يا أخي.. هذا هو الإسلام !
توحيد الخالق والإحسان إلى المخلوق .
بقلم : فضيلة الشيخ ياسين بن خالد الأسطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة ،
المجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين .
قال الله تعالى :
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }سورة النساء 36 .
في هذه الآية الكريمة أمر الله بعبادته وحده ناهياً عن الإشراك به ، وقرن الله حقه بحق الوالدين، الذين هما الأصل لمن تفرع عنهما من ولدهما ، ويدخل في ذلك الأجداد ، ثم ذكر الله تعالى الأقربين والجيرة ؛ مع أن الوالدين هما أقرب الأقربين, وهذا من باب الخاص قبل العام لمزيد الاهتمام به كما هو معروف في اللغة، ولا زال المسلمون خصوصاً و الناس عموماً يهتمون بوالديهم إلى حدٍ كبير والحمد لله على ذلك ،وفي الوصية بالجار روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " .
وفي موطأ الإمام مالك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } .
ولكن القرابة والجيرة قد تصرم حبلها، وانقطع رحمها، والعداوات والشحناء قائمة على قدم وساق ، وحدث عن سوء الجوار ولا حرج، غدت العلاقات الاجتماعية بين الناس في هذه الأيام وكأنهم قد عادوا إلى الجاهلية الأولى، إلى أيام العرب السحيقة، وكأنهم يخوضون حرب داحس والغبراء ، أو حرب البسوس ، كما حصل بين عدة من القبائل والأحياء في مختلف المناطق ، ويذكي لهيبها المستعرَ التفرُّق الحزبيُّ البغيضُ المبتدَعُ من حولنا فيمد هذا الفريق وذاك الفريق بالسلاح، ليقتلََ أحدهم ابن عمه أو أخاه، أو جاره سواءً البعيد عنه أومن والاه، وكأنه لم يسمع حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففي سنن ابن ماجه عن أَبُي مُوسَى قال حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَهَرْجًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنْ النَّاسِ لَا عُقُولَ لَهُمْ " ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أقول ما أشد ارتباط الإحسان إلى القرابة والجيرة بالتوحيد , ولكن يحسن بنا أن نعرف ما الإحسان؟
ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك؛ إنما الإحسان أن تحسن إلى من يسيء إليك، ولهذا أهل التوحيد الموحدون الله تعالى لا يشركون به ويعاملون الخلقَ للخالق، ولا يعاملون الخالق للخلق، ومما يدل على هذا ما رويناه بسندنا إلى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ: " لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ") اهـ .
و( الْمَلّ ) بِفَتْحِ الْمِيم: الرَّمَاد الْحَارّ، وَ ( الظَّهِير ) الْمُعِين، وَالدَّافِع لِأَذَاهُمْ ، وَقَوْله : ( أَحْلُم عَنْهُمْ ) الحلم الصبر الجميل، ( وَيَجْهَلُونَ ) أَيْ يُسِيئُونَ ، وَالْجَهْل هُنَا الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل، وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ، وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِنْ الْأَلَم، وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن، بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته، وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ وهذا يدل على أنه منصور عليهم من الله تعالى . بل ومن الإحسان إلى الجار الستر عليه ولو شرب الخمر مالم يجاهر بها ففي سنن أبي داود عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً "
وقال كَاتِبَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَنَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَقُلْتُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إِنَّ جِيرَانَنَا هَؤُلَاءِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَإِنِّي نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ فَقَالَ دَعْهُمْ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى عُقْبَةَ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ إِنَّ جِيرَانَنَا قَدْ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ قَالَ وَيْحَكَ دَعْهُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ لَيْثٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ
ارتباط الإحسان إلى القرابة والجيرة بالتوحيد:
يتجلى للمتبصر المتثبت الباحث عن الهداية الراضي من دنياه بالكفاية وجوه ٌ كريمة في ارتباط الإحسان إلى الوالدين والأقربين ومن سواهم من جيرة وغيرها بالتوحيد ومنها :
* أن المحسن يرجو جزاءه من الله عز وجل لا من الناس الذين يحسن إليهم كما قال الله تعالى :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }الإنسان9.
وهذا عين الإخلاص في القصد وهو نصف التوحيد؛ إذ التوحيد يقوم على الإخلاص في العمل والمتابعة لله عز وجل ولرسوله صلي الله عليه وسلم من جهة؛ والإخلاص في القربى والزلفى بالعمل الصالح إلى الله وحده من جهة أخرى .
* إن المحسن يطيع الله فيمن أساء إليه فيقدم مرضاة ربه بالعفو عند المقدرة عمن ظلمه ، وإعطاء من حرمه ، وصلة من قطعه ... الخ ، على مرضاة نفسه فلا ينتقم من المسيء، ولا يقطع من قطع بل يصله ويبره ، ولا يحرم من حرمه بل يجزل له العطية رغبة فيما عند رب البرية ، قال الله تعالي :
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134
* إن المحسن إلى ذوي القرابة والجيران رغم إساءاتهم أو تقصيرهم يجاهد نفسه في مرضاة ربه؛ والمجاهد لنفسه في مرضاة ربه منزلته عند الله عظيمة ، فانه يقدم مرضاة ربه على مرضاة نفسه، بل إنه قد ينكر حظ نفسه في مرضاة ربه عز وجل مرة بتقديم أمر ربه على هواه ، ومرة بإعطائه الخير لمن يُبْغِضُه و يأباه.
وقد روينا بإسنادنا إلى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:
" أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " .
وعنه رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا " .
وبعد : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، والله أعلم ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
توحيد الخالق والإحسان إلى المخلوق .
بقلم : فضيلة الشيخ ياسين بن خالد الأسطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة ،
المجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين .
قال الله تعالى :
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }سورة النساء 36 .
في هذه الآية الكريمة أمر الله بعبادته وحده ناهياً عن الإشراك به ، وقرن الله حقه بحق الوالدين، الذين هما الأصل لمن تفرع عنهما من ولدهما ، ويدخل في ذلك الأجداد ، ثم ذكر الله تعالى الأقربين والجيرة ؛ مع أن الوالدين هما أقرب الأقربين, وهذا من باب الخاص قبل العام لمزيد الاهتمام به كما هو معروف في اللغة، ولا زال المسلمون خصوصاً و الناس عموماً يهتمون بوالديهم إلى حدٍ كبير والحمد لله على ذلك ،وفي الوصية بالجار روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " .
وفي موطأ الإمام مالك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } .
ولكن القرابة والجيرة قد تصرم حبلها، وانقطع رحمها، والعداوات والشحناء قائمة على قدم وساق ، وحدث عن سوء الجوار ولا حرج، غدت العلاقات الاجتماعية بين الناس في هذه الأيام وكأنهم قد عادوا إلى الجاهلية الأولى، إلى أيام العرب السحيقة، وكأنهم يخوضون حرب داحس والغبراء ، أو حرب البسوس ، كما حصل بين عدة من القبائل والأحياء في مختلف المناطق ، ويذكي لهيبها المستعرَ التفرُّق الحزبيُّ البغيضُ المبتدَعُ من حولنا فيمد هذا الفريق وذاك الفريق بالسلاح، ليقتلََ أحدهم ابن عمه أو أخاه، أو جاره سواءً البعيد عنه أومن والاه، وكأنه لم يسمع حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففي سنن ابن ماجه عن أَبُي مُوسَى قال حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَهَرْجًا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْهَرْجُ قَالَ الْقَتْلُ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنْ النَّاسِ لَا عُقُولَ لَهُمْ " ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أقول ما أشد ارتباط الإحسان إلى القرابة والجيرة بالتوحيد , ولكن يحسن بنا أن نعرف ما الإحسان؟
ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك؛ إنما الإحسان أن تحسن إلى من يسيء إليك، ولهذا أهل التوحيد الموحدون الله تعالى لا يشركون به ويعاملون الخلقَ للخالق، ولا يعاملون الخالق للخلق، ومما يدل على هذا ما رويناه بسندنا إلى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ: " لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ") اهـ .
و( الْمَلّ ) بِفَتْحِ الْمِيم: الرَّمَاد الْحَارّ، وَ ( الظَّهِير ) الْمُعِين، وَالدَّافِع لِأَذَاهُمْ ، وَقَوْله : ( أَحْلُم عَنْهُمْ ) الحلم الصبر الجميل، ( وَيَجْهَلُونَ ) أَيْ يُسِيئُونَ ، وَالْجَهْل هُنَا الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل، وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ، وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِنْ الْأَلَم، وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن، بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته، وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ وهذا يدل على أنه منصور عليهم من الله تعالى . بل ومن الإحسان إلى الجار الستر عليه ولو شرب الخمر مالم يجاهر بها ففي سنن أبي داود عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً "
وقال كَاتِبَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَنَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَقُلْتُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إِنَّ جِيرَانَنَا هَؤُلَاءِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَإِنِّي نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ فَقَالَ دَعْهُمْ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى عُقْبَةَ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ إِنَّ جِيرَانَنَا قَدْ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ قَالَ وَيْحَكَ دَعْهُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ لَيْثٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ
ارتباط الإحسان إلى القرابة والجيرة بالتوحيد:
يتجلى للمتبصر المتثبت الباحث عن الهداية الراضي من دنياه بالكفاية وجوه ٌ كريمة في ارتباط الإحسان إلى الوالدين والأقربين ومن سواهم من جيرة وغيرها بالتوحيد ومنها :
* أن المحسن يرجو جزاءه من الله عز وجل لا من الناس الذين يحسن إليهم كما قال الله تعالى :
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }الإنسان9.
وهذا عين الإخلاص في القصد وهو نصف التوحيد؛ إذ التوحيد يقوم على الإخلاص في العمل والمتابعة لله عز وجل ولرسوله صلي الله عليه وسلم من جهة؛ والإخلاص في القربى والزلفى بالعمل الصالح إلى الله وحده من جهة أخرى .
* إن المحسن يطيع الله فيمن أساء إليه فيقدم مرضاة ربه بالعفو عند المقدرة عمن ظلمه ، وإعطاء من حرمه ، وصلة من قطعه ... الخ ، على مرضاة نفسه فلا ينتقم من المسيء، ولا يقطع من قطع بل يصله ويبره ، ولا يحرم من حرمه بل يجزل له العطية رغبة فيما عند رب البرية ، قال الله تعالي :
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }آل عمران134
* إن المحسن إلى ذوي القرابة والجيران رغم إساءاتهم أو تقصيرهم يجاهد نفسه في مرضاة ربه؛ والمجاهد لنفسه في مرضاة ربه منزلته عند الله عظيمة ، فانه يقدم مرضاة ربه على مرضاة نفسه، بل إنه قد ينكر حظ نفسه في مرضاة ربه عز وجل مرة بتقديم أمر ربه على هواه ، ومرة بإعطائه الخير لمن يُبْغِضُه و يأباه.
وقد روينا بإسنادنا إلى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:
" أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " .
وعنه رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا " .
وبعد : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، والله أعلم ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .