الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المجتمع الإسلامي الأندلسي في عصر الإمارة والخلافة بين الاستقامة والانحراف بقلم الكاتب: عبد الرؤوف القططي

تاريخ النشر : 2008-05-24
المبحث الأول
عوامل الاستقامة والانحراف في المجتمع الإسلامي في الأندلس في العصر الأموي
138- 406هـ = 755 – 1009م

أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس:
عبد الرحمن الداخل 138 – 172هـ 756 – 788م
هشام بن عبد الرحمن 172 – 180هـ 788 – 796م
الحكم بن هشام 180 – 206هـ 796 - 822م
عبد الرحمن الثاني 206 - 238هـ 822 - 852م
محمد بن عبد الرحمن 238 - 273هـ 852 - 886م
المنذر بن محمد 273 - 275هـ 886 - 888م
عبد الله بن محمد 275 - 300هـ 888 – 912م
عبد الرحمن الناصر 300 - 350هـ 912 - 961م
الحكم المستنصر 350 - 360هـ 961 - 976م
هشام المؤيد 366 - 406هـ 976 - 1009م
المبحث الأول
الاستقامة في المجتمع الإسلامي في الأندلس
في العصر الأموي
- العوامل المشجعة على الاستقامة.
- مظاهر الاستقامة.

أولاً: العوامل المشجعة على الاستقامة

الاهتمام برسالة المساجد:
فقد اهتم الأمراء والخلفاء الأمويون بإنشاء المساجد، وعملوا على توسيعها، وتفعيل دورها في المجتمع الإسلامي، فدور المساجد يتعدى العبادة إلى أمور أخرى مثل الدور التربوي لإعداد أجيال مؤمنة متعلمة مجاهدة تخدم الدين والمجتمع، فيقول الله عز وجل: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ..." ، وكذلك لنشر التعليم الشرعي وتعليم الناس أمور دينهم، ولهذا نجد أن المساجد أثرت تأثيراً إيجابياً على المجتمع الإسلامي في الأندلس.
فمنذ قيام عصر الإمارة في الأندلس، قام عبد الرحمن الداخل 138-172هـ ببناء مسجد قرطبة الجامع سنة 170هـ=786م، وتتابع الأمراء والخلفاء بالعناية به وتوسعته، وكان الناصر 300-350هـ، والمستنصر 350-360هـ، وابن أبي عامر ممن أسهموا في هذا الأمر. وكان موضع المسجد كنيسة قوطية، وأراد عبد الرحمن أن يكون مسجد قرطبة أعظم مساجد الأندلس وأفخمها، فجلب إليها الأعمدة الفخمة والرخام المموه، من أربونة ونيمة وإشبيلية وقسطنطينية، ولكنه توفي قبل إتمامه، فأتمه ولده هشام 172-180هـ، وأنشأ به منارته الأولى.
ولم تكن رسالة المسجد في العهد الأموي تقتصر على الصلاة فحسب، ولكنها كانت أيضاً مركزاً لانطلاق الجيوش المجاهدة، حيث كان يبزر الخليفة دارعاً مستلئماً متقلداً سيفه راكباً فرسه وحوله أتباعه وحشمه وسط الهتاف والتكبير، فيعسكر في السرادق ثم يشاهد عرضاً عسكرياً لجنوده بأسلحتهم المختلفة في جو مشبع بالرهبة والنظام، وقبل الرحيل أو البروز، كان الأمير أو الخليفة وجنوده يقيمون صلاة عامة في المسجد الجامع بقرطبة، ثم يقام في المسجد أيضاً احتفال آخر أطلق عليه اسم "عقد الرايات" أو "عقد الألوية"، تجمع فيه الرايات والألوية والأعلام وهي شعارات القيادة، وتعقد في الرماح أو القنوات التي يحملها قادة الحملة، على أن تعلق بعد العودة على جدران المسجد.
وكذلك عمل الأمويون على إنشاء بيت للمال في المسجد، فقد أنشأ الأمير المنذر بن محمد البيت المعروف ببيت المال في الجامع؛ فوضع فيه الأموال الموقفة لغياب المسلمين.
الاهتمام بالتعليم:
من المعلوم أن الجهل سبب من أسباب الانحراف الديني والخلقي، فإذا نشر العلم ولاسيما العلم الشرعي في مجتمع من المجتمعات عُرف هذا المجتمع بالفضيلة والاستقامة، وأكرمه الله تعالى بالرفعة والسمو، يقول عز وجل: "يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات".
وقد انتشر التعليم في العصر الأموي في أنحاء الأندلس، وأصبح عاماً، وشمل الذكور والإناث، كما شمل كافة النواحي، وعمت المدارس أو معاهد التعليم ومؤسساته الأندلس، منها ما كانت تقوم به الدولة وتتفق عليه ومنه التعليم الحر، وقد شجع على انتشار التعليم في الأندلس أن الأمويون عملوا على تحقيق الاستقرار في البلاد بعد سنوات من الخلافات القبلية في عهد الولاة، واهتموا كثيراً بنشر الإسلام واللغة العربية فيها.
وكانت اللغة العربية هي لغة الثقافة والتفاهم عند المسلمين، بصورة رئيسية، ويُذكر أن هشاماً الأول 172-180هـ اتخذ إجراءً مهماً إذ جُعلت اللغة العربية لغة التدريس في معاهد النصارى واليهود، وكان لذلك الإجراء، بالرغم من بساطته، أثر عميق في التقريب بين أصحاب المذاهب المختلفة، وفي بث روح التفاهم والوئام بينها، ولاسيما بين المسلمين والنصارى وكان من أثره أيضاً أن كثر اعتناق النصارى للإسلام بعد أو وقفوا على أحواله وتفاصيله.
وكانت نواة العلم الديني دخل الأندلس مع نفر من العلماء الذين شاركوا في فتح الأندلس، وكانوا يصحبون الجند ويفتون في القضايا كتقسيم الغنائم وتحديد الضرائب، فضلاً عن تفقيه الناس في أمور دينهم، فالخليفة عمر بن عبد العزيز أرسل إلى المغرب عشرة من التابعين لتفقيه الناس ولا يستبعد أن يكون بعضهم قد رحل إلى الأندلس للاشتراك في الإفتاء أثناء ولاية السمح بن مالك الخولاني، ويبدو أنهم وضعوا نواة المدارس الأندلسية الأولى في مسجد أشبيلية الذي أسسه عبد العزيز بن موسى بن نصير ومسجد قرطبة، وكان المعلمون في الأندلس يعتمدون في تدريسهم على الكتب المجلوبة من الشرق.
وقد حرص أمراء وخلفاء بني أمية على تعليم أبنائهم العلوم الدينية والمعرفية، فعلى سبيل المثال أمر الحكم بأن تعد دار الملك بقصر الزهراء لتعليم ابنه هشام، وأن تزود بجميع ما يحتاج إليه لذلك، وندب الحكم وصيفه الفتى ذكاء ناظراً للأمير متكفلاً بشئونه، والعلامة النحوي أبا بكر الزبيدة الإشبيلي ليقوم بتدريس العربية وعلومها لولي العهد، ثم بعد عام ندب الفقيه المحدث يحيى بن عبد الله بن يحيى عمدة المحدثين بقرطبة ليقوم بإسماعه الحديث.
الاهتمام بالعلم الشرعي والعلماء:
لا شك أن المجتمع الذي يهتم بالعلم الشرعي والعلماء لابد وأن يغلب على سماته الورع والاستقامة، بعكس المجتمعات التي تهتم بالرقص والمجون والترف.
وقد كانت الأندلس عامة وقرطبة خاصة في العهد الأموى منتجعاً لطلاب العلم والمعرفة من كل مكان، قصدها عدد من علماء الشرق الإسلامي كأبي علي القالي إسماعيل بن القاسم البغدادي، صاحب كتاب الأمالي، الذي ترك بغداد إلى الأندلس سنة 330هـ=841م أيام الخليفة الناصر، ووجد هؤلاء جميعاً فيها كل ترحيب وتقدير وعلى كل المستويات.
كما أنه كان للعلماء جرأة وقوة في قول كلمة الحق، فنذكر أن القاضي المنذر بن سعيد دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره الفخم لما بناه، فقال له عبد الرحمن الناصر: ما تقول يا منذر في هذا -افتخاراً بقصره- فقال المنذر بن سعيد ودموعه تقطر على لحيته: ما ظننت الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ مع ما أتاك الله به من النعمة وفضلك به على كثير من عباده تفضيلاً حتى يُنْزِلك منازل الكافرين، فقال عبد الرحمن الناصر: انظر ما تقول كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟! قال: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم: "وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ" هذا السقف من فضة والله سبحانه وتعالى يذكره في آياته على سبيل التعجيز، ولكن الله لم يجعله للكافرين، ولكن عبد الرحمن الناصر فعله وجعل لبيته أو قصره أسقف من فضة، فوجم عبد الرحمن الناصر، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سبحانه، ثم أقبل على منذر وقال له: جزاك الله، يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً، وعن الدين والمسلمين أجل جزائه، وكثر في الناس أمثال، فالذي قلت هو الحق، وقام عن مجلسه ذلك، وأمر بنقض سقف القبة وأزال الذهب والفضة وبنى السقف كما كانت تبنى السقوف في ذلك الزمن.
وقد برز علماء كبار في الأندلس في شتى مجالات العلوم الدينية، ولذلك قيل عن أهل الأندلس: "وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونقٌ ووجاهة، ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وسمة الفقيه عندهم جليلة".
فمن مشاهير المفسرين في عصر بني أمية بقي بن مخلد ت273، 276هـ الذي ألف تفسيراً للقرآن الكريم اطلع عليه ابن حزم وقال عنه: "أقطع قطعاً لا أستثنى فيه أنه لم يؤلف في مثله، لا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره". ويعتبر بقي بن مخلد أيضاً من أشهر علماء الحديث إلى جانب التفسير والفقه، وكان قد أدخل مسند ابن أبي شيبة كاملاً، وأخذ يدرسه في قرطبة، فأثار ذلك فقهاء المالكية، وصنف في الحديث كتاباً رتبه على أسماء الصحابة، روى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابي ونيف، كما رتبه على أبواب الفقه المختلفة أيضاً، فهو مصنف ومسند معاً، أو كتاب فقه وكتاب حديث، قال عنه ابن حزم: "وما أعلم هذه الرتبة لأحد مثله، مع ثقته وضبطه وإتقانه، واحتفائه فيه بالحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء، وسائر أعلامهم مشاهير. ثم تلاه تلميذه ابن وضاح، فصارت الأندلس دار حديث وإسناد، وكان الغالب عليها قبل ذلك حفظ رأي مالك وأصحابه.
وكذلك ابن محامس عثمان بن محمد ت306هـ المكنى بأبي سعيد، وكان من أهل استجة، قال عنه ابن الفرضي: "كان حافظاً للتفسير، عالماً بأخبار الدهور، وله في ذلك كتاب نقل أكثره عن ظهر قلب"، وقد اشتهر بالزهد والعزوف عن الدنيا، يروى أنه كتب على باب داره "يا عثمان لا تطمع".
وكذلك سعدان بن سعيد بن خمير المكنى بأبي سعيد وهو من أهل قرطبة، كان إماماً للمسجد الجامع بها، وقرأ الناس عليه كتاب التفسير المنسوب إلى ابن عباس من رواية الكلبي.
كما ازدهر علم الحديث بالأندلس، واشتغل به كثيرون، فيذكر ابن الفرضي: أن صعصعة بن سلام الشامي ت192هـ تلميذ الإمام الأوزاعي كان أول من أدخل علم الحديث إلى الأندلس.
كما يذكر أن الغازي بن قيس ت199هـ كان أول من أدخل الموطأ إلى الأندلس قبل زياد بن عبد الرحمن اللخمي "شبطون" ت204هـ، وقيل إنه كان يحفظه.
كما أننا نجد فقيهاً ومحدثاً مشهوراً دخل الأندلس منذ سنة 123هـ، واستقر في مالقة، ثم انتقل منها إلى إشبيلية وهو معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي، ولاه عبد الرحمن الداخل القضاء، ويعتبر هو مدخل علم الحديث إلى الأندلس، وقد توفي سنة 158هـ.
ومن علماء الحديث أيضاً: قاسم بن ثابت ت302هـ الذي عنى بجمع الحديث والفقه، وألف في غريب الحديث كتاباً سماه "الدلائل" أثنى عليه الكثيرون، ومنهم أبو علي القاني الذي قال عنه: "لم يؤلف بالأندلس كتاب أكمل من كتاب قاسم في شرح الحديث، وكان: قَاسِم مَعَ ذلك وَرِعاً نَاسِكاً، وعرض عليه أن يَلي القضاء بِسَرقُسطة فامْتَنَع، وَأرَادَ أَبُوه إكْرَاهَه عليه فَسأَلهُ أَن يَتركَهُ يَتَراءى في أَمره ثلاثة أيَّام يَسْتَخير الله فيها. فَمات في هذه الثَّلاثَة الأيام. فَيْروُون أنه دَعَا لِنَفْسه بالمَوت، فقَبَضَهُ اللهُ أجَلَّ محمودٍ. وكانَ يُقَال: إنه مُجاب الدَّعْوة.
وكذلك أحمد بن عمرو بن منصور الإلبيري ويعرف بابن عمريل ت312هـ وكان عالماً بالحديث حافظاً له، بصيراً بعلله، إماماً فيه، وكانت الرحلة إليه في وقته.
ومنهم أيضاً قاسم بن أصبغ ت340هـ الذي رحل إلى القيروان ومصر والعراق، ثم عاد إلى الأندلس وقد تبحر في الحديث والرجال، وألف كتاباً طويلاً، ثم اختصره وسماه المجتني، وقدمه للحكم المستنصر، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثاً في سبعة أجزاء، وصنفه على أبواب الفقه، وكان له الفضل في نشر العلم بالأندلس على هذه الطريقة، وله مصنف آخر في بيان صحيح الحديث وغريبه.
ونما كذلك علم قراءات القرآن الكريم في الأندلس شيئاً فشيئاً، حتى وصل إلى الذروة على يد الإمام الشاطبي، صاحب الرسالة الشهيرة حرز الأماني المعروفة باسم الشاطبية نسبة إليه، والتي عمت شهرتها الآفاق، ولا تزال مرجعاً للمشتغلين بالقراءات إلى الآن. وكانت قراءة نافع هي القراءت المشهورة بالأندلس، يقول المقدسي: "وأما في الأندلس فمذهب مالك وقراءة نافع".
ومن الذين اشتغلوا بعلم القراءات في الأندلس في العصر الأموي سليمان بن مسرور، وكان من أهل طليطلة، غلب عليه العلم بالقراءات وكان فيها إماماً، وكان حسن الصوت بالقرآن، رحل حاجاً قبل التسعين من عمره، ثم استوطن مصر وتوفي فيها ، ويحيى بن مجاهد بن عوانة النزاري القرطبي ت361هـ، وقد عنى بالقراءات والتفسير، وكان عابداً زاهداً .
أما علم الفقه: فيقول ابن سعيد عن الفقه في الأندلس: "وللفقه رونق ووجاهة ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وخواصهم يعلمون من سائر المذاهب ما يتباحثون به، وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إنهم كانوا يسمون الأمير العظيم عندهم بالفقيه، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي الفقيه لأنها عندهم من أرفع السمات" .
ومن هذا تتضح مكانة الفقه والفقهاء في الأندلس، وقد كان أهل الأندلس منذ الفتح وحتى عصر هشام بن عبد الرحمن الداخل على مذهب الإمام الأوزاعي، وقد سار على هذا المذهب من العلماء ومن أشهرهم تلميذه وناشر مذهبه أبو عبد الله صعصعة ابن سلام الشامي ت192هـ، الذي كان يتولى الإفتاء في عهد عبد الرحمن الداخل، وعهد ابنه هشام، ثم بدأ مذهب مالك في الانتشار في عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل، ويذكر أن الفضل في ذلك يعود إلى زياد بن عبد الرحمن اللخمي الملقب بشبطون ت204هـ، الذي يقال إنه أول من أدخل فقه الإمام مالك إلى الأندلس.
ومن الفقهاء الذين برعوا في الفقه أيضاً عيسى بن دينار الغافقي ت213هـ، قال عنه محمد بن عبد الملك: "كان عيسى بن دينار عالماً متفنناً مفتقاً، وهو الذي علم المسائل أهل مصرنا وفتقها، وكان أفقه من يحيى بن يحيى على جلالة قدر يحيى وعظمه". وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: "فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى
ومنهم: محمد بن عمر بن لبابة ت314هـ وكان إماماً في الفقه مقدماً على أهل زمانه في حفظ الرأي، والبصر بالإفتاء، يذكر أنه درس كتب الرأي ستين سنة، وانفرد بالإفتاء في عهد الناصر.
ومنهم أيضاً ابن لبابة محمد بن يحيى بن عمر ت330هـ وكان حافظاً للفقه على مذهب الإمام مالك، عالماً بعقد الشروط، بصيراً بعللها، ولي قضاء البيرة في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، وله في الفقه كتب مؤلفة، منها كتاب المنتخب الذي قال عنه ابن حزم: "وما رأيت لمالكي كتاباً أنبل منه في جميع روايات المذهب..".
كما كان منهم يحيى بن يحيى الليثي ت234هـ زعيم الفقهاء في ثورة الربض، والذي لقب بعاقل الأندلس وقد أصبح له الإفتاء بالأندلس بعد عيسى بن دينار، وغدت له مكانة عظيمة ونفوذ كبير خاصة في عهد عبد الرحمن الأوسط، وكان أحمد بن خالد يقول: "لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى، وسمع منه مشايخ الأندلس في وقته، وكذلك يحيى بن معمر الألهاني، وكان ورعاً فاضلاً، اشتهر بالفقه والفرائض، وولاه عبد الرحمن الأوسط قضاء الجماعة بقرطبة، فكان عند حسن ظنه، وكان إذا اختلف مع فقهاء قرطبة في حكم من الأحكام، كتب إلى فقهاء مصر من المالكية يسترشد برأيهم، فكان فقهاء قرطبة ينفرون منه لذلك ويذمونه، وعلى رأسهم يحيى الليثي الذي ظل به حتى عزل من القضاء.
وكذلك كان عبد الملك بن حبيب ت238هـ من الفقهاء المشهورين وله في الفقه كتاب الواضحة لم يؤلف مثله كما قيل، وكان يعد عالم الأندلس.
وكذلك ابن مرتنيل عبد الله بن محمد بن خالد ت256هـ الذي اعتبره ابن الفرضي رأس المالكية بالأندلس والذاب عنها في عصره.
الاهتمام بالتربية الجهادية:
كانت الروح الجهادية ظاهرة في العهد الأموي، وذلك لاستمرار حملات الصوائف والشواتي في ذلك العصر، وكان لهذه الروح أثراً واضحاً في علو همة الشباب، وغلبة سمة الاستقامة على المجتمع، برغم وجود بعض مظاهر الفساد والانحراف، فقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الجهاد وبين العبادة والتنسك وذلك حين سأله رجل: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ".
ومن طريف ما يروى في هذا الصدد أن الوزير أمية بن عيسى بن شهيد على عهد الأمير الأموي محمد بن عبد الرحمن الأوسط ذهب يوماً إلى دار الرهائن بقرطبة لتفقد رهائن بني قسي وغيرهم من أبناء الثوار على الدولة، فوجدهم ينشدون شعر عنترة الحماسي أمام المؤدب، فما كان من الوزير إلا أن نهر المؤدب وقال له: "لولا أني أعذرك بالجهل لأدبتك أدباً موجعاً، تعمد إلى شياطين أبناء شياطين، قد شجى بهم الخلفاء، فترويهم شعر عنترة والشعر الذي يزيدهم بصيرة في الشجاعة؟ كف عن هذا ولا ترويهم إلا خمريات الحسن بن هاني، وشبهها من الأهزال، ومثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وغيرهما من أمثاله. هذا النص السالف الذكر يبين لنا مدى انتشار هذا النوع من الثقافة التربوية العسكرية بين شباب الأندلس إلى درجة أن أحد الوزراء حاول حجبها عن كل من لا يستحقها من الخارجين على الدولة.

ثانياً: مظاهر الاستقامة في المجتمع الإسلامي بالأندلس
في العهد الأموي

كان مؤسس الدولة الأموية في الأندلس الأمير عبد الرحمن بن معاوية محسناً، سمحاً، سخياً، وكان يتردد على المساجد للصلاة بالناس، خاصة أيام الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويحضر الجنائز، ويصلي عليها، كما أنه كان يبتعد عن الصغائر ومنها شرب الخمر، ومعاشرة النساء، فيذكر أنه لما خرج من البحر أول قدومه الأندلس أُتي بخمرة، فقال: إني محتاج لما يزيد في عقلي، لا لما ينقصه، ثم أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها وقال: إنني إن اشتغلتُ عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتُها، وإن اشتغلتُ بها عما أطلبه ظلمتًُ همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وأمر بردها إلى صاحبها.
وكان ابنه وخليفته في الحكم هشام بن عبد الرحمن كريماً، عادلاً، فاضلاً، متواضعاً، لم تعرف عنه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه، هذا ويبرز بعض المؤرخين صفة الزهد عند الأمير هشام وانصرافه عن الملذات واللهو وتقريبه لرجال العلم والفقه وإجلاله لهم، فيحاول بعضهم أن يجد تعليلاً لذلك في نشأته وتربيته ونوع ثقافته التي تلقاها، بينما يحاول البعض الآخر أن يعزوها لميل طبيعي في داخله إلى العلوم الفقهية والمشتغلين فيها وخاصة إلى تعاليم الإمام مالك بن أنس، كما أن بعضهم حاول أن يعزوها إلى اجتهاد أحد المنجمين المعروفين وهو الضبي الذي أخبر هشاماً بأنه سيعيش قرابة ثمانية أعوام بعد وصوله إلى الحكم، فاستقل هذه المدة وزهد في الدنيا، وقال: "يا ضبي، ما أخوفني أن يكون النذير كلمني بلسانك، والله لو أنّ هذه المدة كان في سجدة لله تعالى لقلَّت طاعة له".
ويرجح الباحث عدم دقة هذه الرواية، لما تؤكده الآثار الإسلامية من كذب المنجمين وأنهم لا يعلمون الغيب فيقول الله تعالى: "قل لا يعلم الغيب إلا الله"، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب المنجمون ولو صدقوا"، وما يميل إليه الباحث أن نفسية هشام وثقافته واتصاله بالعلماء المسلمين كانت لها الأثر الحقيقي وراء شخصيته المستقيمة الزاهدة.
فيروى في هذا الصدد أنه كان يهتم بتعاليم الإمام مالك، وأن الحُجاج الذين كانوا يذهبون إلى مكة من الأندلس، وفي كثير من الأحيان بتشجيع من الأمير هشام، كانوا يروون له الكثير من أحاديث الإمام مالك، كما كانوا يحدثون الإمام على ما يبدو من إعجاب الأمير به، حتى أنه روي عن مالك أنه قال: "وددتُ لو أن الله زيّن موسمنا به" أي موسم الحج. وقد كان هشام يضع الأموال في صرر ويبعث بها في ليالي المطر والشتاء إلى المساجد، فتعطى لمن وجد فيها.
انتشار المصاحف:
وانتشرت المصاحف بين الناس فقد حكى ابن فياض في تاريخه في أخبار قرطبة قال: كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي هذا ما في ناحية من نواحيها فكيف بجميع جهاتها؟
كما ازداد عدد العلماء والفقهاء فقرطبة لوحدها قيل إنه كان فيها ثلاثة آلاف مقلس وكان لا يتقلس عندهم في ذلك الزمان إلا من صلح للفتيا.
ومما يدلل على انتشار المصاحف في الأندلس، وتواجدها بين أيدى جميع المسلمين، قصة أوردها ابن حزم عن خلاف على تلاوة آية قرآنية بين اثنين من القراء، وقال معلقاً: "فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيراً أو علماً، ولخفي الخطأ والتعمد".
وأورد ابن حزم ت456هـ كذلك قصة أخرى عن خلاف بين مقرئين على آية "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"، قرأ أحدهما كلمة "تحيد" بالتنوين، والآخر صححها لها بأنها بدون تنوين، فاحتكموا إلى مصاحف لمعرفة القراءة السليمة، فقال أحدهما: "بيني وبينك المصاحف، فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران، فوجدوها مشكولة بلا تنوين، فرجع المقرئ إلى الحق". وهذا دليل آخر على انتشار المصاحف بين العامة.
وقد شجعت السياسة التي انتهجها أمراء بني أمية الناس على التدين والتمسك بالأخلاق، والتوجه نحو العلوم الشرعية، خاصة في زمن الأمير عبد الرحمن الداخل 138-172هـ وابنه هشام الأول 172-180هـ، الذي قرب العلماء وأعلى منزلتهم، وخضع لأقوالهم ونصائحهم، ولكن ابنه الحكم 180-206هـ المعروف بالحكم الربضي انتهج نهجاً جديداً في معاملتهم، فأبعدهم وأهملهم، وسار على غير سيرته والده، مما كان سبباً في حدوث ثورة الربض التي قمعها الحكم بشدة، وسمي بعدها بالحكم الربضي.
وهذا يدل على المكانة الرفيعة التي تصدرها العلماء والفقهاء في الأندلس، حتى أن الناس تبعوهم وثاروا على الأمير تحت لوائهم.
إقامة الصلوات في المساجد:
كانت المساجد في الأندلس تمتلئ بالمصلين، خاصة أيام الجمع، مما جعل أمراء الأندلس يقومون بتوسعة المساجد أكثر من مرة، فمسجد قرطبة على سبيل المثال، بدأت الصلاة فيه منذ افتتح المسلمون الأندلس، فشاطروا النصارى بكنيستهم العظمى بقرطبة مستدلين بما فعل أبو عبيدة وخالد عن رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مشاطرة الروم في كنائسهم كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحاً. ، وبنى المسلمون في ذلك الشطر مسجداً جامعاً، فلما كثر المسلمون بالأندلس، وعمرت قرطبة ونزلها أمراء العرب بجيوشهم، ضاق عنهم ذلك المسجد، وجعلوا يعلقون منه سقائف، فلما دخل عبد الرحمن بن معاوية 138-172هـ الأندلس، اشترى الشطر الآخر من أعاجم قرطبة بعد أن أرضاهم بمبلغ كبير من المال، وقام بتوسعة المسجد، سنة 169هـ؛ ثم زاد ابنه هشام صومعة، كان ارتفاعها أربعين ذراعاً إلى موضع الأذان وبنى بآخر المسجد سقائف لصلاة النساء؛ وأمر ببناء الميضأة بشرقي الجامع؛ ثم زاد عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الزيادة المنتظمة بالأرجل، طولها خمسون ذراعاً، وعرضها مائة وخمسون، وعدد سواريها ثمانون سارية؛ وذلك سنة 234هـ، ثم زاد فيه الأمير محمد بن عبد الرحمن.
وكان عبد الرحمن الأوسط ت237هـ أمير الأندلس يقيم الصلوات بنفسه، ويصلي إماماً بالمسلمين في أكثر الأوقات، وكان عادلاً في الرعية، جواداً فاضلاً، وأمر بالزيادة في جامع قرطبة، وكان محباً للعلماء مقرباً لهم.
وحرص بعض أمراء بني أمية على الصلاة في المسجد، فورد أن الأمير عبد الله بن محمد ت300هـ أوصل ما بين القصر والجامع من جهة الغرب بساباط على حنايا؛ ثم أمر بستارة من آخر هذا الساباط إلى أن أوصلها بالمحراب؛ وفتح إلى المقصورة باباً كان يخرج منه إلى الصلاة؛ وهو أول من اتخذ ذلك من أمراء بني أمية بالأندلس.
وذكر ابن عذاري أن عدد المساجد في قرطبة لوحدها في العهد الأموي بلغ ثلاثة آلاف مسجد.
وكان الأمويون يقومون بتعيين أئمة للمساجد على قدر من التقوى والورع والعلم، وعرف من أئمة جامع قرطبة أحمد بن عبادة بن علكدة الرعيني المالكي ت332هـ، وكان زاهداً فاضلاً قلد الشورى.
ومن أئمة مسجد قرطبة كذلك: سعدان بن سعيد بن خمير المكنى بأبي سعيد، وقد قرأ الناس عليه كتاب التفسير المنسوب إلى ابن عباس من رواية الكلبي.
ومنهم: أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن، يعرف بابن المشاط، محدث، كان رجلاً صالحاً، فاضلاً معظماً عند ولاة الأمر بالأندلس، يشاورونه فيمن يصلح للأمور ويرجعون إليه في ذلك.
وبلغت درجة الورع عند مسلمي قرطبة أنهم رفضوا الصلاة في الزيادة التي أحدثها الحكم بن هشام في مسجد قرطبة حتى يتأكدوا من أن المال الذي بُني فيه حلالاً، فقد ذكر أبو مروان بن حيان في أخبار قرطبة أن الحكم لما زاد زيادته المشهورة في الجامع، اجتنب الناس الصلاة فيها أياماً، فبلغ ذلك الحكم، فسأل عن علته، فقيل له: أنهم يقولون: ما ندري هذه الدراهم التي أنفقها في هذا البينان من أين اكتسبها؟ فاستحضر الشهود والقاضي أبا الحكم المنذر بن سعيد البلوطي، واستقبل القبلة وحلف باليمين الشرعية التي جرت العادة بها أنه ما أنفق فيه درهماً إلا من خمس المغنم! وحينئذ صلى الناس فيه لما علموا بيمينه.
وكانت تقام في المساجد صلاة الجمعة والعيدين، والصلوات الخمس، وكذلك النوافل مثل صلاة الكسوف والخسوف، فورد أنه حدث كسوف للشمس في سنة 218هـ، فصلى الناس صلاة الكسوف في جامع قرطبة، حيث قال ابن وضاح: "صليت صلاة الكسوف مع ابن معمر في جامع قرطبة، سنة ثمان عشرة ومائتين، فأحسن الصلاة، ولم يقم لها وطوّلها، بدأها ضحى وأتمّها في القايلة وقد تجلت الشمس وذلك في الصيف".
انتشار الرباطات:
انتشرت في الأندلس الرباطات أو الروابط على طول سواحل الأندلس لحمايتها من الغارات البحرية المفاجئة التي كان يقوم بها الأسبان والنورمانديون وكذلك الفاطميون الشيعة، وكان أهل الأندلس مثل أهل المغرب شديدي التحمس للرباط والجهاد، فكان الكثيرون منهم يرحلون إلى المغرب للرباط على سواحله، كما كان الكثيرون من المغاربة يرحلون إلى الأندلس للقيام بنفس العمل. وقد اعتبر عمل المرابطين على السواحل رباطاً وجهاداً في آن واحد، وكانت حياتهم مزيجاً من التعبد وعمارة الأرض المحيطة بحصونهم ومعاونة الجيوش النظامية في الدفاع عن الثغور الإسلامية، ومن أهم الرباطات الساحلية الأندلسية نذكر رباط مرية بجانة في جنوب شرق الأندلس.
وقد اهتم الخلفاء الأمويون ومنهم الحكم المستنصر بأحوال المرابطين، وكانت مزاراً ومقاراً للعباد والنساك والفقهاء والمتصوفة، فيشير ابن الأبار إلى رباطات نشأت بجوار المرية، ودفن فيها عدد من الفقهاء والزهاد المجاهدين مثل رباط عمروس ورباط الخشني، ويشير الإدريسي إلى برج يحانس الذي كان يقع في المنطقة نفسها لإيقاد النار فيه عند ظهور العدو في البحر. وكذلك كانت مدينة دانية التي يشرف عليها جبل قاعون، وكانت لهذا الجبل فائدة كبيرة وهي كشفه للعدو القادم من البحر من بعيد مما يتيح للمسلمين الاختباء فيه عند الضرورة، وقد بنى عليه بعض تلاميذ الشاعر الصوفي الزاهد أبي عبد الله محمد بن زمنين ت398هـ=1008م رباطاً لا زالت آثاره باقية لليوم، وكان هناك أيضاً رباطاً على المحيط الأطلسي يسمى رباط روطة كان ملجأ للمتصوفة والعبّاد. ويشير ابن بشكوال كذلك إلى عدة رباطات كان يرابط فيها بعض الفقهاء حيث قال: "ورابط ابن محمد الشنتجيالي ت 436هـ=1045م ببطليوس وموجيق وشلب ورباط الريحانة من عمل شلب، وروي عنه بتلك الجهات". أما عن حياة المرابطين في هذه الروابط أو القصور الساحلية، فكانت تقوم على الحراسة والزهد والتعبد وذكر الله بصوت مرتفع، وفي ذلك يقول الصوفي الغرناطي ابن أبي زمنين: "ورأيت أهل العلم يستحبون التكبير في العساكر والثغور والرباطات، دبر صلاة العشاء وصلاة الصبح، تكبيراً عالياً ثلاث تكبيرات، ولم يزل ذلك من شأن الناس قديماً".
ومن مشاهير العباد في الأندلس:
وعُرف من مشاهير العباد والنساك في الأندلس على سبيل المثال لا الحصر:
الغازي بن قيس، أبو محمد الأندلسي ت199هـ، أحد الأئمة المشاهير، ارتحل إلى المشرق، وروى عن: ابن جريج، والأوزاعي، ومالك وأخذ عنه الموطأ وحفظه، وكان كبير الشأن، مجاب الدعوة، وكان يقول: ما كذبت منذ احتلمت، وهو أول من أدخل قراءة نافع وموطأ مالك الأندلس، وكان صالحاً عابداً كثير التهجد بالليل، مات سنة تسعٍ وتسعين ومائة.
وهارون بن سالم أبو عمر القرطبي الزاهد ت238هـ، كان منقطع القرين في الزهد والعلم، مجاب الدعوة، فقيهاً كبير القدر. يقال: امتحنت إجابة دعوته في غير ما شيء، ومات في الكهولة، وكان عليه إخبات وحزن، وكان لا ينام على فراش في رمضان، حكى إمام مسجد قرطبة أنه رأى هارون بن سالم بالليل سجد، قال: فرأيت شجرة في المسجد سجدت وراءه، فلما قام قامت، وقال ابراهيم بن هلال: ما رأيت هارون بن سالم يصلي قط إلا وهو يرتعد، وكان يسكن بيتاً بلا أبواب، وكان مقدماً في زمانه في الزهد والعبادة. قال ابن بشكوال: وقبره يتبرك به، ويعرف بإجابة الدعوة، جربت ذلك مراراً.
وإبراهيم بن قاسم بن هلال، أبو إسحاق القيسي الأندلسي القرطبي ت282هـ ، وكان فقيهاً عابداً.
ومحمد بن عمر بن عبد العزيز أبو بكر بن القوطية القرطبي اللغوي ت367هـ، وكان علامة زمانه في اللغة العربية، حافظاً للحديث والفقه، وإخبارياً، صنف كتاب "تصاريف الأفعال"، فتح الباب لمن بعده، وتبعه ابن القطاع. وله كتاب حافل في "المقصور والممدود"، وكان عابداً ناسكاً خيراً، دقيق الشعر، إلا أنه تزهد عنه.
وعبد الله بن محمد بن عبد الله، أبو محمد النمري القرطبي ت380هـ، الفقيه المالكي، والد الإمام أبو بكر البغدادي أبي عمر يوسف، وكان صالحاً عابداً متهجداً.
وعتاب بن هارون بن عتاب بن بشر، أبو أيوب الغافقي الأندلسي ت381هـ من أهل شذونة، روى عن أبيه، وحج فسمع من أبي حفص عمر الجمحي، وأبي الحسن الخزاعي، وكان صالحاً عابداً. رحل إليه ابن الفرضي فأكثر عنه، وعاش سبعين سنة.




المبحث الثاني
الانحراف في المجتمع الإسلامي في الأندلس
في العصر الأموي




- العوامل المشجعة على الانحراف.
- مظاهر الانحراف.




أولاً: العوامل المشجعة على الانحراف

تأثر مسلمو الأندلس بالنصارى:
لقد تأثر العرب المسلمون ببعض العادات النصرانية فعلى سبيل المثال: تأثروا بالغناء والموسيقا التي كان يستخدمها النصاري، فقد ذكر أحمد التيفاشي ت651هـ في كتابه "متعة الأسماع في علم السماع" : "وأن أهل الأندلس في القديم كان غناؤهم إما بطريقة النصارى، وإما بطريقة حداة العرب، ولم يكن عندهم قانون يعتمدون عليه إلى أن تأثلت الدولة الأموية".
حيث كان العرب يغنون أغانيهم ويلحنوها على طريقة النصارى، وهذا يعني أنهم قلدوا الألحان الكنسية الكاثوليكية التي كانت منتشرة في أوروبا عامة وشبه الجزيرة الإلبيرية خاصة، والتي فرضها البابا غريغويوس الأول 590-604م.

انحراف بعض الأمراء وأثره في حدوث الفتن:
عندما اعتلى الحكم بن هشام 180-206هـ كرسي إمارة الأندلس بعد وفاة والده هشام بن عبد الرحمن، اختلفت سيرته عن سيرة أبيه هشام الذي عُرف بالزهد والورع ومصاحبة العلماء والفقهاء، فانهمك الحكم في الملذات وشرب الخمر، وابتعد عن مشورة العلماء، مما أدى إلى اتفاق علماء قرطبة على الثورة عليه، ولكنه اكتشف ثورتهم قبل حدوثها، فأعدم اثنين وسبعين من زعماء الثورة، وصلبهم أمام قصره، وكانت هذه الحادثة سبباً حقد الأندلسيين عليه حيث تمردوا على حكمه من خلال ثورة الربض الأولى سنة 189هـ = 805م، وثورة الربض الثانية سنة 202هـ=818م.

ترك بعض الفقهاء والعلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أواخر العهد الأموي:
ففي أواخر العصر الأموي ترك الفقهاء مهمتهم السامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتبعوا الأمراء والحكام، وساروا في فلكهم، وهذا أمر خطير يأذن بسقوط الحضارات وحلول عذاب الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ".
وقد اتهم ابن حيان ت49هـ الفقهاء في أواخر الدولة الأموية بالتواطؤ مع الأمراء، والسكوت عن سوء أعمالهم، ويخلص إلى القول بأنه "لم تزل آفة الناس منذ خُلقوا في صنفين منهم، وهم كالملح فيهم: الأمراء والفقهاء، قلما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يُرْدَون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا هذين، بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق، ذياداً عن الجماعة، وحوشاً إلى الفُرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، خائض في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذٍ بالتقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرضٍ فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها؟".
ويتحدث ابن حيان عن وجه آخر من وجوه فساد الفقهاء في زمانه، إذ عند دخول هشام آخر خلفاء بني أمية قرطبة "زاد في رزق مشيخة الشورى من مال العين، ففرض لكل واحد 15 ديناراً مشاهرة، فقبلوا ذلك على خبث أصلة، وتساهلوا في مأكلٍ لم يستطبه فقيه قبلهم، على اختلاف السلف في قبول جوائز الأمراء، الذين سبكوا خبائث الضرائب والمكوس القبيحة، ... وقد حُدِّثت أن هشاماً أطعمهم من قمح ولد القاضي ابن ذكوان أيام فرَّ عنه وأخذ ماله، فقبلوه قبول مال الفيء، وهذه الأخبار تكتب للغرائب، والفتنة تُنتج العجب".

ترف الحكام والعوام:
لقد عاش الحكام والأمراء حياة الترف والغنى، وهذا أمر جعل الناس يقلدونهم ويتبعونهم، فالمال والترف مدعاة إلى مفسدة القلب والركون إلى الدنيا ونسيان الآخرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللَّهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".
وأكبر دليل على مقدار الغنى والترف الذي وجد في الأندلس مدينة الزهراء، التي بدأ الناصر في بنائها سنة 325هـ. وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنجور ستة آلاف صخرة سوى التبليط في الأسوس؛ وجلب إليها الرخام من قرطاجنة إفريقية ومن تونس؛ وكان الناصر يعطي على كل رخامة ثلاثة دنانير، وعلى كل سارية ثمانية دنانير سجلماسية. وكان فيها من السواري أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية وثلاث عشرة سارية، المجلوبة منها من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية. وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية؛ وسائر ذلك من رخام الأندلس. وأما الحوض الغريب المنقوش المذهب بالتماثيل، فلا قيمة له، جلبه ربيع الأسقف من القسطنطينية من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر؛ ووضعه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس؛ وكان عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصع بالدر النفيس العالي مما صنعه بدار الصنعة بقصر قرطبة. وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم، لم يتكل الناصر فيه على أمين غيره. وكان يخبز في أيامه كل يوم يرسم حيتان البحيرات ثماني مائة خبزة.
وكان الناصر قد قسم الجباية على ثلاثة أثلاث: ثلث للجند، وثلت للبناء، وثلث مدخر. وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن المستخلص والأسواق سبع مائة ألف دينار وخمسة وستين ألف دينار.
وكذلك فقد بلغ الناس من الترف ما بلغوا، ومما قيل في آثار مدينة قرطبة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر آلاف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصرها الزهراء أربعمائة دار، وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته. وعدد الفتيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبع مائة وخمسون. وعدة النساء بقصر الزهراء الكبار والصغار وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة؛ وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل ينقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان، وعدد حماماتها ثلاثمائة حمام؛ وقيل إنها المبرزة للنساء، وكان عدد أرباض قرطبة في ذلك الوقت ثمانية وعشرين ربضاً، منها مدينتان: الزهراء والزاهرة، وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع، فإنها كانت من تحف قيصر اليوناني صاحب القسطنطينية.

هجرة المطربين والمطربات من المشرق إلى الأندلس:
كان لشهرة الأندلس في العالم الإسلامي بالغنى والرقي والحياة الرغيدة، أثر على إقبال المغنين والقيان والشعراء وغيرهم إليها، فمن الوافدات من المشرق جارية بغدادية ذات فصاحة وبيان ومعرفة بالألحان تسمى "قمر" ويصفها المقري بأنها "جمعت أدباً وظرفاً، ورواية وحفظاً، مع فهم بارع وجمال رائع، وكانت تقول الشعر بفضل أدبها"، وقد كانت جارية لإبراهيم بن الحجاج اللخمي ت288هـ كما كان للمنصور بن أبي عامر جارية شاعرة مغنية تسمى "أنس القلوب" شغف بها وزيره أبو المغيرة بن حزم.
ومن المغنيين الذين قدموا إلى الأندلس مغنٍ من مصر يدعى عبد الواحد بن يزيد الإسكندرني الذي قدم حدثاً متظرفاً يشدو بشيء من الغناء، واتصل بالحاجب عيسى بن شهيد، فلما رأى نجابته نصحه بالإقلاع عن الغناء، والاكتفاء بأدبه وفضله، ففعل واتصل بالأمير عبد الرحمن، فأعجب به وقربه وصيره والياً، ثم ترقى بعد ذلك إلى مرتبة الوزارة، وقد توفي سنة 237هـ عن نيف وثمانين سنة.
ولكن أشهر مغن دخل الأندلس هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب، تلميذ إسحاق الموصلي أشهر المغنيين في بغداد في عصر الرشيد، فقد أحسن عبد الرحمن الأوسط استقباله، وجعل له راتباً شهرياً قدره مائة دينار، ولكل ولد من أولاده الأربعة عشرين ديناراً، كما جعل له ثلاثة آلاف دينار في كل عام، ألفاً فيكل من عيدي الفطر والأضحى، وخمسمائة في كل من عيدي النيروز والمهرجان، عدا ما خصص له من القمح والشعير، وما وهب له من الضياع والبساتين التي قدرت بأربعين ألف دينار. وقد أدخل زرياب على المجتمع الأندلسي طرقاً عجيبة في ترف المأكل والملبس والمظهر والغناء وغير ذلك.

ثانياً: مظاهر الانحراف:

شرب النبيذ:
ظهر شرب النبيذ في المجتمع الإسلامي في الأندلس، ووردت أخبار كثيرة عن شربه في البيوت وجلسات الأنس، ووصف كثير من الشعراء الخمر ومدحوها، ولكن الدولة كانت بين الحين والآخر تحاربه، وكذلك الفقهاء والعلماء كانوا يحرصون على نشر الفتاوى بين المسلمين عن حرمته وضرره.
فقد قام الخليفة الحكم بن عبد الرحمن، المستنصر بالله، في أول يوم من خلافته، بإصدار الأوامر قطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك، وفي أمره بإراقة الخمور في سائر الجهات يقول أبو عمر يوسف بن هارون الكندي قصيدته المشهورة فيها، متوجعاً لشاربها، وهي قوله:
بخطب الشاربين يضيق صدري
وهل هم غير عشاق أصيبوا
أعشاق المدامة إن جزعتم
سعى طلابكم حتى أريقت
وترمضني بليتهم لعمري
بفقد حبائب ومنوا بهجر
لفرقتها فليس مكان صبر
دماء فوق وجه الأرض تجرى
وهذا الشعر يدل على أن عدد من الناس أدمنوا شرب الخمر حتى لم يعودوا قادرين على تركها، وأنها كانت منتشرة في الأندلس قبل ولاية الحكم المستنصر بالله.
وبرغم ذلك فإن شارب الخمر لم يكن يتمتع بالاحترام في العهد الأموي، فقد بقي شارب الخمر يتخفى من الناس حتى لا يفتضح أمره بشربها وخاصة إن كان من علية القوم.
فورد أن صهيب بن منيع الأندلسي ت318هـ، أحد قضاة الأندلس، والذي مات في أيام عبد الرحمن الناصر، كان يشرب النبيذ -لعله كان يذهب مذهب أهل العراق- فشرب مرة عند الحاجب موسى بن حدير، وكان من عظماء الدولة الأموية، فلما غفل أمر باختلاس خاتمه وكان منقوشاً عليه:
يا عليماً كل غيب كن رؤوفاً بصهيب
وأحضر نقاشاً، فنقش تحت البيت المذكور:
واستر العيب عليه إن فيه كل عيب
ورد الخاتم إليه وختم القاضي به زماناً حتى فطن له.
وورد في كتاب تاريخ علماء الأندلس عن سيرة أحمدُ بن إبراهِيم بنِ فَرْوةَ الَّلخمِيُّ الفَرَضِيُّ: من أهل قُرطبَة، حيث وصفه ابن الفرضي بأنه "كان: مُغَفّلاً؛ كان: يَذهَبُ في شُربِ النّبيذِ الصّلبِ، مذهبَ أهلِ العراقِ".

الموسيقى والغناء:
من الطبيعي أن تنتقل الثقافة العربية إلى الأندلس مع المسلمين الفاتحين، ومما نقله العرب للأندلس الغناء الحجازي والعراقي، كما انتقل أيضاً مع القادمين من المشرق من مغنين ومغنيات، ولم يكن عندهم قانون يعتمدون عليه حتى مدة الحكم الربضي، الذي وفد عليه من المشرق ومن إفريقية من يحسن غناء التلاحين المدنية فأخذ الناس عنهم.
ويذكر أن عبد الرحمن الداخل ابتاع قينة تسمى العجفاء، وكانت تغني بالمدينة عند أحد موالي بني زهرة، كما اشترى عبد الرحمن جاريتين مدنيتين أيضاً هما فضل وعلم وأضاف إليهن جارية ثالثة بشكنسية اسمها قلم، وكان يؤثرهن لجودة غنائهن لجودة غنائهن ورقة أدبهن، واشترى إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب اشبيلية جاريته قمر وكانت بغدادية ذات فصاحة وبيان ومعرفة بصوغ الألحان وهاجر في أيام الحكم بن هشام 180-206هـ اثنان من مغني المشرق هما علون وزرقون الذي وصفه الكثيرون الميل إلى الترف واللهو، كما اشتهر بالغناء في عصره رجل يسمى منصور اليهودي، ولكن غناء هؤلاء ذهب لغلبة غناء زرياب عليهم بعد قدومه إلى الأندلس.
وكان عبد الرحمن الأوسط 206-238هـ مولعاً بالغناء مؤثراً له على جميع لذاته، ولذلك فقد وفد إلى الأندلس في عهده بعض القيان المغنيات من المدينة، فأفرد لهن داراً ملحقة بقصره سميت "دار المدنيات"، ومن أشهر هؤلاء القينات "فضل المدينة" التي كانت جارية لإحدى بنات الخليفة هارون الرشيد، ثم ذهبت إلى المدينة لتعلم الغناء، فاشتريت للأمير عبد الرحمن ومعها جارية أخرى تسمى "علم"، وكان يؤثرهما لظرفهما وأدبهما وحسن غنائهما، كما كانت هناك جارية أخرى تسمى "قلم"، وكانت في الأصل من سبي البشكنس، ثم أرسلت إلى المشرق، فتعلمت الأدب والغناء، وروت الشعر، وحفظت الكثير من الأخبار.
كما كان من القيان الوافدات من المشرق أيضاً غير هؤلاء جارية بغدادية ذات فصاحة وبيان ومعرفة بالألحان تسمى "قمر" ويصفها المقري بأنها "جمعت أدباً وظرفاً، ورواية وحفظاً، مع فهم بارع وجمال رائع، وكانت تقول الشعر بفضل أدبها".
وقد كانت جارية لإبراهيم بن الحجاج اللخمي ت288هـ الذي ثار على الأمير عبد الرحمن الأوسط، واستقل بإشبيلية، ومن شعرها في مدح إبراهيم:
ما في المغارب من كريم يرتجى
إني حللت عليه منزل نعمة
إلا حليف الجود إبراهيم
كل المنازل ما عداه سقيم

كما كان للمنصور بن أبي عامر جارية شاعرة مغنية تسمى "أنس القلوب" شغف بها وزيره أبو المغيرة بن حزم.
كما كان من المغنيين الذين قدموا إلى الأندلس أيضاً مغنٍ من مصر يدعى عبد الواحد بن يزيد الإسكندرني الذي قدم حدثاً متظرفاً يشدو بشيء من الغناء، واتصل بالحاجب عيسى بن شهيد، فلما رأى نجابته نصحه بالإقلاع عن الغناء، والاكتفاء بأدبه وفضله، ففعل واتصل بالأمير عبد الرحمن، فأعجب به وقربه وصيره والياً، ثم ترقى بعد ذلك إلى مرتبة الوزارة، وقد توفي سنة 237هـ عن نيف وثمانين سنة.
على أن أشهر مغن دخل الأندلس هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب، تلميذ إسحاق الموصلي أشهر المغنيين في بغداد في عصر الرشيد، فقد أحسن عبد الرحمن الأوسط استقباله، وذكر المقري وابن خلدون أنه خرج لاستقباله بنفسه، وجعل له راتباً شهرياً قدره مائة دينار، ولكل ولد من أولاده الأربعة عشرين ديناراً، كما جعل له ثلاثة آلاف دينار في كل عام، ألفاً فيكل من عيدي الفطر والأضحى، وخمسمائة في كل من عيدي النيروز والمهرجان، عدا ما خصص له من القمح والشعير، وما وهب له من الضياع والبساتين التي قدرت بأربعين ألف دينار.
وقد أعجب عبد الرحمن بمواهبه فقربه إليه، حتى قيل إنه جعل له باباً خاصاً في قصره يدخل منه كلما استدعاه، وقد أدت هذه المكانة إلى حسد البعض له فيذكر ابن سعيد: أن زرياب غنى يوماً أمام عبد الرحمن وأطربه فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، فاحتوشه جواريه وولده فنثرها عليهم، فكتب أحد السعاة إلى عبد الرحمن بذلك قائلاً: إنه فعل ذلك لأن ذلك المال لم يعظم في عينيه وفرقه في ساعة واحدة، فوقع عبد الرحمن على هذه الرسالة: "قد رأينا أنه لم يفعل ذلك إلا ليحببنا إلى أهل داره، ويغمرهم بنعمنا وقد شكرناه، وأذنا له بالمال المتقدم ليمسكه لنفسه، فإن كانت عندك مضرة أخرى في حقه فارفعها إلينا". وهذا يدل على مدى حب عبد الرحمن لزرياب، وعدم استماعه إلى وشاة الراشين فيه.
وقد أبدع زرياب في تنسيق الألحان، وأظهر براعة فائقة في الموسيقى والغناء حتى ادعى أن الجن هي التي تعلمه الأصوات، وكان يهب من نومه سريعاً، فيدعو جاريتيه غزلان وهيندة، فتمسك كل واحدة بعود، ويمسك هو بعوده، ويطارحهما الغناء ليلته، ثم يكتب الشعر ويعود إلى مضجعه.
وقد كانت له ابتكارات في مجال تطوير الآلات الموسيقية وعلى رأسها العود، فقد أضاف إليه وتراً خامساً بعد أن كانت أوتاره أربعة، واتخذ مضربه من قوادم النسر بدلاً من الخشب، وقد أثر عنه أنه كان يحفظ عشرة آلاف بيت مقطوعة من الأغاني بألحانها.
وقد تعلم بعض رجال الأندلس أصول هذا الغناء المشرقي فكان عباس بن فرناس الشاعر مجيداً له، وكان لعقيل بن نصر الشاعر أغان يجري فيها مجرى الموصلي، وألف اسلم بن احمد بن سعيد كتابا في أغاني زرياب، إذ أصبح لزرياب طرائق مخصوصة في هذا الفن يتناقلها الناس، وكان المطرف بن الأمير محمد عالما بالغناء وكان له أخوان آخران عارفين بالغناء جداً.
وعرفت في هذه الفترة أيضاً شخصية الزامر، وهو رجل لا يستغنى عنه في الحفلات والأعراس، وقد كان من مشهوري الزامرين النكوري الذي كان يزمر لعبد الرحمن الناصر، ومن زيه ان يلبس قلنسوة وشي وثوباً من الخز، وموضعه من الناس في وسط الحفل، ومنهم ابن مقيم الزامر وكان طيب المجلس صاحب نوادر ومن الطنبوريين زربوط الطنبوري الذي قتل هو وقنبوط الملهي في وقعة قنتيش قنطيش أيام فتنة البربر مع سليمان المستعين، وقد كان هؤلاء الزامرون ينغمون الألحان السائرة في أحداث مشهورة لأنها تجد إقبالاً من الجماهير، وفي تلاحين زرياب قد نجد الأساس الذي انبثق عنه الموشح من بعد، وفي التنغمات الشعبية التي يرددها الزامرون قد نجد أصول الأزجال.
وتروى الروايات أن حفلات الغناء والرقص في الأعراس كانت تعقد في الشوارع العامة، فقد ورد في قصة أن الشاعر أحمد بن كليب كان يحب أن ينظر إلى القاضي أسلم بن سعيد، وكان أجمل الناس منظراً، وأنه قال فيه شعراً حتى شاع في الأعراس، وحدث أن عرساً في بعض الشوارع والبكوري الزامر في وسط المحفل يزمر بقول أحمد بن كليب في أسلم:
أسلمني في هوا
غزال له مقلةٌ
وشى بيننا حاسدٌ
ولو شاء أن يرتشي
ه أسلم، هذا الرَّشا!
يصيب بها من يشا!
سيسأل عمَّا وشى!
على الوصل روحي، ارتشى

وقد وجد الغناء بالأندلس قبولاً يكاد يكون شاملاً ولم يتحرج فيه قوم، ومن العسير أن نثبت أن رجال الدين هنالك كانوا يكرهون الغناء، أو يشددون النكير على أهله، بل لعلهم كانوا في هذه الناحية أقرب الناس شبهاً بفقهاء أهل المدينة ونساكها، ومن الحكايات الدالة في هذا الباب قصة قاضي الجماعة محمد بن أبي عيسى وكان عند رجل من بني حدير وجارية للحديري تغنيهم هذه الأبيات:
طابت بطيب لثاتك الأقداح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها
وزهت بحمرة خدك التفاح
طابت بطيب نسيمك الأرواح
فضياء وجهك في الدجى مصباح

فكتب القاضي هذه الأبيات في يده، وخرج للصلاة على جنازة، والأبيات مكتوبة على باطن كفه.
وكان ابن عبد ربه؟ وهو ذو الديانة والصيانة - ماراً ذات يوم ببعض الأحياء فسمع مصابيح تغني، فاستماله غناؤها ووقف تحت الروشن منصتاً، ثم مال إلى بعض المساجد وأخذ لوحاً لبعض الصبية وكتب عليه:
يا من يضن بصوت الطائر الغرد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة
فلا تضن على سمعى تقلده
لو كان زرياب حياً ثم أسمعه
أما النبيذ فإنى لست أشربه
ما كنت أحسب هذا البخل في أحد
أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
صوتاً يجول مجال الروح في الجسد
لذاب من حسد أو مات من كمد
ولست آتيك إلا كسرتى بيدي

ونستدل من هذه القصة أيضاً إلى أن الغناء والشعر كان يستخدم في مقاصد شريفة مثل التورع عن شرب الخمر والنبيذ.

ويصف لنا الإمام ابن حزم مجالس الغناء ويذكر الشعر الذي كان يغنى به ويصور شدة تأثره بما يسمع، وكلفته حفنى العامرية إحدى كرائم المظفر عبد الملك بن أبي عامر صنع أبيات تلحنها، ففعل، وذكر ان لها فيها صنعة في طريقة النشيد والبسيط رائقة جداً، وتناول ابن حزم الغناء من الناحية الفقهية في رسالته "الغناء الملهي وهل هو مباح أو محظور"، ورد الأحاديث التي تقوم بحظرة جميعاً، ألا أن هذا الميل ليس عاماً فقد وجد بين الناس من ينكر هذا المذهب، ولما شاء ابن حيان ان يثلب أحد الفقهاء قال فيه: "من رجل مرخص في السماع، صب بإنشاد الأغاني الفاتنة" فجعل ذلك بعض عيوبه.
ومهما يكن من شيء فقد شاع الغناء في البلاد الأندلسية عامة، ولم يقتصر احتفال الناس به على قرطبة، بل لعل المدن الأخرى بذتها في هذا الشأن، وأحرزت اشبيلية بعد هذا العصر الذي نتحدث عنه قصب السبق في كثرة الإقبال على اللهو وآلات الضرب والغناء، حتى لقد قال فيها ابن رشد: "إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وان مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت على اشبيلية".

تقريب النصارى ومشاركتهم بأعيادهم:
قام الخلفاء الأمويون ومنهم الخليفة الناصر بتقليد عدداً من رجالات أهل الذمة مناصب رفيعة، حيث كان يوفدهم في سفارات إلى ملوك النصارى، كما أوفد الناصر طبيبه اليهودي حسداي بن إسحاق ابن شربوط سفيراً إلى صاحب جليقية وإلى صاحب برشلونة، كما أوفد سفارة من أساقفة أهل الذمة في مهمة إلى صاحب جليقية، ورغم ذلك فإننا يمكننا أن نعذر الخلفاء الأمويين على ذلك، فهذا ابن حيان أحد علماء الأندلس يذكر ذلك في كتابه "المقتبس" ولا يعترض على ذلك، مما يدل على روح التسامح التي كان ينظر بها علماء الأندلس على مثل هذه الأمور.
وكان مسلمو الأندلس يشاركون النصارى بأعيادهم، مثل عيد الميلاد، وعيد العنصرة، وخمس العهد، أو خميس إبريل الذي يسبق عيد الفصح بثلاثة أيام. فقد سن زرياب لأهل الأندلس كما قال المقري في نفح الطيب: "لبس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يونية الشمسي من شهورهم الرومية، فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة".
وذكر المقري: أن عبد الرحمن الأوسط لما قدم زرياب إلى الأندلس بالغ في إكرامه، وقرر له راتباً شهرياً ألفاً لكل من عيدي الفطر والأضحى، وخمسمائة لكل من عيدي النيروز والمهرجان، عدا الشعير والقمح والضياع والبساتين التي وهبها له وقدرت بأربعين ألف دينار.
ويصف عبد الرحمن بن عثمان الأصم وهو من شعراء عصر الناصر يوم المهرجان بقوله:
أرى المهرجان قد استبشرا
غداة بكى المزن واستعبرا

وسربلت الأرض أفوافها
وجللت السندس الأخضرا

وهز الرياح صنابيرها
فضوعت المسك والعنبرا

تهادى به الناس ألطافهم
وسامى المقل به المكثرا

وهذا يدل على أن الناس كانوا يتهادون فيه، ويتنافسون في ذلك، ومن قول أبي جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد في وصف يوم المهرجان:
يا حسن يوم المهرجان وطيبه
يوم كما تهوى أغر محجل
سرح لحاظك حيث شئت فإنه
في كل موقع لحظة فتأمل
وإلى جانب الأعياد فقد كان هناك في الأندلس ما يمكن أن نطلق عليه اسم إجازة رسمية، فقد كان يوم الأحد من كل أسبوع بمثابة عطلة للموظفين، فقد ذكر ابن حيان 469هـ في ترجمته لقومس ابن انتنيان كاتب الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكان نصرانياً فأسلم في آخر حياته "أنه كان أول من سن لكتاب السلطان وأهل الخدمة تعطيل الخدمة في يوم واحد من الأسبوع والتخلف عن حضور قصره، وكان أول من دعا لي ذلك لتنسكه فيه، فتبعه جميع الكتاب طلباً للراحة والنظر في أمورهم، فانتخبوا ذلك ومضوا إلى اليوم عليه". ويشير ابن سماك العاملي الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري إلى ذلك في كتابه "الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة" حيث يقول عن المنصور بن أبي عامر: "أصبح المنصور صبيحة أحد وكان يوم راحة أهل الخدمة الذين أعفوا فيه من الخدمة في مطر وابل".
ويبدو أن هذا اليوم كان عادة مسيحية انتقلت بعد ذلك إلى الأندلسيين، وهذا يدل على أن التقليد الذي سنه قومس بن انتنيان في اتخاذ يوم الأحد عطلة رسمية للكتاب وأهل الخدمة قد ظل معمولاً به في عصر المنصور وحتى أيام ابن حيان الذي توفي سنة 469هـ، ويبدو أنه ظل معمولاً به بعد ذلك.
ولقد جرت عادة الأندلسيين على الاحتفال بأعيادهم ومواسمهم وحفلاتهم بوسائل شتى مثل الغناء والموسيقى والرقص، وألعاب الفروسية وسباق الخيل، إلى جانب الأناشيد والموشحات الدينية، وحلقات الذكر التي كان يصاحبها العزف على بعض الآلات مثل الشبابة واليراعة، والضرب على الدفوف، وتوزع فيها الأطعمة.
وكان بالأندلس شعراء اشتهروا بالمجون مثل: ابن هاني، أبو الحسن وأبو القاسم، محمد بن هاني الأزدي الأندلسي الإشبيلي ت362هـ، حامل لواء الشعر بالأندلس، وله ديوان كبير، وكان منغمساً في اللذات والمحرمات، متهماً بدين الفلاسفة، ولقد همّوا بقتله، فهرب إلى القيروان، و شرب ليلةً عند ناس، فأصبح مخنوقاً، ومات هو في عمر الخمسين، ومدح المعزّ واتصل به، وقد تفضي به المبالغة في المدح إلى الكفر. ومن شعره الذي مدح به المعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار.
ومنهم أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي ت403هـ، الذي كان عاكفاً على اللهو في شبابه، مما أودى به إلى السجن في عهد الحكم.








المبحث الثالث

المجتمع الإسلامي الأندلسي
بين الاستقامة والانحراف



لقد كانت مدة الحكم الأموي في الأندلس سنوات خير واتحاد لمسلمي الأندلس، بعكس السنوات التي تلتها من حكم الطوائف التي كانت مليئة بالفتن والفرقة والانحراف، ولهذا فقد كان علماء الأندلس مثل ابن حيان وابن حزم من أشد أنصار الخلافة الأموية في قرطبة، التي كانت تمثل وحدة الأندلس ومنعتها، ومن هنا جاء نفورهما الشديد من ملوك الطوائف الذين شهدت البلاد على عهدهم التجزئة والمنازعات، وينقل ابن حيان عن ابن مامة النصراني، صاحب العسكر الذي كان مع الخليفة سليمان بن الحكم قوله في أهل قرطبة: "كنا نظن أن الدين والشجاعة والحق عند أهل قرطبة، فإذا القوم لا دين لهم ولا شجاعة فيهم ولا عقول معهم، وإنما اتفق لهم ما اتفق من الظهور والنصر بفضل ملوكهم، فلما ذهبوا انكشف أمرهم فليس في القوم عقلُ ولا شجاعة ولا دين".
وهذه الرواية تثبت مقولة أن الناس على دين ملوكهم، فقد حرص الأمويون في الأندلس على الحفاظ على الدين واستقامة رعاياهم.
ووجد الغناء والموسيقى بالأندلس قبولاً يكاد يكون عاماً، ولم يتحرج من سماعه الكثيرون، بينما تورع بعض الفقهاء والعلماء. وقد تناول ابن حزم الأندلسي الغناء من الناحية الفقهية في رسالته "الغناء الملهي وهو مباح أو محظور" ، ورد الأحاديث التي تقول بحظره. إلا أنه وجد من بين علماء الأندلس من أنكر مذهب ابن حزم، ورد عليه، وعندما أراد ابن حيان أن نتقد أحد الفقهاء الذين يبيحون الغناء قال فيه: "إنه رجل مرخص للسماع، صب بإنشاد الأغاني".
وقد وردت آثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المعازف وآلات الطرب واللهو، ومنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في أمتي خسفاً ومسخاً وقذفاً ، قالوا : يا رسول الله ! وهم يشهدون أن لا إله إلا الله ؟ فقال : نعم ، إذا ظهرت المعازف والخمور ولبس الحرير".
أما عن الخمر، فقد رأينا أن من الخلفاء الأمويون في الأندلس من رام قطع الخمر من كل البلاد، فعندما تولى الخلافة بالأندلس الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله 350هـ، وكان حسن السيرة، جامعاً للعلوم محباً لها مكرماً لأهلها، أراد قطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع بلاد الأندلس، فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك.
وكان بالأندلس شعراء اشتهروا بالمجون مثل: ابن هاني، أبو الحسن وأبو القاسم، محمد بن هاني الأزدي الأندلسي الإشبيلي ت362هـ، حامل لواء الشعر بالأندلس، وله ديوان كبير، وكان منغمساً في اللذات والمحرمات، متهماً بدين الفلاسفة، ولقد همّوا بقتله، فهرب إلى القيروان.
وهذا دليل على أن المجون والانحراف في المجتمع الإسلامي بالأندلس كان منزوياً ممقوتاً، ولم يكن يشكل ظاهرة عامة.
وقد كان الأمويون يلاحقون أهل المجون واللهو، فقد ورد أن الشاعر أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي ت403هـ، كان مشهوراً في شبابه بأنه كان عاكفاً على اللهو، وقد قاده ذلك إلى السجن، في عهد الحكم بن هشام.
وورد أن الخليفة الأموي الحكم المستنصر بالله أمر بالقبض على كثير من المجاهرين بالمجون وأودعوا السجن، فكان ممن لوحق وسجن يوسف بن هارون البطليوسي الشاعر المعروف بأبي جنيش، الذي هرب مدة والطلب له حثيث، فلما ضاقت عليه الأمور، ولم يستطع الاختباء، قام بتسليم نفسه للدولة، فأودع في السجن بالزهراء، وبقي في محبسه حتى لان له الخليفة فأطلق سراحه بعد أشهر، وكان ذلك سنة 361هـ.
وكذلك أصدر المستنصر بالله أمراً لصاحب مدينة الزهراء محمد بن أفلح بمطاردة الشعراء الهجائيين والقبض عليهم، صوناً لأعراض الناس من لاذع ألسنتهم ومقذع هجائهم، وكان منهم عيسى بن قرلمان الملقب بالزبراكة، ومؤنس الكاتب، وأحمد بن الأسعد، وغيرهم، فظفر صاحب المدينة بهم وأودعهم السجن، وفي هذا الإجراء ما يشهد برفيع صفات وخلال الحكم، ورقة شعوره، وموفور احتشامه.
وقد برز مقابل شعراء المجون شعراء الزهد، ومنهم الأديب الشهير ابن عبد ربه القائل في أحد قصائده:
يا من تلهَّى وشيبُ الرأس يندُبه
ماذا الذي بعد شيبِ الرّأسِ تنتظر
لو لم يكن لك غيرُ الموت موعظةً
لكان فيه عن اللذَّات مُزدَجَر
وقال في أبيات أخرى:
ألاّ إنّما الدُّنيا غضَارةُ أيكةٍ
إذا أخضرَّ منها جانبٌ جفَّ جانبُ
هي الدَّار ما الآمال إلا فجائعٌ
عليَها ولا اللذَّاتُ إلاّ مَصائب
وكم سَخِنَت بالأمس عَينٌ قَريرةٌ
وقرَّت عُيونٌ دمعُها اليوم ساكب
فلا تَكتحل عيناك فيها بَعْبرٍة
على ذاهب منها فإنك ذاهب
وقد كان الخلفاء والأمراء الأمويون في الأندلس يستفتون الفقهاء والعلماء فيما وقع لهم من أمور، وفي نفس الوقت كان الفقهاء لهم شخصيتهم واحترامهم وتقديرهم لدى الأمراء، وذلك لأنهم قدموا الدنيا على الآخرة، وقد روي أن عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس نظر إلى جارية في رمضان، فلم يملك نفسه أن واقعها. فندم وطلب الفقهاء. فحضروا، فسألهم عن توبته، فقال له يحيى بن يحيى: صم شهرين متتابعين. فسكتوا. فلما خرجوا قالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك، أنه يخير بين العتق والصوم والإطعام؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم، ويعتق رقبة. فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
ومن هذه الرواية نستنتج كذلك أن الأمراء كانوا في الغالب وقافين عند حدود الله، وإذا أخطأوا كانوا يسرعون إلى التوبة، وكذلك فإن الفقهاء لم يكونوا يسايرون الأمراء، من أجل متاع زائل، بل التزموا بدورهم الذي خطه الشرع لهم وهو إصلاح المجتمع.
وهذا ما حدث مع القاضي المنذر بن سعيد حين دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره الفخم لما بناه وجعل سقفه من ذهب وفضة، فتلا عليه قوله تعالى "وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ" ، فوجم عبد الرحمن الناصر، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سبحانه، ثم أقبل على منذر وقال له: جزاك الله، يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً، وعن الدين والمسلمين أجل جزائه، وكثر في الناس أمثال، فالذي قلت هو الحق، وقام عن مجلسه ذلك، وأمر بنقض سقف القبة وأزال الذهب والفضة وبنى السقف كما كانت تبنى السقوف في ذلك الزمن.
ومن الروايات التي تدل على عدم تعدي الحكام على الشرع، واحترامهم لحكم القضاة وانصياعهم لها، ولو كانت في غير مصلحتهم، فقد ذكر أن الحكم بن هشام كان له قاضٍ قد كفاه أمور رعيته لفضله وزهده وورعه، وأنه عظم في عينه حين حكم عليه بأن يعيد جارية كانت عنده إلى صاحبها، وخلاصة قصتها أن تلك الجارية كانت لرجل عادي من سكان جيّان أخذها منه العامل على المنطقة ثم أرسلها فيها بعد إلى الحكم، فعلم الرجل بذلك، وأقام الدعوى، فحكم القاضي بعد التأكد من صحة الادعاء بأن الجارية يجب أن تعود إلى صاحبها، وعبثاً حاول الحكم أن يدفع فيها أغلى الأثمان لصاحبها إلا أن القاضي تمسك بأنها يجب أن تعاد لإحقاق الحق، فرضخ الأمير الحكم وأمر بإخراجها من قصره.
وعوضاً عن أن يغضب الحكم من ذلك القاضي ويعمد إلى عزله، آثره لديه ورفع شأنه، واغتم إلى حد بعيد بعد بضعة سنوات حين علم بوفاته، فكانت جميع تصرفاته في الليلة التي أٌعلم بوفاة القاضي تدل على أقصى القلق والكآبة، وتقول إحدى جواري الحكم واسمها عجب أنها رأته قائماً يصلي خلال الليل "فقعدت انتظره، فسجد سجدة أطالها حتى غلبتني عيناي، ثم انتهيت فإذا هو ساجد على مثل حالته ثم غلبتني عيناني فما راعني إلا وهو يحركني لانصداع الفجر، فأقبلت عليه أسأله ما الذي أقلقه عن فراشه، فقال: خطب عظيم ومصاب جليل، كنت قد تفرجتُ من أمور الرعية بالقاضي الذي كان الله قد كفاني به ما كفاني فخشيت ألا أصيب منه خلفاً, ودعوت الله عز وجل أن يوفق لي قاضياً مثله أجعله بيني وبين الرعية".
ووصف المقري تدين أهل الأندلس قائلاً بأن "الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان".
ويقول عبد الرحمن الحجي عن أحوال الأندلس الدينية في ذلك العهد: "استمرت الأندلس خلال هذا العهد في تقدمها وتحسين أحوالها على أسس جديدة تنسجم والشريعة الإسلامية في العمق والشمول، ... وعبق الإسلام عطراً بحياة هذا البلد، وتدارس الناس هذا الدين، ونمت دراسة علومه وزاد الاهتمام بها".


المصادر والمراجع

المصادر:
- المقري، أحمد بن المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عبا، بيروت، دار صادر.
- ابن حزم، أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، مطبعة العاصمة.
- الشنتريني، أبو الحسن علي بن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: إحسان عباس، ليبيا، تونس، الدار العربية للكتاب.
- الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى، الجامع الكبير، تحقيق: بشار معروف، بيروت، دار الجيل، دار الغرب الإسلامي، ط2، 1998م.
- ابن خلدون، عبد الرحمن، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، دار إحياء التراث العربي.
- ابن حزم الأندلسي، رسائل ابن حزم، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
- ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان ابن أبي بسكر بن أبي شيبة الكوفي العبسي ت235هـ، المصنف، القاهرة، دار الفكر.
- ابن عذاري، أبو عبد الله محمد المراكشي 712هـ، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.
- ابن الفرضي، أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي ت351هـ، تاريخ علماء الأندلس، القاهرة، 1966م.
- النباهي، أبو الحسن بن الفقيه أبي محمد ابن عبد الله بن الحسين النباهي، تاريخ قضاة الأندلس
- ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس
- المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب
- المقدسي البشاري، أحسن التقاسيم،
- الحميدي، جذوة المقدتبس في ذكر ولاة الأندلس
- القاضي عياض، ترتيب المدارك،
- مسلم، صحيح،
- الصفدي، الوافي بالوفيات
- الذهبي، تاريخ الإسلام
- البخاري، صحيح، ج10، ص413.
- ابن حيان القرطبي، المقتبس من أنباء الأندلس
- الذهبي، العبر في خبر من عبر، ج1، ص153.
- ابن دحية الكلبي، المطرب من أشعار أهل المغرب، ص43.
-
المراجع:
- عبد العزيز بن عبد الجليل، الموسيقا الأندلسية المغربية، الكويت، عالم المعرفة، 1988م.
- أحمد مختار العبادي، صور من حياة الحرب والجهاد في الأندلس، القاهرة، منشأة المعارف، ط1، 2000م.
- منى حسن محمود، المسلمون في الأندلس وعلاقتهم بالفرنجة، القاهرة، دار الفكر العربي.
- خالد الصوفي، تاريخ العرب في الأندلس عصر الإمارة من عبد الرحمن الداخل إلى عبد الرحمن الناصر، طرابلس ليبيا، منشورات جامعة قار يونس، ط2، 1980م.
- عبد الرحمن الحجي، التاريخ الأندلسي، من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، القاهرة، دار الاعتصام، ط1، 1403هـ=1983م.
- إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي –عصر سيادة قرطبة، بيروت، دار الثقافة، ط1، 1960م.
- محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس الخلافة الأموية والدولة العامرية، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط4، 1417هـ=1997م.
- أمين توفيق الطيبي، دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والأندلس، ج2، الدار العربية للكتاب، 1997م.
- محمد عناني، تاريخ الأدب الأندلسي، القاهرة، دار المعرفة الجامعية، 1999م.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف