استعادة حقوقها. فجعلنا نطير بأرواحنا في أجواء النصر وأجسادنا ترقص على الأرض فرحاً متناغمة مع ايحاءات الأرواح في عنان السماء بينما كانت مفاجأة الهزيمة مخبّأة لنا.
وبدأت أخبار الهزيمة تتسرب من الإذاعات العالمية ، واتهمنا مروجي هذه الأخبار بالطابور الخامس ، والمتخاذلين والخونة ، ولم نصدّقها أبداً ، ولم نسمح لأنفسنا بالتفكير فيها أو سماعها إلاّ إكراهاً ، لأنها ستطيح بالآمال الكبيرة التي تعشعش في صدورنا ، والتمنيات الغالية العزيزة على قلوبنا ، وبدأت الإذاعات العربية تتراجع في بلاغاتها ، ولم نصدِّ ق ذلك ولم يستطع هذا التراجع الإعلامي العربي عن المعركة أن يفيقنا من غيبوبة الفرحة بالنصر والحب الضائع في ثنايا سنوات القهر الذي وضعنا فيه الإعلام العربي والبلاغات العسكرية الطائرة في سماء الحلم العربي ، وكان ذلك بمثابة الحمل الكاذب لامرأة عاقرٍ تحب زوجها ويبادلها الحب والوفاء والإخلاص ، والذي كان يتلهف ويحلم بإبن أو إبنة يحمل أو تحمل اسمه من بعده ، فتصدمهما المفاجأة الصاعقة بأن الحمل كان كاذباً.
خرجنا للتو لنتأكد من الخبر ، خبر الهزيمة العربية وتراجع جيوشها لخط الدفاع الثاني على كل الجبهات ، وبدأت فلول العسكريين المنسحبين تؤكد الخبر الصاعق ، وبدأت قصص الهزيمة تبث علينا من القادمين من أرض المعركة يتناقلها الناس ، ولم نتقبل استيعابها أو تصديقها بعفويتنا وسذاجتنا وسطحيتنا وبعدنا عن الواقع المر الذي كانت تعيشه أمتنا العربية ونعيش فيه نحن في عدم فهمها وفهمنا لقوة العدو ، نحلق في خيال الحلم دون العمل لتحقيقه، وعدم إعدادها للمعركة في كل الإتجاهات من إمكانات تعبوية مادية ، ومن إمكانات تخطيطية وعوامل وحدوية وتنسيقية ، ودون رسم للأهداف والخطط والآليات لتحقيق النصر أو حتى الحفاظ على حدودنا في ذلك الوقت. وهذا ما لم نكن نفهمه جميعنا وفهمناه فيما بعد. توجهنا الى الأغوار لنقف بأنفسنا على صحة الخبر والحقيقة لنستطيع تصديقهما ، ووصلنا الشريعة (نهر الأردن) ، وفي طريقنا رأيت جثة رجلٍ ضخمٍ ميت ومتفحِّم ، رأيت هذا المنظر لأول مرة في حياتي،والذي فتح الى نفسي درباً ضيّقاً لتصديق الخبر لهول ما رأيت ، فبدأ ريقي يجف ، وزاد من جفافه حرّ الغور ، وشعرت لأول مرة بطعم عريبٍ مُرٍّ في فمي ، وبمزاجٍ سوداويّ ، وعلى الشريعة انفتح طريق التصديق للخبر واسعاً ومعبَّداً في ذاكرتي ، حيث شاهدنا جموع النازحين تجتاز النهر من عائلات الجنود والموظفين الذين يعملون في الضفة الشرقية من النهر ، شاهدت النساء والأطفال والشيوخ وبعض المنسحبين من الجيش ، الأطفال تصرخ على أكتاف أمهاتهم من الجوع والعطش ، والنساء مكفهرات الوجوه ، ترهق وجوههن غبرة المعركة والطريق الطويل الذي سلكنه للوصول الى الضفة الشرقية من النهر ومرارة الهزيمة وصدمتها لنفوسهن المتكسِّرة، شاهدنا مشاهد الهزيمة على الواقع ، وأخبرنا القادمون من الضفة الغربية أن الجيش الإسرائيلي يعسكر في أريحا ، وأنه احتلّ أريحا أولاً ثم رجع لاستكمال الإحتلال للضفة كاملة وكأنه في مهمة سهلة وبسيطة وميسورة. انهار فينا الأمل وسقط الحلم الجميل الذي راودنا كثيراً سقوط الصخرة من علوٍّ شاهق في وادٍ سحيقٍ متدهور ، واستقرّت في قلوبنا تثقلها باليأس والإحباط، وانهارت ثقتنا في أنفسنا انهيار الجدار المتصدِّع مرة واحدة دون سابق إنذار ، فكانت الصدمة صاخّةً وعنيفة وشديدة شدة الإعصار ، وزلزلت الأرض من تحت أقدامنا ، فتحوَّل بستان الأمل الى أرضٍ خراب جدباء قاحلة عصفت في عيوننا غبار الهزيمة. وكان السقوط المفاجيء من العلو الشاهق في كبد السماء يشبه سقوط القبرة كالسهم الى عشها لتطعم أولادها ، بينما كان سقوطنا نحن من العلو الشاهق الى الهاوية السحيقة مُبعدين عن عش العائلة خارج حدود الوطن مشردين نازحين مبعثرين مشتتي الفكر في توهان لا ندري له نهاية ولا ندرك له حدوداً.
رجعنا في المساء الى البيت ومعنا بعضاً من أقاربنا ومعارفنا الهاربين ، واستمعنا الى خطاب الملك حسين الذي كانت تعيده الإذاعة الأردنية يقول لجنوده : بأسنانكم بأظافركم والى خطاب الزعيم جمال عبد الناصر والذي أعلن فيه الهزيمة محملاً نفسه مسؤوليتها ومتنحياً عن الرئاسة لزميله زكريا محيي الدين ، ولم يعد أمامنا بدّاً من التصديق الكامل الواضح والصريح للهزيمة. ولأول مرة سمعنا خطاباً منكسراً من عبد الناصر كانكسار الضوء في الماء. انكسار ضوء الأمل في مياه الحقيقة المؤلمة والصاعقة والمرة مرارة لم نعهدها من قبل بل عهدها آباؤنا وأجدادنا عام 1948.
بدأت أفكِّر في أمي وأبي وإخواني وأخواتي في الوطن ، وتخيلت منظر العساكر اليهود وهم يقتحمون بيتنا ، ويأخذون أبي وإخواني ويروعون أمي وأخواتي ، بل إن بعض القادمين أخبرنا بأنهم يصفّون البشر في كل مدينة وقرية يدخلونها ، ولم تغب عنّي صورة أمي بالذات لحظة واحدة ، وكيف سيعاملها الإحتلال وأحياناً اتخيل ما كان يرويه بعض المبالغين من أنهم يقتلون البشر أينما حلّوا ، فكنت اتخيّل ذلك في أمي وأبي وأخواتي وإخوتي ، انتابني شعور بالإكتئاب والحزن العميق ، وشعورٌ بالقلق والتوتر والأرق وقلة النوم وقلة الشهية للطعام ، ولمّا قرأت عن الإكتئاب فيما بعد والذي كنت أسمع به دون أن أصدّقه إكتشفت أنه هو الذي كان يراودني في ذلك الوقت. وقد خطر على بالي أن أطلب من أخي مراجعة طبيب نفسي لعل النوم الهاديء يزورني ، لكنني كابرت وعدلت عن ذلك ، فالمصيبة لم تحل بي وحدي ، ومرّت علينا الأيام ثقيلة وبطيئة نحاول الصحوة من الصدمة ونقاوم الإكتئاب الذي اعترانا ، وكنا نزور المدارس في عمان والتي أصبحت مأوىً للمشردين للتعرف على أقاربنا ومعارفنا واستطلاع ألأخبار من داخل الوطن وكانت جموع المشردين تنزف من الضفة الغربية وتصب في الضفة الشرقية ، وأصبح بيت أخي كالمخيّم الكشفيّ ، وكانت له ساحة كبيرة مكشوفة ينام بها الرجال ، وتنام النساء في الغرف ، ولا أبالغ إن قلت بأنه كان مأوىً لما لا يقل عن خمسين رجلاً وطفلاً وامرأة في حين أنه كان يتألف من غرفتين ومطبخ وحوش. وكان المطبخ يستغل للنوم.
التقيت في أحد المدارس في عمّان باستاذ اللغة الإنجليزية (فخري العزة) والذي كان يدرسني في المدرسة الإبراهيمية بالخليل وكان من ضمن النازحين والمقيمين في المدرسة ، وكان أخبرني قبل انقضاء العام الدراسي بأنه رشحني عن المدرسة كلها ، لألتحق بمخيم تعليمي للغة الإنجليزية لطلبة مختارين من مدارس المملكة يقام في تركيا ، وسألته عما تم في الموضوع ، فأفادني بأنهم رفعوا اسمي الى وزارة التربية والتعليم لأكون من ضمن الطلبة المختارين وأن الموافقة بمثابة تحصيل حاصل ولكنه أعقب بأن ذلك يخضع للظروف الجديدة الطارئة على البلد.
انقلب حالي رأساً على عقب ، وتبدلت أحوالي من سعادة واستمتاع بأجواء المدينة ، الى تعاسة وضجر وملل ، فامَّحت من ذاكرتي أيام المدينة وانسحبت لصالح أيام القرية ، كنت في القرية إذا اعتراني ضجر أو ملل ، أخرج للطبيعة الخلابة في رحلة علاجية لإزالة القلق والتوتر والضجر والملل ، أناجي الطبيعة وأسرح بنظري بعيداً في الحقول والطرقات ممتداً ببصري في عالم الجمال ، ومنصتاً بسمعي لزقزقة العصافير ، وأصوات الرياح تداعب الشجر ، والى خرير الماء في الجداول ، وأقف على تلٍّ أشاهد غروب الشمس الجميل وأرقبها وهي تتوارى بين التلال والجبال ، وأداعب خيالي ، واستنهض مواهبي وقدراتي في التعبير عن جمال الطبيعة وجاذبيتها وسحرها في إزالة الضجر والملل ، وهذا ما صرت أفتقده في المدينة ، أهرب من البيت لعلاج الضجر والملل فأصطدم بضوضاء المدينة فتزيدني ضجراً على ضجر ، ولم تعد ملذات ومغريات المدينة تعوض شوقي وحنيني الى الوطن ، افتقدت حنان الأم ، وافتقدت نصائح الأب ، وتبقى صورة أمي في خيالي لا تفارقني أبداً ، وصار يراودني شعور بفقدان كل ذلك ، وانعدم لدي شعور العودة في ظل الهزيمة ، وبدأت أشعر بأن الحرمان من الوطن يطبق على صدري ، فيضيق صدري منه ، أقاوم الحنين الى الوطن والأم والأب ولكن مقاومتي لذلك كانت أضعف من فرط الحنين والشوق الذي يغالبني ويشدني وأهرب منه وأخفف من وطأته بالسرحان متخيلاً نفسي عائداً الى وطني أمارس هواياتي ومواهبي التي غذاها جمال الوطن وحضنه الدّافيء.والذي كان يخرجني معافاً من كل ضائقة. لم أعد أعبؤ بطعام المدينة وجمال فتياتها واحتل ذاكرتي وعسكر فيها ذكريات أيام الوطن ومعطياته وهباته من الحنان والدفء وبلسم العلاج النفسي. فسيطر على فكري وعقلي وعاطفتي الرجوع الى الوطن ، ولكن كيف لي أن أحقق هذه الرغبة الجامحة في نفسي؟
كنت أصحو في الصباح الباكر كل يوم ، أتناول فطوري بلا شهية للأكل ، وأذهب لسوق السكر ، وألتقي مع أهل بلدي من النازحين قسْراً وطواعية في المقهى المعهود ، وكنا نتلهّى بلعب الورق ونستطلع أخبار الوطن من القادمين الجدد ، وقد خفف من شعوري بالقلق ما سمعته من أخبار الأهل بأنهم بخير وخاصة أميّ ، ولم يمسهم سوء ، وبدأ بعض الناس يعودون تسلّلاً الى أرض الوطن ، يساعدهم في ذلك بعض المتطوعين الذين يعرفون الطرق للتسلل للوطن ، وتتبعنا أخبار العائدين واستفسرنا عن طرق العودة وأساليبها. فاستحسنت الفكرة وبدأت أعمل لتحقيقها وصارت هدفاً لي ولصديق من قريتي اسمه رضوان عطوان كان أقل منّي بصف دراسي ، وبدأنا نخطط للعودة من هذا الطريق غير المشروع من قبل سلطات الإحتلال ، والذي شرعه الله لنا وأباحته كل الشرائع والقوانين.
...........................................................................................................................
الجزء الثاني من الرحلة (من عمان الى القرية في الضفة الغربية)
...........................................................................................................................
كان في قرية ملاصقة لقريتنا هي قرية نوبا رجلٌ له باعٌ طويلٌ في مضمار عودة النازحين الى ديارهم بالتسلل ، إنه الشهيد عبد القادر العالول (ابو عامر) والد الشهيد عامر العالول رحمهما الله ، تقفينا أثره وتتبعنا أخباره الى أن التقينا به في سوق السكر ، واتفقنا معه أن نلاقيه غداً الساعة السابعة صباحاً في سوق السكر لنبدأ رحلة العودة للوطن متسللين مع ابو عامر. كان ذلك في أواسط شهر آب قمة حرارة الصيف. واتقنا ألاّ نخبر أحداً من أقاربنا في عمّان ، وعدنا الى بيوتنا نحلم بالوعد وتحقيق حلم العودة. ولم أخبر أخي بالأمر ، ولم أتذكّر أن أطلب منه فلوساً للرحلة حيث كان في جيبي نصف دينار فقط.
حضرنا على الوعد وانتظرنا دليلنا أبو عامر ، وأشارت الساعة إلى الثامنة ولم يحضرابو عامر ، وفي اجتماعٍ عاجل بيننا قررنا أن نخوض معركة العودة بأنفسنا حيث كان قد قدّم لنا أبو عامر شرحاً مقتضباً عن الطريق حين التقينا به أمس. وكان مع زميلي رضوان دينارين ونصف ، واشتريت عبوة علكة (لبان) ، وتوجهنا لمحطة الباصات التي تنقل الركاب من عمان الى بلدة الكريّمة شمال الغور ، وكان الجو حارا جدّاً ، ونزلنا في الكريّمة ، واتجهنا باتجاه الشريعة والحر يلفح وجوهنا واستعنا بالعلكة لتخفيف نشفان الريق من الحرّ ، وحرّ الغور غنيٌّ عن التعريف ، ووصلنا الشريعة ، فوجدنا رجلاً ضخم الجثة وفارع الطول كان يمتهن إعانة الناس على تخطيّ عقبة المياه الى الشط الغربي من الضفة مقابل أجر ، وطلب منّا 30 قرشاً عن كل نفر ، فدفعنا له المبلغ ، وأمسكنا بإبطيه ولفَّ ذراعيه القويتين حول أيدينا ودخل بنا الى النهر ، وأذكر أن الماء كان يداني رقابنا ، ولكنه يصل الى منتصف صدره ، وسحبنا الى الجانب الغربي بنجاح ، ونصحنا بتوخي الحذر من الدوريات الإسرائيلية وألاّ نهرب أمامهم إن اكتشفوا تسللنا ، ولا نقاوم بل نستسلم لهم بأريحية لنحافظ على أرواحنا حيث سيتم إبعادنا من حيث جئنا في أحسن الأحوال أو يقضي الله أمره فينا. وأشار علينا بالإتجاه المناسب الذي سنسلكه لنصل الى بلدة العوجا في الضفة الغربية.
وبدأنا نمشي ونمشي ونقاوم الحر الشديد في يومٍ سَموم ، ونعاني عناءً شديداً من نشفان الرّيق وجفافه وتبخره من الحلق والفم حيث نفذت عبوات العلكة ، وكان الطريق طويلاً وصعباً ومرعباً لنا ، وكان الشجر ناشفاً لا ظل نستظل به ،والرياح تلفح وجوهنا بحرارة لا تطاق ، وداهمنا العطش ، وبدأ يشتد في هجومه علينا ، واعترانا التعب والجفاف والإرهاق والصداع من لدغ الشمس وجفاف البدن من نزف العرق ، وفقد السوائل ، ولم يعد في أجسادنا ماءً نتعرق منه ، وكان رضوان يميل لونه للسمرة بعكس لوني الذي يميل للحمرة بدون حرّ ، وكان كلما نظر اليّ يعتريه الخوف على حياتي لما يراه من شدة الإحمرار على وجهي ، وكان غبار الأرض قد التحم مع العرق وغطى أجسادنا بطبقة طينية وتسلل لحلوقنا وبدأنا نشعر بحكة غريبة وملحة ، وبخشونة في حلوقنا الجافة، قاومنا ... وقاومنا ، وكان زميلي رضوان أشدَّ منّي قليلاً في تحمّل ظروف الرّحلة ، وأخيراً جلست على التراب وجلس بجانبي ، وشعرت بأن فكيّ أطبقا على بعضهما من قلة الرّيق ، وواجهت صعوبة في التنفس وبلع الريق وفتح الفم للكلام ، فأصبحت أبلع سقف حلقي وحنجرتي من قلة الريّق فتلتصق العليا منها بالسفلى ، ولا أستطيع ابعداهما عن بعضهما البعض ، ولم يكن زميلي بأحسن حال منّي حيث ساءت حالته مثلي ، وأصبح النطق والحديث بيننا صعباً فلا نستطيع تحريك فكينا ، وقمنا نعاود المشي بخطاً ثقيلة وبطيئة ومترنحةً كترنح الجريح في أرض المعركة ، وبعد راحة قصيرة استعدنا فيها بعضاً من طاقتنا النافقة وكنّا نقرأ القرآن في صدورنا ونتشهد بين الفينة والأخرى وندعو الله بأن ينجينا ويفرج عنا كربتنا لأننا في رحلة لأسمى هدف. وشعرنا بدنو الأجل ، ليس من الإحتلال الذي لم نلحظ جنوده ، ولكن من مغامرة غير محسوبة النتائج في وضح النهار لشابين في سن المراهقة وفي مقتبل العمر.
وبينما نحن نترنح في مشيتنا الهزيلة ويسود اليأس والإحباط والضياع ودنو الأجل على تفكيرنا ، لمحنا عن بعد مقثاة ، فحدانا الأمل بالنجاة ورفع من معنوياتنا ومن مستوى طاقتنا المتدني والمتهالك ، فشددنا الخطا قليلاً كالغريق الذي يتعلق بقشة ، ومشينا حوالي مئتي متر حتى وصلنا المقثاة ، وكان بها بعض ثمار البطيخ والبندورة ، وارتمينا على نيتة بطيخ ، وأمسك كل واحد منا ببطيخة بيديه المرتجفتين ، وكانتا قرعتين ذابلتين ، ولكننا لم نعبأ بذلك ، وسطحت بطيختي نصفين ، وأدخلت فمي في نصف منه أنهل ثمرتها ببذورها وأحياناً بقشرتها وأمرغها على وجهي من شدة الحر والتعب. وبدا لنا أن الله قد استجاب لدعائنا ورعانا برحمته من فوهَّة الموت ، وكانت المقثاة لأهل بلدة العوجا ولا تبعد عنها كثيراً ، فأكملنا ميسرتنا حتى وصلنا بيتاً على أطراف القرية وكان يجلس على شرفة البيت رجالٌ في قيلولة ، ويحتسون الشاي ، فلمحونا وفهموا حالنا ، ونادانا أحدهم وأشار علينا بالحضور ، ورحبوا بنا وجلسنا ووجوهنا تحكي قصتنا الغريبة ، فأحضروا لنا طعاماً وماءً ، وفتحوا لنا أبواب بيوتهم لنغسل وجوهنا المغبرة وأيادينا وأرجلنا ، ونصحونا بأن نبقى على بعضٍ من حالنا من التعب والإرهاق لنوحي للجيش الإسرائيلي بأننا عمّال ، وذهب أحدهم وأحضر لنا سيارة أجرة لتنقلنا الى الخليل ، وحضر بالسيارة وقالوا لنا : إن سألكم الجنود عن هويات أو إثباتات فقولوا لهم إننا نعمل في مشروع العلمي وإننا عائدون لمكان سكننا في إجازة وليس لدينا هويات أو إثباتات وهذا ما كان واقعاً وحقيقة حيث لم يكن لدينا أي إثبات أننا من سكان الضفة الغربية بعد الإحتلال ، ولم يتم في ذلك الوقت صرف هويات الإحتلال للناس ولدينا العذرلذلك.
سارت بنا السيارة ولحسن الحظ لم يوقفنا الجنود على نقاط التفتيش في مدخل أريحا وغيرها من المدن وصولاً للخليل. وصلنا الخليل وقد كان ما نملك من نقود (ثلاثة دنانير) كافياً لرحلتنا. ورفع آذان المغرب لدى وصولنا مدينة الخليل ، وقد استنفذت نقودنا إلاّ قليلاً لا يكفي لأجرة السيارة ، ولذلك لا نستطيع استئجار سيارة لتوصلنا الى قريتنا خاراس التي تبعد 21 كيلومتر عن مدينة الخليل ، وكانت آخر رحلة للباص عند العصر قد فاتتنا متوجهة من الخليل الى البلدات الثلاثة المشتركة في خطٍّ واحد في إيابٍ بلا ذهاب من جديد.
لم نصدِّق أنفسنا بأننا أصبحنا في حضن الوطن ، وأننا نجونا من هذه الرحلة مجهولة المصير ، وبدأنا نتنفس هواء الوطن الدافيء ، وشعرنا بفرحة عارمة وزهوٍّ كبير ، ونشوة النصر على ليل الغربة الدامس بظلامه والتي أنستنا وطأة الهزيمة ، وقررنا أن نكمل الرحلة لنهايتها ، فنحن نعرف طريقاً مختصراً قصيراً كنا نسلكه عندما لم نلحق بالباص ، يربط بين قريتنا وبلدة حلحول التي تحد قريتنا من الشرق وحلحول قريبة جداً من الخليل وأصبحت الآن متصلة بها كما يروي لنا القادمون من هناك، ولكن ما كنا نعرفه عن هذا الطريق أنه وَعِرٌ وموحش ، جبالٌ ووديان وكروم وأحراش، كنا نسمع من السالفين من الآباء والأجداد قصصاً عنها بأنها لا تخلو من الوحوش الضالة كالذئاب والضباع والسباع التي تنتشر بالليل باحثة عن فريسة تسد بها جوعها ، وأن بعضاً من الرجال ذهبوا ضحايا فيها كفرائس لهذه الوحوش آكلة لحوم البشر، وكما سمعنا فإن الوحوش لا تجرؤ على من يمشي واثقاً بنفسه ومعتداً بشجاعته والذي لا يظهر عليه الخوف أو الضعف. وأنها لا تقترب من الضوء ، فاشترينا من المدينة مصباحاً وبطاريات لنستعمله عند الحاجة لدى مواجهتنا لهذا الموقف.
بدأنا الجزء الأخير من الرحلة داعين الله أن يكللها بالنجاح والنجاة ، فاتجهنا الى حلحول وبعدها أكملنا المسيرة الى القرية مسقط الرأس ، مُسَرِّعين للخطا ومستنيرين بالنجاحات التي حققناها في الوصول لهدفنا بالعودة الى الوطن ، وبالفعل لم يواجهنا مصاعب ومخاوف الضباع في الطريق ، وصلنا القرية عند آذان العشاء ، فتنفسنا الصعداء شاكرين الله على لطفه بنا، وهنا لا أستطيع أن أعبِّر عن شعوري بهذا الإنجاز الرائع ، والذي كان مذهلاً لأهلنا وذوينا في القرية وفي الشتات. وولجنا القرية من الشمال حيث بيت أختي ، وكان رضوان قد وصل بيته قبلي والذي يقع في أقصى شمال القرية ، ودخلت بيت أختي وكانت مفاجأة مذهلة لها ولزوجها ولأولادها ، وتعشيت عندهم ، وبقي عليَّ من الرحلة فصلاً بسيطاً وهو الوصول الى بيتنا الذي كان يجثو على جبل مقابل لقريتنا يفصل بينهما وادٍ منحدر ، ولكن ما ساعدني أن القمر كان طالعاً ، وألحّت أختي عليّ بالمبيت عندهم وفي الصباح أذهب لبيتنا ، ولكنني أصررت على إكمال الرحلة لنهايتها لأرى أمي وأبي وإخواني . وكانت المفاجأة المحزنة والمفرحة لي في نفس الوقت عندما أخبرني زوج أختي أن أبو عامر (عبد القادر العالول) الذي كان سيرافقنا الرحلة كدليل لنا قد قتل اليوم برصاص الإحتلال على الشريعة ، وذلك بعد أن قصصت عليهم قصة عودتنا وعدم وفاء ابو عامر بوعده لنا، كانت محزنة لفقد رجلٍ شجاع تسبب في عودة الكثير من أبناء الوطن لأرضهم ووطنهم ، ومفرحة لأننا لم نكن معه في رحلته التي ستعود بنا الى الوطن كما خططنا ، فقلت في نفسي : سبحان الله ، قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا ، فقد كُتِبت لنا النجاة والحياة ، وكُتب لأبو عامر نهاية الأجل والوفاة ، فقد يسّر الله له أسباباً منعته من لقائنا على الوعد لكي لا نلاقي حتفنا معه. فلا غضب من قضاء الله وقدره ، بل يجب أن يضع المرؤ نصب عينيه التفسير الذي يريح نفسه إن أخفق في تدبيره كبشر بنية صافية وحسنة ، وعمل صادق ومخلص ، أمام تدبير الخالق العليم العظيم لأن الخالق يريد لنا الخير دائماً.
بدأت الفصل الأخير من الرحلة ، وشققت طريقي الى بيتنا ، واخترقت الوادي المنحدر وكأنني أطير وأحلّق في الجو ، ولم تأخذني الطريق وقتاً طويلاً للوصول لنهاية الرحلة ، ولم يخالجني شعورٌ بالخوف من الليل والوحوش ، ولمّا اقتربت من البيت أخذ الكلب الذي ربيته ينبح ، فاقتربت منه فعرفني وأخذ يعبِّر عن فرحته بقدومي بحركات بهلوانية ، ويشمشم حولي وينبح بصوتٍ حزين ورقيق (يُعَوِّص) لمست فيه تنفيساً عن حزن الفراق وألم الشوق ،فالكلب معروف بوفائه، ولمحت في عينيه دموعاً ربما كانت دموع فرحٍ للقاء أو حزن على فراق ، ودخلت على أميّ وأبي وهما يتهيآن للنوم ، وكانت المفاجأة لهما كبيرة في وقعها وفي توقيتها وفي أسلوبها ، وكانت الفرحة بلقائهما لا توصف بكل اللغات والأحرف والكلمات والأشعار، وسألاني : وهل يعرف أخوك بعودتك الينا ، فقلت لهما لا أحد يعرف بذلك ، وكان أخي في عمان لم يترك مستشفىً أو مخفراً في بحثه عنّي ، وكان أحد جيراننا ينوي الذهاب الى عمان صباح اليوم التالي ، فذهب اليه والدي ليطلب منه إخبار أخي بوجودي في البلدة وليكف عن بحثه عنّي.
وبدأت الدراسة في الضفة الشرقية ولم تبدأ في الضفة الغربية بعد ، وكان أخي الذي يسكن عمان مهتماً بدراستي ، فبعث إليّ مراراً لأخرج لعمان لإكمال دراستي هناك ولم أستجب لدعواته ، وعرض عليّ عروضاً مشجعة ليغريني بالحضور ، وألحّ عليّ والديّ بتلبية طلب أخي الذي سيوفر لي نفقات الدراسة حيث هي ثقيلة عليهم، وفكرت بالأمر جديّاً قبل أن يتمّ الإحصاء من قبل الإحتلال وأقنعت نفسي بفكرته مؤمِّلاً العودة عند بدء الدراسة في الضفة الغربية ، وتم ذلك وخرجت الى عمان بعد العودة بتصريح محدود المدة من الحاكم العسكري لظروف استثنائة طارئة ، وسجّلت اسمي على الجسر لدى سلطات الإحتلال مغادراً ولدى السلطات الأردنية قادماً ، والتحقت بالدراسة في عمان ، ولمّا ابتدأت الدراسة في الضفة الغربية حاولت العودة عن طريق الجسر الذي خرجت منه ، ولكن سلطات الإحتلال أعادتني من حيث أتيت لإنتهاء مدة التصريح التي لم تخطر على بالي أبداً. واعتبرتني اسرائيل نازحاً ولا يحق لي أن أعود الى بيتنا في الوطن فقد تم الإحصاء ومن كان خارج الوطن لا يحق له العودة اليه مهما كانت المبررات والأسباب.
وتلك الحالة من الإبعاد القسري والحرمان من الوطن كثيرة وعامة ، ولا بد من التنويه لها وتعويض النازحين عن حرمانهم من الوطن ، وعن حرمانهم من منازلهم وأراضيهم ومزروعاتهم وتجهمهم أعباء الحياة في المنفى.

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
15 حزيران 2008
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف