الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

من المسؤول عن تخلفنا؟عمرو خالد أم طه حسين؟بقلم:د.إبراهيم عوض

تاريخ النشر : 2008-02-01
من المسؤول عن تخلفنا؟

عمرو خالد أم طه حسين؟



بقلم د. إبراهيم عوض

[email protected]

http://awad.phpnet.us/

http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

فى مقال له بالأهرام بتاريخ 26/ 12/ 2007م عنوانه: "من يتحكم فى عقل مصر؟" كتب الأستاذ شريف الشوباشى وكيل وزارة الثقافة بمصر كلاما عجيبا كله أخطاء ومقارنات ساذجة وأحكام مطلقة ليس فيها رائحة الصحة يدين به عصرين من عصور الحضارة الإسلامية إدانة تامة لا ترى فيهما إلا كل شر، ويلمز التدين من طَرْفٍ خَفِىٍّ ومن طَرْفٍ ظاهرٍ معا. وقد دفعنى ما جاء فى المقال إلى التعقيب عليه بما فتح الله به إبراء للذمة وتوعية للقارئ بأنْ ليس كل ما يُكْتَب فى الجرائد هو كلام سليم، بل فى كثير منه ضحالة وضآلة. ولسوف أورد أولا كلام الأستاذ الشوباشى كاملا، ثم أقفِّى عليه بما كتبته فى تفنيده.

قال الأستاذ: "لو تخيلنا أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعث من قبره في هذه الأيام وأقام ندوة في قاعة صغيرة‏ فالأرجح أن عدد الحاضرين لن يتجاوز بضع عشرات‏.‏ ولو افترضنا أن الداعية عمرو خالد أقام في نفس الليلة أمسية دينية في إستاد القاهرة الدولي فالأرجح أنه سوف يمتلئ عن آخره‏،‏ بل وسيكون هناك تجمهر من المريدين في الخارج يُمْنَعُون من الدخول نظرا لامتلاء الإستاد‏.‏ هذا هو حالنا الآن في عصر سُحِبَتْ فيه السجادة من تحت أقدام أهل الثقافة، وانفض الناس عن كل من يتحدث بلغة العقل‏‏ ويتخذ المنطق والعقلانية وسيلة للتأثير في النفوس‏.‏

وقد ظلت مصر قرونا طويلة ترزح تحت مظلة الجهل وتغييب العقل في عصور سيطر خلالها العثمانيون والمماليك على مقدرات البلاد‏،‏ وكان همهم الوحيد هو الإبقاء على سلطانهم ونهب خيرات الشعب‏.‏ لذلك فقد كان من الطبيعي أن تسيطر الخرافات والأساطير على عقول الناس بتشجيع من الحكام الأجانب كما كان الحال خلال القرون الوسطى في أوروبا‏،‏ حيث كانوا يربطون المريض في شجرة ويضربونه بالسياط لاعتقادهم بأن الشيطان بداخله هو السبب في علته‏.

وبدأت بشائر عصر النهضة عندما بادر الوالي محمد علي‏،‏ مؤسس مصر الحديثة‏،‏ بإرسال البعثات إلى الخارج لينهل مبعوثوه من العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها‏.‏ وشيئا فشيئا بدأ عصر جديد تماما على مصر، وهو ظهور طبقة ممن يمكن أن يطلق عليهم: "المثقفون" استفادوا من اطلاعهم على الفنون والآداب والعلوم الأوروبية‏،‏ وأضافوا لها اللمحات المصرية والعربية‏ المستمدة من حضارتنا العريقة‏.‏ ولأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلى رأي في قضية عامة‏.‏ وربما كانت مقدمة ابن خلدون هي المحاولة الوحيدة الجادة في هذا الاتجاه قبل ذلك‏.‏ فلم يكن هذا العبقري رائدا في علم الاجتماع فقط، وإنما أيضا في منهجية التأليف‏.‏

ولعل أول كتاب في العصر الحديث يستحق هذا الاسم هو‏ "تخليص الإبريز في تلخيص باريز‏" لرفاعة الطهطاوي الذي وضعه بعد عودته من باريس واطلاعه على حضارة فرنسا وأوروبا‏.‏ ثم توالى كبار المثقفين من أمثال علي مبارك ومحمد عبده‏،‏ وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق‏،‏ ثم طه حسين والعقاد والحكيم وغيرهم‏.‏ وقد أتاحت الصحافة نشر أفكار كل هؤلاء على نطاق واسع لم يُتَحْ مثله لكل سابقيهم‏.‏ وتنبه كل هؤلاء لقيمة ذلك الاختراع الجديد فكتبوا جميعا في الصحف، وكان ألمع المثقفين يتخذون من "الأهرام" منبرا للوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء‏. وظل هؤلاء هم الذين يشكلون عقل مصر وضميرها طوال حقبة الملكية وحتى نكسة ‏1967.‏ وفي هذه الفترة الفاصلة في تاريخ مصر الحديث بدأ دور هؤلاء المثقفين يخفت شيئا فشيئا، وبدأ الناس لا يؤمنون بما يقولون، وظهر تيار يتهمهم بالكذب والاحتيال على الناس حتى أوصلونا للهزيمة والانكسار‏.

ولم يجد المتحدثون باسم الدين صعوبة في ملء الفراغ والسيطرة على عقول الناس‏.‏ فإن كان المثقفون، كما يقولون، قد مالأوا الحكام وأسهموا في تخدير عقول الشعب وتبرير الأخطاء التي أدت إلى التدهور والهزيمة‏،‏ فإن قادة الرأي الجدد الذين يتخذون الدين وسيلة للوصول إلي السلطة إنما يناهضون الحكم وينتقدون الحكومة ويعتبرون أن البعد عن الدين هو سبب كل المصائب التي حلت على مصر وأن الحكومات المتوالية تناست الدين فجرّت البلاد إلي الهاوية‏.‏ وأصبحت اللغة التي يتقبلها الناس هي لغة الغيب والخزعبلات‏ حتى رأينا العجب العجاب علي شاشات الفضائيات‏.‏ فإذا كان العقل قد أثبت فشله في تفسير الواقع فلا بد من وجود وسيلة أخرى لإرضاء الناس المتلهفين لمعرفة الحقيقة‏.‏ وظهرت طبقة من المتحدثين باسم الدين يغرسون قيما جديدة معظمها يأخذ من ديننا الحنيف القشور‏،‏ واستغل تيار سياسي هذا المناخ الجديد ليستشري في الحياة السياسية المصرية كما لم يحدث في تاريخها الطويل‏.‏

ومع انكماش دور المثقفين أصبح هؤلاء هم الذين يتحكمون في عقل مصر ويمثلون المثل الأعلى بالنسبة للشباب الذي يرى آفاق المستقبل موصدة في وجهه حتى أصبح بعضهم على استعداد لإلقاء أنفسهم في التهلكة من أجل الهجرة للخارج‏.

والمشكلة أن هؤلاء الذين يتحدثون باسم الدين لا يعرفون الدين‏،‏ بل يركبون الموجة للتوصل إلي أهدافهم التي لا علاقة لها بالسماء لكنها أهداف دنيوية ومادية وسلطوية‏.‏ وأصبح الذين يدغدغون الغرائز ويلعبون على أوتار الحرمان والفقر والخوف من المستقبل ويستغلون الإيمان المتجذر في أعماق الشعب المصري‏‏ هم الذين يتحكمون في عقل الأمة‏.

وفي رأيي المتواضع فإنه لا أمل في أن تأتي أية إصلاحات اقتصادية أو سياسية أو هيكلية بثمار حقيقية مادام المتحكمون في عقل مصر يفسدون هذا العقل ويجرّون المجتمع إلي قضايا وهمية ومعارك دون كيشوتية يكون الخاسر الأول فيها هو الشعب المصري".

انتهى ما قاله الأستاذ الشوباشى، والآن جاء دورى لأدلى أنا أيضا برؤيتى فى القضايا الخطيرة التى طرحها وقدم تحليله لها ورأيه فيها وحلوله لما يتصل بها من مشاكل. ومن هنا أتوكل على الله وأقول: أول شىء نلاحظه فى هذه السطور هو وضع المؤلف للمثقف مقابل الداعية كأنهما نقيضان لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يكون بينهما تفاهم أى تفاهم، فكأن الداعية ليس مثقفا، بل كأنه لا يستخدم عقله ولا يخاطب عقول الآخرين، إذ جعل الكاتب من المثقف صاحب عقل، أما الداعية فلا عقل له. وخلاصة الكلام هو أن الدين والثقافة شيئان متخاصمان لا سبيل إلى الالتقاء بينهما. وهذا كلام خطير غاية الخطورة، وبخاصة إذا رأينا أ. الشوباشى يندب حظ الأمة التى ابتلاها الله بالدعاة فاستجابت لهم وحرمت نفسها من بركات المثقفين من أمثاله هو وطه حسين! باختصار إذا كنتَ إنسانا متدينا: سواء كنت داعية أو واحدا من جمهور الدعاة فأنت إنسان لا عقل لك، ولا أمل فيك ولا فيما تسمعه وتقرؤه، بل الأمل كل الأمل أن تنصرف عن الدين وعن الدعوة إلى الدين، لأن الدين جهل وغباء. وأنت، إذ تفعل ذلك، إنما تنقلب على الخطة الصحيحة التى انتهجها محمد على ورجاله ومثقفو عصره حين تركوا ماضيهم واتجهوا نحو قبلة أوربا والغرب. أليس هذا هو ما تقوله السطور الماضية، صراحة أو ضمنا؟

ولكن هل كان طه حسين، الذى يجعل منه الشوباشى مثلا للمثقف ذى العقل، عاقلا فعلا فى كل ما كتب وتكلم ووقفه من مواقف؟ نعم، هل كان عاقلا مثلا حين أنكر أن يكون إبراهيم قد بنى الكعبة أو زار مكة أصلا رغم أن القرآن قد ذكر زيارته لمكة وبناءه الكعبة، فقال طه حسين المثقف العاقل نابذ الخرافة ومُزِيلها وقاشع حجب الظلمات عن العقول والنفوس والضمائر: وإِنِنْ؟ أى فليقل القرآن الكريم ما يشاء، أما أنا المثقف صاحب العقل المتنور فلا أصدق بشىء من هذا. أم هل كان طه حسين، إذ أنكر الشعر الجاهلى كله أو جُلّه لا لشىء إلا لأن مرجليوث المستشرق البريطانى قد سبقه بعشرة أشهر لا غير إلى إنكار هذا الشعر بعد أن كان هو نفسه قبيل ذلك مباشرة لا تدور فى خاطره خالجة من الشك فى ذلك الشعر، بل كان يؤكد وجوده إلى الدرجة التى كان يراه أساس الحضارة الإسلامية، أقول: هل كان طه حسين وقتها مثقفا عاقلا رغم أنه فى إنكاره للشعر الجاهلى لم يَسُقْ قط على دعواه الفطيرة أى دليل علمى؟ أم هل كان طه حسين، عندما دعانا إلى احتذاء أوربا فى كل ما تصنعه من خير أو شر، وحُسْنٍ أو سُوءٍ، وإلى نَضْو غشاء الشرقية العربية الإسلامية تمام النَّضْو والالتحاق بركب المدنية الأوربية والتنكر لكل ما لديْنا، هل كان طه حسين ساعتها مثقفا ذا عقل؟ ترى ما مقياس الثقافة والعقل عند شريف الشوباشى؟ أهو أن تكون مناهضا للدين؟ الواقع أن كلامه لا يقول شيئا آخر سوى هذا. لو أن طه حسين قال: إنه ليس بين يدىّ دليل خارج القرآن على أن إبراهيم زار مكة وبنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، غير أنى فى ذات الوقت لا أستطيع أن أكذّب بما جاء فى القرآن لأن القرآن لا يمكن أن يكون مخطئا، إذ هو وحى سماوى، ووحى السماء لا يخطئ أبدا، فهو من عند الله أعلم العالمين، أو إن لم يكن يؤمن بالقرآن وبأنه من عند الله أن يقول: إننى لا أستطيع أن أكذّب بالقرآن لأنه ليس بين يدىَّ دليل على خطإ ما يقول، لقلنا له: نِعْم العقل. أما أن يكذّب بالقرآن دون أن يكون بين يديه أى برهان على صحة ذلك التكذيب فهذا هو فقدان العقل، وهذه هى مخاصمة الثقافة. ولو أن طه حسين أنصت جيدا إلى ما قاله له العلماء الأثبات الذين كانوا يعرفون أكثر جدا جدا مما يعرف هو عن الشعر الجاهلى وبينوا له أن كثيرا جدا من ذلك الشعر شعر صحيح، فاحترم علمهم وعقولهم وثقافتهم ولم تأخذه العزة بالإثم ويزداد تمردا دون دليل أو أثارة من علم، لكان رجلا مثقفا بحق وحقيق، أما أن يتمرد عليهم ويرفض أن يتعلم على أيديهم ما يجهله، فهذا هو فقدان العقل، وهذه هى مخاصمة الثقافة.

وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فهل من العقل والثقافة أن يعجز طه حسين عن أن يربى ابنه تربية عربية إسلامية، وقد كانا يعيشان فى بلد عربى، بل بلد زعيم العروبة، بحيث يعرف لغة الدولة والثقافة والحضارة التى ينتمى إليها، على الاقل إلى جانب اللغة الفرنسية التى لم يكن يعرف غيرها لأن أمه الفرنسية قد غرست فيه حب الفرنسية وكراهية العربية، تلك اللغة التى لم تحاول أن تتعلمها هى نفسها رغم أنها عاشت فى مصر عشرات السنين، ولو على سبيل المجاملة لزوجها وللبلد الذى جعل من زوجها وزيرا للمعارف، أى وزيرا للغة العربية وللثقافة العربية، لأن كل ألوان الثقافة فى تلك الوزارة بل فى ذلك البلد الذى تولى فيه طه حسين الوزارة إنما كانت وما زالت تُتَلَقَّى عن طريق العربية وتنتمى إلى الثقافة العربية؟ يقول أنيس منصور بالنص والحرف إن "ابن طه حسين الدكتور مؤنس لا يعرف العربية!" (من مقال له بعنوان "جاءوا من وادي الجن!"/ جريدة "الشرق الأوسط" الدولية/ السبـت 26 جُمَـادَى الأولـى 1426 هـ- 2 يوليو 2005م/ العدد 9713، وعلامة التعجب الموجودة بعد عبارة أنيس عن جهل ابن طه حسين بالعربية هى من عنده لا من عندى). هذا ما قاله أنيس منصور عن ابن طه حسين، الذى كان ينادَى فى البيت باسم "كلود"، كما كانت أخته تسمى: "مرجريت" نزولا على مشيئة الأم الفرنسية الجبارة التى كانت تربيهما تربية نصرانية فيما قرأنا، ولم يهتم أبوهما فى المقابل أن يربيهما تربية إسلامية، وها هى ذى كتبه التى ترجم فيها لنفسه وبيته وأولاده موجودة تشهد على ذلك. وقد استشهدت بأنيس منصور كيلا يقول قائل إننا نستشهد بخصوم طه حسين، فلا قيمة لتلك الشهادة.

وهناك كلام آخر كثير يمكن أن يقال فى هذا السياق، ولكن نكتفى بما ذكرته جريدة "الرياض" السعودية يوم الخميس 11 صفر هـ- 1 إبريل 2004م/ 1425العدد 13068 السنة 39 عن ذات الموضوع ، وإن كانت توسعت فيه بما يجلّى الصورة أكثر وأكثر، إذ كتبت تحت عنوان "الابن المنسي لطه حسين": "قبل أسابيع قليلة توفي في باريس الابن الوحيد للدكتور طه حسين من زوجته الفرنسية سوزان. اسم ابن طه حسين هو مؤنس، وكان يحمل شهادة دكتوراه في الأدب الفرنسي. وقد عمل فترة من الزمن أستاذا جامعيا وموظفا في منظمة الأونسكو بباريس. وقد جاءت وفاته في ذكرى مرور أربعين عاما بالضبط على وفاة والده، وإثر حديث أدلى به إلى جريدة "الحياة"، التي نشرت مع الحديث صورة لمؤنس بدا فيها شبيها شبها واسعا بوالده، سواء من حيث طوله أو من حيث ملامح وجهه. ولكن مؤنس غادر فجأة هذه الحياة إثر إدلائه بهذا الحديث، فما إن عادت الصحفية التي أجرت معه الحديث من جديد إلى منزله لغرضٍ ما بعد أيام من زيارتها الأولى حتى قيل لها إنه تُوُفِّي. وكان عند وفاته في الحادية والثمانين من العمر، وهو العمر الذي عاشه والده أيضا. وقد أجهد الكثيرون من القراء أذهانهم وهم يبحثون عن آخر ظهور لمؤنس طه حسين في مصر أو في الحياة الثقافية المصرية والعربية، أو عما إذا كان قد ظهر أصلا في الصحافة المصرية أو في ناد من نوادي القاهرة، فأعياهم التذكر. ذلك أن مؤنس غادر مصر قبل حوالي الخمسين عاما إلى العاصمة الفرنسية حيث حصل على الجنسية الفرنسية وعاش في فرنسا كأي مواطن من مواطنيها. ومع أنه نقل بعض أعمال والده إلى الفرنسية، ومنها كتابه: "أديب"، كما أنه كتب ذكرياته عن والديه ومنزل الأسرة في القاهرة، إلا أن ذلك لم يكن له أي صدى في الحياة الثقافية المصرية. وهذه الذكريات عن والديه وحياته معهما وهو شاب لا تزال مخطوطة لم تخرج إلى النور بعد، وتبحث وزارة الثقافة المصرية في الوقت الراهن عن مترجم مصري ينقلها إلى العربية. وقد أثارت وفاة مؤنس طه حسين على هذه الصورة في منفاه الباريسي، إن صح انه كان يعيش في منفى، ردود فعل مصرية تمحورت حول المسؤولية عن غيابه خارج مصر طيلة هذه المدة وانقطاعه انقطاعا تاما أو شبه تام عنها، إذ لم يحضر إليها سوى مرات قليلة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، ومن أجل المشاركة في مناسبات عائلية تستلزم مشاركته كوفاة والده أو والدته.

كما طرح بعض المثقفين المصريين سؤالا حول سبب هذا الغياب. فهل كان ذلك هو النظام الناصري الذي كانت ترزح تحته مصر، أم لأنه وجد في باريس والغرب الترجمة الحقيقية لما كان حلم به طه حسين في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر"؟ أم للسببين معا؟ وقال مثقفون مصريون آخرون إن سبب ذوبان ابن طه حسين في فرنسا يعود إلى التربية التي تلقاها في منزل والديه في مصر. فالأسرة كلها كانت تتخاطب بالفرنسية فيما بينها، والمدرسة القاهرية التي كان مؤنس يتلقى فيها العلم كانت أيضا مدرسة فرنسية. ومع أن طه حسين كان يريد لولديه مؤنس وأمينة أن يجيدا اللغة العربية إلا أن وجود زوجته الفرنسية في البيت حال عمليا دون تحقيق هذه الرغبة، أو لنقل: إن رغبة زوجته طغت على رغبته. والغريب أن مؤنس ليس الوحيد في أسرة طه حسين الذي هاجر نهائيا من مصر إلى الخارج، فبعده لحقت به إلى باريس ابنة شقيقته أمينة المتزوجة من وزير خارجية مصر السابق محمد حسن الزيات لتقيم بالقرب منه في باريس، واسمها سوسن. أما شقيقة سوسن، واسمها مني، فقد هاجرت بدورها إلى الولايات المتحدة هجرة نهائية. وبذلك لم يبق في مصر من أسرة طه حسين أحد!

وقد طرح هؤلاء المثقفون المصريون السؤال التالي: لو أنه كان لعباس محمود العقاد أولاد، هل كان من الممكن أن يتركوا مصر نهائيا إلى الخارج؟ لقد كان العقاد شخصية مصرية صميمة متشبعة بالروح العربية الإسلامية. وقد كان مستبعدا لو تزوج ورُزِق بأولاد أن يسلك أولاده طريق باريس أو غير باريس. ولكن لأن طه حسين سلك سبيل "التفرنج"، ولم يكن إسلامه متينا من البداية، فقد مهّد السبيل لأن تدخل الرياح إلى منزله وتقتلع أسرته خارج بيئتها ومحيطها. والواقع أن ما يقوله هؤلاء المثقفون المصريون لا يخلو من الحقيقة. فما كتبه طه حسين أو عمل من أجله يمكن أن يؤدي لا إلى هجرة ولديه نهائيا من مصر إلى الغرب، بل إلى هجرة مصرية جماعية إلى أي مكان. بدأ حياته الفكرية بكتاب عن الشعر الجاهلي شك فيه بشخصيات واردة في القرآن الكريم، كشخصية إبراهيم عليه السلام. وفي كتب أخرى وجد أن لليهود حضورا قويا في التراث العربي الإسلامي، ودعا إلى تقوية هذا الحضور. وذكر في أحد كتبه أن مصر خضعت لغزاة كثيرين كان منهم العرب. وفي كتابه عن المتنبي شك بوجود أب شرعي لأبي الطيب واعتبره، بوجه من الوجوه، لقيطا أو ابن زنى! ولكن لعل ما ورد في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" شكّل السبب النظري لهجرة ولديه إلى الخارج. فقد ذكر في هذا الكتاب أن العقل المصري إذا كان قد تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط. وقد خطا خطوة أخرى في هذا الاتجاه عندما قال إن "المتوسطية" تؤدي تلقائيا وحتميا إلى أوروبا، وتعني الأوروبية وتفضي إلى التأَوْرُب أو الأَوْرَبة. فعنده أن طريق التقدم والقوة هي "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها". فإن خيف على مصر من "أن يؤدي الاتصال القوي الصريح بالحضارة الأوروبية إلى التأثير على شخصيتنا القومية وطمس ما ورثنا من ماضينا وعن تراثنا"، فإن الرد لديه أننا إنما "كنا معرّضين لخطر الفناء في أوروبا حين كنا ضعافا مسرفين في الضعف، وحين كنا نجهل تاريخنا القريب والبعيد، وحين لم نكن نشعر بأن لنا وجودا ممتازا". أما الآن بعد التحرر والتطور والتقدم، "الآن وقد عرفنا تاريخنا، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرنا العزة والكرامة، واستيقنّا أن ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج، فإني (يمضي أو ينتهي طه حسين) "لا أخاف على المصريين أن يَفْنَوْا في الأوروبيين".

ويبدو أن الدكتور مؤنس حسين، رحمه الله، سمع كلام والده وأراد أن يختبر صحته بنفسه. سار سيرة الأوروبيين وسلك طريقهم وكان لهم شريكا في حضارتهم، فانتهى إلى الفناء فيهم. وفي غمار هذا الاختبار الصعب نسي مؤنس مصريته تماما، وربما إسلامه أيضا، فتحول إلى مواطن فرنسي إن لم يكن كامل المواطنية الفرنسية فإلى فرنسي لا يختلف عن أبناء المستعمرات الفرنسية التي يمكن لأبنائها أن يحوزوا الجنسية الفرنسية وأن يقيموا في باريس وينعموا بالحياة الرغدة فيها. صحيح أنه كتب في باريس ذكرياته عن منزل الأسرة: "رامتان" بالقاهرة، ولكنه كتب هذه الذكريات بالفرنسية لا بالعربية التي نسيها مع الوقت تماما وكمالا. وذكر في الحديث الذي أدلى به إلى صحافية مغربية ونشرته جريدة "الحياة" أن هذه الذكريات لا قيمة لها الآن لأنها لا تعني أحدا. ولكن المشكلة كانت في أن بوصلة التقدم عند طه حسين، وهي البوصلة التي استخدمها ابنه وأضلّته، كانت بوصلة غير سليمة. ذلك أن التقدم لا يعني وجوبًا التأَوْرُب، فهو يمكن أن يحصل بطريقة أخرى لا تؤدي إلى طمس شخصيتنا وهويتنا. كما أنه بالغ عندما تحدث عن العزة والكرامة، وجانب الصواب تماما عندما قال جازما إنه ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج، ولذلك لا خوف على المصريين من أن يَفْنَوْا في الأوروبيين. ولما استخدم ابنه وَصْفَته، عن ظنٍّ منه بأن والده لا يمكن أن يقول ما قال إلا وهو متيقن من نجاعة طبه، فَنِيَ فناءً تاما في الفرنسية الأوروبية لدرجة تحوله إلى رقم في شقة في عمارة بأحد أحياء باريس! مع الوقت نسي مؤنس طه حسين مصر كلها، كما نسي منزل الأسرة وتراث والده. لم يكن قد بقي في ذاكرته سوى مشاهد ضبابية لأسرةٍ، الزوجُ فيها منصرفٌ إلى شؤون الجامعة والتعليم والأدب والثقافة، والزوجة فيها منصرفة إلى تربية ولديها تربية فرنسية مسيحية في جوهرها. كان العالم الجزائري عبد الحميد بن باديس يمجّد الأمهات الجزائريات اللاتي يلدن للجزائر أبناء بررة مخلصين لها، ويخشى على بلده من الفرنسيات المتزوجات من جزائريين لأنهن يلدن للجزائر أبناء ضعفاء في وطنيتهم وثقافتهم ولغتهم القومية. وقد أثبتت تجربة مؤنس طه حسين، الابن المنسي لطه حسين، الذي تُوُفِّيَ في باريس ودُفِن فيها كما يُدْفَن الغرباء، صحة نظرة ابن باديس وخطأ نظرة والده".

وبمناسبة إشارة الكاتب إلى أن مؤنس طه حسين "ربما" نسى إسلامه أقول إن هناك كلاما فى هذا الصدد إن صح، وهو عندى أقرب إلى الصحة منه إلى الخطإ، إن لم يكن صحيحا بإطلاق، فإن "ربما" هذه سوف تتحول إلى "يقين"، وبخاصة أن المرحوم أحمد حسين زعيم حزب "مصر الفتاة" قبل ثورة يوليه قد كتب فى مجلة "الثقافة" المصرية فى أواخر سبعينات القرن الماضى، اعتمادا على ما قاله كاتم أسرار طه حسين فريد شحاتة النصرانى، إن طه حسين قد تم تعميده فى كنيسة القرية التى كانت تعيش فيها أسرة سوزان زوجة المستقبَل. وقد ربطت أنا بين هذا وبين ما ذكره هو فى الجزء الثالث من كتابه: "الأيام" عن رفضه القاطع أن يصاحبه أحد من زملاء البعثة المصريين آنذاك فى رحلته إلى تلك القرية فى الجنوب من أجل خطبة سوزان، التى كانت ترفضه وتجبهه فى قوة وجلافة بأنها لا تحبه، إلى أن تدخل خالها القسيس وأقنعها بالزواج منه قائلا لها إنه سوف يسبقها على الدوام! يسبقها إلى ماذا؟ لعل هذا المقال عن ابن طه حسين وتأثير أمه عليه يجيب على شىء من ذلك السؤال.

الواقع أنها فضيحة ثقافية وحضارية ووطنية وقومية وأخلاقية معا، ولسنا نحن الذين نكشنا هذا الموضوع، بل الذى نكشه واحد ممن يريدون لنا أن نتنكر لعنصر أصيل من عناصر ثقافتنا العربية الإسلامية ونتخذ من طه حسين معيارا لنا وننبذ كل ما يتعلق بالدين والدعوة إليه لأنه يناقض الثقافة! أية ثقافة يا ترى؟ لا أدرى. كلا بل أنا أدرى أشد الدراية، إلا أننى لا أريد أن أفتح أبوابا لو فتحت فلسوف تقلب كل شىء وتفضح أشياء خطيرة، وإن كنا قد تناولناها فى غير ذلك الموضع فنالنا بسببها ضُرٌّ كبير نحتسبه عند الله، الذى لا تضيع عنده الودائع المحتَسَبة، ضُرٌّ لم نكن نظن أنه يمكن أن يمسّنا فى يوم من الأيام، وبالذات على أيدى من يجعجعون طول النهار، وطول الليل أيضا حتى وهم نائمون، بحرية الفكر وحرية التعبير، أو فلنقل على سبيل الاختصار: بالتنوير، ذلك "التنوير" المسكين الذى تحول على أيدى تتار العصر الحديث المنغلقى الذهن المنكوسى القلب الملتوى الضمير الفاقدى الانتماء إلى هوية الأمة ودينها وثقافتها وماضيها وحاضرها إلى "تبوير" و"تدمير"! آه أيها التنوير، كم من الجرائم والمظالم والمخازى والكوارث تُرْتَكَب باسمك!

وعودا إلى المقارنة بين طه حسين وعمرو خالد فإنى أتصور أنه لو قام، بدلا من عمرو خالد، مفكر دينى كبير يخاطب الناس بأسلوب كأسلوب طه حسين فخامةً وجزالةً، وتناوَلَ موضوعات أعمق وأكثر جوهرية مما يتناوله عمرو خالد لكانت النتيجة قلة عدد من يقبلون على الإنصات له. فليست المسألة هى المقارنة بين الثقافة متمثلة فى العلمانيين وبين الجهل متمثلا فى المتدينين كما يحاول الكاتب أن يزرع فى وهمنا، بل فى أن كل ما هو عميق وجوهرى لا يحظى بجماهيرية واسعة، سواء كانت له صلة بالدين أو لا. ومرجع ذلك هذه الأيام بالذت إلى انصراف الناس عموما عن القراءة وعن التعمق فى أمور الفكر والثقافة والإخلاد إلى الكسل الذهنى وأخذ الأمور من شواشيها والاكتفاء بالسطوح من الأشياء فى الأغلب الأعم. وبالمناسبة فالإسلام لا يرحّب بهذا ولا يَرْحُب به صدرا، بل يريد من أتباعه أن يبذلوا كل ما يستطيعون من جهد دون أن يألوا فى ذلك شيئا. إلا أن المسلمين للأسف، فى هذه المرحلة الحضارية من تاريخهم، يميلون إلى الأدنى فى كل مجال، ويرضَوْن من المجد والسموق بأقل القليل، بل بالصفر إذا كانت هناك مندوحة. أى أن الدين هو أول من يدينهم فى ذلك، على عكس ما يزعم كثير من شانئيه. فكأنهم هم المعنيّون بقوله تعالى: "ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا". كما لا ينبغى أن يفوتنا أن عمرو خالد يمثل بين الدعاة صرعة جديدة، ومعروف أن لكل جديد سحره، وإن كان هناك الآن من ينتقده ويكثر من انتقاده حتى لقد أعلنت طوائف من الشباب الذين كانوا متعلقين به فى مبتدإ أمره انصرافهم عنه لشعورهم بأنه لا يمثلهم فى شىء وأنه إنما يرتبط بالأغنياء من الطبقة الجديدة قبل كل شىء، بل لقد قرأت منذ أيام من يشكك فى نياته ويتهمه اتهاما مبطنا بأنه محسوب على الإسلام خطأً. وأيا ما يكن الأمر فهل يصح فى المقارنة أن نضع عمرو خالد فى مواجهة طه حسين؟ إن الشريحة التى يخاطبها الأول غير تلك التى كان يخاطبها الأخير، فالأول يخاطب الشريحة التى تعتمد فى تحصيل ثقافتها على مشاهدة التلفاز ولا تتغيا العمق ولا التنوع ، أما الدكتور طه فكان يخاطب شريحة القراء الذين يبحثون عن الأسلوب الجميل والفكر النقدى والأدبى. كما أن عمرو خالد ليس بالأديب ولا الكاتب. إنه متحدث تلفازى فحسب. كذلك فهو يفتقر إلى ما كان يتمتع به طه حسين من صوت آسر وأسلوب فاتن مهما يكن اتفاقنا أواختلافنا مع الدكتور طه فى هذا الرأى أو هذا الموقف أو ذاك. بل إن عمرا، فيما أتصور، لا يمكنه الكلام بالفصحى ولا الكتابة السليمة بها. ومع ذلك فهذه الميزات التى تُمِيل الكِفّة لصالح طه حسين لا تهم فى قليلٍ أو كثيرٍ المشاهد التلفازى الذى يقبل على أحاديث عمرو خالد. وبالمثل فإن الموضوعات والقضايا التى كان يكتب فيها الدكتور طه ويتحدث لا تحظى باهتمام ذلك المشاهد. لهذا كله فإنى لا أفهم السر فى هذه المقارنة التى أقامها الكاتب بين الرجلين. إن لكل منهما مجاله وجمهوره الذى يسعى وراءه ويطلبه. وكلاهما بعد ذلك مثقف، وإن اختلفت ثقافة كل منهما عن الآخر فى النوع والسعة والعمق.

أما قول الأستاذ الشوباشى إن مصر "ظلت قرونا طويلة ترزح تحت مظلة الجهل وتغييب العقل في عصور سيطر خلالها العثمانيون والمماليك علي مقدرات البلاد‏..." ونعته للماليك والعثمانيين بــ"الأجانب" فهو كلام مضحك. ذلك أن مصر والعالم العربى، بل العالم الإسلامى كله، كان فى ذلك الوقت قويا مهيبا عزيز الجانب لا تستطيع أوربا أن تنظر إليه إلا خاشعة الطرف خافضة الجناح، لا كما تفعل الآن حيث لا تتعامل معنا إلا بما فى قدميها، ونحن عاجزون عن أن نصنع شيئا لوقف هذه المهانة التى جاءتنا على أيدى "أهل التنوير" الواقعين فى غرام أوربا وما فى قدم أوربا، اللاعقين التراب الذى تدوسه قدم أوربا وما فى قدم أوربا، والداعين إلى مزيد من الترامى على حذاء أوربا والمكتفين بالفتات الذى يتساقط تحت حذاء أوربا. نعم لقد أصاب المماليك والعثمانيين فى نهاية المطاف بعد عدة قرون من العزة والقوة والمهابة ما أصابهم من الضعف والتقهقر والانحلال، سنة الله فى دنيا البشر، بل فى دنيا البشر وغير البشر، لكن الدور والباقى على "أهل التنوير" الذين لم تنل البلاد العربية والإسلامية حتى الآن على أيديهم عزة ولا قوة ولا مهابة رغم مرور أكثر من قرنين من الزمان. ثم ما حكاية "الأجانب" هذه التى ابتُلِينا بها فى العصر الحديث ويريد بعضٌ منا أن يطبقها بأثر رجعى على أزمنة وأوضاع لا تتسق معها، إذ كانت الرابطة آنذاك، وما زالت فى الغرب حتى الآن، وإن ادعى خلافَ ذلك الغربيون ومن يجرى فى أثرهم من أبناء جلدتنا لاهثا، هى الرابطة الدينية إلى جانب الوطنية. وهذا إن صح أن الرابطة الوطنية أفضل من الدينية. على أية حال، يا أستاذ شوباشى، لقد تولى أمرنا ناس ليسوا بــ"أجانب" بمقياسك، فهل كان حكمهم للعرب والمسلمين أفضل من حكم المماليك والعثمانيين الأجانب أولاد ستة وستين؟ لقد كانت البلاد فى ظل حكم المماليك والعثمانيين لمدة قرون مستقلةً شامخةً، وكانت لها فى صلتها بأوربا اليد العليا فلا تستطيع أوربا ولا الذين نفضوا أوربا أن يقولوا لها: ثلث الثلاثة كم؟ بل كانوا هم الذين يقولون لها: ثلث الثلاثة كم؟ وربع الأربعة كم؟ وخمس الخمسة كم؟ وعشر العشرة كم؟ وهى ساكتة راغمة دون أن تفتح فمها إلا بالسمع والطاعة، أو فى أقل تقدير: إلا بالاحترام ولزوم الحدّ! ولم يكن بين علماء تلك العصور وكتّابها من يفترون التزييف على الواقع الساطع الذى يبهر العين بل يخرقها ويخزقها فيقولون إن المصريين كانوا يفعلون ما يفعله النصارى فى أوربا فى ذلك الوقت إذ "يربطون المريض في شجرة ويضربونه بالسياط لاعتقادهم بأن الشيطان بداخله هو السبب في علته" كما يقول‏.

ذلك أن المصريين كان عندهم فى ذلك الوقت، قبل أن ينهار كل شىء فى نهاية المطاف شأن كل شىء فى دنيا البشر، مستشفيات وأطباء وأدوية، ولم يكونوا متخلفين هذا التخلف الأوربى العجيب، إذ كان نقطة انطلاقهم هى أقوال الرسول الكريم التى ينبه فيها أتباعه إلى البحث لكل داء عن دوائه الكفيل بالقضاء عليه، ومنها الحديث التالى الذى رواه مسلم، وهو: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواءُ الداءِ برأ بإذن الله عز وجل"، ذلك الحديث الذى يشرحه الإمام النووى الشامى المولد والإقامة على النحو التالى، وكان النووى بالمناسبة يعيش فى عصر المماليك، وتحديدا فى عصر الظاهر بيبرس قاهر التتار، الذى نرجو من الله أن يقيض من حكام العرب والمسلمين الحاليين مثيلا له ينتصر على مغول العصر من صليبيين وصهاينة ويكنس أرض العروبة والإسلام من دنسهم ودنس ذيولهم الذليلة المنهارة من أبناء البلاد الذين تسكن جنوبهم قلوب بائسة يائسة هالعة خانعة. يقول الإمام النووى: "قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله": الدواء بفتح الدال ممدود، وحكى جماعات منهم الجوهري فيه لغة بكسر الدال. قال القاضي: هي لغة الكلابيين، وهو شاذ. وفي هذا الحديث إشارة إلى استحباب الدواء، وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف. قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله" فهذا فيه بيان واضح لأنه قد علم أن الأطباء يقولون: المرض هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمداواة رده إليه، وحفظ الصحة بقاؤه عليه، فحفظها يكون بإصلاح الأغذية وغيرها، ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض، وبقراط يقول: الأشياء تُداوَى بأضدادها، ولكن قد يدِقّ ويغمض حقيقة المرض وحقيقة طبع الدواء فيقل الثقة بالمضادة، ومن هاهنا يقع الخطأ من الطبيب فقط. فقد يظن العلة عن مادة حارة فيكون عن غير مادة أو عن مادة باردة أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها فلا يحصل الشفاء، فكأنه صلى الله عليه وسلم نبّه بآخر كلامه على ما قد يعارَض به أوله، فيقال: قلتَ: لكل داء دواء، ونحن نجد كثيرين من المرضى يداوَوْن فلا يبرءون، فقال: إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء، وهذا واضح. والله أعلم".

وانظر، أيها القارئ الكريم، أيضا إلى شرح الإمام ابن حجر (773- 852هـ)، وهو عالم مصرى فلسطينى من علماء العصر المملوكى كذلك، للحديث التالى الذى رواه البخارى والذى يجرى فى نفس المجرى: "‏ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، إذ يقول كلاما لا يقل روعة ومنهجية وتدقيقا وتنقيرا وتمحيصا وتحليلا للألفاظ وتقليبا للأمر على كل وجوهه المحتملة عما قاله الإمام النووى فى شرح حديث مسلم، علاوة على تنبهه إلى ما نسميه الآن بــ"الآثار الجانبية" للدواء، وإلى الفكرة الفلسفية التى افترعها الغزالى وأخذها عنه ديكارت وهيوم ورَسِل، التى تقول إنه ليس فى طبيعة الأسباب الدنيوية أن ينتج عنها ما تعودنا عليه من نتائج، بل كل ما هنالك أن الأمر مجرد عادة تَعَوَّدْنا تحقُّقَها، مَرْجِعُها، عند المفكرين المسلمين، إلى إرادة الله سبحانه، الذى لو كان أراد شيئا آخر لرأينا نتائج أخرى غير التى تَعَوَّدْنا تحقُّقَها. قال فى كتابه: "فتح البارى بشرح صحيح البخارى": "قوله: "ما أنزل الله داء": وقع في رواية الإسماعيلي "مِنْ داء". و"من" زائدة، ويحتمل أن يكون مفعول "أنزل" محذوفا فلا تكون "مِنْ" زائدة بل لبيان المحذوف، ولا يخفَى تكلُّفه. قوله: "إلا أنزل له شفاء": في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث "يا أيها الناس، تداوَوْا". ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداوَوْا"، وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم. ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس. ولأحمد عن أنس "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداوَوْا". وفي حديث أسامة بن شريك "تداوَوْا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، إلا داء واحدا: الهَرَم". أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم. وفي لفظٍ: "إلا السَّام" بمهملة مخففة، يعني الموت. ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره "عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه". أخرجه النسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم. ولمسلم عن جابر رفعه "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى". ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رَفَعَه "إن الله جعل لكل داء دواء، فتداوَوْا، ولا تداوَوْا بحرام". وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب، وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا، أو عبر بالإنزال عن التقدير. وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام. وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع، بل ربما أحدث داء آخر. وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، وفيها كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر"بإذن الله". فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته. والتداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك... ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بألا دواء له، وأقروا بالعجز عن مداواته. ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله "وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه" إلى ذلك، فتكون باقية على عمومها. ويحتمل أن يكون في الخبر حذفٌ تقديره: لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء. والأول أولى. ومما يدخل في قوله "جهله من جهله" ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ، ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع. والسبب في ذلك الجهلُ بصفة من صفات الدواء. فرُبّ مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا، وقد يكون متحدا لكن يريد الله ألا ينجع فلا ينجع. ومن هنا تخضع رقاب الأطباء. وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة، وهو بمعجمة وزاي خفيفة "عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت رُقًى نستَرْقيها ودواء نتداوى به؟ هل يردّ من قَدَر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله تعالى". والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب، وهو ينجع في ذلك في الغالب، وقد يتخلف لمانع، والله أعلم. ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد، وحُكِيَ كَسْر دال الدواء. واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح. ولعل التقدير: "إلا داء الموت"، أي المرض الذي قُدِّر على صاحبه الموت. واستثناء "الهرم" في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا، والتقدير: "لكن الهرم لا دواء له". والله أعلم".

فانظر بالله عليك أيها القارئ الكريم لترى الفرق بين كلام عالمين يعيشان فى العصر المملوكى الذى ينظر إليه كاتبنا الألمعى اللوذعى نظرة تعال واحتقار ويتحدث عنه من أطراف مناخيره، عالمين يزن كل منهما كلامه بماء الذهب ويحلل كل لفظ كأحسن ما يفعل أعظم المناطقة الوضعيين، ويظل ينقّر ويفحص ويتفحص حتى يصل إلى مكامن الحقيقة، كل ذلك فى لغة واضحة دقيقة ومنهجية صارمة حاسمة وعلم واسع عميق يحيط بجوانب الموضوع إحاطة السوار بالمعصم، وهما قبل ذلك كله وبعد ذلك كحله عالمان دينيان، أى متخلفان رجعيان ضيقا العَطَن، وبين كلام واحد من المتنورين الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب، ولا حتى فى شعبان أو رمضان، وهو كلام ينقصه التدقيق والتعميق، ويفتقر إلى المنهج والمنطق، ويهجم صاحبه على موضوعه دون أن يتذرع له بما يقتضيه العلم من قراءة وتفحص وتنقير، مكتفيا بأن يلقى ألفاظه كما تتفق له، لا يفكر من أين أتت ولا أين تقع ولا ماذا تصيب، إذ هو لا يعرف شيئا اسمه المبالاة والاهتمام، وإلا ما واتته نفسه على قول ما نحن بصدده هنا من كل داهية دهياء وكارثة نكراء وبلوى صماء عمياء مما نعنّى أنفسنا بالرد عليه وكشف ما فيه من تغشمر واعتساف.

وانظر كذلك، أيها القارئ الكريم، إلى تلك الجرأة التى تسول لصاحبها أن يرمى، ظلما وبَغْيًا وعَدْوًا، عصرين كاملين من عصور الحضارة العربية الإسلامية بالجهل والتخلف، ويزعم على الدعوة الدينية المزاعم لصالح العلمانية والعلمانيين، أولئك الذين تَوَلَّوْا أمور الأمة طوال قرنين من الزمان كانت محصلتهما تلك الثمار السامة التى نتجرع غصصها القاتلة، بدءا من محمد على، الذى لعب به الأوربيون ما حلا لهم اللعب ووظفوه لتحقيق أغراضهم فى محاربة الوهابيين والأتراك وحصلوا منه على الأموال الطائلة لقاء تحديث الجيش وإقامة المصانع التى تخدم الجيش فى المقام الأول، تلك الأداة التى استغلوها منه أبشع استغلال ثم أَعْطَوْه فى النهاية خازوقا ضخما كبيرا خرج من حلقه وهتك أحشاءه وأعاده إلى نقطة الصفر محطما لا يصلح لشىء، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت! وهو ما فعلوه ويفعلونه وسيظلون يفعلونه مع حكام العرب و المسلمين ما بقيت الشعوب نائمة فى العسل، بل فى المجارى والنتن، تلعق أحذية أولئك الحكام وتهتف بأسمائهم وتتمنى رضاهم وهم لا يَرْضَوْن عنها أبدا لأنها لا تهمهم فى كثير ولا قليل، إذ كل همهم فى رضا الدول الكبرى التى تستخدمهم أحذية فى أقدامها ثم تخلعهم بعد أن تأخذ منهم ما تريد وتلقى بهم فى أكوام الزبالة بعد أن تدمرهم تدميرا. هذا ما فعلته مع محمد على، وهو نفسه ما فعلته مع الشريف حسين، وما فعلته مع جمال عبد الناصر، وما فعلته مع شاه إيران، وما فعلته مع صدام حسين، وما تفعله الآن مع برويز مشرف وغير برويز مشرف من كل جاهل خائن معروف الاسم والسَّحْنة والسلوك، وما سوف تفعله مع كل واحد من حكامنا حَذْوَك النَّعْلَ بالنعل... دون أن يتعلم واحد منهم الدرس، ودون أن تصحو الشعوب من مرقد العدم الذى يحتوى جثمانها النتن العَفِن.

إن من أعجب العجب أن يشبّه كاتبنا الهمام عصر المماليك والعثمانيين بما كان يحدث فى أوربا من ربط المرضى فى جذوع الأشجار والانهيال عليهم بالسياط كى يخرجوا الأرواح الشريرة من أجسادهم. فمن يا ترى أنبأه أن الوضع لدينا كان كذلك؟ أم تراه شم على ظهر يده فأنبأته العصفورة بما كان يحدث؟ لنقرأ مثلا هذا النص الذى استمددناه من كتاب صلاح الدين الصفدى: "أعيان العصر وأعلام النصر"، من ترجمته للأمير جمال الدين الأشرفى الملقب بــ"آقوش"، وهو من رجال الدولة المملوكية، وعاش فى القرنين السابع والثامن الهجريين فى الشام أولا ثم فى مصر ثانيا وأخيرا. يقول الصفدى: "وولاّه السلطان الملك الناصر نظر البيمارستان المنصوري، فكان يدخل بعض الأوقات إلى المجانين، ويُدخلهم الحمّام، ويكسوهم قماشا جديدا، وأحضر لهم يوما جماعة من الجوالقية، فغَنَّوْا لهم بالكف ورقص المجانين. وكان يبرّ المباشرين الذين هم به بالذهب من عنده، ويطلع في الليل قبل التسبيح المئذنة، ويتفقد المؤذنين، وكان للبيمارستان به صورة عظيمة، وأملاكه محترمة لا يُرْمَى على سكانها شيء من جهة الدولة ولا يتعرض لهم أحد بأذيّة". فإذا كان هذا هو حال التعامل مع المجانين، فما بالنا بالمرضى الأصحاء العقول؟ صح النوم يا أستاذ شوباشى! لقد كانت البيمارستانات، أى المستشفيات، منتشرة فى كل مكان، وكانت الدولة توليها الاهتمام اللائق بدولة متحضرة، وتسند الإشراف عليها لكبار رجالها كما رأينا فى الكلام عن الأمير آقوش آنفا، وترتب لها الأطباء فى كل تخصص، وتجرى عليها الأموال الطائلة، عدا ما كان ينشئه أهل الخير والبر والإحسان من مستشفيات مجانية لعلاج المرضى من كل نوع وصرف الدواء لهم والإنفاق عليهم مدة إقامتهم فيها.

هذا فى العصر المملوكى، أما فى العصر العثمانى فنقرأ على سبيل المثال السطور التالية، وهى من مقال بعنوان "كركوك ودور المدارس والتكايا والعلماء في تطوير العلوم من عام 1918- 2003م" لنظام الدين إبراهيم أوغلو منشور بموقع "www.turkmanmedia.com"، وتجرى على النحو التالى: "كما نعلم أنّ فضل المدارس الدّينيّة والعلميّة والتّكَايا والعلماء كانت كبيرة في تطوير وازدهار العلوم الإسلاميّة، وكذلك في تطوير حضارة الدّولة الإسلاميّة، ووصلت إلى ذروتها عندما كنّا أمّةً واحدةً وارتفعت فيها المعاني الرّوحيّة السّامية، وازدهرت فيها كافة مجالات العلوم من علم الفلك واالتّكنلوجيا والطّب والكيمياء والفيزياء والفلسفة ونحو ذلك. وعلينا أن لا ننسى دور الدّولة العثمانيّة في ذلك أيضا. فيعرّف محمد أبو المجد الموضوع في رسالته: “ومما لاشك فيه لقد ازدادت هذه المدارس زيادة محسوسة وبالإضافة إلى المساجد والخانقاه التّكايا والزّوايا في العهد العثماني وكان يلحق أحيانا به ضريح أو مستشفى (البيمارستانات) أو سبيل، وكانت تُدْرَس في مدرسة الخانقاه أو التّكِيّة العلوم الدينية على المذاهب الأربعة، علما أنّ الخانقاه أو التكايا قامت بدور أوسع من المدرسة في نشر الوعي الديني الموجه، وكذلك الزّوايا والتي كانت بداية الزّوايا بداية علمية، حيث يتّخذ كل شيخ أو عالم زاوية من زوايا أحد المساجد الكبرى لتعليم الفقه وتفسير القرآن الكريم وبقية العلوم الإسلاميّة. وكان لكل شيخ مريدوه وأتباعه، وكانت كل زاوية تسمّى باسم شيخها. بالإضافة إلى ذلك كان للحُسَيْنِيّات أيضا نفس الدور العلمي للعلوم الإسلاميّة. ولقد اهتم بها العبّاسيون في أواخر عصورهم، ثمّ اهتم الأيوبيون والمماليك والصفويون، وتعزّزت في عصر الدولة العثمانية والتي وصلت إلى ذروتها فبَنَوْا معها مرافقَ أخرى من مسجد ومدرسة للتعليم وحمام ومكتبة ومستشفى ووقف لإدارة أمورها". والواقع أنه فى أيام الدولة العثمانية اتسعت مساحة الأوقاف كثيرًا، وكانت المدارس والزوايا والمساجد والمستشفيات... إلخ تدار بالأوقاف ويُصْرَف عليها منها.

أما إن كان هناك من يلجأ إلى الخرافات فى معالجة المرضى فإنما حصل ذلك بعد تدهور الأمور وانتشار الجهل والتخلف، وكان محصورا بين الطبقات الشعبية، ولا يرضى عنه العلماء ولا الأطباء أبدا، على عكس الأمور فى أوربا العصور الوسطى، إذ كان الأطباء عندهم هم الذين يعالجون الناس هذا العلاج الخرافى الجاهل بمباركة رجال الدين. ولنجتزئ هنا ببعض ما كتبه الأمير أسامة بن منقذ فى كتابه: "الاعتبار" عن الطب عند الصليبيين: "ومن عجيب طبهم أن صاحب المنيطرة كتب إلى عمي يطلب منه إنفاذ طبيب يداوي مرضى من أصحابه، فأرسل إليه طبيبا نصرانيا يقال له: ثابت. فما غاب عشرة أيام حتى عاد فقلنا له: ما أسرع ما داويت المرضى! قال: أَحْضَروا عندي فارسا قد طلعتْ في رجله دُمَّلَة، وامرأة قد لحقها نُشَاف، فعملتُ للفارس لبخة ففتحت الدُّمَّلّة فصلحت، فحميت المرأة ورطبت مزاجها. فجاءهم طبيب إفرنجي فقال لهم: هذا ما يعرف شيئا يداويهم. وقال للفارس: أيما لك: أن تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين؟ قال: أعيش برجل واحدة. قال: أحضروا لي فارسا قويا وفأسا قاطعا. حضر الفارس والفأس وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب، وقال للفارس: اضرب رجله بالفأس ضربا واحدا واقطعها. فضربه، وأنا أراه، ضربة واحدة ما انقطعت، فضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق، ومات من ساعته.وأبصر المرأة فقال: هذه المرأة في رأسها شيطان قد عشقها! احلقوا شعرها. فحلقوه، وعادت تأكل من مأكلهم: الثوم والخردل، فزاد بها النُّشَاف، فقال: الشيطان قد دخل في رأسها. فأخذ الموس وشق الرأس صليب وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكّه بالملح، فماتت من وقتها. فقلت لهم: بقي لكم إليّ حاجة؟ قالوا: لا. فجئت وتعلمت من طبهم ما لم أكن أعرفه"، وإن كان قد أضاف مع ذلك أن من أطبائهم من يتبع ألوانا ناجعة من العلاج.

ومرة أخرى كيف تواتى الأستاذ الشوباشى نفسه على الحط بهذه الطريقة من شأن العصر المملوكى، وقد كان يعج بالعشرات بعد العشرات من الشعراء والكتاب المعروفة أسماؤهم للمحتكين بأدب تلك الفترة. ولا يصح أن ننسى أبدا أن ذلك العصر هو عصر المعاجم الكبرى كـ"القاموس المحيط" للفيروزابادى و"لسان العرب" لابن منظور، والموسوعات الأدبية كـ"نهاية الأَرَب فى فنون الأدب" للنويرى و"صبح الأعشى" للقلقشندى، وكذلك كتب التنبيه على الأخطاء اللغوية وتصويبها مثل "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" للصفدى، فهل يعقل أن تكون بمصر وحدها كل تلك المدارس التى لا تحصى كما يقول رحالتنا، وتزدهر كتابة المعاجم والموسوعات الأدبية فى ذلك العصر، ثم يكون منحطا بتلك الصورة التى يريدنا الكاتب أن نصدق بها؟ ذلك أمر بعيد التصديق!

ثم إن ذلك العصر يعجّ بهاماتٍ عملاقةٍ مثل ابن خلدون والقلقشندى ولسان الدين بن الخطيب وابن حجّة الحموى والمقريزى وابن تَغْرِى بَرْدِى وابن دقيق العيد وعز الدين بن عبد السلام والسخاوى وابن حجر وتاج الدين السبكى والسيوطى وابن تيمية وابن قيّم الجوزية وأبى الفدا وأبى شامة وابن العماد والقَرَافى وابن هشام وابن عَقِيل وابن شاكر الكتبى وابن العديم وابن بَطّوطة وابن إياس وابن نباتة وصلاح الدين الصَّفَدى وابن فضل الله العمرى وابن الوردى وصفى الدين الحِلّى وابن دانيال وابن عربشاه والقزوينى والفيروزابادى وابن منظور والنويرى وأبى الحسين الجزار وابن مكانس وسراج الدين الوراق... وقد ذكرت أسماء هؤلاء الأعلام كيفما اتفق. ومن يرجع إلى الموسوعة العظيمة التى صنعها د. محمود رزق سليم لعصر المماليك وتياراته الفكرية والأدبية لَشُدِه. وقد اطّلعتُ على هذه الموسوعة وقلبت فيها وقرأت عددا غير قليل من فصولها منذ نحو خمس عشرة سنة حين أُسْنِد إلىّ تدريس العصر المملوكى والعثمانى فى كلية التربية بالطائف، فكان أن تغيرت نظرتى إلى ذلك العصر تغيرا حادا، وذلك بفضل الدكتور سليم وكتابه العملاق الذى أدعو الله أن يقيض له من طلاب الدراسات العليا من يعكف عليه ويدرسه ويعطيه حقه من التقدير، أو يوسع لى فى العمر ويتيح لى من الفرصة ما يساعدنى على القيام أنا نفسى بهذا الواجب. وهناك كتاب آخر أكثر من جيد يؤرخ لهذا العصر أيضا هو كتاب د. عمر موسى باشا: "تاريخ الأدب العربى- العصر المملوكى". بل إن جب نفسه قد ذكر عددا من أصحاب هذه الأسماء العملاقة وأبرز ما يتحلى به نتاجها الفكرى والأدبى من قيمة عظيمة، وهم البوصيرى وأبو الفدا وابن ماجد الملاح (الذى ساعد البرتغاليين على اكتشاف رأس الرجاء الصالح) والقلقشندى والذهبى والصفدى وابن حجر والسخاوى والدميرى وابن تيمية والمقريزى وابن عَرَبْشَاه والسيوطى (ص 142- 147)، ولسان الدين بن الخطيب (ص 150، 155)، وابن بطوطة (ص 151- 152)، وابن خلدون (ص 153)، بالإضافة إلى السطور الكثيرة المنبهرة التى خصصها للحديث عن "ألف ليلة وليلة" (ص 148- 149)، ذلك العمل الذى سحر ولا يزال يسحر العقل والذوق الغربى.

أما فى العصر العثمانى فلدينا على سبيل المثال عبد الغنى النابلسى فى الرحلة الدينية، والشربينى المصرى فى الشعر الشعبى، وطاشكبرى زاده فى الترجمة لعلماء الترك، وحاجى خليفة فى إحصاء العلوم، والمقَّرى التلمسانى مؤلف "نفح الطيب"، الذى يتناول كثيرا من جوانب الأدب الأندلسى ويترجم لعدد كبير من أعلامه، ويوسف البديعى كاتب التراجم الشهيرة عن أبى تمام والمتنبى وأبى العلاء المعرى، والتهانوى واضع "كشاف اصطلاحات الفنون"، والشهاب الخفاجى المصرى مؤلف "شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من الدخيل والنادر الحـُوشِىّ القليل" و"شرح درة الغوّاص فى أوهام الخوَاصّ" و"ريحانة الألِبّا وزهرة الحياة الدنيا"، وعبد القادر البغدادى صاحب "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب"، تلك الموسوعة اللغوية والأدبية والتاريخية التى لا تقدَّر بثمن، والبهاء العاملى صاحب "الكشكول"، والمحبّى الحموى صاحب "خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر" و"قصد السبيل فيما فى اللغة العربيية من الدخيل"، و"نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة"، والشوكانى الفقيه والمفسر والمحدّث الغنى عن التعريف، صاحب "فتح القدير" و"نيل الأوطار"، ومنجك باشا اليوسفى، وهو شاعر فحل يذكرنا فى قوة شعره وتحليق موهبته بمحمود سامى البارودى، وكذلك بدر الدين الغَزّى، صاحب الرحلة المسماة: "المطالع البدرية فى المنازل الرومية" و"آداب المؤاكلة" و"الزبدة فى شَرْح البردة" وغيرها من الكتب التى بلغت حَوالَىْ مائة وعشرين كتابا، والذى وضع فى تفسير القرآن، حسبما قرأت، منظومةً سَلِسَةً توصف بالخلوّ من التكلف، وتبلغ مائة وثمانين ألف بيت تحدث عنها ابن العماد فى "شذرات الذهب" وحاجى خليفة فى "كشف الظنون"، وهو شىء هائل، وبخاصة أنه قد أورد الآيات القرآنية فى هذا النظم بنصها. وإنى لأتمنى أن يتاح لى الاطلاع على هذا النظم الذى أثار عاصفة من الأخذ والرد عند ظهوره ما بين راضٍ به ومنتقد له ناقم على صاحبه.

الحق أن العصر العثمانى لم يكن عصر خمول وتدهور قولا واحدا، بل هذا إنما ينطبق على المرحلة الأخيرة منه، شأن كثير من النظم السياسية، وإلا فقد كانت هناك علامات كثيرة وهّاجة فى ذلك العصر: منها أنه كان زاخرا بعدد غير قليل من أعلام الفكر والكتابة والشعر ممن ذكرنا بعضهم آنفا، وأنه كان هناك حتى فى أواسط إفريقيا وفى بلاد الملايو وأندونيسيا والهند وتركيا ذاتها من يستعملون العربية فى الكتابة والتأليف. ومنها أن الإسلام قد اتسعت رقعته فى وسط أفريقيا وشرق أوربا ومالابار. ولقد كانت الدولة العثمانية قوة مهيبة مرهوبة الجانب لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، فضلا عن تهديدها، وذلك قبل أن تدبّ فيها عوامل الهرم والتداعى بفعل عدد من العلل الداخلية والخارجية من أهمها مؤامرات الدول الأوربية، إلى أن انتهى أمرها وأمر الخلافة الإسلامية جميعا على يد مصطفى كمال أتاتورك فى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.

ولكى نزيد القارئ من الشعر بيتا كما يقول السعوديون أنقل له هذه الفقرات من تحقيق منشور فى موقع "إخوان أون لاين" عنوانه: " التحيُّز في كتابة التاريخ: الدولة العثمانية نموذجًا" لمجد عبد الفتاح، الذى كتب يقول: "الدكتور علي محمد الصلابي، المفكر الليبي المعروف صاحب كتاب "الدولة العثمانية- عوامل النهوض وأسباب السقوط"، قدَّم في بداية كتابه مدخلاً عن مناهج كتابة التاريخ أكَّد فيه أن المؤرخين الأوروبيين واليهود والنصارى والعلمانيين الحاقدين لم يتورعوا عن الهجوم على تاريخ الدولة العثمانية، فاستخدموا أساليب الطعن والتشويه والتشكيك فيما قام به العثمانيون من خدمةٍ للعقيدة والإسلام، وسار على هذا النهج الباطل أغلب المؤرخين العرب بشتى انتماءاتهم واتجاهاتهم القومية والعلمانية، وكذلك المؤرخون الأتراك الذين تأثَّروا بالتوجه العلماني الذي تزعَّمه مصطفى كمال، فكان من الطبيعي أن يقوموا بإدانة فترة الخلافة العثمانية، فوجدوا فيما كتبه النصارى واليهود ثروةً ضخمةً لدعم تحولهم القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى.

ويحلل الدكتور الصلابي أسباب هذا العداء بالنسبة للمؤرخ الأوروبي يرجع إلى تأثره بالفتوحات العظيمة التي حققها العثمانيون، وخصوصًا بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطية القسطنطينية. ويضيف أن الهجمات الإعلامية المُركَّزة من زعماء المسيحية بسبب الحفاظ على مكاسبهم السياسية والمادية، وكرههم للإسلام وأهله واندفاع قواتهم العسكرية للانتقام من الإسلام والمسلمين، ونزع خيراتهم بدوافع دينيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ، وقد ساندهم كُتَّابهم ومؤرخوهم للطعن والتشويه والتشكيك في الإسلام وعقيدته وتاريخه، فكان نصيب الدولة العثمانية من هذه الهجمة الشرسة كبيرًا.

وشارك اليهود الأوروبيون بأقلامهم المسمومة ضد الدولة العثمانية خصوصًا، والإسلام عمومًا، وازداد عداء اليهود للدولة العثمانية بعد أن فشلت كافة مخططاتهم في اغتصاب أي شبرٍ من أراضي هذه الدولة لإقامة كيان سياسي لهم طوال أربعة قرون هي عمر الدولة العثمانية السُنيَّة، استطاع اليهود بمعاونة الصليبية والدول الاستعمارية الغربية، ومن خلال محافلهم الماسونية، أن يحققوا أهدافهم على حساب الأنظمة القومية التي قامت في العالم العربي والإسلامي والتي وصفت نفسها بالتقدمية والاشتراكية، واتهمت الخلافة العثمانية على طول تاريخها بالتخلف والرجعية والجمود والانحطاط وغير ذلك، واعتبرت المحافل الماسونية والمنظمات الخفية التابعة لليهود والقوى العالمية المعادية للإسلام والمسلمين أن مسألة تشويه الفترة التاريخية للدولة العلية العثمانية من أهم أهدافها.

وسار المؤرخون العرب في العالم الإسلامي في ركب الاتجاه المهاجم لفترة الخلافة العثمانية، مدفوعين إلى ذلك بعدة أسباب: يأتى في مقدمتها إقدام الأتراك بزعامة "مصطفى أتاتورك" على إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1924م، والتحول إلى المنهج العلماني في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على حساب الشريعة الإسلامية. وتحالفت هذه الحكومة مع السياسة الأوروبية المعادية للدول الإسلامية والعربية، واشتركت سلسلة الأحلاف العسكرية الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والتي رفضتها الشعوب العربية الإسلامية وبعض حكوماتها. وقد كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بقيام الكيان السياسي الصهيوني في فلسطين عام 1948م، مما جعل الشعوب العربية الإسلامية تندفع خلف حكوماتها القومية بعد غياب الدولة العثمانية التي كانت تجاهد كل من تُسَوِّل له نفسه بالاعتداء على شبرٍ من أراضي المسلمين.

ويأتي سبب التبعية المنهجية لمدرسة التاريخ العربي لتاريخ المناهج الغربية كعاملٍ مهمٍّ في الاتجاه نحو تشويه الخلافة العثمانية. وقد تأثَّر كثيرٌ من مؤرخي العرب بالحضارة الأوروبية المادية. لذلك أسندوا كل ما هو مضيءٌ في تاريخ بلادهم إلى بداية الاحتكاك بهذه الحضارة المادية الوافدة من الغرب، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث من وصول الحملة الفرنسية على مصر والشام، وما أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب، وما ترتب عليه بعد ذلك من قيام الدولة القومية في عهد محمد علي في مصر، وصحب ذلك اتجاههم لإدانة الدولة العثمانية التي قامت بالدفاع عن عقيدة الشعوب الإسلامية ودينها وإسلامها من الهجمات الوحشية التي قام بها الأوروبيون النصارى.

لقد احتضنت القوى الأوروبية الاتجاه المناهض للخلافة الإسلامية، وقامت بدعم المثقفين في مصر والشام إلى تأصيل الإطار القومي وتعميقه، من أمثال البستاني، واليازجي، وجورج زيدان، وأديب إسحاق، وسليم نقاش، وفرح أنطوان، وشبلي شميل، وسلامة موسى واليهودي الصهيوني هنري كورييل، وهليل شفارتز، وغيرهم. ويلاحظ أن معظمهم من النصارى واليهود، وأن أغلبهم من المنتمين إلى الحركة الماسونية التي تغلغلت في الشرق الإسلامي منذ عصر محمد علي، والتي كانت بذورها الأولى مع قدوم نابليون في حملته الفرنسية. لقد رأى أعداء الأمة الإسلامية أن دعم التوجه القومي والوقوف مع دعاته كفيلٌ بإضعاف الأمة الإسلامية والقضاء على الدولة العثمانية.

واستطاعت المحافل الماسونية أن تهيمن على عقول زعماء التوجه القومي في داخل الشعوب الإسلامية، وخضع أولئك الزعماء لتوجيه المحافل الماسونية أكثر من خضوعهم لمطالب شعوبهم، وبخاصةً موقفها من الدين الإسلامي الذي يشكِّل الإطار الحقيقي لحضارة المسلم وثقافته وعلومه، ولم يتغير هذا المنهج المنحرف لدى المؤرخين العرب بشكل عام بعد قيام الانقلاب العسكري في مصر سنة 1952م؛ حيث اتجهت الحكومة العسكرية في مصر منذ البداية، والتفت حولها أغلب الحكومات العسكرية إلى دعم التوجه القومي. كما أن معظم هذه الحكومات ارتكزت على أسسٍ أكثر علمانية في كافة الجوانب، بما في ذلك الجانب الثقافي والفكري، فنظروا إلى الخلافة العثمانية والحكم العثماني للشعوب الإسلامية والعربية بأنه كان غزوًا واحتلالاً، واسندوا إليه كافة عوامل التخلف والضعف، والجمود والانحطاط التي ألمَّت بالعالم العربي الإسلامي، واعتبروا حركات الانشقاق والتمرد التي قامت إبان الفترة العثمانية، والتي كان دافعها الأطماع الشخصية، أو مدفوعةً من القوى الخارجية المعادية للخلافة الإسلامية اعتبروها حركاتٍ استقلاليةً ذات طابعٍ قوميٍّ.

أما المؤرخون الماركسيون فقد شنوا حربًا لا هوادة فيها على الدولة العثمانية، واعتبروا فترة حكمها تكريسًا لسيادة النظام الإقطاعي الذي هيمن على تاريخ العصور الوسطى السابقة، وأن العثمانيين لم يُحدثوا أي تطورٍ في وسائل أو قوى الإنتاج، وأن التاريخ الحديث يبدأ بظهور الطبقة البرجوازية ثم الرأسمالية التي أسهمت في إحداث تغييرٍ في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في بداية القرن التاسع عشر، والتقَوْا في ذلك مع المؤرخين الأوروبيين من أصحاب الاتجاه الليبرالي، وكذلك مع أصحاب المنظور القومي، وقام بعض المؤرخين والمفكرين من النصارى واليهود بالترويج للاتجاهين الغربي والماركسي بواسطة التأليف وترجمة مؤلفاتهم، والذي ساندته المحافل الماسونية، وحاولوا أن يبتعدوا عن أيٍّ من الأطر الإسلامية الوحدوية، مفضلين عليها الدعوة القومية بمفهومها المحلي أو العربي كمشروع الهلال الخصيب في الشام، أو مشروع وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، فضلاً عن نشاطهم في ترويج الاتجاهات القومية المحدودة، كالدعوة إلى الفرعونية في مصر، والآشورية في العراق، والفينيقية في الشام... إلخ. وأما المؤرخون الأتراك الذين برزوا في فترة الدعوة القومية التركية فقد تحاملوا كثيرًا على فترة الخلافة العثمانية، سواءٌ لمجاراة الاتجاه السياسي والفكري الذي ساد بلادهم، إلى جانب تأثر المفكرين الأتراك بموقف بعض العرب الذين ساندوا الحلفاء الغربيين إبَّان الحرب الأولى ضد دولة الخلافة وإعلان الثورة عليها سنة 1916م.

وبرغم تفاوت الأسباب وتباينها إلا أن كثيرًا من المؤرخين الْتَقَوْا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية. لقد اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق والكذب والبهتان والتشكيك والدس، ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الأعمى والدوافع المنحرفة بعيدةً كل البعد عن الموضوعية".

ثم نأتى إلى الداهية الثقيلة فى مقال وكيل وزراة الثقافة فى مصر، وهى زعمه أن التراث العربى الإسلامى يخلو تماما من أى كتاب "في موضوع خاص غير الدين، ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"‏، وإن كان قد استثنى "مقدمة ابن خلدون"، التى وصفها بأنها "هي المحاولة الوحيدة الجادة في هذا الاتجاه قبل ذلك‏".‏ أى أنها مجرد محاولة ليس إلا. ما كل هذا الكرم والتواضع والتنازل يا أستاذ شوباشى؟ الحق أننى كلما قرأت شيئا للأستاذ شريف ترحمت على أيام أبيه وعلى مؤلفاته، فهى مؤلفات تَرْفِدها قراءة عميقة وتفكير طويل ومنهجية صارمة، مؤلفات أنصفت الحضارة العربية الإسلامية إنصافا عظيما رغم يسارية الرجل، فقد كان كاتبا محترما متعمقا وملما إلماما واسعا ودقيقا بأى موضوع يتناوله فى كتاباته، وكان له أسلوب دافئ محكم، مع بساطة وسلاسة.

من الواضح الذى لا يمكن أن ينتطح فيه عنزان أو يتهارش فيه ديكان أن الأستاذ شريف الشوباشى لا يعرف شيئا عن هذا الأمر الذى زَجَّ فيه بنفسه "كالبقدونس"، وهذا التشبيه ليس من عندياتى، بل استقيته من تمثيلية "أم شناف"، التى أستمع إليها من تسجيلٍ محمَّلٍ على كاتوبى وأنا أكتب ما أكتب الآن، فعذرا للمرحوم عبد الفتاح مصطفى مبدع هذه التمثيلية الفائقة الروعة وأغنياتها المشجية ذات العذوبة الصافية. نعم من الواضح أنه ليس عنده فكرة عن التمرهندى، وإلا لم يقل ما قال. ترى ماذا نسمى كتاب "تاريخ الرسل والأمم والملوك"، الذى أبدعه شيخ المؤرخين ابن جرير الطبرى وتلك الكتب التى وضعها من سار على دربه من علماء المسلمين فكتب مثله فى علم التاريخ، وكذلك "كتاب" سيبويه وجميع كتب النحو المشابهة، ورسائل الجاحظ وكتابه عن "البخلاء"، وكتاب "المعارف" لابن قتيبة، وكتاب ابن حزم: "طوق الحمامة"، وكتاب المقَّرِىّ: "نفح الطيب"، وكتابَىْ "معجم الأدباء" و"معجم البلدان" لياقوت وسائر الكتب التى تجرى مجراهما، وما كتبه ابن المعتز فى "البديع" و"طبقات الشعراء"، وما ألفه ابن الجوزى من كتب فى "أخبار النساء" و"أخبار الحمقى والمغفلين" و"الأذكياء"، وما كتبه ابن سلام وابن قتيبة وأبو هلال العسكرى وعبد القاهر وابن طباطبا العلوى وابن الأثير وابن بسام الشنتريشى فى تاريخ الأدب والنقد الأدبى والبلاغة، وما افترعه لغويونا العظماء كابن جنى وابن فارس وابن منظور والزبيدى وغيرهما، وما أبدعه الفلاسفة المسلمون على اختلاف مشاربهم ومدارسهم من مؤلفات فلسفية كالكندى والغزالى وابن الطفيل وابن رشد، وكذلك ما وضعه علماء الكيمياء والفيزياء والطب من رسائل وكتب، وما كتبه المؤلفون فى الترجمة لأنفسهم كالغزالى والسيوطى وابن خلدون، علاوة على روائع القصص كــ"رسالة الغفران" لأبى العلاء و"مقامات" الهمدانى والحريرى و"حى بن يقظان"، الذى كتب قصته أكثر من فيلسوف مسلم وحمّلها كل منهم أفكاره الفلسفية... إلى آخر ما تركه لنا الأجداد من تراث علمى لا يمكن إحصاؤه، وكله قد أُلِّف بمنهجية محكمة ينتقل القارئ فيه من المقدمة إلى النتيجة فى سلاسة ويسر، فوق ما فيه من عمق وإبداع؟ أم ترانا ينبغى أن ننكر وجود كل تلك المؤلفات التى تجل عن الحصر ونذهب فنزعم مع الأستاذ الشوباشى تلك المزاعم المضحكة؟ كلا ثم كلا.

وإذا كان الأمر كما قال الأستاذ الشوباشى من أن المبعوثين إلى أوربا بدءا من عهد محمد على قد نهلوا هناك "العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها‏"، فكيف يقول رغم هذا بعد أسطر قلائل إنه "لأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ إذ ما الذى استفادته أوربا إذن من أجدادنا من علم ومعرفة إذا كان أولئك الأجداد لم يستطيعوا أن يخطوا الخطوة الأولى فى العلم والمعرفة، ألا وهى ‏"وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ ألا يرى القارئ الكريم مثلما أرى أن فى كلام الكاتب اضطرابا وتفككا وتنافرا، وأن مقدمات كلامه لا تسلم إلى مؤخراته؟

أما قوله إن كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوى هو أول كتاب فى العصر الحديث يستحق لقب الكتاب المنهجى فهو كسائر كلامه لا معنى له، فقد سبق الـجَبَرْتِىُّ رفاعةَ فوضع كتابه المسمَّى: "عجائب الآثار"، الذى لا ينقضى عجب القارئ الفاهم مما فيه من دُرَرٍ علمية ومنهجية وحيادية عجيبة ودقة فى الاستقصاء والوصف وحيوية فى الأسلوب، مما دفع مؤرخا وفيلسوفا كبيرا وشهيرا كأرنولد تُويِنْبِى إلى الإشادة بالجبرتى ذلك المؤرخ العالمى الذى قلما يجود الزمان بمثله. ورغم المكانة العالية التى أحرزها كتاب رفاعة فإنه يقصّر كثيرا عن كتاب الجبرتى، وبخاصة أنه أطول جدا جدا جدا جدا من "تخليص الإبريز"، وأكثر تنوعا وأرحب مجالا، رغم ما يعتريه أحيانا من بعض الخطإ والركاكة اللذين لا يقل رفاعة عنه فى مقارفتهما. وحتى فى الجانب الخاص بإطلاعنا على منجزات الحضارة الغربية الحديثة ووجوه المقارنة بين أوضاعنا وأوضاع الأوربيين أَجِد، بكل يقين، أن كتاب الجبرتى يَفْضُل كتاب رفاعة، على الأقل لأن الجبرتى حين يتناول هذا الجانب إنما يتناوله تناولا حَيًّا مكسوًّا باللحم والدم والعظام والأعصاب لأنه يسوقه لدن كلامه عما يرصده من وقائع ويصفه أو يترجم له من أشخاص، على عكس رفاعة، الذى كان يكتفى عادة بالكلام النظرى، ولا يتوسع فى الكلام عن الأحداث والأشخاص توسع الجبرتى، أحد شيوخ المؤرخين فى العالم أجمع، رحم الله الاثنين رحمة واسعة. ومن هنا أيضا يتبين لك، يا قارئى الكريم، أن الأستاذ الشوباشى قد أخطأ التصويب خطأ لا يغتفر فطاشت رميته فى الفضاء العريض دون أن تُنْكِى جرحا أو تُسِيل دما!

وبالنسبة لقوله إننا، باتصالنا بأوربا وبما لديها من معارف، قد تكوّنت عندنا طبقة جديدة اسمها طبقة "المثقفين"، فلا أدرى أكان الأستاذ نائما أم كان يقظان صاحيا حين قاله. ذلك أنه لا معنى لمثل هذا الكلام إلا أن الحضارة العربية الإسلامية كانت تخلو من ذلك الصنف من الرجال، إذ كان كل هم العرب والمسلمين فى تلك الأزمان الغبراء النكراء هو حشو مصارينهم والسلام، أما عقولهم فلها رب اسمه الكريم! لقد كانوا لا يعرفون شيئا اسمه الكتابة والقراءة والتفكير والتدبير، وكانوا فى عمومهم أميين، ومن كان يكتب ويقرأ منهم فلم يكن يعدو التوقيع باسمه فى شخبطة كنكش الفراخ ليس إلا، أما ما وراء هذا فهو والأحلام سواء بسواء. ومن ثم فإن قال لك مجنون أو معتوه ملتاث إن فى تاريخنا مثقفين، ومثقفين كبارا، كالجاحظ مثلا (أقول: "مثلا") أو ابن قتيبة أو الأصفهانى أو ابن المعتز أو التوحيدى أو أبى تمام أو البحترى أو ابن الرومى أو المتنبى أو ابن جنى (أو ابن عفريت أو ابن إبليس) أو ابن خروف (أو ابن جدى أو ابن كبش) أو ابن زيدون (أو ابن نقصون) أو ابن حزم أو الشهرستانى أو الثعالبى أو ابن بسام أو ابن سِيدَه أو القزوينى أو المقريزى أو ابن خلدون أو ابن عربشاه أو السيوطى أو البوصيرى أو النووى أو ابن حجر (أو ابن زلط) أو القلقشندى أو الجبرتى... إلى آخر الآلاف المؤلفة من تلك الأسماء فإياك ثم إياك ثم إياك أن تصدق حرفا واحدا من هذا الهراء. فقد قال مؤلفنا إن ظاهرة "المثقفين" فى حضارتنا إنما بدأت فى العصر الحديث بعد اتصالنا بأوربا، ولم يكن لها، والحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه، أى وجود قبل ذلك بتاتا. وما دام مؤلفنا قد قال فالقول ما قال مؤلفنا. وعلى هذا فالأستاذ الشوباشى أحرى بلقب "المثقف" من واحد كالعقاد أو الزيات أو المازنى مثلا لأنه عاش فى فرنسا عدة سنوات، على حين أنهم لم يعيشوا فى فرنسا ولا فى أى بلد أوربى قط. فهم إن كانوا مثقفين إذن ليسوا "مثقفين" كما ينبغى أن يكون "المثقف"، بل مثقفون من منازلهم، وشتان بين "المثقف" المنازلى و"المثقف" الذى يحضر حصص الثقافة ومحاضراتها حية! ولعل القارئ الكريم قد لاحظ كيف خلت قائمة "المثقفين" التى أصدرها مكتب الأستاذ الشوباشى لتجميع "المثقفين" وتوريدهم للبيوت والمؤسسات من رجال مساكين كتب القدر عليهم سوء الحظ وانكسار الخاطر مثل محمد مصطفى المراغى ومحمد الخضر حسين ومحمود شلتوت وعبد الرحمن تاج وعبد المتعال الصعيدى ومحمد حسين الذهبى ومحمد الغزالى وسيد قطب والسيد سابق وأحمد الشرباصى وخالد محمد خالد وعبد الحميد كشك، وهو ما يدل على أن المسألة ليست فى المقارنة بين طه حسين وعمرو خالد، تلك المقارنة السطحية الساذجة رغم كل ما سبق أن قلته بشأنها، بل فى النظر إلى الدين ومن يكتبون فيه على أنه لا وشيجة له ولا لهم بالثقافة.

وإذا كان الأمر كما قال الأستاذ الشوباشى من أن المبعوثين إلى أوربا بدءا من عهد محمد على قد نهلوا هناك "العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها‏"، فكيف يقول رغم هذا بعد أسطر قلائل إنه "لأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ إذ ما الذى استفادته أوربا إذن من أجدادنا من علم ومعرفة إذا كان أولئك الأجداد لم يكونوا يستطيعون أن يخطوا الخطوة الأولى فى العلم والمعرفة، ألا وهى ‏"وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلي رأي في قضية عامة"؟ ألا يرى القارئ الكريم مثلما أرى مدى ما فى كلام الكاتب من اضطراب وتفكك وتنافر وتشوش فى الفكرة والعبارة، وأن مقدمة كلامه لا تسلم إلى مؤخرته؟

ومما لا أهضمه أيضا فى مقال الأستاذ الشوباشى قوله إن صوت المثقفين بعد هزيمة يونيه 1967م شرع يخفت شيئا فشيئا ولم يعد الناس يثقون فيما يكتبون وانصرفوا عنهم. ذلك أنه لم يحاول أن يفسر لنا سر انصراف الناس عن هؤلاء الذين خلع عليهم سيادته لقب "المثقفين" دون بقية عباد الله ممن يقرأون ويكتبون ويفكرون ويدبرون مثلهم. كل ما فى الأمر أننا نفاجأ بقوله إن الناس قد انصرفت عنهم وعما يكتبون، وكأن الناس انطست فى نظرها فقررت دون أى سبب أن تنصرف عنهم ثم انصرفت، وكان الله يحب المحسنين! على أية حال فمن الواضح أن الناس قد أخذت مقلبا سخنا على أيدى مثقفى الأستاذ الشوباشى وعلى أيدى الحكام الذين كانوا يقربون مثقفى الأستاذ الشوباشى، إذ توالت الهزائم ولم يستطع أولئك الحكام ولا معاونوهم من مثقفى الأستاذ الشوباشى أن ينجزوا شيئا مما وعدوا به الجماهير، وانكشفت خيبتهم القوية لكل من له عينان. صحيح أن الشعوب تستحق هذا وأكثر منه لأنها مثل مثقفيها وحكامها فى العيوب والمساوئ والمخازى، إلا أن هذه نقرة أخرى.

كذلك كان ينبغى أن يفسر سيادته لنا السبب فى إقبال الناس على من صك لهم، كعادته فى صك الألقاب وخلعها على طائفة من الناس وحرمان أخرى منها، لقب "المتحدثون باسم الدين"، وإيثارهم حديث الغيب والخرافات والخزعبلات على حديث العقل والتنوير والثقافة. وليتأمل القراء الكرام حملة سيادته على الغيب وقَرْنه إياه بالخزعبلات، ثم التفافه عقبها للإشادة بقيم ديننا الحنيف رغم كل هذا، وكأنه بعد سخطه على الغيب واتهامه إياه بالخزعبلات قد بقى فى ديننا شىء اسمه "قيم ديننا الحنيف". ترى بالله عليك، أيها القارئ الطيب، هل يمكن أن يتبقى من الإسلام شىء له معنى بعد إزاحة عالم الغيب منه؟ فماذا نقول إذن له سبحانه وتعالى حين يصف المتقين الداخلين الجنة يوم القيامة بأنهم، أوّلَ شىء، المؤمنون بالغيب حسبما جاء فى بداية سورة "البقرة" فى أول المصحف الشريف؟ أنقول له إن عبدا من عبادك يدعى الأستاذ شريف الشوباشى (أو بالأحرى: "شريف الشوباشى" حافيا من اللقب لأننا عند الله لا ألقاب لنا، بل كلنا عباده فحسب!)، ويعمل وكيلا لوزارة الثقافة فى مصر قد أصدر فرمانه بألا يؤمن أحد بالغيب فصدقناه وآمنا بما أمرنا به ونبذنا ما قلت يا ألله؟ ولكن هل يصح هذا عذرا لأحد أمام المولى سبحانه؟ أم إن الله نفسه، والإيمان به هو إيمان بالغيب، خزعبلة من الخزعبلات (أستغفر الله!) فلا ينبغى إذن أن نشغل أنفسنا به أصلا؟ وهو غاضب جدا ولم يبق له إلا أن يلطم الخدود لأن هؤلاء الغيبيين الخزعبلاتيين قد أصحوا يتحكمون فى عقول الأمة، وكان ينبغى كما قلت أن يسأل نفسه: ما الذى أوصل الأمور إلى هذا المدى؟ كما ينبغى أن يسأل نفسه: كيف وصل هؤلاء الغيبيون الخزعبلاتيون إلى التحكم فى عقول الناس رغم انسداد أبواب وسائل الإعلام ونوافذها وسقوفها وسراديبها فى وجوههم؟ ها هو ذا الأستاذ الشوباشى ورفاقه من المتنورين غير الغيبيين وغير الخزعبلاتيين فى أيديهم وتحت تصرفهم جميع وسائل الإعلام، فكيف فشلوا فى اكتساب ثقة الناس؟ وكيف لم نسمع سيادته يوما يهاجم فسادا أو ينادى بإصلاح؟ وكيف، ما دام يرى أن هؤلاء الغيبيين والخزعبلاتيين لا يفهمون شيئا فى الدين وأنه هو وحده ومن على شاكلته، الذين يفهمون الدين ويعرفون قيمه الكريمة، لم يدع الناس ولو مرة إلى التمسك بتلك القيم الكريمة؟ الذى أعرفه أننى ما دمت لا يعجبنى ما يقوله غيرى أن أنبرى أنا وأقول ما عندى مما أرى أنه هو الجدير بالنفع والإفادة؟ أم إنه يجرى على مبدإ "لا يرحم ولا يدع رحمة ربنا تنزل"؟

ثم إنه يعيب هؤلاء الغيبيين الخزعبلاتيين بأنهم استولَوْا على عقول الشباب الذين أصبحوا على استعداد لأن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة غرقا أمام شواطئ إيطاليا لانسداد أبواب الأمل فى وجوههم؟ ألم يكن أولى به أن يعيب من تسببوا فى إيصال الشباب إلى هذه الدرجة من اليأس والإحباط ودفعوه من ثم إلى إلقاء نفسه فى المهالك؟ كلا، إنه يؤثر أن يترك الحمار ويضرب البرذعة. فماذا نفعل معه، وهذه عادتنا نحن المصريين، وهو منا، فلا يمكن أن يشذ عن عادتنا، لا قطع الله لنا ولا له عادة. ومع هذا فإنى لا أستطيع أن أكتم دهشتى من موقفه هذا من هجرة الشباب إلى أوربا! أوكان يريد أن ينفرد دونهم بالعيش على أرض تلك القارة؟ أليس لهم هم أيضا نفس مثله؟ الواقع أنه لم يكن يصح منه مؤاخذتهم على ذلك التطلع حتى لا يتهمه حقود بالأنانية. ثم من يدرى؟ ألا يمكن أنهم إنما كانوا يريدون الاحتكاك بأوربا وتشرُّب ما لديها من علوم ومعارف واكتساب لقب "المثقفين" من ثم على يدى الأستاذ الشوباشى؟

أما اتهام من يسميهم الأستاذ الشوباشى: "المتحدثين باسم الدين" بالانتهازية والانغلاق فهو صحيح فى بعض الأحيان، ولكنْ صحيحٌ أيضا أن فى الشيوعيين، وفى الليبراليين، إن كان حقا عندنا من هذا الصنف، وكذلك فى كل فصيل سياسى أو دينى، انتهازيين ثعلبيين من الطراز الأول بامتياز، وأبرع من أولئك وأوغل فى الانغلاق والانتهازية وشغل الثلاث ورقات. ولذلك أقول إن العبرة فى يقظة الشعوب وتحركها وعدم إسلام أمرها إلى أحد مهما تكن درجة وثوقها به، فإن أمة تلقى زمامها إلى من يسوقها على غير إرادة منها أو بصيرة سوف ينتهى بها الأمر إلى أن تصير حملا مسكينا فى يد ذئب شرير لا يرحمها ولا يرعى فيها إلاًّ ولا ذمّة، وساعتها لا تلومنّ إلا نفسها، وهذا إن كانت هناك فرصة بعد أن يأكلها الذئب كى تبكى وتلوم نفسها! وكما يقولون فى الأمثال: على نفسها جنت براقش! وأنا، فى الواقع، لا أفهم كيف تدّعى الأمة أنها أمة مسلمة وتحرص على الصلاة والحج وما إلى ذلك مما لا يتم إسلام المرء إلا به، وفى ذات الوقت لا تعمل ولا تنتج ما تحتاجه بيديها بل تتفنن بكل ما فى وسعها من أجل تجنب بذل الجهد الحقيقى وتكره إتقان عملها وتنفر من القراءة والعلم والتفكير وتشغيل العقل ولا تعرف لقيمة الإبداع طعما ولا معنى ولا ترى فيما يسود حياتها من قبح وفوضى وقذارة وإهمال وإزعاج من كل جنس ولون وتخلف وتشويه وفساد ورشاوى وبكش وبلادة وترهل وغلظ ذوق وخشونة سلوك أى خطإ، بل تتعايش معه وكأنها تعيش فى الفروس الأعلى! ألا تفكر تلك الأمة فى أنها سوف تقف بين يدى الله فيسألها عما فعلته بنفسها فى الدنيا وأوردها موادر الهلاك والذل وجلب على رؤوسها الخزى والعار وأدى بها إلى سيطرة أعدائها على مقدرات أمورها، وهى طوال كل ذلك الوقت تلهو وتضحك وتتناسل وترقص وتصفق وتهرج، وكأنها قد حازت الدنيا كلها فى يديها. والله إننى لخجلان أكاد أتوارى من القهر والغم. ولكن من يقرأ، ومن يسمع، وأمة "اقرأ" كلها تقريبا لا تقرأ؟ خيبة، والسلام، لا نملك إزاءها إلا النصح، فلعل الله يفتح للأمة بابا من الفرج، وإن كنت لا أدرى كيف!

والطريف أن يعود الكاتب بعد هذا كله فيصف رأيه فى نهاية مقاله بأنه رأى متواضع. ولا أدرى أى تواضع يتحدث عنه سيادته بعد أن "طاح" فى الثقافة العربية وكثير من أعلام الفكر والدين عندنا دون أدنى مبالاة بأى شىء. لو كان هذا تواضعا حقيقيا لما سطر سيادته من هذا المقال حرفا واحدا، بل لما فكر مجرد تفكير فى أن يسطر حرفا واحدا منه، بل لما خطر له الموضوع أصلا، إذ من الواضح أن معرفته بالموضوع لا تؤهل صاحبها لمجرد الاقتراب منه، فما بالك بالكتابة فيه؟ بل ما بالك بالتربع على كرسى الفتيا وإصدار مثل تلك الأحكام الخطيرة التى لا ترعى فى أحد أو فى شىء إلاًّ و لا ذمة؟

ثم ما الذى منع الأستاذ الشوباشى وأمثاله من التأثير فى عقول الأمة بفكرهم التنويرى الذى من شأنه شفاء البلاد والأمة من كل داء، ووسائل الإعلام كلها على بَكْرَة أبيها ومُهْر أمها وبَغْل جدها وحمار جدتّها فى أيديهم، على حين أن هؤلاء الذين يشكو هو من سيطرتهم على عقول الناس لا يملكون من تلك الوسائل شيئا؟ ألا يدل هذا على أنه هو وأمثاله قد فشلوا فشلا ذريعا رغم كل شىء، وأن أولئك المتخلفين فى نظره الذين حُرِموا العقل المتنور ووسائل الإعلام على السواء هم أفضل أداء وأقوى تأثيرا؟ اللهم إلا إذا قال إن الشعب متخلف مثل أولئك المتخلفين، فهو ينجذب إلى صِنْوه ولا ينجذب إلى المتنورين المثقفين. وحينئذ فلا أدرى ماذا يمكن أن يقال أو أن يُفْعَل. أما التحجج بأن اولئك المتخلفين الجعجاعين يضيعون وقت الناس فيما لا طائل خلفه فالرد عليه أسهل شىء، إذ كان الزمام وما زال فى أيدى المتنورين صلى الله عليهم وسلم، فما الذى حال بينهم وبين التصدى للقضايا غير الدونكيشوتية؟ لقد فشلوا فشلا قاتلا، إلا أنهم مع هذا لا يريدون أن يكفّوا عن اتهام الآخرين بما فيهم هم قبل غيرهم.

ومما قاله الأستاذ الشوباشى كذلك تأكيده أن المشكلة تكمن فى جهل الذين يتحدثون باسم الدين بهذا الدين نفسه وأنهم يركبون الموجة للتوصل إلى أهدافهم التى لا علاقة لها بالسماء، بل هى أهداف دنيوية ومادية وسلطوية‏، وأنهم يدغدغون الغرائز ويلعبون على أوتار الحرمان والفقر والخوف من المستقبل ويستغلون الإيمان المتجذر فى أعماق الشعب المصري، وأنهم لا تربطهم أية صلة بالدين الحنيف. فأما اتهامه لهم بأنهم طلاب سلطة فاتهام لا معنى له، لأن لعبة الديمقراطية إنما تقوم على تداول السلطة، فلا داعى إذن لهذا الكلام الذى يستطيع أن يقوله هؤلاء بدورهم فيمن يتولَّوْن أمور البلاد. وإذا كان سيادته يرى أنهم لا يفهمون الدين الحنيف ولا تصلهم به أية صلة فليتقدم هو وليعرض علينا فهمه الصحيح للإسلام وليبصّر الناس بحقيقته ويدعوهم إلى قيمه العظيمة، ولسوف يستمع الناس له ما دام ينطلق من منطلق إسلامى، ولا يدع الساحة خالية لهؤلاء الذين يرميهم بكل نقيصة حتى لا يفسدوا على الناس أمر دينهم ودنياهم معا.

ونصل إلى دعوى استغلالهم لفقر الناس وحرمانهم، ونسأل الأستاذ الشوباشى: ومن أوصل الأمور إلى هذا الدرك الأسفل من الفقر والحرمان، والأمور إنما هى فى يد غيرهم؟ وما الذى يمنعك يا أستاذ شوباشى من الكتابة فى هذه القضية وفضح من دفعوا الأمور إلى هذا الحد، وأنت رجل تمسك فى يدك قلما، وصفحات الأهرام ومطابع هيئة الكتاب ومكتبة الاسرة مفتَّحة الأبواب لك على مصراعيها؟ إن كلامك معناه بكل بساطة هو أنكم فشلتم، ولا تريدون أن تبحثوا عن أسباب الفشل لتلافيها، وكل همكم هو تفزيع الناس من أولئك القوم الذين لا أزعم بشأنهم المزاعهم فأقول إنهم سوف يسوون الهوائل، بل كل ما أستطيع قوله هو أن ما قلته بشأن تحميلهم وحدهم المسؤولية الكاملة عما نحن فيه من تخلف هو ادعاء لا نصيب له من الصحة وأنه كلام فارغ وأنكم أنتم المسؤولون رسميا عن التخلف الذى تعانى منه البلاد، وإن لم يعن هذا أبدا أن الشعب مُعْفًى من مسؤوليته التى هى بكل تأكيد أكبر من مسؤوليتكم. أما هل يقدر هؤلاء الناس أو لا يقدرون على علاج ما أفسدتموه فهو أمر يدخل فى علم الغيب، فضلا عن أن أول شروط النجاح لذلك العلاج هو يقظة الشعب ومناضلته عن حقوقه وكرامته وعدم تركه المجال لكم أو لهم تتحدثون باسمه وتستغلونه وتفسدون عليه أمره وتحرمونه من خيرات بلاده وتدوسون كرامته بأحذيتكم وتعاملونه بتجبر وعتوّ وتتركونه يقاسى الحرمان والهوان!

والطريف، وكل ما فى مقال الأستاذ الشوباشى، الذى لا أريد أن أكون سببا فى مضايقته لدماثة خلقه رغم خلافى الشديد معه، هو كلام طريف، أنه يعود فيرمى المتحدثين باسم الدين بأنهم يلعبون على غرائز الشباب. أوبعد أن أوردوهم موارد التهلكة تتهمهم بأنهم يلعبون على الغرائز؟ وكيف يا سيدى المفضال؟ أوعندهم مجلات وأفلام جنسية خليعة يزودون بها الشباب ويعدونهم ويمنّونهم بأنهم، متى وصلوا إلى الحكم، سوف يوفرون لكل شاب فاتنة من فاتنات السينما تخلع ملابسها له خصيصا كل ليلة بطريقة الإستربتيز؟ فهذا هو ما أفهمه من اللعب على الغرائز؟ الحق أن هذه أول مرة أسمع فيها من يتهم أولئك الناس بتلك التهمة. من الممكن أن يصدقك الجمهور إذا قلت إنهم منغلقو الذهن، حتى لو لم يكونوا كذلك، وبكل تأكيد ليسوا كلهم كذلك. إن تهمة إثارة الشهوات واسعة حبتين، بل ثلاث حبات وأكثر يا أستاذ شوباشى.

بالعكس إن هؤلاء المتحدثين باسم الدين كما يسميهم الأستاذ الشوباشى يطلون على الناس من القنوات الفضائية بسحن مخيفة ولحى طويلة هائشة تلقى الرعب فى القلوب، وتقطع الخميرة والخبز أيضا من البيت. وعلى هذا فتلك التهمة قد خرجت هى أيضا "آوت" للأسف يا أستاذ شوباشى! وعلى كل حال ألم يكن أجدر بالأستاذ الشوباشى أن يرينا كيف الخروج من هذا المأزق الذى يضرب حولنا نطاقا من المعاناة والشقاء والتخلف والعجز والفقر والحرمان بدلا من إلقاء اللوم والمسؤولية على ناس، أيا ما يكن رأينا فيهم وموقفنا منهم، هم فى الواقع لا دخل لهم بما نحن فيه، لسبب بسيط هو أنهم لا أشاروا ولا استشيروا ولم يكونوا يوما من أهل الحكم ولا حتى من أهل العقد والحل.

أما اتهامهم فوق البيعة بأنهم يستغلون الفرصة رغبة من هؤلاء الطماعين الذين يستحقون أن تندب فى عيونهم رصاصة فى الوثوب إلى الحكم، فهو اتهام لا طعم له، إذ الحل بسيط وعلى مد الذراع لو أراد الأستاذ، ألا وهو أن ينصرف سيادته وأمثاله إلى إصلاح الحال المائل، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجل قطع الطريق على هؤلاء المنافسين الذين يريدون أن يستولوا على أسباب السلطان، لا أهنأهم الله بها أبدا، وذلك بدلا من إفساد أعصابه بالشكوى والتذمر منهم والزراية عليهم وإلقاء التهم فى وجوههم عبثا، إذ إن الناس لا يمكن أن يصدقوا أى كلام إلا إذا رأوا بأم أعينهم ثمار ذلك الكلام. وأيا ما يكن الأمر فما وجه العيب فى أن يتطلع أحد إلى الحكم؟ ترى هل هناك طائفة من البشر أخذوا على الله عهدا ألا يزيحهم من كرسى الحكم أبدا مهما خابوا وأفسدوا وفشلوا وعكّروا على المواطنين صفو الحياة، وصفو الممات أيضا؟ أليس الناس فى كل بلاد العالم تتداول الحكم: فيوما لك، ويوما عليك؟ أم إن الأستاذ الشوباشى يريدها ديمقراطية تفصيلا لفئة "المتنورين" وعلى قَدّ مقاسهم وحدهم؟ ولكن بأمارة ماذا؟ فليأتنا بأثارة من علم أو حتى من جهل إن كان من الصادقين.

والواقع أنى لا أدافع فى هذا المقال عن أحد، فأنا بحمد الله لا أومن إلا بشىء واحد فى هذا السياق، وهو أنه إن لم تهبّ الأمة كلها مرة واحدة وتأخذ زمام أمورها فى أيديها وتكف عن التنبلة والخوف والنفاق والفساد وكراهية التقدم والنفور من التحضر فلا أمل: لا على أيدى "المتنورين" ولا على أيدى "المتحدثين باسم الدين" إن كان هناك أمل أصلا فى أن يترك لهم "المتنورون" الفرصة للوصول إلى الحكم. ذلك أن نبرة صوت الكاتب لا يمكن أن تخطئ معناها الأذن، فهى نبرة كلها وعيد واستعداء. أم للقارئ فهم آخر؟

[email protected]

http://awad.phpnet.us/

http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف