الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

إبط السفينة بقلم:أحمد ختاوي

تاريخ النشر : 2008-01-15
file:///F:/Documents%20and%20Settings/khettaoui/Mes%20documents/Copie%20de%20Photo.jpgرواية

أحمد ختاوي


أحمد ختـاوي















صحف الصباح تداولت أن ضفيرة حنان اغتصبها البحر ..وتراجع للوراء
...بأكثر من ميل ..وحول ..حتى يدفن رذيلته ..لأنه ( ...).رماها ..وأرتاح ..ثم أستوى على الماء..
الإجتياح كان مساء ..إعتقل البحر ناصية حنان ..إبتلعها وأبتعد بها ..نحو مداه الذي لم ينته ..كم لبث؟ الصحف الصباحية لم تشر إلى ذلك ..الخوف كان أوسع من رقعة الرذيلة ...البحر يتسع والضفيرة تتهاوى ..الصفصاف على الضفاف الأخرى في بوسمغون ..وجبال (الظهرة )..يتهاوى أيضا ..يترنح أحيانا مع الريح ..وثمّة ضوء خافت .
وهنا دمع وجزء من الفضيحة في الصفحة الأولى لإحدى الجرائد ..التي شكلت سبقا صحفيا..لكنها لم تفصح .
ضوضاء ما في البحر..وزئيره إمتزجا..ذات مساء بآخر ضفائر الشمس ..وهي توشك على الغروب ..البحر والشمس عشقا الضفيرة ..وتعلقا بحنان ..أكوام ( القش ) قبالة الموج لازمها إحساس بالغيرة والغريزة والرفث..لكنها نفرت من هول الفضيحة ..وديعة لكنها شرسة ..هكذا كتبت إحدى الصحف ..
آخر المساء يعج بحركة غير عادية ..
إحدى الصحف قالت إن (بغلة ولدت )..صدقتها..وأمتعضت للخبر ..وقد يهطل الملح رذاذا من البحر الهرم ..
قالت ثم إستسلمت للرذيلة ..
"أشح فيك ..واش أداك للبحر"
- الكبدة المحروقة ..أداتني .."
قالتها بماجوسية ..هكذا بدا للجميع ..
البحر أعور ..
قالها أطفال من بعيد ..ورددتها أفنان الصفصاف..
البحر أعور ..
سمك القرش وديع كآخر خصلة من الضفيرة ..أو كدمعة ثكلى ..
الصفصاف يشرب الماء..من الماء..
...وكانت الجوكاندا تستحم على مرمى حجر..في الماء والدخان ..والرماد ..ترتعش يداها الناعمتان من الحزن..في الحزن..
نطق دوفانشي
-الجوكاندا لي ..والبحر الأعور ..والتاريخ ..والصفصاف وماؤه لكم .
في إنتشاء قلت :
-كلنا للقدر ..
رد : من وأد الجوكاندا ؟.
-البحر الأعور..ياسيدي..لا التاريخ ..ولا الصفصاف..
البحر موحل ..موغل في القدم ..والزمن تقول الشائعات ..أمة واحدة..تدين بكل الحضارات ..الخصب عم المرسى الكبير بوهران ..حينما مسنا الضر جميعا .أمما وصفصافا وضفائر ..الجوكاندا لم تنجو ..وكان ديغول لم يعتل عرش (الخامسة ) بعد ..
(سانتاكروز ) معقل الريح ..والأشرعة..(يعانق ) أممنا ..وزمن رذيء قادم من (بوسمغون ) حافيا..يزحف نحو وهرنا ..ليعقد القران بين (سانتاكروز ) (البتول )و(مرجاجو) .ويصلح ذات البين .
أحيانا البحر يشق البحر ..ليوزع الملح على الأمم..
يعتقل الملح ..مثلما حدث للجوكاندا التي تستحم إلى غاية هذه اللحظة في عرض البحر..(أخبط راسك على الحيط ).يا نكار الملح ..
وأحيانا يشنق البحر البحر ..ياصديقي -لتطهير الحقيقة من العفن .
خافتً هذا الزمن...تتطاير شظاياه من عمق الفجيعة..ونبيع التاريخ بالأقمصة ..وأحيانا يتطهر البحر ..يبيع ( نعومته .ملوحته).. ايسبح في عمقه ..ويركب موجه أحيانا..وأحيانا للبحر شكل آخر ..يتبرأ منا كالشيطان ..التاريخ لا يرسم الخرائط ..ولا الجغرافيا أيضا ..
ببساطة ..عمي الطاهر التواتي ..( السمغوني ) القرمطي ..الأمازيغي الأصل ..هو الذي نسج ملامحها..
*** ****
سيل البرقيات على الصحف الصباحية يتهاطل ..الزمن موحش..وفصول (دوفوكو) لم تتضح معالمها بعد ..في فيافي تمنراست ..عمي الطاهر لايعرف غير:( ويل لكل همزة لمزة) يصلي بها كل صلواته.
*** ****
أخرج عمي الطاهر من الدائرة ..أنت لا تصلح للماء..مدخل مفبرك لإحدى التصريحات الصاعقة ..إرحل إلى وهران مشيا على الأقدام ..الريح ..والأخطبوط يرتسمان لاحقا..في مؤخرتك ..هكذا تنبأت جدتي ..لأن طفولتك كانت (صعلكة ).
البحر يبتعد ..يحمل الضفيرة بين أظافره ..الجوكاندا الوديعة ماتزال عائمة ..ودوفانشي ما زال غاضبا..
(ويل لكل همزة لمزة ).
البحر ينتعل الفجيعة ..ركام الردم يغطي النواحي المجاورة ..وما تزال الضفيرة عائمة ..
عمي الطاهر ..التواتي السمغوني ..القرمطي ..نظراؤك ممن لا يعرفون غير :"Bonjour monsieur ,ici le sac" " كثيرون ..
لغتك ( الفرنسية) الركيكة ..في المرسى الكبير بوهران ..جدل اللحظات ..وسفر الإخطبوط الذي تنبأت به جدتي ..يجذبك إلى الصعلكة ..من جديد ..وأنت تحمل كيس الإسمنت على كاهلك المثقل (بالصعلكة ) ..عاريا من دهرك و(ظهرك) ..غير مبال برحلة ( دوفوكو) إلى أعماق الصحراء ..إلى تمنراست ..مرورا ببني عباس ..أو العكس ..العري والخوف ..والإستشراف ..وأنتظارك لحمولة ( الطامسة ) المحمدية( باريقو) إلى ميناء مارسيليا..سفر في ذاتك ..
...أطياف التوازي بين الضفيرة .وأعمدة الدخان وهرولة الأطفال..نحو (الماوراء ) قبلة للصوت وللزمن والحناء ..والقبلة المبتورة -ياصعلوك - القرية ...صمت المكان ما أعذبه ..وما أتعسه ..توازي الأزمنة ..يتراءى لك من بعيد في حبة برتقال ( طامسة ) من (باريقو)والقبلة المبتورة ..وهرولة الأطفال ..عراة ..حفاة ..عبر الأزقة الملتوية في (بوسمغون)..وأنت تحمل (الطامسة)..تشحنها إلى مارسيليا..بطاقة هويتك مكتوب عليها بهذه اللغة(musulman français) ..في يدك اليسرى ..لماذا بالذات يدك اليسرى ..؟ سفرك الممتد عبر ذاكرتك ..الممدود إلى صدرك الشاحب ..وأنت تحت إبط السفينة ..صوت المكان ..والزمان ..حبة وشم في ذراعك الأيمن ..وثعبان ملتو لا يغادره ..موشوم كإمتدادك نحو سفرك ..نحو مداك الذي فقدته (ربيحة ) في القرية ..
غروب ذاك اليوم يشبه إلى حدا ما..خرقة بالية ..وشتاء شاحب ..رغم الأمطار التي تساقطت من ( الظهرة )..وذات غروب ماز في ذات مساء من 21ماي 2003..
*** ***
..وأفشيت السر -عمي الطاهر -التواتي..القرمطي..القدرة على الكثمان إختطفها غراب إلتمس ذات بدء ....ردم( القتل ) مثل القش الذي يردم (عادة ) زبد البحر الغاضب..هكذا الغراب.. ذات بدء(علم ) قابيل وهابيل ..(واحد) منهما فنون (الردم ) والدفن ..هكذا كان البدء ..لا يهم ..أيكون قابيل ..أو هابيل..(هذا لايهم )..هو ذا البدء لديك ولدي ..ولديهم .

- من تكون..إختف.
-لك ما تريد ..سمعا وطاعة ..
كل شتاءاتك لك ..ماعدا شتاء واحد ..فهو لي ..
-هرول مع أترابك عبر الأزقة الملتوية ..إختف..
-لك ماتريد ..
مثلما الشتاءات كلها لك ..لا تسألني لماذا خانتني السنونو ..ولم ألتحق بأطفال الحي المهتريء ..البحر إستوى على الماء..والمساء إستوى مثل الماء ..في الماء وفي البر ..وكنا نجري في غير وجهة ..حاجتك تجدها (عندي )أو تجدها في أعمدة الصحف الصباحية ..هذه وصاية الغراب ..وصاية الغراب..وصاية جدتي..ومأقي (ربيحة ) وأنت وأنت..لايهم ..لا يهم ..(أخبط راسك على الحيط ) يا نكار الخير ..ثم ما الفائدة من أن أطلعك وأنت تحت إبط السفينة.ثم أن الأمر لايعنيك على الإطلاق..
كما تشاء..أشاء..والحوت تبتعله المسافات ..
-إختف..هذا شأني ..
-لك ما تريد ..
*** ****
تفرخ أحداث ديان بيان فو ..قميصك المهتريء ..وعودتك من ( مشرع الصفا) ذات شتاء ..وذات صيف حار..تفرخ تعاستك ..وعودتك من (مرية) ما زلت أذكرها..(اللولب ) الحديدي العالق بركبتك اليسرى ..ينخر لحمك ..ينهشه مثلما الضباح في الأدغال تنهش لحم ظبية وديعة ..
- إختف..الشظايا تتطاير من عيني ..الغضب مثله ..أغرب عني
. - لك ما تريد ..
ركبتك يدغدغدها مسمار صغير ..يسكنها ..بوداعة كما تسكن ( ربيحة ) ذاكرتك ..يمنعك ..الشوق ..يجذبك ..(....)..يمنعك من السفر-ربما- أوحى لك بالسفر إلى ذاكرتك ..إلى فرنسا ..إلى الأندجينا..للعلاج ..ببطاقة هوية عليها هذه العبارة MUSULMAN FRANCAIS.
*** ***
كلهم عادوا إلى أهلهم ..ما عدا أنت ..لماذا ؟..
كلهم عادوا من (مرية ) ربيعا ليلتحقوا من جديد ب( مشرع الصفا) ..صيفا للحصاد ..(أخبط راسك على الحيط ) يا نكار الخير ..
لماذا عدلت عن السفر إلى فرنسا للعلاج ...ولولب الحديد ..ينخر ركبتك ..فرخ أجوبتك كما فرخت المآسي في ديان بيان فو ..ألم تكن هناك ؟ (أخبط راسك على الحيط ) يا نكار الخير ..يالقرماطي ..
ساق النخلة الباسقة في (بوسمغون ) يثمر دوما تعاستك ..ويفرخ الظل للقاصرات والأحمرة ..وبقية (الدواب ) .والجوع يقطر شهدا ..ينبث عشبا ..
أتلف البحر ضفيرة حنان عبر أصقاعه ..وأنت تترنح تحت جدع النخلة ..غبت ..وغابت عن الرادارات والشاشات الصغيرة ..وعن أعين (العشية ) الهوجاء...لم تكن تفرح بموتها ووأدها، مثلما ينتابك الفرح والفزع أحيانا وأنت تحت إبط السفينة ..
قالوا إنخرطت في إحدى الحركات ..لم تتأكد الأنباء ..وجدتي لا تعرف ذلك ..
الضفيرة في أصقاع البحر ..ربما تقترب من مالطا ..أو جزر الوقواق ..من يدري ..هذا هو البحر ..يقذف الأشياء ..وينبيء بها ..ويبحر بها ..ويجلب البؤس من سيدي فرج ..هذا تدركه جدتي ..قالوا إن هيمنقواي ..لم يصطد سمكا ..وأن جاره يسأله دوما عن صيده الوافر..كل ما يعرف عنه أنه ( حوات ) ..ذاك ما يعرفه الجار ..وما غاب عن جدتي ..
قالوا إنك وطني حتى النخاع ..لكنك صعلوك تتمرد حتى على (...)
أهل القرية لا يعرفون غير صعلكتك لماذ؟..
-الجوكاندا جاعت ..في عرض البحر ..قضمت خصلة حنان ..من الخلف ..مثلما كنت تفعل مع الأحمرة وبقية (الدواب ) ..تحت جدع الشجرة ..وتسترخي للظل ..وللفح القيلولة أحيانا ..كلما إقتضت الضرورة ..ولم تعبأ الجوكاندا بموتها ولا بوأدها ولا(....)وظلت تصارع الجوع ..والموج الهائج ..مثلما تصارعه أنت تحت إبط السفينة ..أنت صعلوك ..لكنك وطني ..الأحمرة ..لا تبوح بالسر ..مثلما لا تبوح به أنت ..والبحر لا يبوح أيضا..
**** ***
أحاجي البحر ..والأمواج الهوجاء..والأرض التي رجت رجة واحدة أتلفت جزءا من خصر (حنان ) لم يظهر له أثر..ربما أكله الحوت ..أو إبتلعته الأرض .. السماء أمطرت في ذلك اليوم ..
قالت الجوكاندا :((..كان يا ما كان..ثم سكتت..لا أدري لماذا..))
ملوحة البحر (طفت ) على سطح الماء والبحر ..والسر.وضفيرة حنان ..هوت ..( تحلقت) حول كانون في قاع البحر ..تروي حكايات الجوكاندا التي سكتت ..وتصغي لأحاجي جدتي ..هي تدري لماذا ؟..
قالت الضفيرة:..( كان يا مكان .ثم سكتت هي الأخرى ..لا أدري أيضا لماذا؟ ))
سفن قادمة من بلاد الإغريق .كانت عرض البحر .وكانت تحمل رايات كل الأمم والقارات الخمس ..ما عدا راية أمتنا ..وقارتنا ..وأنت قابع تحت إبط السفينة ..لم تغادرها..لماذا ؟.
-غادرها.
حنان غادرت بقية أحاجيها..والجوكاندا إنتعلت أتربة وتضاريس إيطاليا..هذا ما تداولته الأخبار المتضاربة ..
جزيرة صقلية ..على مرمى حجر ..وطارق بن زياد على الواجهة الأخرى من الماء ..هذا الذي تريد أن أفصح عنه ..؟؟
-الجوكاندا لم تنتعل أتربة إيطاليا ..كذبة ..وطارق بن زياد لم يقطع جبل طارق بعد ..
-حاول أن تفك وإياه قيود الضفيرة ..الجوكاندا أنهكتها المحاولات ..وخارت قواها ..
-ملت الأنس ؟
-وحتى الصداقة ..
-لم تعد عذراء كما رسمها دوفانشي..
البحر ذرف الدمع لأنه أخطأ..
-البحر مربط الخيل ..
-هذه كذبة ..البحر لم يذرف دمعة ..فقط إستسلم للنوم ..كما كل الكائنات ..حتى الأرض التي رجت ..
-والشهد تحت النخلة ؟
أغرب عن وجهي يا شيطان ..
هاها...هاها..هاها..هاها..
*** ***
سباق الخيل وصهيلها في ساحة القرية ..أيزال يقطع أحشاءك ( حنينا ) للصعلكة ..ويدعوك للتفريخ ..أم أنه مرآة ماض تداولته الأحاجي..لا أعرفك تقدميا..بقدر ما أعرف عنك كل أصناف النقيض ..وإن قالوا أنك إنخرطت في صفوف إحدى الحركات الشيوعية ..هذا ما تداوله شبان القرية ..
-ألجم فرسك الشقي ..التعس وأصهل..
-تصفيقة حارة ..هاها..هاها..
-أضحك يا بارد القلب ..
-الآن عرفت ..ما ذا تنتظر، أصهل مثلما صهلت ذات مرة ..وفرخت الأحاجي.؟وجثم الصمت على لحظة الرشق..
الجوكاندا والضفيرة يغرقان ..يلتهمها الحوت الأزرق في عرض البحر ..
- إستسلم البحر للنوم ..قارعه قبل فوات الأوان ..
-لم ينهض بعد .أنا متعب من التاريخ والتأريخ ..أمهلني إلى أن يهدأ ..
أنا مهتريء مثله ..قميصي لم يجف بعد ..تمتصه نوايا السفينة ..يمتطيه زبد البحر ..
-لك ما تريد ..
وسكت الإسكافي عن النقر ..في باحة القرية ..بينما ظلت أمواج البحر تتلاطم ...البحرأزرق..هذا لونه لم يتغير ..ولم يتلون بلون السماء ..نام ..نام ..نام ..وهربت الجوكاندا الوديعة إلى حيث لا أدري ..سألوني عنها ..
قلت : كانت جارة الخوف ..وجارة الحطاب المفترس ..
قالوا :( أصابتها إغفاءة فقط ..) البحر هو الذي نام ..نام ..نام ..
وأستيقظ الحطاب المفترس .
سألوني عن الكل ..عن الشكل : ..الحطاب المفترس ..شجرة التوت والزيتون .والتين الحمقاء ..وبقايا البلوط العالق في الشجرة ..يتطاير صوب جهات متفرقة ..وفي كل الأرجاء ...
وقالت الجدة : سافر ذات يوم ماطر ..غائم إلى (مرية ) ليقتات من صفاء السماء وكدرها..وخزي الزمن..وأحجمت -عمدا- عن الأجوبة الأخرى ..وباقي الإنشغالات ..وأجهشت بالبكاء ...
أجواء المدن كنقر الإسكافي الذي سكت ..وجمجمة البحر أكذوبة الجرائد ..وجف القلم .
*** ***
سطوح الأبنية أصابها الرأب ..والصدع ..كلها بدون إستثناء ..ومصنع الآجر الأحمر ..تتهاطل عليه الطلبات ..والهدايا..وخزي الرشاوي ..ومناقصات على أغلفتها الخارجية هذه العبارة ( لا تفتح ).
ووصينا الإنسان بوطنه حسنا..وحبا جما ..
JE PENSE
TU PENSES
IL PENSE
- أكمل الباقي عمي الطاهر :
je mange
-tu manges
il mange
-أكمل عمي الطاهر الباقي :
j'accède
tu accèdes
il (elle) accède
أختم عمي الطاهر :
j'abrège.
-tu abrèges.
-il ( sans elle) abrège
-شكرا..وذخر الباقي ..لأن الجوكاندا مسحوا دعابتها..ووداعتها ..وإبتسامتها وعذريتها بفسيفساء ..الفصول الأربعة :
رعد ..مطر ..ثلج ..شمس ..وبالوشاحات الجميلة ..صلبوها وما كانت لتقوى على ذلك ..وزعوا إبتسامتها البريئة ..الغريقة على المناقصات المفتوحة..وعلى الحي والقص ..وحنكة السارد ..ما كانت لتعلم لولا قصاصات الجرائد ..ما كانت لتصلب لولا قصاصات الجرائد ..
جبلت على الطهارة .. وعلى الدنس ..وما كان لها أن تختار ..أو تفترض ..
وقد جبلت على الطهارة ..
تطأ قامتها الهيفاء ..وجيدها الفارع قاع الموج والبحر ..وما لها أن تختار ..
..هكذا جاء في قصاصات الجرائد ..
أنا ملك الأمواج ..
مهازل..مهازل ..مهازل ..
أدرجوها مادة في دفتر الأعباء ..وماكان لها أن ترفض ..وشحوها بعويلها وطهارتها ..وطرحوها للمزاد العلني في باحة قريتك ..وباقي المداشر والمدن ..وأنت مازلت قابعا تحت إبط السفينة ..لا تحرك ساكنا..أو ماذا تفعل..أراك لا تتحرك
؟ -tu penses
-j'accède
وأنت ؟
j'abrège

لك ما تريد ..لا تنس أن الجوكاندا ما تزال في اليوم تواصل رحلتها ..ودوفوكو في براري تمنراست والأبيض سيدي الشيخ يغازل الأهالي .-
-tu penses.
*** ***
لهم الروابي ..ولنا دفتر الأعباء ..هكذا : je pense
لكن لا تخف .عمي الطاهر ..أوراق العودة معي ..الأوراق الأصلية ..في خزانتي ..أغفلتها دفاتر الأعباء .جاءت في أخبار إفيان .ومائه العذب ..
*** ***
عمي الطاهر ..كل أهالي القرية كانوا يسمعونك تتحدث عن مصالي الحاج ..وعن النورمندي ..وجيش الألمان ..وخبز ( الفوقاس ) كانوا يسمونك هكذا ( الفوقاس ) ..أنت الوحيد في القرية ..كنت تملك جهاز (TSF )
نحن كذلك نسميه ..( التيساف ) ..
يحجم عمي الطاهر عن الحديث .. كانت شفتاه ترتجفان ..
****
السيجارة السميكة ( تحت الأذن ) وأنت تتأبط السفينة ..ماذا تفعل؟ إنك تنحت شيئا ما على رحم السفينة .. بمسمار يعلوه الصدأ ..بمعية إبرة ( سميكة 'وشيء يشبه ( كحل النساء ) ...تغمس مرة ( الكحل ) في (دواة ) ..وبيدك الأخرى تدغدغ إبط السفينة ..ماذا تفعل ..ماذا وراءك ..(أشبع فضولي ) ..
ومرات عديدة تتمتم وتهلوس ، ماذا تقول ( أشبع فضولي ) ..تنقش أحرفا باللاتينية ..وزندك الموشوم بأفعى -تتلوى - وتقترب من كفك ..سميكة هي أيضا ..يحاذيها قلب ( موشوم ) أيضا وعبارة : pas de chance
... عمي الطاهر يعاقر النساء ..والخمر ..كثيرا ..يسمع الشيخ العفريت ..ممتليء بالتفاصيل ..ممتليء أيضا بالمخزونات ..ومقاطع من أغاني الريميتي الهجينة ..الماجنة .هذا ما أوردته الرياح ..عنه وهذا ما هو مشاع عنه .. لون الورق أخضر ..ولون الحرباء لايتغير ..عنده بالرغم من الإشاعات .حتى لو كان العكس ..صرف جزءا من شبابه في سعيدة ..في وهران ..وفي ديان بيان فو ..رجل حليم ..يتأسف كثيرا على الذين سكبوا دماءهم خارج الحدود ..نكس عيناه ..ليس من عادته ..وأنا واقف أمامه ..أعارني إلتفاتة بعينين يكسوهما البياض ..ثم أطرق وأنتكس .. كانت حمائم المرسى بين جيئة وذهاب ..
..تطير وتحط على رصيف (المرسى ) .كان يرشقها بعينيه ..يطرق ويرشق ..وأنا منتصب أمامه أتفرج ..نكس عينيه من جديد ..فيما أقتربت حمامة منا .
قال : غادر المكان فورا ..الآن لي شأن خاص مع هذه الحمائم .
كان الوشم بساعده يبرق ويتلألأ ..يملأ المدى والمدار ..وماء البحر القريب من المرسى ( يمزج ) الوشم الساقط على صفحة الماء ( بالإنعكاس ) ..الشمس كانت حارة ..تنذر بيوم قائظ ..وسكون بحر ..ووفرة في الإصطياد ..؟
وكنت أبتعد عنه ..
رشقني ..صعقني بصوت مزعج ..أصابني بنظرة حادة ..وصوت ( غليظ ) ..إلتقطته أبتعد من بعيد :
-خذ هذه الملاءة ..وغط عورة الجوكاندا .. سيأتي يوم ترتقي فيه إلى مصاف ( ملاح ) ..وتعلق له النياشين ..لا تشغل بالك بالبحث عنها ..وعن هويتها ( لا تكن فضوليا ) سيأتي يوم أتولى أمرها.
إلتفتت لهول (الصعقة ) وما بدا لي..؟؟
--لك ما تريد ..كانت لحظة الفصل ..وأشاح بوجهه عني ...
كنت أحمل الملاءة وأبتعد عنه ..
جاءت ريح همزى ..نزعها مني ..قلت للريح " قايضيني " بسعفة نخلة ..إعطني ( الملاءة ) أعطك ماعندي من ذبح في ( الحلق ) الذبيح ..وجف القلم ..
*** ****
كانت ( الملاءة ) أرجوحة في الماء البعيد ..
وتوهج بريق في عيني وأنا ألمحها ..أرشقها بعيني ..كان رذاذ المطر يختلط بدمعي ..وكان المدى بعيدا ..بعيدا ..رميت جبهة البحر بناظري لإلتقاط الجوكاندا ومجاهلها ..أو على الأقل أمسك حفنة من ماء البحر ..نظري كان صنارة (خائبة ) .كنت أرنو على الأقل إلى خصلة منها ..أو الضفيرة العائمة ..أتوسدها ..فلا الريح مالت -في صالحي - ولا الرذاذ توقف..وأفلت الضفيرة فتحت قفل الماضي العتيق ..تلذذت بتقليم أظافري وسماع أحاجي صنهاجة وزناتة ..كنت أجثم على المرفأ أقتات الريح ..ورذاذ المطر والماء الذي بدأ يسخن ..أوهمت نفسي بأنني أنا السارد ..وأنا الراوي لحكايات زناتة ..وصنهاجة ..وبقية البربر ..والذين أطلوا من جبل (مرجاجو ) وأقتحموا مغاراته عبر تعاقب الأزمنة .مغراوة وغيرهم ..
راقصت الضفاف .كان مسكني الماء والمدى البعيد والأحاجي ..وكنت كلما أقلم ظفرا من أظافري العشرة أرمه في البحر .وأحتفظ بالباقي ..بقايا أظافري العشرة ..لم أكملها ..تذكرت أن هذا المدى تسكنه ( عروس البحر ) ..تملكني الرعب .غادرت المكان ..في وجل ..ساورني (الطموح ) .عدت إلى المكان ..علني أظفر بعشق عروسة البحر ..فأتخذها خليلة ..توهمت ذلك .
كان طموحا زائدا مفرطا ..
فتحت دفتري مرة أخرى على قفل ماض ثان ..على أحاجي جدتي ..وأيام صباي ..واصلت تقليم الأظافر العشرة ..نشب شجار في (مخيلتي ) بين أن أركب (ظهر) عروس البحر فتوصلني إلى الجوكاندا ومجاهيلها ..أو أن أركن للأحاجي ..فركنت لسماع عمي الطاهر ..يحدثني عن مجيئه ذات دهر إلى القرية ..
وسبب هجرته منها ..وعن أبعادها.
قال لي عمي الطاهرذات مرة:-تكبر وتعرف من هو مصالي الحاج ..ودوفوكو وهتلر ..
غمغمت بداخلي : لماذا أقحم نفسي فيما لا يعنيني ..، غير أنني تداركت الأمر بأنني خاطبت ذات مرة دوفانشي عندما ( عيرني ) فلماذا لا أكون كبيرا مثل البحر الذي إبتلع الجوكاندا ..
*** ***
حانة المرفأ كانت تغص بالصيادين ...النورماندي..كانت في إحدى العيون ..والوباء الفتاك الذي جرف القرية كان يدور في المخيلة ..كان يدور في (كأس ) الوقت المحتدم ب( الكؤوس ) و(مرية ) البحر والخمر ..ورقص الغواني ..والسمك ( القطعة ) على ( الصحون ) يدور كما تدور الجوكاندا في متاهاتها ومجاهيلها ..حبات (زيتون ) على إناء صغير ..وقهقهات موح ( السبنيولي ) تزعج الحاضرين ..حساء السمك . soupe de poisson ..ومنضدة من خشب ..مساميرها بارزة ..فسيفساء ..تتوسطها أحرف مبعثرة منها vive la quille .وموح السبنيولي ..ما تزال قهقهاته تملأ المخمرة .. ضجيج المكان يرسم خيطا بينه وبين الوباء ..الذي يفتك بالقرية ..والأبناء الستة ..ومباركة ( الجرباء ) ..وهتلر منهمك في (شي) اليهود في الفرن ..يصنع ( منهم ) الصابون ..وأحاديث عن خراطة ..سطيف ..قالمة ..ومظاهرات سعيدة ..تقطع الحبل الواهن ..المتين ..وتتوسط مخيلته ..ينهض ..يجذبه موح السبنيولي ..
-أجلس يالطاهر الشيوعي ..الصحراوي ..( الفابريكة ) .وين غادي ؟
تتوالى إخفاقاته ..يرحل عن المكان إلى الزمن ..ثم إلى المكان مرة ثانية يجد نفسه أمام مسمار يشبه مسمار المنضدة بالمخمرة ..كان تحت إبط السفينة ..( سكران ويعرف باب دارو ) ..مع الغروب وهو ينحت شيئا ما ..
--مسح فمه مما علق به من بقايا " الزبد " وهشم مرآة اللحظة التي عاشها في الحانة ..
وأحتشد وحده تحت إبط السفينة ..
تقيأ الحساء ..باللحطة الأم ..يخلق جنودا ومعارضين ..أنشأ جبهة مضادة للتيار ..كان يردد دائما ..من هو الجندي المجهول ..ولماذا ينصبون التماثيل حوله ..ويدثرونه بالماء والماء والطين ..والرخام ..يسمونه " النصب التذكاري " (القيأ ) جنود ..والمسمار معول لنحت قادم ..في ماض قادم من الجدري الذي فتك بالقرية ..والعشيرة ..
(فكك) قهقهات موح السبنيولي ..كاللولب الذي ينخر لحمه ..وغزا نخيل آسيا (التزيينية ) بواسطة (عفن ) .(القيأ ) ..ورماد ( الفوقاس ) وفرن هتلر .
اللخظة عائمة في وشم زنده الذي لا تغادره أفعى ملتوية ..وذكريات ( حمو الدين الغياط ) ..تنتمي ..تنتمي ..إلى ...(....).
تتسمر مثلما يتسمر المسمار ..تحت إبط السفينة ..(إستذكر )
-وين غادي يالفابريكة ؟
سيدي ( بليح الطنك ) : أشكون أداك للبحر يالفابريكة ..أداك الباسبور لخضر ولا أداتك الفابريكة ؟
-الملح بي وهواء مرساي يالوجدي خويا ؟
(أضرب خط الرمل ، ماراك عارف والو يا بليح ) إبق على خير يالطنك ..(سكران ويعرف باب دارو ) ..
**** ***
الجوكاندا ما زالت عائمة ..والضفيرة ما زالت تمخر عباب البحر ..
أسمع يالسامع ( الشمة ولات حليب ) .
أخبط راسك على الحيط ..نقولها يا نكار الملح والخير ..
الملح أكل قاع البحر ..السفر إلى خزائنه لم ينته ..والبحر لم يكن ( مالحا ) لولا ذرات الريح ..وأكاذيب الصحف ..قضم البحر أظافري الباقية ..بدون تقليم ..لعنة الله على هذا البحر الأكول ..الذي لطم وجهه ..
من أخذ المنشفة ، قالت وماتت ..لا أدري من يكون هذا ؟ لعله المجداف ..ولعله الخوف ..لعله الأسر ..ولعله التيه ..قال هذا عمي الطاهر ..ومات ..
من يبكي معي ويستبكيني ..يرثيني وأرثيه ..؟
كل الناس أصابهم الوباء في القرية ..وكلهم يعزفون على وتر واحد ..من يجرؤ على (تمزيق ) خده ..حتى نساء القرية أصابهن العزف الأحادي ..مسكينة هذه القرية أصابها الجدب ..من ينهض بها ؟ ..من ( يمرق ) إلى الساحة للتباري ..
ترملت القرية إلا من نخيلها ..وغبارها ..الغبار لا يجدي ..والنخيل في أعلى السماء .من يغوص إلى قاع البحر ..وينتشل الضفيرة ..أو يكتب خبرا على النكبة .في الصحف الصباحية ..من ..من ..ياعمي الطاهر ؟ ..
السارد أنا ..والمارد أنا ..القرية لم تترمل ..هذه أقوال صحف ..
-وين غادي (يالفابريكة ) ؟
-غادي لمارساي ..إلا أكتب الله ..
-خل البئر بغطاه ..
*** ***
اللجنة المشكلة لهذا ( الغرض ) تفتح أظرفة المناقصات ..وتعلن النتائج ..المدن المستباحة ..ومصانع الآجر الأحمر التي تلقت الهدايا..فازت بالمناقصة ..مبروك ..مبروك ..
ينتشر الخبر بالقرية ...المارقون للمارقات ..والطيبون للطيبات ..للطيبين وللطيبات ..وللمارقين والمارقات ..( خلطها تصفى ) ( أدهن السير إسير ) زيد يا مسعود ..والكل يصغي ..
*** ****
-وين غادي يالطاهر الفابريكة ..الشيوعي ؟
-إلا كتب ربي للهاوية ياخويا الطيب
-مبروك عليك ..أفتح الأظرفة معهم ..لعلك تلامس شيئا ما علق بالمظروف ..
-مثلا ؟
-ضفيرة حنان ..
- je pense pas
وين غادي يالشيوعي الفايح ياولد الكلبة ..
إلا أكتب ربي للخاوية ياخويا الوجدي .....
افتح فرن هتلر.. تجد دوفوكو لا اليهود ..تجد ماركس لا الهنود ..وأفتح الأظرفة ..ربما تجد وشم الأفعى التي تلازم ساعدك وزندك المفتول ..
ألعب " الدومينو" مع خيرة (الموشمة ) في بيت (لالها ) .
-أزعف شويا يافايح الإبط ..يا بارد القلب ..
*** ***
من يجرؤ أن يعوض في الهجاء الفرزدق..أو جرير .
- لا أحد ..سوى القياد ..ياعمي الطاهر ..
-من يجرؤ على تلبية الدعوة ..فرن هتلر وإلا قبعة الهنود ..
- أكمل (الحمر ) يالوجدي ..
-نسيتها ..سقطتت في قاع البئر ..
-أسرقها وأسرق ( خانة ) خيرة ..
-نسيتها ..سقطت في حجر جرير ..
-هكذا نبغيك يالوجدي خويا ..
*** ***
أنا الأنا ..والماضي بحاضره أنا في ( الأنا طز في الفلاسفة
طز في ديكارت ..في سارتر ..في دوركايم ..في كانط
أنا (نبغي) خيرة وأفلاطون ..
طز في هيمنقواي ..
أنا نبغي ماركس والدين الأفيون ..
طز فيك ..وفيه وفي غيرو ..أشرب " بيرتك " وسكتنا يا فايح الإبط ..أزعف شويا ..ولا نوض من ( الطابلة ) ..البيرة لماليها ..والسياسة لسيادي وسيادك ..
-قلتها ياخويا الوجدي .. ها خمستك ..
-بايع لهم .طز فيك ..
أهبلت ..يالفابريكة ..هبلك الحفير ..والزلط ..وغدوة ( إصح لك الريح ) . -يرحم والديك ( أخط ملتي ) .
المناقصات تفتح تباعا ..وتغلق تباعا ..هكذا تنبأ ( القوال ) سيدي الشيخ ..وتوزع ( الخيرات ) بالتساوي واللاتساوي ..(تتقسم الغلة ) (ويجري الماء في الحيط ) .(والسلك في الخيط )
- هاخمستة ياسيد القوال ( ياسيد الشيخ ..ولد الأحرار ..ولد سيدي محمد بلخير ..ياولد الأصلاب ..ولد سيدي التاج .. ولد الشيخ بوعمامة ..يا مول الخصلات .
-راك تشعر يالفابريكة الشيوعي ..أشرب " بيرتك " " ppa " ( طار حمامها ) بركانا من التفلسيف .
ويتراشقان بالألفاظ ..(العين في العين ) وفي (المستور )( مخابيء ) ..هكذا قال القوال ولد سيدي الشيخ ( زين الخصلات ) ولد لفحل بلخير ( زين الهدات ) ..تبتسم الجوكاندا في منفاها ..تذروها الرياح قصيدة لبلخير ..مع نسائم الأطلس في فيافي الشيح ونبات (الحلفاء ) وحوافر الجياد.....(بين الخيثر والبيض) ..جبال العمور ..و(أكسال) والقصور ..يتراقص وجدانها ..في نبضات ( الكأس ) المترعة ب(الفلسفة) و(عصير ) ( الروج))(المعسكري) الخاثر ..
عمر راسك ياخويا الجودي .يا موح.السبنيولي ..ولد (الهجالة)
- هاخمستك ياولد الزناتية ..
- أضرب عليها شامخة ياولد الريفية ( الشاوية ..الشلحية ..الفحلة ) .
-هكذا نبغيك يا الزناتي .. السمغوني ..خويا ..
-دلالي ..دلالي .وينك يازينة لرشام ..
-وينك ياالضاوية يالساكنة في لرجام ...
كانت حمامات (المرسى ) تنقر حبات قمح تناثرت على الرصيف ....وكانت نسيمات الريح تترنح هي أيضا ...
الدهر ..مبتدأ وخبر ....
-هاخمستك يالبوجادي خويا ..يا وكال الجيفة ..يالخنزير..
-من تعني ؟
-المبتدأ والخبر ..
رحل الملاحون .. الصحف الصباحية ..تناثرت هي الأخرى أوراقها ..وافتتاحياتها ..وكمن يستر ( فضيحة عائلية ..تجلب العار ..تتستر تحت (عفن) الجيفة .. تحت لواء "الخط الإفتتاحي " لكل منها ..هروبا من رقابة القاريء ..والمراقب - معا-
السنوسي ..مصفف بإحدى الجرائد ..مصحح ..مخرج بها ..وعامل في المطبعة .. يتقاضى أجرا على الوشاية ومسح الأحذية ..يسحبها مع مطلع كل فجر..ينفض الغبار على les dépêches " يعمل بدون توقف ..يكتب مقالاته بالتقريرية "اللازمة " الضرورية التي تقتضيها المصلحة "العامة" ، يناصر ملاكما مميزا لديه ..منبوذ في أوساط الشبان وحتى الشيوخ ..يعرف عمي الطاهر مثلما يعرفه شبان الحي .. هوالذي أطعم الحمامة (من جوع وأمنها من خوف)..
إختفى في ركام الأوراق ..بحثنا عنه في الماضي والحاضر ..وجدناه في مقولة : دوركايم :( الإنسان أسير ماضيه ) ..وجدناه في تقريرية الروايات ...خاصة روايات دونكشوت ..جرجي زيدان ..ووجدناه أيضا يتسلق أقمصة الفرابي ..إبن رشد ...أعور هو كذلك مثل البحر ..دحض البحر ..وأغتال المسار ( الربعيني ). وقالوا عنه أيضا ( من الأجلاف ) .
( ملح جلدك من جلدوا ) تعثر على الجوكاندا ...قالت الجدة عنه ..وهي أصدق ( القائلين ) .
- أربح ياولد الناس ..خيرة راهي تستنى في دار ( لالها ) ..قال طفل أشعت ناداه من بعيد ..؟
أنا السارد ..أنا المارد ..أنا سارق الأشرعة ..آمنت بالمدى ..(والهدي)وثرثرة البحر ( لكن مع هذا مزقت الشراع ..وأقحمت ( قسرا) (قمحا) في فم الحمامة الوديعة التي كانت تنتظر... وأتلفت LES DEPECHES.
أنا (الأنا ) دائما ..بل أنا طيفه ..أنا إبن طفيل .القارب على القارب ..هكذا تتوهم الأحاجي ..كانط الفيلسوف الألماني ..(يتيم الأب ).يبوح في أعقاب الظهيرة ..ويبوء بالليل ..هكذا جاء في الأثر ..
وجبلت الجوكاندا على الطاعـــة .
*** ***
خيرة بنت المشري ..بنت الدلال ..ضبطوها مع راعي القرية ..صلبوها على ( طرف ) الوادي ..هجاها قوال القرية الجوال ..لم تدفع (الجزية ) ..ولم تدفن بمقبرة القرية ...لأنها ( ...) لكن الراعي أكرموه ..بعدما فكوا أسره وقيوده....لأنه يرعى قطيعهم ..هذه الأخبار جاءت من القرية ..لم تشر إليها الصحف ....وردت فقط في: LES DEPECHES ...الخنزير الذي كان يهدد المراعي والحقول ..هو الآخر إقتنصه الصيادون ...خيرة الموشمة ( ماتت) ..إرتح ياعمي الطاهر ( نفخوا بطبها ) بالذي يفرخ البنين والبنات ..كلهم (....) عليها ..إرتح ياعمي الطاهر ..هذه (واحدة) سقطت من السبحة ..والعقبال للباقي منهن ...
**بـــــــوح :
-روح شوف شغلك ..
يغمغم ويجهر ..يحاور نفسه : خيرة سكرت معاها في فيرمة بن حليمة .
(سعيدة بعيدة والماشينة غالية ) .
الزهراء المعسكرية ..بنت لجواد ..ولمجاد بنت سيدي قادة ..بنت المقطع ..لم أممسها بسوء ..في خصلتها كنت ألمح ( الأمير ) ..كنت ألمح عاري ..وعار القبيلة ..(والسرج المذهب ) ..فتكت بالباقيات ..أبوح في الظهيرة ..وأبوء بالليل ( خيرة جابتها الطريق برك ) .
-درتها كحلة من التوت يالفابريكة الموشم
-الدمار ..ياخويا الوجدي ..واش أدير .الصغر ياخويا الوجدي .صغري كان أهبال ...
تنتشله الجوكاندا من هذيانه ..يحس بوخز في ركبته ..يتألم ..يمرر يده ..عليها ..يبوء : الآن فتكت بي ..أيها الخنزير الملازم لركبتي ..
ركبتي دكت أسوار وأرض بيان فو ..والنورماندي ..وشاركت في تحريض الناس حتى أترابي من السكارى على وجد الوطن ... لم أنهش خيرة ..الكلاب نهشوها قبلي ..كنت كالذي يقضي حاجته في الخلاء ..كانت لهفتي أن أنتقم للوطن ولو بالرذيلة ..لم ألتهم (خيرة ) في فيرمة بن حليمة حبا في البغاء ..كانت نكاية في الخنزير ..كنت أنحت على جسدها خزيي في ديان بيان فو والنورماندي ..(خنازير ) ...وأنحت وجد الوطن بالزذيلة ..وبالفضيلة ..في مساري ..لأنزع شوك (خيرة ) التي كانت عارا على القبيلة ...( الجعافرة ..لوهايبة سيادي من لجواد ..من لخيار .. .) عرضت عليها النضال ..قالت : أنت وجه النضال يابوراس ) ...
انت مليانة قبلتي ..كان سيدي بن يوسف ..وكان ما تحت خصرها جنوني وأنتقامي أبوح ولا أبالي .. خيرة باعت أشعار محمد بلخير في مزابل وحواشي مزرعة بن حليمة ..وفي باقي أجزاء وجدي ..
*** ****
أه ..نوال السعداوي ..جاء أوانك لترتطمي بالماء الزلج ..والملح ..وكثرة الخزي..مع سبق الإصرار ووفرة الأحاجي ..
من قال أنك ( نهضوية ) الصحف هي التي قالت ..من حباك وزن الشوك وحجمه حتى تتوسدي صفحة الماء ..إنها مادام سيمون دي بوفوار..وخانة (خيرة ) ..وفي الواجهة الأخرى (أنا) والآخرون ....( الشيخ ) لافيجري ..شارل العاشر ...ودايات حسين داي ..الشباب منهم والشيوخ والعجزة ..والذين (يسحبون القيظ) بالمروحة .. وينثرون القمح ..على مرافيء الأرصفة ليلتقطه القراصنة ..بابا عروج رجل طيب ..ماذا ترين ..سيدتي نوال السعداوي ؟
-بابا عروج ناس أملاح .
شارل العاشر لداي حسين داي :( السن بالسن والباديء أظلم ) .
بارك الله فيك ..يجيب عمي الطاهر من بعيد ..(بناتنا الأيام ) .
-دز أمعاهم ..تردف عمتي من أمي ..وطلاسم البدو الرحل ...
حمائم الشق الآخر تنقر ما تبقى من قمح القراصنة في عرض البحر..وعلى الأرصفة ..ولا تطعم الجوكاندا الجائعة ..من قمح المرافيء الموزع على بواخر الناس بدون تمييز ..وسقطت حبات قمح من ( أعالي ) المروحة ..
قال الداي : (خلصونا يرحم والديكم في اللي نسالوكم ؟) ..كانت الريح التي هبت من (أعالي) المروحة تملأ فم الجوكاندا ب( طيبة) بابا عروج ..وكان البحر للقراصنة ملح يقتات منه كل الناس ..وكان ( الشيخ) لافيجري على مرمى (نظر) ينظر إلى موح السبنيولي بعين الرأفة ..وهو ( سكران ) ..
خذي ما أعطاك الله ياسيدتي نوال السعداوي .( خلينا من الهدرة الزايدة ).
كم الساعة الآن قالت سيمون دي بوفوار ..أجاب سارتر : الواحدة بعد منتصف القرن الحالي ..وقالت (خيرة مولاة الخانة) : ( سعيدة بعيدة والماشينة غالية ) ، إلتفتت إلى سارتر ..أضافت : لماذا رفضت جائزة نوبل الممنوحة لك ؟
-قال : ( سعيدة بعيدة والماشينة غالية ؟ ) .
( أفهم يا الفاهم الشمة ولات حليب ،ردد صدى من حيث لا ندري ؟؟) .
وتزوج الزمن الزمن ..في الكاثدرائية وفي مجامع بني عباس ، كان دوفوكو يعقد القران ، فيما كان أستاذه لا فيرجري يزكي ، ويصفق ويطعم المدعويين ، كانوا من الحواضر ، ومن طوارق تمنراست وشيوخ الأبيض سيدي الشيخ ومرتفعات منطقة القبائل ، كلهم حضروا مراسيم الحفل ...هكذا أوردت مختلف الصحف الصباحية ..
إنزلقت الدقائق ...وتدحرجت من (توات ) إلى أن وصلت إبط السفينة ..
الأم لخالتي :
-ماذا كان يقصد عمي الطاهر بمليانة عندما كان يعاقر خيرة وهي تتأوه كالقطة ..وتقول : النضال وجهك يابوراس ؟
-( أسكت رانا مخلطين ..)
السفر الثالث من الأحبار وخوذة العسكري المعمر في فيرمة (بن حليمة) :
-نعم رانا مخلطين ..
-أفهم ياخويا الوجدي ( الشمة ولات حليب ) .
*** ***
الحطاب عقل الإبل ..ووخز الركبة ..كمن إعتمر ولم يكمل المناسك ..عن جهل ..يؤلم عمي الطاهر الفابريكة ..وعمتي من الطهارة تكثر من فضولها ..الوباء ما يفتأ يفتك بالقرية ..حتى الأثرياء هذه المرة داهمهم ..لم يستثن أحدا ..ماعدا ( مباركة ) الجرباء لأنه أصابها .
الذات نموذج للغبار وللحناء وللحوانيت ..هكذا توهمت النملة التي لم يصبها الوباء ..مسكينة هذه المخلوقة .. صارعت الفيلة ..وآوت إلى جحرها ..لأن الأمر لم يكن يعنيها .
-كانت معنية هي أيضا ، قال الغراب الذي ظهر من جديد للوسوسة ..هذه إفتراءات صحف ، أردف قائلا ..وهذا إفك ..
....وعم الجهل مجددا مثلما عم العقل أرجاء البلاد ..إستثنى بقعا كانت الإبل تعقل فيها ..وكان الردم لم يتم بعد بين ( قابيل وهابيل ) والغراب الذي علمهما ( فنون ) الردم ..بحضور دوفوكو ..وأستاذه لافيجري ..بمعية شارل العاشر ...إحتار عمي الطاهر ..فقرأ ( ما تحت الكف .وما تحت الكفن ...) وإن كان لا يحفظ من الأحاجي ..غير التي لقنته إياها جدتي ..وخادمة ( الخلوة التيجانية .لالة زيدي ) و(مقدمي ) الزاوية التيجانية في (بوسمغون ) ..
وفي الذاكرة " الأجرومية" ومقاطع من " نهج البردة " وماحفظه في الكتاتيب من " ابن عاشير " "وحضرة التيجانيين " ...وعمي الطاهر مايزال تحت إبط السفينة ..
إنزوى ذات دهر تحت حائط الحانة ..أنشد :
تحت الشجرة كان الظل ..
كانت لحكايا ..كان الظل ..
كان لكلام منديل أحمر .
كان الصمت في أعماقي شجرة تحكم ..
كنت أنغيب ..كنت نتعلم ..
عاق ..عاق ...عاق ... صفق الغراب ..وأعتلى السماء ..هو الذي وشح كل الوشايات بماء البحر ..وعلم عمي الطاهر ما لم يكن يعلم ..هذا ما أفضت به جدتي لجدتي ..
كذب ..إفتراء ..إفك ..قال الغراب ..أنا لم أعلم أحدا حتى الذي جرى بين قابيل وهابيل ..لم يكن يعنني ..لولا أنني كنت أنشد ترسيم المباديء السامية للبدء ..
*** ***
رومان السمغوني ..غادر أرض الوطن إلى غير رجعة ..فرخ بنينا وبنات من نازية .في فرساي ..عقد القران بالكاثدرائية الكاثوليكية ..يلقبونه في حانة المدينة ( شومان ) ومنهم من يضيف له ( روبار) ..عقيلته ( جوليا ) ينادينها ( جازية ) ..إنسلخ من زمن الصقيع ( السمغوني ) ..قالوا عنه أنه تلقى دروسا مسائية مشعة بجامعة السربون ..قرأ (الجبل المسحور ) لتوماس مان ..ويعرف أن زوجة (مان) تدعى ( كاثيا) ...(تعلق ) بمعاهدات فرساي وثلوجها ..وأسوار الأستقراطيين ..أشاعوا عنه أيضا أنه إطلع على (النفس المسحورة ) (لرولان رومان ) .. وتأثر بدعوته إلى نبذ العنف ..ونشر الحب بين الناس ...
كان خجولا هو أيضا ..تروي جدتي ..والعهدة على الراوي ..
عاق عاق ...قال الغراب : هذا إفتراء وإفك أيضا ....كان عكس ذلك .. كان مثل الريح تهب في جميع الإتجاهات ..شرقا ..غربا ..وكان صديق عمي الطاهر .. وتوارى الغراب ..
عاق ..عاق ..عاق ...
**** ***
باحات المنافي ..في القرية العائمة (في) الوباء ..يسكنها الإنتساب ..تجار الأحمرة باعوا أحمرتهم ..ركنوا إلى (ناقوس ) المدائن ..ودوفوكو ..في رحلته المتواصلة ..يقرع طبول ( رومان السمغوني ) في فرساي ..وقد إنتسب إلى السراب .. حسب الرواة ..نزع جلده من جلد أبيه ..هكذا طالعتنا الصحف في إحدى برقياتها ..
تخوم ( السربون ) يا رومان تجيئك طيفا..تداعيات حواس ..وأسقف كنائس ..وأحمرة ( بوسمغون ) ومواسم الحصاد ..وسفوح جبل ( تمدة ) تلملم ذاكرتك ..والأخطبوط العاري يمشي ( الهوينة ) بمحاذاة ذاكرتك ...
أنت تدري ..طيب .. أنا الحاضر ،، أنا الراوي ،،أنا السارد..أنا المخاطب ..أنا 14 جويلية من كل سنة ..أنت تدري - طيب - المعنى في تخوم السربون .يغار عليك ..مثلما (تغير ) القبائل في عهد الجاهلية بلا معنى ...ماهية الهوية ..وتخوم السربون ..وأزقة فرساي ..تقارع جزءا من شجرة الصفصاف المنتصبة في منفاك الإرادي ..(أو تريده لا إردايا) (أعذر فضولي ) ..في كراستك الخيل ..والزند ..وأخبار عن صنهاجة .وزناتة ..وقبائل بني عباس ..غير بعيدة من مائك الوردي .وكراسات إبنتك من جوليا ( كاثيا ) ..
أنت تدري أن للسربون تخوم ..ولبني عباس مشارف ..وتخوم الريح ..تجيئك الأخبار بالفرنسية عبر القادمين من كل الأصقاع ..يلتبس المعنى لديك ..تشعر بالدفء ..باليأس .. تترنح للفضيلة وللرذيلة ..تقبل بحنان وأنت على أريكتك الفخمة إبنتك ( كاثيا ) ..صورك الراعشة ..على مرفإ آخر ..ترتعش تحت ظل الصفصاف ..تقتبس نهارك السربوني من نهارك ( السمغوني ) لتتم لوحتك الراعشة أيضا ..
-طيب ..
-كاثيا زوجة مان ..
-ومن أنت ؟
-شوف شغلك ..
-قالها أيضا عمي الطاهر .
*** ***
أطرك المعنى ..والمعنى ترفٌ ..وهوى جميل لكنه متعب ..
-من أين (تستسقي ) ماءك ..أمن الصفصاف ، أم من تخوم السربون؟
-شوف شغلك .
-طيب . تكبر في عينيك ( كاثيا ) وأخواتها ..من جوليا النازية ..باغت زمنك كلاعب كرة قدم ماهر لأفارقك .
-شوف شغلك .
-أزرع فيّ مساحة للدهشة لأفارفك ..
- شوف شغلك ..
-دثرني بشلالك ..وضوء أطيافك ..لأفارقك ..
- الآن فهمت من هو مصالي الحاج ..وتخوم السربون .
-قالها عمي الطاهر ..لكنني لم أكبر بعد ..
-الآن بدأت تعي ...
مرمر ..مرمر ..مرمر ..قلت ذلك وأنصرفت ..وتلاشى الظل ..والضوء ..وعزف الزمان مقطوعات من ( بيانو) رومان السمغوني ..
ذلك ما أعرف ..وأنصرفت أخيرا ..
-حسنا فعلت ..لم تكبر بعد ..
-قلت لك أن عمي الطاهر أكدها لي
-أصاب وأخطأت ...
*** *** **
أهازيج الطوارق في ضوء القمر ..لم يصلهم الضوء ..ولا الخيال .قالت عمتي من الرضاعة ..وقالت خالتي من الفضول ..واحات ميزاب أصابها ( البيوض ) لكن لم يدم .. قاومه الأعيان بالحكمة والموعظة ..
....وبني عباس تتراءى من بعيد ظبيا متعبا يجري في الفيافي . هكذا قالت تقارير ( الرحالة ) الذي مر ذات صيف من ( تبلبالة ) يحمل (الجرار) ..يطرح في كل ( بقعة ) جرة ليشرب الناس منها ..يلامسون ( نجومها ) الثمانية ..ينتعشون بماء ( الجرة ) البارد ..يلامسون ( الأنجم الثمانية ) (عددهم هكذا بالتمام والكمال ) ...الجرة قناديل الطريق ..والدرب ..والدرب عند البعض متعة الشرب بلا معنى ..
هذا (معناك ) في السربون ..وفي بني عباس و( تبلبالة) ..
-أعقر جملك ..ودع الهدهد يرى ما في الماء من السماء . البحر والسماء والنار قادمان بلاهوادة ..دعهما ..لا تتدخل ..
-ومن حاصر هذا الزمن ؟
-شوف شغلك ..
مثلما في إرتعاشة غزالة تجري على الرمال ..كانت ( الدلاء ) تتدلى من قافلة تجلب التمر من ( قورارة ) و( توات ) نحو الشمال ..نحو ( التل ) الأعمى بصير ..مثل التناقض تماما ..ومثلما أشياء أخرى كثيرة ..
كالعز والخزي والخبث أحيانا (مثلا) ..وكما الريح قادمة من أشرعة تائهة بلا معنى ...أدركت جدتي الغارقة في ( حك) رأسها معنى ( المرمر ) ..هذا ما تداولته أيضا صحف الغير ...
الغدير ..في الفيافي تشرب منه الإبل ..ويستحم فيه الأطفال ..نكهة السراب في الصحراء ..أنشودة التيه والوهم وخيال الشعراء ..بهذا المعنى يجري الشيطان في جسدي .مجرى الدم وتمشي ( بعض الوطنية ) في عروقي الخوف من ( الحركى ) لم يحن أوانه بعد ..
لا تخجلوا من السكون القادم وأنا أسكن بجوار الجدة ..كوخي من التبن والطين واللبن اللزج ..ودموعي من ماء الغدير ..وأفقي يمتد إلى ( ماوراء ) آخر ..غصن في شجرة الصفصاف ..
الجمهورية (الخامسة) لديغول ..تساوي عدد نجوم (الجرة .)
والسربون ماتزال على عهدها تنشر التنوير .
-روعتني الريح ..أصابني الصداع أصمت ( رومان ) أصابني الصدع ..
- شوف شغلك ..هذا ثمن إستفزازك ..أشرب غديرك وأسق إبلك ، وكف عن العويل ..والنحب ..ساورك ( الشك) في النجوم الثمانية التي تزين ( القربة) عفوا ( الجرة )
شربت منها .قلت .
هاها ..هاها .. الخزي لهذا الزمن الذي لم يضيء وعيك ..قالها وأنسحب حاولت أن أقتفي أثره ..كان قد توارى ..لكنني قلت :
-وأنت يا رومان ..هل أضأت دربك ؟
رشقني من بعيد ..من قريب بإلتفاتة:
-شوف شغلك ..
دنا مني ..
أردفت :
-من كنس التاريخ لأفارقك ؟
-شوف شغلك ( أخط جرتي ) يرحم والديك ..
-أخرجني من شرنقتي ..الدود يحاصرني ..
-لم يحن الوقت بعد ..
-متى يأتي ..
-شوف شغلك ..
-شرفني (بمعرفتك) ..بذذ الخلاف الحاصل بيني وبينك ..وتعال نشرب ماء الإستشراف ..أو نخب إستشرافك .. أو ماء الإستنزاف ..
-لم يحن الأوان بعد ..قالها وأحتجب كالقمر..
*** ***
سام بن نوح .هل هو سام ( العم) ؟ أشبع فضولي لأنسحب أو أحتجب ..
-شوف شغلك ..
كنت تعرف أحاجي جدتي ..وتحفظها عن ظهر قلب أيام البلوط ..تذكر ذلك جيدا ..كنت صعلوكا أنت أيضا ..رافقك اليأس وأصابك الطاعون الذي أصاب القرية ..لكنك إرتحلت قبل أن يلطمك ..تزوجت ( مسعودة ) اليتيمة الجرباء ..الكل يعرف ذلك ..منزوٍ كنت ..في أزقة ( بوسمغون ) مسقط رأسك ..ميترو باريس علمك القفز من نخلة لأخرى ..ومن وردة لأخرى ..قال أحد الوافدين من هناك السلطة لا تعي فواتير الماء ..وملح الطعام ..وشكّ (ديكارت ) غنائم في مفترق الطرق ..من يطهّر جلدي من ملحه غيرك ..ومن يلوذ بالفرار ..ومن يكظم الغيض .أو يتنفس الصعداء: ..مصالي ..لالة فاطمة نسومر ..كن لي سندا ..هذا ما أريد .
-أسراب الغيوم القادمة مع الريح ..مثل الأحاجي تجيء محملة بالغبار ..معفرة بالقدم ..ونكران الدم والذات ..وخروقات المسافات ..صنهاجة هنا ..وهناك ..وجبل طارق لم يعبره بن زياد .. وغيرها ..وحكايات الصبية حول الكانون ضربٌ من (السرد) وخرافة السرد لا تُجدي ..أهذا الذي تريد ؟
...وجاءت جدتي ..قالت ( حاشا ) : البتول والعنب والرطب ..وموائد الجياع ..وسطيف الناطق ..وقالمة التي تعصر ( أحشاءك ) كمن دفن (أقداره ) ومرغها في ثوب شهيد ..في ساحات سطيف ..وكمن دفن الجوع ..وباعه بالفرح ..هذا أنت تعبر مسافات الخوف ( لعنة الله عليك ) تقطع جسور الحب ..ونعناع الأرض اليابسة ..تمتص القرنفل ..لتضمد أوجاعك وأنت تتجول في أزقة فرساي رفقة ( كاثيا ) إبنتك .. تلامس ضفائرها ..ووجنتيها الحمروان ..يعصرك الشوق إلى أحاجي الجدة ..تلك أسعد أيامك ..
الخوف هنا .وهناك ..شكرا جدتي على هذا العتاب ..وأبتسم .
باريس لا يؤتمن جانبها ..هكذا كنت تردد دائما. ردت جدتي ..حين يداهمك الحنين ..تداهمك تخوم السربون ..تداهمك (حرارة ) صنهاجة ..زناتة ..مرر خوذتك على رأس السفينة ..وألجم طارق بن زياد ..لم يحن وقت العبور ..خذ حذرك من باريس التي لا يؤتمن جانبها ..
شكرا..شكرا..شكرا جدتي .. أنت التي وضعت أصبعك على الجرح .
الغراب من بعيد : لا هي ولا أنت .عقبة بن نافع من هناك ..هو الذي....
-دز معاهم ..
عاق ..عاق ..عاق ..لك ماتريد ، أقولها ربما لأول مرة ..
-لك ما نويت ..
....وأنت تتسلق جدران الزاوية التيجانية ..هذا مايدهشني ..
-من تكون ؟
-خوذة عسكري ..صديق الغراب ..
-آه ..جئت من أنوار باريس ..لك الحق فيها ..ولي الحق في ضفيرة كاثيا ..أن تتسلق الماضي ..تجدني مثلك أقارع السفن القادمة من بحر المانش ، لكنني لا أمتطيها لأن باريس لا يؤتمن جانبها ..قال وأستيقظ من غفوته ، حيث كان يطعم الحمائم في المرفأ دون أن يدري الريح التي ساقته إلى هناك ..وأنتفض مذعورا ..كانت كاثيا بجانبه ترشه بالماء :
-ما بك يا أبي ..
-أصابني كابوس ..ياكاثيا .. كنت شاردا ..وترجل إلى السربون ليجمع أطياف الدهر .جوليا ( كانت تتطلع إلى مدينة إسمها ( شرشال ) وبقايا الرومان فيها ، قالت في همس : شرشال ...جوليا ..شرشال ..جوليا ...رومان زوجي العزيز ..ابتسمت كاثيا التي كانت تداعب دميتها : فارس ..عبد الرحمن Rocher- noir ، (بومرداس ) ..أطبق الصمت ذاك الهذيان،..توارت القطة التي كانت بالحديقة ، وأطل الغراب: عاق عاق .. عقبة بن نافع .. طارق بن زياد ...فيما كانت خطوات رومان تتثاقل صوب السربون ..توقع لحن سنفونية (السهو) الذي كاد أن يبوح بالسر ..
*** ***
حواشي السربون يجوبها المغتربون ..يحفرون خنادق صرف المياه ..لتجديد المدينة التي لا يؤتمن جانبها ..إسمع ما قال الطائر ذات مرة ،وهو يعبر البحر نحو مارسيليا مشيا على الأقدام في السماء ..إلى بحر المانش والشمال ومنه إلى منفاه في قصر الشلالة ..غمغم رومان بصوت مبحوح ..وهو يتجه نحو السربون :
(( -سيأتيكم يوم ماطر ..ويوم تأكلون فيه ماتبقى من قمح المعمرين ..ويوم تشربون فيه ماء الغدير ..ويوم للأحاجي ويوم ( للطانبولة ) ..يوم لي ولكم .لا أعرف ماذا يختزن ..قال الطائر هذا وعاد مع العائدين إلى البلاد ..)).
وقال الغراب الأسود ...
-أصمت ، الغراب أبيض ( سيشيب) هو الآخر ..دعك من الهذيان .
الأرض داست الكرماء والتعساء معا ..في ذات سنة من 1938 ..وأستفادت عشيرة (الغربان ) من مزايا سنة 1938.. قال رومان وهو يغادر مبنى السربون ،إستوقفه رجل كان يحفر خندقا لصرف المياه : ( صحيح أن باريس لايؤتمن جانبها ؟ ) إلتفت إليه رومان ، وبنبرة حادة قال :
أصرف مياهك كما شئت ..الوقت لم يحن بعد للخوض في هذا الموضوع ...
يحتار الرجل ..يواصل حفر الخنادق المؤدية إلى حيث لا يدري ..كانت السماء تبعث ثلجا باردا ..وضبابا يغطي فجوات الخندق ..ألقى رومان نظرته الوحيدة على الفجوات ...تابع سيره نحو البيت ..خطر بباله :
(( كل الفجوات تؤدي إلى الفجوات ..تعال أيها الطائر الذي تروي الحكايات ..تعال نلتقي ونفترق - لكننا حتما - نلتقي ..)
وبصق علىالأرض .
الغراب (شاب ) ونحن لن ( نشيب ) قال واستدار صوب الرجل ..تبادلا نظرات ..إمتصها أفق ..كان الغراب يمتطي السماء ..قال : كذبتم ( لم أشب ) ..أسود أنا إلى أن تلتقيا ..وأسوار المدن لم تقفل بعد ..صنهاجة هنا ..صنهاجة هناك ..
عاق .. عاق .. عاق ..
*** ***
كاثيا تعبثُ بمنديلها ..تنتظر بشوق الأب العائد من فجوة الدهر ..تغازل قطتها ..ترمق الجوكاندا طيفا يمر .. لم تعر اللقطة أدنى إهتمام ..كانت الساعة منتصف الليل ..جاء الأب ..جاء المثعب ..عانقته ..حدتثه عن الجوكاندا التي لاحت كالطيف ..قالت :
-أبي
-كاثيا إبنتي ..
عاق.. عاق ..عاق .. هابيل ..قابيل ..
عاق ..عاق ..عاق ..رددها مرات عديدة ..ضحكت كاثيا ..أُغمي على الأب ..كانت الجوكاندا الطيف المتوارى ..صنما ..ولوحة زيتية كتب عليها "كاثيا لي ..ولك الغراب ..لي البتول ..ولك الرطب والتمر ..وللرجل الخندق ".
قالت كاثيا : الوجه الشاحب أبي ..أبي ..لا الجوكاندا ولا دوفانشي ..ولا روما القيصرية ..ولا الإغريق ..ولا ..ولا ..ولا هابيل ..وقابيل ..أنا لك .
إستيقظ الأب المغمى عليه ..عاد الغراب ..عاق ..عاق..عاق .
كانت الجرائد قد أنهت آخبار المساء ..هكذا قال مصدرها الموثوق ..وهكذا تداول الجيران الخبر في ولع ودهشة ..
الملح يتكاثر في البحر ..الجوكاندا غارقة في الوحل ..لم تصل بعد جزر صقلية ..ومنديل كاثيا مايزال يلف جيدها ..
عاق ..عاق ..عاق ..
قرابين النيل ..كُنّ مثل كاثيا جميلات يداعبن شعورهن ..وضفائرهن .وكُنّ خليلات النهر ..والتيار ..وكن خليلات النار ..
عاق ..عاق ..عاق ..
**** ****
كاثيا تلهو بدميتها ..للزمن أطوار ..وطوره هذا الذي بين يدي ..غمغم رومان وهو على الأريكة مدسوس ..
-كاثيا ..
-نعم أبي .
تعالي نلهو بدميتك ..الزمن أطوار ..وطوره هذا الذي بين يدي ..أومأت ..جاءت ..ذهبت ..غضبت ..كان الغراب دائما يطوي جناحيه حولهما ..لم يتوقف عن النعيق :
عاق ..عاق ..عاق ..
الزمن كالذي كان وراء البحر ..وكان مثل جميع الناس ..غزير الشعر والزغب كالغراب ..فأبيض شعره مثل الثلج البارد تماما ...مثل البرنوس ..ومثل الأندجينا ..
حقائبك ما تزال مشدودة ..يشدها الحنين إلى أغوارك ..وإلى أزقة ( ريان ) هل ما تزال ..أم أن كاثيا ..أفقدتك الذاكرة .
-أغرب عن وجهي ..
طيف يلوح من بعيد كالوشاح ..يخطف الدمية ..كان الغراب :
عاق ..عاق ..عاق ..
توشحت المدينة بالضباب ..
الرجل يحتار ..يواصل حفر الخنادق المؤدية إلى حيث لا يدري ..كانت السماء تبعث ثلجا باردا وضبابا يغطي فجوات الخندق ..ألقى رومان نظرته الوحيدة على الفجوات ..تابع سيره نحو بيته ..خطر بباله :( كل الفجوات تؤدي إلى الفجوات ..تعال أيها الطائر الذي تروي الحكايات ..تعال ..نلتقي ونفترق ..لكننا حتما -نلتقي ) .
وبصق على الأرض ..
الغراب ( شاب ) ونحن لا (نشيب ) قال وأدار رأسه صوب الرجل ..تبادلا النظرات ..إمتصها الأفق ..كان الغراب يطير في السماء ..قال : كذبتم ( لم أشب ) .أسود أنا إلى أن تلتقيا ..وأضاف : أسوار المدن لم تقفل بعد ..صنهاجة هنا ..صنهاجة هناك ..
عاق ..عاق..عاق ..
*** ****
كاثيا تعبث بمنديلها ..تنتظر الأب العائد من فجوة الدهر ..تغازل قطتها ..ترمق الجوكاندا طيفا يمر ..لم تعر اللحظة كامل إهتمامها ..كانت الساعة منتصف الليل بعد زمن إعتلاء ديغول للخامسة ..
جاء الأب المتعب ..كانت تعانقه بحرارة وبنشوة ..حدثثه عن الجوكاندا التي لاحت خيالا وطيفا وأفقا ...وتصدرت إبتساماتها نبرة إنتشاء لم يعهدها الأب فيها ..قالت :
-أبي ..
-كاثيا عزيزتي ..أراك منتشية اليوم ..أرى أن خوفك من الأشباح تلاشى والساعة متقدمة..؟ لعل الشبح الذي لاح يكون قد توارى إلى الأبد وقد حدثتك عن هذا ضمن الأحاجي التي أجلب لك بواسطتها نوما هادئا ..كلما جئت متأخرا من السربون ..وأنت ما تزالين في إنتظاري كعادتك ، أليس كذلك ياكاثيا .الصغيرة؟
الليل يتقدم نحو مداه ..نحو غسقه ..فنجان ( عصير النعناع ) المشروب المعهود عند رومان مايزال مطروحا على طاولة المطبخ ..وكاثيا لم تنقطع عن الوثب كأرنب بين المنضدة الخشبية من طارز لوي 16 وبين الثلاجة المملوؤة بأنواع الأجبان ..وبعض قنينات الخمر المحضر من طرف جوليا..يسرق نظرها وقد علق بذاكرتها ..من خلال أحاجي أبيها أن هذا المشروب غير مرغوب فيه عند المسلمين .. لكنها سألت أباها : لماذا أبي كل البنات في مختلف الديانات لهن ضفائر؟.
إحتار رومان لهذا ( التأمل الصادر من طفلة بريئة ..أمها جوليا تحدثها عن كل شيء ..حتى عن السن الذي تحيض فيه المرأة حتى تعرف كاثيا أن الدم يتدفق من كل الجهات ..في الحروب وفي السلم ..حدتثها بكل التفاصيل عن سيرة أبيها الذاتية وعن ظروف زواجها به ..وعن حكومة ( فيشي ) بين سنة ( 40- 43 ) وكانت تقول لها بهذه العبارة وهي تمس ضفائرها أو ( تسرح شعرها ) أن النازية غزت أوروبا ..وأن فرنسا كانت لقمة سائغة ..لها ..دمرتها ..ودمرت مبانيها ..ومعالمها .وحدتثها أيضا عن جذورها ..وأنها أنحدرت من عرق غير نازي ..لكنها ترعرعت في كنفه ..هي ذي جوليا ..وهذا هو العالق بمخيلة كاثيا..لكن كاثيا سألت أمها : لماذا يا أمي يناديك أبي ( جازية ) ..إبتسمت الأم:، قالت : ستكبرين في حضني وتعرفين أبعاد هذه التسمية ..( نحنح ) رومان :
-دعيها تنام يا جازية ..وأطبقت كاثيا جفنيها لترحل إلى عالمها الطفولي كملاك ..وتلذذت بنوم هاديء ..قبلها رومان على وجنتيها الحمراوين ، إستسلمت للنوم ، لكنها همهمت : أأطعمتما القطة بباحة البيت ؟
ردا : نامي يا عزيزتنا ..نحن نطعم كل البشر بالخير وسنابل الخير ، وسترين ..
وهبت نسيمات على حفيف الأشجار بالباحة ..وقد دنا الليل من فجره ..كانت قطة كاثيا تتسلق الشجرة لتطل على الجالسين على أريكة لوي 16 لتموء : مياو ..مياو ..مياو ..وقد ملأ رذاذ سعاله كتابا عتيقا عن الحرب العالمية الأولى كان قرب شاي ( النعناع ) لتقول له: أدخل يا أبي البرد قارس ، أنا أطعمها ..نادتها (دوجة ) بلكنة غير عربية ..فأستجابت القطة .. كانت ( دوجة ) وكاثيا على الفراش يتوسدان قصة :
la chèvre de monsieur Seguin
**** ****
الغراب لم ينم تلك الليلة ، بات يرقبها من نافذة أخرى..صاح هو الآخر : عاق ..عاق ..عاق .. قابيل ..هابيل ..عاق ..عاق ..رددها عدة مرات ..ضحكت كاثيا ..أغمي على الأب ..كانت الجوكاندا الطيف المتوارى..تطل من نافذة أخرى ..كانت صنما مصلوبا ..ولوحة زيتية كتب عليها : كاثيا لي ..ولك الغراب ..لي البتول ولك الرطب والتمر ..ولفارس الخندق ..
قالت كاثيا : الوجه الشاحب : (أبي ..أبي ..) لا الجوكاندا ولا دوفانشي ..ولا روما القيصرية ..ولا الإغريق ..ولا ..ولا .هابيل وقابيل ..أنا لك .
إستيقظ الأب المغمى عليه ..عاد الغراب ..عاق ..عاق ..عاق ..كانت الجرائد قد أنهت آخر أخبار المساء ..هكذا قال مصدرها الموثوق ..وهكذا تداول الجيران الخبر في ولع ودهشة ..
الملح ..يتكاثر في البحر ..الجوكاندا غارقة في الوحل ..وإن أطلت من النافذة .لم تصل بعد جزيرة صقلية ..ومنديل كاثيا ما يزال يزين جيدها ..يطوقه بالعقد ..والجواهر ..
عاق..عاق ..عاق ..
قرابين النيل ..كن مثل كاثيا ..جميلات ، يداعبن شعورهن ..وضفائرهن ..وكن خليلات النهر ..والتيار ..وكن خليلات النار..
عاق ..عاق ..عاق ..
*** ***
مثل الرمل ..مثل الوشم ..في فجوات صرف المياه ..غمس الرجل الشاب رجليه يبحث عن بقايا فضة أو ذهب ..أو ساعة أو أي شيء ..ربما بقايا خرقة بالية .
كان ينخر وأترابه الأرض ..والفجوات لصرف المياه ..وكانت طبقات الأرض تئن تحت الفأس ..وتحت عضلاته المفتولة . يتصارع معها ..يهوي إلى القاع ..إلى حيث الفئران والماء العفن ..وبقايا الفضلات ..يمم العمق ..ويمم أترابه شطر (جذب) التراب ..وأستغرقت العملية زهاء ما يتصبب ( قطرات ) مطر من ميزاب على أرض (رصيف ). هكذا كان عرقه يتصبب ..وهو ويهوي ..يهوي ..يغوص ..يغوص في رحم الأرض ..
-لا أحد يؤذيك قال الغراب للرجل المفتول العضلات ..واصل الحفر ..لا تتوقف أنخر رحم الأرض - هذا ليس عيبا - ولا عارا لعلك تعثر على أرض أخرى أو قوم آخرون ..واصل الحفر .هم (الذين ) إكتشفوا القارات .ولطخوا سراويل الأمل ..
عاق ..عاق ..عاق ..وأعتلى الأرجاء ..
الأرض ترج من وقع المعول والفأس ..وهو يحفر ..يحفر ..يحفر ..أترابه يسبحون في عرقهم ..ينتظرون بقايا الأتربة ..الأرض لم تجُد بشيء ..ماعدا بقايا فضلات ..وأزرار معاطف هشة ..وخرائط مهترئة ومخطوطات حرب عالمية خلت ..دمرت بشرا وأحيت أقواما وأمما ..الحفر متواصل ..والخوف متواصل .
....وأطلت دمية معفرة بالوحل ..من الوحل ..إختطفها الرجل المفتول العضلات .قال في صمت متناه : ( كنت أبحث عنك ) .سحبها بلطف وحنان .وهي نائمة بين ذراعيه مستسلمة ..مسح جزءا من وجهها ليتحقق من لون عينيها ..كانتا زرقوان ..إحتفظ بها في كيسه المملوء ببقايا قش أخرى عثر عليها ..كان ثمة عنكبوت بين القش .
*** *** ***
الأنظار مشرئبة صوب ماجلبه الحفار ..الأتراب واقفون ..يغازلون ماض عالق في ذاكرتهم ..كلهم من أرض واحدة ..بل من وطن واحد ..جذبوا ( صاحبهم ) بواسطة (حبل) إلى مستوى الأرض ..كان ثمة عنكبوت آخر ..يتجول بين طرفي الحبل ..لم يتعب من الرواح بين ( الطرفين ) وكأنه في وظيفة محددة ..الأمر بدا غريبا ..محيرا ..وبدا غير مألوف لدى الأتراب .
كلهم من أرض واحدة ..بل من وطن واحد .
عمت الوشاية كل أصقاع فرساي ..وصل صداها باريس وأرجاءها ..قالت الإشاعات والوشاية أن رجلا أسمر ..مفتول العضلات عثر على دمية بأحد الخنادق ..لم يحددها ..وهي محفوظة لديه ..هكذا إنتشر الخبر وبهذه الصيغة ..لم يتحدثوا عن أزرار المعاطف وبقايا الخرائط لحرب عالمية خلت ..ووصلت الوشاية إلى أبعد مدى ..لكنها أغفلت جرحا أصاب الرجل المفتول العضلات في مؤخرة عنقه ..
أشلاء الخبر تداولته الصحف الصباحية أيضا ...( من وشى ..ومن سرّب الوشاية ..بهذه الجملة (أُفتتحت ) أغلب الإفتتاحيات ..) ومن خضب الدمية بالحناء قبل أن تُزف عروسة ..هكذا كتبت صحف أخرى ..
وتلاشى الخبر ..وصل (الجميع ) وبيعت ( الوشاية) بالمزاد العلني ..وأختفى الغراب ..إعتزل الوشاية ؟
عاق ..عاق ..عاق ..
*** ****
الجوكاندا قادمة مع الريح ..جاء في إحدى الإشاعات ..وأغلفة الرشاوي ..لم يتمالك الغراب غضبه وصاح : لاتصدقوا الجرائد ..وأنا لم أعتزل الوشاية ولم أختف ..ولن يشيب شعري ..لن أخلف وعدي .
وأطبق الضباب (في ) فرساي سر الخطوبة ، لأنه تسرب أيضا ..وقال الغراب :أنا الذي خضبت أرجل العروس بالحناء - لا يديها - صدّقوه ورموا الوحل على العنكبوت الذي عاد إلى الخندق ليواصل بناءه الهش ..قال الغراب أيضا .
*** ****
قفز الزمن فوق الزمن ..ولم تُبع الدمية بالمزاد العلني ، أضاف الغراب : ليس بعد .
فرساي في كف عفريت ..حبس أنفاسها ..تبّا لفرساي ولأروقة السربون ..وتبّا لأكاذيب الغراب ..وتبّا لكم أيها الخونة ..صوت هامس مصحوب بمؤوجة إنبعتث من إبط السفينة ..ساقته الرياح وأشتات الوشاية ..صاح : لاتصدقوا الغراب ..هو منهم وأنا بريء منكم ومنهم .تبّا لكم جميعا .
وأنبلج الصبح .إختفى الغراب هذه المرة إلى الأبد.
كاثيا المدللة ..في كرسيها تتراخى.. تتزاحم الأفكار في خلدها ...قالت : (من لي بالدمية رفيقا أو عريسا ، أو حتى أنيسا ..وأنتشلت منديلها من الأرض ..كان الأب يستطلع ما أملته عليه أروقة السربون ..
-كبرتِ الآن يا بنيتي - الدمية للصغار - ولملم أوراقه المتناثرة وأنصرف ..
- وحكاية منتصف الليل يا أبي ؟
-لم يحن أوانها بعد .
إرتجفت شفتاها .هذا الذي حدث ..
ستائر البيت الواسعة ، أخفت جزءا من اللوحة ..وفرساي لم تأنس لنصف المعاهدات ..وعصفت الرياح عاتية قوية وتناثرت أوراق أشجار كثيرة .كانت نائمة على كف عفريت كدمية كاثيا ..
خزان الماء بأحد الشوارع نضب ، قالت بعض الأخبار في فرساي وباريس ونفتها أخبار أخرى جاءت من الحوض الأخر ..
*** **** ***
السفينة جاثمة في ميناء وهران ..والجوكاندا أغلفتها الوشايات ..تبحر وحدها حول المدار ..وطارق بن زياد لم تتداوله الأخبار .كان إنسا منسيا ..
....وعادت الصحف إلى الصدور بعد توقف دام قرابة نصف قرن ..نوارس المتوسط تتدفق على ميناء مرسيليا تنقر (الحب) على أرصفة الميناء .
وزجرت الريحُ الريحَ على الضفتين ..في حوض واحد ..كان مداه بعيدا ..قريبا ..والمزجّل كان من إبط السفينة ..والرياح كانت من الزواحف ..ونسأ النحات لوحته ..نهلت الريح ماء البحر .مثلما الجوكاندا تنهل في أعالي المدار وحدها ما تبقى من أشتات ماء ذي نهم ..وأسثناء النجم والبحر -معا- وجاءت أنواء وأنواء . سقط الغارب ..ناء الطالع ..وأبتلت الأحاجي بمروحة الداي ..هكذا جاء في الأحاجي . قال الغراب .
قال الأب : وناب القمح عن المروحة في قصر الداي ..ناحت الجوكاندا على قمح تنقره نوارس المرفأ ..ناحت وحدها وكانت أبعد مدى من زحل ..وما كان لها من مناص ، حيث كانت منارات مرسيليا تنير طريق السفن القادمة ..وتحجب ريح الجنوب القادم من صدر الحقيقة ..
**** ****
إستنهض الأب كاثيا من غفوتها ، قال :الآن جاء زمن الحكاية ..وتلك هي فصولها يا كاثيا ...سعال ينخر رئتي يا بنيتي ..أسكبي ماء وجنيتك المتصبب على الأريكة ..ودغدغي حلمي ..معلمي ..ومطمحي ..وأطري منارات مرسيليا ..قطعي أوراق الخزينة ..
هاك هذه الوسادة ..
كاثيا كانت تعبث بدميتها ..سعيدة بها ..ومزق شبح ٌ سكونهما .
****
الأب في السربون يمضغ المحاضرات ..يلتف حول أرصفة وأروقة الجامعة ..فيما الشاب المفتول العضلات يمسح بقايا ما عثر عليه في خندق المياه الوسخة ..الغراب لم يعد ..ولم يعتل السماء ..أكذوبة فقط ..جاء من أعالي بحر المونش والشمال ..وباقي الأكاذيب من (أحلاف ) آخرين ..
منتشيا عاد الأب من السربون ..عانق كاثيا ..سألها عن دميتها .كانت الجدران لوحة زيتية لم تكتمل بعد ، وكانت الريح عاتية في ذلك اليوم ..الأنظار كلها مشدودة إلى حدث وطني جدير بالتقدير
والوقفة التاريخية في إحدى ذكراها ( المجيدة ) .. أطراف فرساي كلها كانت تتحدث عن الخبر ..وأصقاع (بروفانس ) بشيء من النشوة والإبتهاج ..
كاثيا ترتمي بين أحضان أبيها ..
-عدت أبي .
-أجل ..ومن السربون ..
طيف من بعيد يشيح الفرحة بالضباب ..ويزرع كلأً في رحم الخنازير ..وحيثان اللصوص ..هكذا ورد في أحاجي الإغريق .قال الغراب الذي لم يفل .
لولب الحديد المغروس ..الممدود إلى أسفل ركبة عمي الطاهر يؤلمه ..يخزه ..عند كل (هبة) برد ..يعيقه عن النحت وهو تحت إبط السفينة ..قال القادمون من ( مرية ) ..صنهاجة وزناتة ..بقايا أثر في حاضرة السربون ..وبين دفات مكتباتها الضخمة ..وبين عيون المستشرقين الزرقاء ..
البحر أزرق مثل ( القباب ) وأخضر أحيانا مثلها قالت الأخبار والصحف ..
....ومدى المدار يتسع ..الجوكاندا جاثمة في أبعد مدى ..في أقصى الأحوال ..جاثمة ..نائمة ..عائمة ..لم تتأكد الأقوال بعد .تذرف دمعة الوحدة فوق البشر من أعلى زحل ..ومسافات التيه ..فاصلة الفواصل ..كانت سراديب السربون ..
**** ***
تفتح الحضارات وتغلق أبوابها في آن واحد ..وعمي الطاهر جاثم تحت إبط السحابة ..ينتظر هبة ريح أو شعاع شمس يكتوي به بدل السفر إلى فرنسا للعلاج ..
وينحت إبطها ....
أدارت كاثيا وجهها ..قفزت فوق صهيل الحضارات ..لم تتمالك (وحشتها ) عبثها ..قالت :
-أبي ، هل إلتقيت سارتر ؟
-كل شيء له أجله ياكاثيا ..
جوليا في المطبخ ..ترعى الحساء مثلما يرعى عمي الطاهر على الضفة الأخرى سحابة تمطر علاجا .
الحساء جاهز ياأطفال ..كانت كاثيا أول من إنتصب على الكرسي ..دميتها في يديها ..الأطفال ناموا ..دفنوا مع الشبح الذي مزق سكون الأب وكاثيا ..لم يتناولوا (العشاء الأخير ) رغرغ ( الصغير ) منهم : لا حاجة لنا بالحساء الآن ليس وقتها بعد .كانت كاثيا وحدها جالسة على الكرسي تحتسي إثنتي عشر ملعقة..طرحت ( الملعقة ) فيما كان الأب يمعن فيها .. يعدها واحدة تلو الأخرى . -لماذا توقفتِ عند هذا العدد بالذات ياكاثيا . قال مستغربا متسائلا ..
إحتقن وجهها ..قضبت حاجبيها ( هكذا جاء العدد فقط ) أجابت في إستغراب هي الأخرى وهي تعض شفتها من حدة الملاحظة ...
غمغم الأب أناشيد قديمة ..حك رأسه بغير تركيز ..تفوّه بكلمة( المسيح ) لم يضف ( عليه السلام ) حينها قالت جوليا ( وعليه السلام ) .. رشقت كاثيا .أمها بنظرة حادة ..تبادى نظرات ثاقبة ..قال الأب : مالفرق بين ( الأحبار ) والأخبار ) ؟ الأولى لا تحمل نقطة ، والثانية (.....) وصمتت ..مزق سكونهم ..إقتراب الأب من مرأة معلقة على الجدار ، إستطلع منها (حبة ) صغيرة في أعلى جبينه ، أشار إليها بأصبعه ( هذا هو الفرق ) ..وحك رأسه المعشوشب بماء (الندى) ثانية ..جوليا لم تتقدم خطوة واحدة نحو (المائدة ) كان الغراب قد سرق ما بقي في الصحن من الحساء ..ستائر النوافذ السبع العريضة ..فسحتْ له المجال ل(....) وأنصرف ..
اللوحة المرسومة على الجدار لم تكتمل بعد ..من كان يزخرفها ..لا أحد يعرف قال رومان سيكملها الرسام الفرنسي ( جورج بارك ) وربما يراجعها (بيكاسو ) إذا لم يختطفها الغراب ..قالت جوليا : لم تحدثنا عن ( أنطونيو غرامشي ) وعلاقة عمي الطاهر معه من بعيد يارومان زوجي العزيز ؟ ..وأنزوت إلى المطبخ تحضر حساء آخر ..
أنوطيو غرامشي (سجين ) واجبه. وعمي الطاهر سجين (اللولب ) .الأول مات في سجنه.والثاني يحمل النقطة التي تُثيرُ دهشتكما في ( الأخبار ) وأضاف(فرانكو) مايزال (يسرّب) (أخباره) لمن رقّت (حناجرهم ) رثاء لملكة جمال إسبانيا ذات زمن في غرناطة وعلى سواحل المغرب والجزائر ..وهم ( يعطسون ) في عرض السواحل من شدة ( الطرد) ..ياجازية بنت (العم ) يا( ربيعة ) بنت ( برشك )(1) الشرشالية ..يازوجتي العزيزة ..
عمّ الدفء أرجاء البيت الفسيح ..ياولد الزناتية ..ناوشني ..يارومان ..(مقبول) قالت مازحة .. قطة تموء خارج الفناء ، إستدارا نحوها ..إستصدرت القطة أمراً من سيدها الخادم ..كانت الخادم كلبا وكانت مناوشات أوراق أشجار سقطت من الشجرة الباسقة تعبث بها الريح مثلما تعبث كاثيا بدميتها .ومثلما تعبث الصحف بأوراقها قبل الصدور ..
قامت كاثيا عن الكرسي الوثير ..قالت في وجل :
-أبي ، أنت غارق دائما في كتبك .حدثنا ولو مرة عن الصفة الأخرى من المتوسط ..وعمن ينهي اللوحة ؟
-قلت - (جورج بارك ) وربما ينهيها بيكاسو إذا لم يختطفها الغراب ، أما عن الضفة الأخرى لم يحن وقت الحديث عنها ..
غنّت كاثيا ما تسمّر في ذاكرتها من أغان ، وراحت تداعب دميتها في لطف ..إسترق الأب تنهيدة منها .قال : إجلسي ياكاثيا ، طاب أوان الحديث :
تحت الشجرة كان الظل ..
كانت لحكاية ..وكان الطفل ..
كان لكلام منديل أحمر ..
كان الصمت في أعماقي شجرة تحكم ..
كنت أنغيب ..كنت نتعلم ..
مزلاج الباب يُفتح في سكون متناه ..كانت جوليا منتصبة تصغي :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
نطقت لمواج ..أنطقْ الظل الكبير ..
وتسرْبتْ لحكايا .
عاق ..عاق ..عاق .كان الغراب رابعهما ..
عاق ..عاق ..عاق ..إرتجفت شفتا كاثيا ( هذا ماحصل ) ..الإرتجاف عمّ الغرفة بكاملها ..واللوحة لم تنته بعد ..
*** ****
السربون تحتوي على كل التفاصيل ..والزمن فضولي بريء .هكذا غنّى النورس على مارسيليا ...الإمعان في الركض صوب الضفة الأخرى يستدعي جرأة ..(ورقصا) على البيانو ..أو نسج حكاية أخرى ..قال رومان وهو يلملم أوراقا إنحدرت من صُلب آخر .. الزمن يعوي كالذئب لكنه فضولي هو الآخر أردف رومان متحيا الغراب هذه المرة ..
جاءت جوليا ..وكاثيا ..قال رومان :
في القرية كان العم ..كان الخال ..
كانت الدنيا ظل ..
كانت هكذا الأحوال ..
قالت جوليا ، دعني أقول همسا :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
نطقت لحكايا .تبكّم الظل ..
وأطفاتْ نظرات عدايا ..
قالت كاثيا ، أبي دعني أقول عشقا :
ظلّي .في ظلّو ..
هكذا كانوا ..
تْبكّمْ ظلّي ..أنْطقْ ظلّو ..
توّغ ْ طفلي ..بَرْضَاهْ ..
ورْضايا..
أحسّ الجميع برغبة جامعة في الإنتقال إلى معنى الذات التي إختطفها الغراب ..وعمّ هوسٌ أرجاء الغرفة من جديد ..
عاق ..عاق ..وأحسّ الجميع بحاجة إلى الإنفاق ..
*** ***
كنائس المدينة كانت تصدح ..تقرع أجراسها ..وكانت خنادق المدينة تتسع هوتها ..الرجل المفتول العضلات ..يقبع قبالة الكنائس تارة ..وأخرى قبالة المزابل ..
قال (دوفوكو) هناك و(دوفوكو) هنا ، أين المفر؟
الزمن يهتريء كالفضة كما في أساطير الإغريق ..السفن قادمة من هناك .خالج الشك أوصال رومان ..كان يدنو من عتبة إحدى الكنائس في فرساي ..وكان الرجل المفتول العضلات واقفا أمام إحداها ..حملق في الرجل وأنصرف ، كأن شيئا بداخله يعتلج ..يوشك أن ينطق ..ثم مضى ..
بحر المانش ليس بقامة الزرافة ..همْهم رومان ، منه تجيء حضارات أخرى وسلوكات ، ومنه تعبر الأحاجي ..إنه ليس بقامة الزرافة أبدا ..
السارد أنا والماثل أمام هياكل الحضارات ومحاكمها وإندثارها أنا والغراب ..وأختفى الراوي ..
أحاجي الجدة لم تصلها القداسة ولا نفقات ( الفاتيكان ) ظلت طاهرة كالشمس وكعنقود عنب ، لكن ( دوفوكو) أماث اللثام عن وجهها ، فصارت خوذة للعابرين نحو الصحراء ، وقد جاؤوا من بحر المانش والشمال كما تتوارث الأخبار من أحد لأحد ..التاريخ طافح بالمرتزقة ..بيض وسود ..التاريخ ليس كعُنق الزرافة الطويل ..التاريخ يجيء من كل القارات والأصقاع ..ولا يجيء مثل عنق الزراقة من مقدمة جسدها ..هذا هو مداها ..لكنها ترى بعيدا ..وتشرب من غور الإناء ..وتشرئبّ للأشجار العالية ..تقضم أفنانها ، كما ظلت حنان تقضم أضافر الجوكاندا ..وتصغي هي الأخرى للأحاجي ..
زخات مطر على عتبة الكنيسة ..وفي المعبد تراتيل أخرى ..
رومان يلج الكنيسة ..
الرجل المفتول العضلات .(يبزق) على الأرض ..يغادر المكان إلى خندقه ..يستطلع ما توصل إليه الرفاق ..وما أنجزوه ..كان ذلك عند مهبط العتمة ..إنزوى إلى جذع شجرة ..الرفاق كانوا غادروا الخندق .يساوره الشك في نظرات ( رومان) له كل مرة ..وظفر بنوم عميق ..عميق ..عميق ..نقرات الصقيع تلسعه ..توقظه ..عقارب الساعة تدق ( منتصف الليل ) ..ينتصب كالتمثال ..في ولع يقف ..لا يتحرك ..يداه إلى أسفل فخده ..شامخا رأسه نحو العلى ..عيناه نحو المدى ..(واقفا ) واقفا ..واقفا ..يتفوه: وطنا ..وطنا ..وطنا ..وأمتطى شموخه ..رومان كان بمحاذاته يسأله ..كان قد نال منه معلومات كافية عن منشئه ..وتطلعاته ..وأسباب وقوفه مستعدا عند دقات منتصف الليل ..يسحبه من ذراعه ..زخات مطر عادت وأشتد الصقيع ..وعمّت العتمة أرجاء الشجرة ..وأفترقا ..
عمود الإنارة هو الأخر خفت ضياؤه جوليا كانت غير بعيدة عن رومان ترقب تحركاته ..تحسّبا لنوبات قلبية خفيفة تنتابه من فينة لأخرى ..غير عابئة بتدلي لحافها ..باغتثهما : (منتصف الليل له معنيين ) وأفترقا على دقات الساعة المنتصبة بالساحة ..ورذاذ المطر الذي يسقط ..
قالت الأصداء لاتفترقوا ..هو ذا زمن الإلتقاء ..
..وفرساي تمضغ وتعلك المعاهدات ...
**** ****
البحر جدار فاصل بين خبث اللحظة وعنوان الأحاجي وفقرات الجرائد ..عمر الإنارة قادم من عمود آخر لا يخفت ضوؤه عند دقات الساعة ( منتصف الليل ) هكذا أجهر رومان .
قالت جوليا : أتقصد (بيق بن )
-لك ما رود على (خاطرك ) .
-ماأسم ذاك الرجل أضافت ْ.
-فارس ولد الطاهر الفابريكة ..
وأطبق الليل جفونهم ..كل إلى متواه ..
فارس أذهله منظر رومان ، وأذهلته الحفرة العميقة في الخندق بلا نهاية ..يحفرها ..تعود الأتربة ..يحفرها ..تسكنها الفئران ..ولم يصل بعد إلى القرار .
فوانيس فرساي ..فوانيسها ..وفوانيس روشي نوار ( بومرداس ) تتلألأ في المخيلة ..يغور ..يغوص في الأعماق ..وعبد الرحمن فارس في المخيلة يدور ..الماضي عنق زرافة تأكل الماء ولا تشربه ..تشرب الأوراق ولا تأكلها ..
إستعاد فارس باحة الأجداد التي لم يسمع عنها إلا من القادمين من الضفة الأخرى ..يعي بأنه صنهاجي ..أو زناتي ..لكنه لا يفرق بينهما .ويعرف أيضا أنه من مواليد فيتنام من أم أسايوية لا بعرف لقبها ..لماذا سماه أبوه فارسا .هذا يجهله أيضا .
*** ***
وأمطرت السماوات ..قالت عجوز قادمة من جزر تعاقبت عليها الحضارات ..سارت إلى الوراء قليلا ..لتعاود النط كأرنب هارب من صياد .
قالت ك أمطرت السموات ، قالت : أنا شمطاء وضعوني في الفرن ..لطهي .وأخرجوني لأنني شمطاء لا أصلح للأكل ولا لشيء آخر ..كنت خرقة بالية ..وكنت شارعا تتعاقب على ارصفته أخاديد الأزمنة ..ذبحوني ، لكنني توسدت عنق الزرافة ن التي أنجتني من الموت المؤكد ...سحبوني من يدي اليسرى إلى جهنم ..فلفظتني لأنني لا اصلح لأي شيء ..وأحالوني على أعمدة الجرائد خبرا طريفا ..مفزعا..لأشوش على القاريء متعته ولذته في القراءة ..وملء الكلمات المتقاطعة ..جئت - قالوا- من سلّة سقطت ( لفرانكو) في غرناطة ،لست أدري ، إن كان هذا صحيحا ..هكذا قالوا ..أو جئت من شظايا ( بيق بن ) أو بقايا الجرة ذات الثمانية أنجم ..أو من أسوار يترب أو توات ..إنما هذا الأرجح ..
كاثيا تتوسد دميتها ..الجو لطيف ..فارع ..كقامة الزرافة .عمي الطاهر ظل غثيانا للبحر ..أنشودة للنوارس على مرافيء مرسيليا . هذا ماجاء في الأنباء المتعاقبة .
فارس لا يغادر الخندق ..وكان عمي الطاهر برج مراقبة ..مآله شجرة باسقة...شامخة شموخ فارس ..يرنو إليها بلا ملل ..لا يبرحها ..مثلما كانت تتسرب إلى إبطه رائحة ( رقان) ومناجم ( القنادسة ) وأنفجارات إخرى ..وبعض ما يعلق في ذاكرته مما سمعه عن مواقف ( أنطونيو غرامشي ) وتأسيسه للحزب الشيوعي الإيطالي ...يرنو إليها بلا ملل .بين شتاء وآخر ..وكلما وخزه اللولب ..
بين الشتاء والتعاسة عنق زرافة يتمطط كالحديد ( المصهّد) المصهّر .
...أن تصهر الحديد أعذب من أن تشرب الماء .قالت ذات مرة شمطاء فّرت من فيح جهنم والصحراء ..وأن تصغي لدقات ( بيق بن ) ألطف من الفرن ..وما يُختزن به .دكناء كزغب الغراب ..
بيق بن ..ساعة حائطية ..ترجلت نحو الشرق ذات دهر ..فصبغت لون البرتقال بشيب الغراب ، فتحولت الحقول إلى (صفد ) وهجرة ..وإقامة ..لعنة الله على (دقة) وبراءة بيق بن ، مهما كان الحال ،، شبيهة هي بالغراب ..لها مثيلات في فرساي وفي باريس ...
ودقت ساعة (بيق بن ) ..ترجلت نحو الشرق بأمر سيدها (بلفور) إرتعش زمن الساعات والأحوال وهدأ الموج.. رويدا ..رويدا ..لكن الجوع عمّ مناطق اهلي وعشيرتي ..وأرتحلت الأعوام هرب الملح من البحر غلى بحر ’خر ..وقد تراجعت دقات بيق بن ..توارت غطرسة باريس نحو الوراء ..دخلت جحرها كالخفاش ..وتالعت عند زبانية النار والصفد في ربوع عشيرتي ..وآوت إلى جحرها من جديد ...لأن خوذة النازية أجبرت أسوار (فيشي ) أن ترتديها لثلاثة أعوام أو ..فكانت المظلة ..وكانت الأوامر ..
جوليا تعلم هذا أكثر مني ..تشبه في صفاتها ( عائشة ) المعسكرية التي تفيأت ظلال (الشجرة المباركة ) ..وصهلت كالجواد ب(المقطع ) .هذا هو وهْن باريس كما ترويه جوليل لكاثيا عندما يصيبها الأرق .. تعي ايضا لماذا عزفت ( فاطمة نسومر) عن الزواج من (....) .باريس لا يؤتمن جانبها كما قلتُ لك .
-صدقتَ ..وصدقتِ الرؤيا ، قال رومان وقد غلبه السعال ..جاء متثاقلا من بيت مجاورة كان يطالع ما جادت به السربون ..
للسربون طقوسها ..ولجوليا .تخوم على ( فيشي )..تعرف ( فيشي ) تشرب الماء ..وتروي لكاثيا -ما صدق -ما كان وماسيكون .
كاثيا لا تفارقها دميتها ..
السعال يخنق رومان ..واوراق السربون يلفها الغبار والفوضى ..نشوة الماء تتدفق في نهر ( السين ) وغبار الأوراق وفوضاها يتسع كما تتسع الهوة لدى رومان بين الضفتين ..لم تعد تصله الأخبار من هناك (حمائم المرسى ) لم تعد تأت .
جوليا عازمة ماهرة على البيانو ..تجيد فنّ السباحة رغم تقدمها في السن ....الشهيق يزداد ..يحنق صدر رومان ..وعمي الطاهر مايزال قابعا تحت إبط السفينة يستقريء الآتي ..ويتطلع إلى أخبار الضفة الأخرى .وتباريح (الغامضين) .المندثرين ..الذين توارت أخبارهم ..واشلاؤهم في نشوة الماء المتدفق ..الرافل ..في نهر (السان)..في ذات أكتوبر بارد ..
مثل الصاعقة قادمة من هناك ..والركل على مشارف ( السان ) يعصف بالأبرياء والحاملين للون الوطن ورائحته ...
غابريا قارسيا ماركيس ..أخطأوا في هويته ..كانت القضبان مآله ..بالرغم من أنه لا يجيد إلا قليلا من الفرنسية ..
باريس لا يؤتمن جانبها ..إعتقدوه جزائريا ..أو هكذا ( بدا) لهم ،
شكرالك سارتر ..لماذا تدخلت لإنقاذه من السجن ، هل لأنك إنساني ، أم لأن قارسيا صديقك ؟ .
صفق رومان -وابتسم - وكان عليلا ..خدشه ( سعف ) كبريت بخده الأيمن ..حينما كانت جوليا تبتسم ايضا ..وتقول في حميمية : أنت يارومان علمتني مواقف قارسيا ..وخصال سارتر ..وأشياء أخرى ..ألا تتذكر سمرنا المتواصل حين تنام كاثيا ..أم أن المرض أنساك بعض الشيء ..أسرارنا الخاصة ..وميراث ( الفواصل ) .
يتوضأ رومان بريقه الجاف كقطة ، يردف : هذا زمن له طور آخر ..دعيهم يسرحون وراء الشباك ..دعي الفضاء يسرح .لا تخنقيه ..للأيام متون للذاكرة ..ومتون للحاضر ..ومتون للمستقبل ..ومتون للبداوة ..هو ذا الحاضر ..هكذا ياجوليا ..هل تتنبئين للمستقبل ؟
-لست عرافة
-لكنك نازية طيبة ..
تضحك جوليا ملء شدقيها ..
-وأنت صنهاجي ..زناتي (فايح) ..
السعال يشتد ..ينال مناله من رومان ..يتوضأ بريقه كقطة ..يعيدها مرات عديدة ..السعال يفتك به ..ونهار فرساي لا يشبه نهار باريس ..والجوكاندا ما تفتأ تقطع أفقا بعد آخر ..
كاثيا لم تغب عن ذاكرتي ، غمغم رومان وهو ( يترنح ) من السعال الحاد ..الذي إزداد ..جوليا واقفة مشدوهة ..ترمقه ..يخالطها البكاء ..يأسرها الضحك من أحاجي قديمة توارتثها عنه عبر عقد من الزواج ..تدرك أن الريح ستهب يوما ما ..كما الديك تماما ..الريح كما في ذاكرتها لها عدة أوجه ..لكنها تستقر عند مهبها..هكذا الرياح العاتية العالقة بذاكرتها ..عبر عقد من الزمن ..ليست عرافة ..كما الثلج هي ..لكنها كما الملح ..
..وقالت الريح آمين ..وقالت الأصقاع آمين ..
جثمت الريحُ على الريحِ..وذات عقد من الزمن قالت النازية للإنسانية ( يحيا سارتر الذي رفض جائزة نوبل ) .
ملح الصحراء سراب الآتي في أحاجي الإغريق وبني قحطان ..قيس لم يكن متيما بليلى ..تأبط شرا كان إنسانيا حتى النخاع ..لم يكن صعلوكا أو عربيدا أبدا ..
أصمتوا قال الغراب الذي عاد للحج ..إبتسم هو الآخر ..مثلما جوليا ..ثم إرتحل هذه المرة يوزع حلوى العيد و(الأعياد) ورنات الكنائس على ضفاف الفاتيكان ..وعلى العابرين لمضيق هرمز أو القادمين من ( بحر العرب ) وجبل طارق وعبر المانش ...
إحتفل الدهر بميلاد المسيح ..وبكت الخنساء على (صقر) أمام كنائس فرساي ، وأكاديمية فيينا ( لمنح) الجوائز ..لم تدع لفارس دموعا يرثي بها كاثيا ..ولا لأبرهة الحبشي معبدا غير الكعبة قبل أن تسقط أحجار (أبابيل ) على رؤوس ( الفيلة) في ( الربع الخالي ) .جوليا ومريم ( البتول ) وأبو ذر الغفاري ( عانقوا ) الرمل ..وكان ثمة ( صنهاجي ) ..زناتي ..يتوارث (الأفراد) والأمثال العربية ..يتشبت بقميص ( معاوية ) ..ووراء أسوار (الطائف ) أحجار ( الماس ) وفي اللوفر ( جوكاندا) مستنسخة .كما الريح والحضارات ..إستنسختها الفتوحات وأشرعة الملاحين ..من الفنيقيين ..إلى الرومان ..وأباطرة التاريخ ..وكذا( الطيبين ) من الخوارج ..وسفن ( الأسبان ) على سواحل وهران ..
(واه) .أصمتوا أصمتوا ياخونة التاريخ .قال رومان الذي كان يصغي لجوليا ..شرشال هي ( جوليا ) أضاف وأغمض عينيه قبل أن يتوضأ كالقطة ويسند ظهره للريح .وقبل أن يأخذ جرعة ( النعناع ) اليابس ..ويزداد سعاله الحاد ...كانت القطة تموء .ترمقها جوليا من وراء النافذة ..الريح عاتية على أسطح الكنائس وغبار العجاج في ( الربع الخالي ) يعرقل هرولة أبي ذر الغفاري ..هكذا بدا للغراب الأصم جو الصحراء والقحطانيين ..
عمي الطاهر ينخر إبط السفينة ، ينخر حاضر ( تاوغزوت ) في بوسمغون و( حضرموت ) في اليمن ..وبقايا ( الفلفل ) المجفف على الأسطح ( وحضرة ) التيجانيين ( بالخلوة ) ..
ملكة جمال إسبانيا لم تمسح مساحيقها لأن ( فرانكو) حبس دموعها كما حبست الحضارات باقي (الموميات) المحنطة ورشتها مياه النيل ..وتوابل ( الفراعنة ) التي (لا تحول ) مثل الدهر والخبز و( صفار البيض) وجيران الفاطميين ، الموحدين ، والفينيقيين ..وبعض الناس البسطاء و(غلبة التاريخ ) وأثرياء فرساي ..
....وأطل الغراب ليتولى مهام السرد والتنكيل ( بموميات) الفراعنة ( وقططهم المدللة) وكذا قطط ألهة ( أثينا ) ، لكن بلباقة الغارقين في ضيافة حاتم الطائي الذي ( ذبح ) فرسه ليكرم ضيوفه ..
وتوضأ رومان ( السمغوني ) كالقطة .
وأقفلت الصحف آخر صفحاتها في هذا الفصل ..وقبل أن يعبر ( الرجال ) صحراء سيناء ..نحو صحراء سيناء 00مرورا بصحراء سيناء ..وصولا إلى جبل (طور) ..لم يكلموا الله كما موسى عليه السلام ..كلموا ( عفريتا ) بعين واحدة ..جاحظة .لم يعبروا ( نفق رفح ) إلى ..(كنيسة القيامة ) ..أو إلى (مهبط الأنبياء ) ..كانوا يحلمون ( بالبراق ) وبصلاح الدين ..
أسكتي ..ماذا تقولين ، هؤلاء رجال ..قالت جوليا وبكت ملء شدقيها ..وضحكت ( ملء عينيها ) ..وقالت كما الناس قالوا :(البحر أعور )
وغزت الريح الريحَ -في زمن الريح -.
-ناوليني إناء -جف ريقي - لم أعد أقدر على ( وضوء ) القطة أجاب رومان جوليا التي أنهكته بالضحك والأسئلة ..أطلت القطة من النافذة .قالت : هاك ريقي ، عمي رومان ، خذه حتى تموت .وأقرضْه للحضارات والجيران ..أراك ( تتوضأ) كثيرا ..ريقي قالت القطة لاينضب..وقالت
الجرائد أخباري لا تنضب ..شلال ( الطائف ) ينضب ، قال الغراب الذي عاد من جديد ..عاق ..عاق ..عاق ..عاق ..توضأوا بريق القطة ...
**** ****
بقَرِ الزمن رحم الأرض وجوفها ..ولم يتعدّ بعد..كما يزعمون -خط الإستواء .للذاكرة خط أحمر يتوهج كما البرق في ليلة هوجاء وكما القمر في صفائه تتوهج ضفائر حنان العائمة ..كما الريح العاتية يتعاقب سعال رومان وتزداد حدة سعاله ...والشجرة المحاذية للكنيسة ماتزال هناك ..يعلوها (الصدأ) كما تعلوها (أفنان) الغطرسة والنرجيسية .لكن الرياح تهزها كلما عوت الذئاب في أصقاع باردة ..
البرد يعمّ أرجاء الدنيا ..ولا ينتعش الجو - كما يزعمون -إلا عند غروب الدهر الذي ما يفتأ يحفر أثلام الإتجاهات الأربعة ..هكذا عوت الذئاب وقد نطقت بعد صمت طويل في أعالي الجبال والمرتفعات ..والسفوح ..وسبيريا ..ومرتفعات السرو في لبنان ..ومنافي رومان ..( أقلب القدرة على راسها ، والبنت تشبه لمها ) قال عمي الطاهر ، وهو (يترنح) من ( الإصغاء ) لصوت الريح وأزيزها .
-أسكب الدم على الدم في الفيافي .تجد الأفاعي ..بهذه الجملة الإعتراضية العريضة ..نطق (أكتوبر ) ونطقت السنين العجاف ، إنها اللعنة (الحلوة ) في أعياد الميلاد ..خالتي من (الدهر) هي عمتي ..وسام بن نوح ..لم يركب السفينة التي آوت إلى وادي ( عبقر ) أو إلى جبل (أشم)
(أوراسنا) لم تتلق (دعوة ) التسلق ..فكان ذلك أريح ..بل بادرت إلى حسم ( الوضع ) وآوت إلى شموخها وتواضعها ..كانت السنين العجاف ..خصبا وأمطارا موسمية ..وسيولا جارفة ..وعكّرت أجواء ليالي (الميلاد ) ..
حدثوني بما فيه الكفاية .والدراية ومما تأكلون ، أنا أمقتُ صدقة المقربين ..أنت الساطع في ليلة قمراء ..وأنا السمراء ..في فيافي (تدمر ) ..وصحاري النجف وكربلاء .(.وساموراء )مرورا بأدعية ( الصالحين ) والطيبين من (الخوارج ) وبقية الفاتحين .بنو هلال ..وما شاع عند البدو الرحل (بنو عامر ) ..والآخرون في غمد ( السيف) يتناطحون كما الكباش قبل عيد الأضحى ..نحن العرب من أكلة اللحوم ..هكذا صنفتنا أخبار الجرائد ..وهكذا ختم (رومان) سعلته الألف بعد المائة والثلاثين ..، حيث قال : ( أنا السابع الساطع مثلي مثل كل الأشياء ) ..الحبر جف هنا..وتوقف السعال في بداية السبعينات ..وآفل النجم الساطع ( نحنح) رومان ..غلبه النعاس ..كانت (المزهرية ) تتهاوى ..وكاثيا تذرف الدموع ..
**مرثيــة على حواشـــي المزهــريــة :
وشّحت جوليا جيدها بمنديل أحمر ..يعلوه لون أسود ترتدي نعلا شبيها بنعل ( البتول ) كما جاء في أثر الكنائس وحكايات (البدو ) في الأبيض سيدي الشيخ ومشارف بني عباس وتيميمون ومرتفعات ( جرجرة )وحواشيها ..وبعض الأحياء في (العين الصفراء ) ..من خصلتها تُطل.. من لحاف شفاف ..يميل إلى الأخضر ..والأبيض ..وألتحفتْ الظلمة ..وبقايا ألبسة عتيقة بالية كانت بالخزانة .. ترجلت إلى الحديقة ..كانت القطة تموء بدون إنقطاع ..عادت لتقي نظرة ثاقبة على المزهرية ..القطة كانت تهرول وتموء وتقطع (أشواطها السبعة ) .
الجو شاحب .حتى أشجار الحديقة أصابها الذهول من هول ما شهدت حواليها ..كل يرثي المزهرية .بطريقته الخاصة ..وأرتوت المزهرية بالدموع ..وأرتوت الحديقة بوثبات القطة ...بعض الكتيبات على الرفوف شاحبة هي الأخرى ..أصابها الكسوف ..ستائر وبعض اللوحات الزيتية أصابها هي أيضا خسوف خافت .باهت ..
وتوشح المكان والزمان بالأسى ..ونعى كأس ( النعناع ) نفسه ..وعلى مشارف المزهرية صمت مدقع ..
كان المكان زمنا برمته.
جوليا تتوسط ستائر بيتها ..تتوسط ستائر متناثرة من نوافذ سبع ..هرولت نحو البيانو ..عزفت ..عدلت ..عزفت سنفونية الخسوف ..وقف (طيف) الجوكاندا أمامها ..خارت قواها ..نامت .(روّعها ) هول اللحظة لكنها تشجعت ، فعزفت لحن الكسوف ثم نامت تتوسد وشاحها الملفوف بستائر ( سبع) نوافذ ..غيّبها المساء ..وأضاءت الأنوار حيث كانت كاثيا تعانق دموعها ودميتها ..وتوارى المكان عن الزمن ..رحل لتوّه إلى أقصى شرق الدنيا ..كان هناك ( فيصل ) يغتال ..وكان هناك أبناء ( العمّ) .يجوبون صحاري تلك البقاع ..
قالت الصحف الصباحية ( ذاك منطق المناطقة) و(وجودية ) سارتر الذي (توسّط) لإخراج صديقه قارسيا ماركيز من السجن ( ذات) مطلع شمس ..أو قبل بزوغها بقليل ..
جوليا تعتزل اللحظة ..ترتدي من جديد جبتها ..ترتوي من زمانها ..من لحظتها ..تشرب ماء دموعها ..ثم ترحل نحو خزي اللحظة لتكشف أن ( الناعين ) قليلون ..وأن اللحظة ثقيلة ..خفيفة .
وجاء جراد أخضر من أقصى المدينة ومن بقاع أخرى ..يتثاقل في مشيه كالفيلة في أدغال إفريقيا ...ظنت أنها في حلم ، أو أن (اللحظة ) آفلت ..رشّت المزهرية برحيق النعناع لترتاح من كابوسها ..نعت نفسها هرعت إلى المطبخ ( لتشوي ) الخبز كعادتها في ( الفرن الأحمر ) كانت ثمة القطة تنعم بدفء المدخنة ..شخيرها يتعالى ..يوقع لحنا خافتا ..صاخبا .. يممت شطر البيانو ..وضعتْ أناملها ..لتعزف الفصل الثاني من سنفونية الكسوف ..تذكرتْ أن للجوكاندا أياد ناعمة ..فعدلتْ عن العزف ، وأعترفت أن العزف في تلك الآونة جنحة ..
ومرّت سبع ليال ..وسبع لحاظ ..وثلاث أماسٍ .ومثلها من السنين ..وأختزل الزمن اللحظة في لحظة الزمن الذي نعى الناعون فيه سبع أنجم ..وثلاث ليال .وبقية ( الحضرة) التيجانية .
وأختلّتْ اللحظة ..فكان مقدارها ( نجم شمال ) (حزب الشعب ) ( أحباب البيان) (حركة أنصار...) ومزهرية هوت ..في تلك اللحظة ..
ومرّ (أكتوبر ) فصل جني التمور في (بوسمغون) بلياله السبع تبعثه باقي الأشهر ( مابعده وقبله) وباقي الأشهر .الهجرية .. يوسف عليه السلام رأى في المنام سبع سنابل .وسبع سنين عجاف ..وصدقت الرؤيا ..
سيدنا إبراهيم عليه السلام رأى في المنام أنه يذبح إبنه تقربا لله .فصدقت الرؤيا.. ورأى ( القحطانيون ) في المنام سبع ليال سِمانٍ وبقرة حلوب ، وسنينا طوال كلها خصب ..وزمن عاقر ..يجلب من الغيمة أمطارا وعبورا وزمنا محنطا ومشارف صحراء أصابها القحط من كثرة الهرولة و( العطس) و( عطس ) زمن القحط ..ليقول : سبعة أيام كاملة بلياليها (هاكُمُوها) ..ناموا لتروا حلما آخر ربما تصدق فيه الرؤيا ..قال الغراب (لستم أنبياء حتى تصدق لديكم الرؤيا ) ... إهتزت مشارف ( المزهرية) وتهشمت إلى الأبد ..إرتسم الحداد على مشارف أرض قحطان من طنجة إلى مضيق هرمز .وعمت الفرحة بني قحطان من المحيط إلى الخليج ..من أقصى الماء إلى أقصاه ..وكانت (المزهرية) إنسا منسيّاً .
أسكبوا الحليب على المزهرية تحيا ..قال الغراب متشيا ..ردّت الأصداء ..والأصقاع ( وهل تصدق الرؤيا؟) ...الزمن موحش كصحراء جرداء إلاّّ من فيلة يجوبون أرجاءها بدون تأشيرة ...التلال على المشارف الأخرى كان تنساب منها ماء زلال ..وأساوير من ذهب ظلّت مخبأة بالبنوك (ومن يقرض زمنه يجد زمنا آخر عاقبةً وخاتمةً له ) قال شاب كان ينوي الزواج من فتاة يتيمة ..وكانت العاقبة للمحسنين ..و(أضاف ) الشاب: ( أعرني خاتمك ) .
**** ****
ملكة جمال إسبانيا لم تتخلص من مساحيقها ..(فرانكو) ما يزال قابعا في المقدمة ...أنت العاقر أيها الزمن الآتي وأنت خاتمة الطيبين ..كن سندا لي ، لا تخني إذا عقلت ُنياق بني يعرب ..وتوكلت على الله .قال الغراب وأستدار ..ثم ركن إلى مدخل الشلال في فصل الإصطياف ..الدلفين الوديع يداعب الجوكاندا ..هذا ما تداولته أخبار قادمة من شلال آخر ..كانت القطة ثالثهما ..وكاثيا ( رابعهما وأستدار الدهر نحو مداه ..بنو يعرب وبنو (سام ) جيران ..أما هكذا تقول الأساطير ..وقد علّمنا الدلفين ذلك عبر العصور ..
...وأستدار الزمن صوب المزهرية بعدما إرتوت بحنضلها ..لم تزرها غير القطة سبع ليال كاملة ..رشّتها بوابل من الدموع وبماء الورد ..فأزالت رائحة الحنضل ..لكنها ظلت إنسا منسيا ..
جوليا عازفة البيانو ..تغادر مرقدها ..تهتز الأرض من (تحتها) ..تهرع إلى منديلها المزركش .ترتدي لِحافها ..تنادي كاثيا التي لا تغادرها دميتها ..ترمقها القطة ..تنصرف في حياء ..تشرع جوليا في كي ملابسها ..تناولها كاثيا دميتها لتُوشّحها .برداء كان لا يفارق خصر كاثيا .
-لماذا هذا الوشاح ياكاثيا ، أليس في الخزانة ما ينوب عنها ؟
- هو ذا الوشاح الشاهد يا أمي .وأنت تعرفين قصته.
فهمتْ جوليا كل شيء ..يمّمت المزهرية ..شمّت عبيرها ..وضعت ْ أناملها على البيانو ..لم تمانع كاثيا ..كانت القطة تصغي ..أنشدتْ:
عمّت الفرحة سفوح الوجد ..
نطقتْ الدمعة ..أنْطق الرعد ..
أنْطقْ الخريف ..أغضب الرعدْ
أجريتْ..وجراتْ..
دموع الخد .
***
كان الصيف ..كانت الوعدة ..
كان الظل سارح .. دموع شفايا ..
ونبتتْ لحكايا.
قرعُُ بالباب ..مواء القطة يتواصل ..اللحظة كانت غارقة في فصولها ..يزداد القرع بالباب ..ورنّ الجرس ..توقفتْ جوليا عن العزف ..إتجهتْ صوب الباب .كان فارس يقف قبالته ..بيده دمية وباقة ورد..ووجهُُ شاحب .وبقايا أوراق .يوزع أسى على ارجاء البيت ..ونعيُُ رتيب ..قال : ألم يزركم أحد غيري ؟
-ماعدا دموعنا ..والقطة التي (دارت) سبعة أشواط على المزهرية ..
إحتبس الرد في حلقه ..وأجهش (بالبكاء ) .
-سأعود في يوم آخر ..
ألحّت جوليا ، إنصرف وأعتذر ..ومسح البيت بناظره ..يطرح الدمية الملفوفة في علبة على حواشي المزهرية .توشحها هذه الكلمات " جئت لأن المزهرية لم تعد تضوّعني برائحتها ..فأيقنتُ أنها تهشمت ، أو آفلتْ " ...لاحقته بعينيها الناعستين -إستدركت ْ-قبل أن يتوارى - أو تغادر أقدامه مدخل البيت ..نادته:
-ألا تشرب رحيق النعناع ؟
-هذا الطلب لا أرفضه ياخالتي ..وقد أدركت جوليا أن النعناع فصلُُ من فصول سنفونية الكسوف .. قرفص فارس بمحاذاة البيانو ..كاثيا تداعب ضفيرتها ..ترمق فارسا في حياء ..يتواصل العزف في خشوع ..رنات البيانو كانت شجية ..وأنشدتْ مقطعها الموالي :
جاني الخير .جاتني لمعاني ..
هاجت لمواج ..
توطنتْ لبراج ..في دموع عدايا..
قاومتْ الأمواج ..
وسمحتْ في الحكايا..
فارس غارق في تأملاته ..يصغي لعزف البيانو ..والقطة نحو المزهرية تقطع أشواطها السبع ..يصيبه الذهول مما شهد ..يغرق في سرحانه ..في المشهد ..كان مقطع من السنفونية يوقّع هذا الجزء بصوت جوليا الشجي :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
دفّيتْ الدمعة .
رعيتْ شوقي وهواه ..
في حقول لحكايا .
وكبرتْ لحكايا.
لم يتماك فارس أنفاسه ..وشرع يشدو ، فيما كانت جوليا تواصل العزف :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
برّدتْ خدود الطفل ..
في قطرات نداه ..وندايا ..
خافتْ الشجرة من الظل ..
وحكاتْ لحكايا..
...وتوشحت اللحظة بسكون مذهل ..بادلت جوليا فارسا نظرات مشعة ..أومأت لكاثيا بأن تنصرف ..أبتْ...ماءت القطة ..إستجابت ْ..وغادرت المكان ..ثم عادتْ، قالت (من هذا ياأمي ؟)
-إنه فارس ..فصل من فصول سنفونية الكسوف ..
-لا ، بل أنا ياخالتي فصل من سنفونية الخلود ..
ومزق صمتهما قرع جرس مذهل ..كان فارس يرمق ساعته ..قال حان الآوان ياخالتي ..إلى فصل آخر ..
-بالضبط يافارس ..هو ذا وقت الياسوع ..( والقُدّاس ..).
*** ***
لنياق العرب بيادرها ..ولسوق عكاظ نوادرها..وزوارها ..الأفق يمتد نحو خرائط ( رفسها ) الياسوع ذات دهر في يترب وفي الحبشة ..الأرض تضيق بمن عليها ..تنتفض ..المناقصات المنشورة على الجرائد باعتْ بأسواق النخاسين دلفينا وديعا إقتناه أبو جهل من ساحة (المبارزة ) بالقسر دون أدنى قواعد الوغى .باعه بإشبيليا ..وفي غرناطة مرتين متتاليتين بالدينار الرمزي ..أهدى دعابته ..وداعته ولونه لشكسبير ليوقع ( هاملت ) على وقع نياق المهلهل ..رفض شكسبير هبته ..ذبحه أمام الملأ في عكاظ وأنصرف ..نكاية في خلق الله وفي ( الناس جميعا ) .
كما الناس ...الناس أصنافُُ..فريق منهم يتطهّر بعد كل نجاسة ..وآخر يصلي بلا وضوء ..وصنف آخر وديعُُ كالدلفين ..يرقص لكل الأنغام ..هذا ما تناقلته البحار في ليلة هوجاء عبر صدى لحنٍ جلبته رياح قوية يقال أنها للدلفين الذي وأده أبو جهل ، وقد أحياه الله هدية للبشر ..هذا الخبر حاز سبقا إعلاميا في الوسائل الإعلامية المسموعة دون غيرها ...إغتاظ الغراب(حين) سمع الخبر قال بلهجة غاضبة : (سأصلبكم مثل المسيح) وأنثركم قمحا في بيادرالكون ..لعلكم تنبُثون من جديد ..وتورقون الأزهار والأكاليل التي أنشدْ رغم سواد لوني .
قالت جدتي ، وقد بلغ مسمعها هذا النبأ : (أنت أيها الغراب الحبشي ، الأسود ..كنا قديما نبيعك لقاء حفنة ملح ..أو قمح أو تمر ..هذا هو ميزانك ..إستأستدتَ الآن ..إمسح ناصيتك من الغبار ) ..
قهقه الغراب ملء فيه (ها أنت مازلتِ مغفلة ، هل يعلق التراب بزغبي ..وزغبي من تراب ؟ )
إندهشت جدتي لهذه الإجابة :( من أسداك هذه الحكمة ؟
((قبيلة) البسوس وحربها ودهاء أبي جهل .) .إستدار نحو الشمال .قال ( ألم أكن شؤما عندكم ؟)
-متى ؟
-عندما أيمم صوب اليسار .
لفهما رداء رهبان كان يمشي ( حافيا ) .يوزع السناء على دلافين يسكنون شمسا حارقة وشواطيء...
جدلت الجدة ضفائرها .ومفرقها .وقد غزاه الشيب ، قالت :
-ليتني أدركتُ أمرك قبل غروب الدهر ..
-ماهذه الهلوسة ياجدتي ؟؟
-إنه الإيمان بأن الناس كما الناس ..صنفُُ للدنيا وآخر للأخرة ..
-كلكم لهما ..بإستثناء الياسوع ...
غفت الجدة . .غضبت ..تناولت حجرة من سجيل ..من طين ..رمت الغراب .كان قد إمتطى السماء ..وكانت الجدة تندب يوم إلتقته ..نحو الشمال أدارت وجهها ..سقط منديلها.وبعض شعيرات من (خصلتها ) .كان الغراب يلتحف المنديل ويردد ( عاق ..عاق ..عاق ..)
الناس كما الناس بإستثناء بعض الناس ..وسقط المنديل بمرتفعات الجولان ..ظل عالقا بعنقود عنب إلى أن جاء دلفين ذات حقبة وألتحفه إتقاء للفتنة أولا ثم للحرّ ثانية ..إحتار الناس بإستثناء بعض الناس لهذا الفعل الشنيع وقد عُرف الدلفين .بوداعته ..تناولت هذا الخبر كل وسائل الإعلام ..وكان السبق هذه المرة للوسائل المكتوبة ..
....وأتضح من النهار ..أن النار على مشارف بومرداس..تكتبُ(بالرماد) لتنعش الرماد إتقاء الفتنة وخروقات بعض المواد القانونية الجائرة ..عندما إستفاق الدلفين من غفوته ، قال :الدلفين من غفوته .قال : la faute est humaine ، إسودت صحف الناس بالحبر ..وسارعت إلى نفخ الرماد لينتعش رماد بومرداس ..وفتْح تحقيقاتها المطولة لمعرفة أسباب وملابسات الحادث ....
وقف الدلفين الوديع أمام المحققين ..ساوره الشك فيما اقدم عليه .
أحد المحققين :
-أرني بطاقتك ؟
-بطاقتي ملكوت البحر ..ووداعة الملائكة ..تراني لا أملك جيوبا بصوت آمر :
-قلت لك بطاقة هويتك ..
وقف الدلفين مشدوها ..حائرا ..( لا تعلمني الكذب ياسيدي ، ليس من عادتي أن ..)إلتفت محقق وقد إمتلأ فمه زبدا ..:
-( نعرف ذلك ، عرّفنا بنفسك هو ذا هدفنا .
-دلفين وديع يرقص لكل الأنغام ..
-الآن صنفناك ..تحقيقنا مايزال متواصلا ..سنوافيك لاحقا بإستدعاء لإتمام التحريات
-لكم ما تريدون ..تجدونني قرب الشواطيء ..وفي الأصقاع الباردة .
رئيس المحققين بغضب زائد : ( هذا شأننا ) .
...ومر رهبان آخر ، لفّ الجميع بردائه الذي لا يفارقه ..لم ينبس ببت شفتيه ..إكتفى بالإيماء ..إفترقوا ..
دلف الدلفين بحره ..فيما كان الغراب على على إرتفاع منخفض ..يردد:( عاق .عاق ..عاق ..)
سقط منديل وبعض شعيرات خصلة جدتي من منقار الغراب ..كان البحر الهائج يتقاذفها ..يقذفها نحو اليسار .إلتحفهما الدلفين . أومأ في عرض البحر " هذه بطاقتي التي كنتم عنها تبخثون" .
شكرا أيها الغراب الحبشي ..كم انت سخي ..أغدقت على الجولان ..وأغدقت على البحر ..(وغدا عمي الطاهر ) تحت إبط السفينة ..ستدثره لا محالة بمنديل آخر ..لمن سيكون الدور ياترى ؟
..إمتطى أحد المحققين قاربا كان راسيا بالشاطيء ..ملك لحراس الشواطيء ..إمتطاه بدون إستئذان ..حاول اللحاق بالدلفين في عرض البحر ..كانت الأمواج قوية ..صعقته إحداها ..نكص رايته ..ثم عاد إلى اليابسة ..وقال في غضب (سنوافيك بإستدعاء لأتمام التحريات ) ... ضحك الدلفين ..وقد نجا من مكره ( هذا رداء الجوكاندا المقرورة ..العائمة ياسيدي المحقق ..سأستجيب للدعوة ..فقط دعني أدرثها إتقاء للفتنة أولا ثم للحر ثانية *** ****
الأرض رجت حواشيها ..وتدفقت الحواشي بالمعونات ..من يملك ناصية الحواشي ..ليترطم بآخر المساء قال الشاب الذي فقد عقله من هول الرجة ..نطق الرصيف المحاذي لميناء المعونات : ( ذاك الغراب الحبشي ..وتلك الأماسي وكل الشتاءات ) ..صعقت الرجة أريج الأفنان ..كل إهتز..حتى عقارب الساعة المعلقة بخائط الغرف الداخلية بالأحياء الشعبية ...فصول الصواعق .دمرت وجدان من كان متيما بليلى ..(ليلى باقية) شامخة كالنخلة الباسقة ..جذورها في الماء ..وفرعها في السماء ..هي ذي ليلى ..بريد الشرق يأتي من الغرب ..وبريد الغرب يأتي من الشرق ..وكمن خالجه الشك في هويته ..تدرج الجميع نحو الإصغاء إلى المحاضر الذي ختم محاضرته بالقول :( للياسمين أريج واحد ..ولليلى وشم على جسدي .
سوق المارقين أضحية العيد ..وبعض ( أشعة ) نوافذ ( قصر الحمراء ) في زمن تنامى فيه النمل ..
وتوقف المحاضر عن إلقاء محاضرته ..قالت الصحف الصباحية " القمل إنتشر ..أحذروا العدوى " ..بعض الضواحي لم يغزها القمل ..ولا النمل ..كان لحاف الراهب يلف الضواحي ..
من حدثني ذات ليلة عن ليلى في مهدها ..في هودجها ..ومن حدث ليلى عن وجدها ..وممن رنح على الهودج في فيافي تمنراست وأقاصي توات ..أهم المارقون أم هي ليلى نفسها جابت سرابها ..ركبت هودجها ..عشقها ..أم هي النار تأججت في باحة الطوارق ..أم هم الصالحون والطيبون أم هو المسيح النجار ..
لا ، هم عامة الناس ، قال الغراب الطيب ..هي الصحراء المسيجة بماء الياسمين ..وهي المداخن في فصل الصيف ..هم هؤلاء وأولئك يعتلون هودجي المسكون بخرافات الوافدين من غرب الدنيا ..من خدش وجه الصحراء الطاهر ..ومن حدث أهاليها بما لا يفهمون ؟ أهم أنتم ، أم خزائن قارون .نطق الدلفين الوديع ..
النسل من أصلابنا ، قالت الصحراء للبتول ..وقالت البتول ( كلنا من طين ..هو عشق الصحراء ..كياننا ..لنا الوشائج ..ولنا تباشير الأماسي ) .
..وجاء المحققون يجوبون صحراء ضيقة كعيون المها ..(خذلزا من صادفوه) ..سالوا عن الدلفين الذي ( إمتصه ) البحر ، وعن بقايا النمل والقمل ..حدثوا غزالا عابرا .عن جدوى تشبث البتول بطين الصحراء ..نفت الغزالة معرفتها لهذا (الشأن ) كان الغراب هناك ..يتمرغ في التراب .أجاب :أنا دليلكم حتى تنهوا مهامي بقرار أو تتخلصوا مني برضا) أو تتهاوى الصحراء ..يمتصها سرابها ..أو تمتص غضبها ..أو يفيض البحر على اليابسة مثل جدارية مرسومة على رمل الصحراء ..
كبير المحققين في كبرياء وغطرسة :( الصحراء إمتصت عبيرها ونسائمها ..وخذلنا ( ظلما ) من صادفناه ..هل تدلنا على دلفين كان في ( قبضتنا ) ولك منا جزاؤلك؟)
في كبرياء متناهية يرد الغراب : ( عاق ..عاق ..عاق ..أقفلوا سجلات تحرياتكم ، الصحراء تسكنها ليلى ..ليلالنا وليلاكم ..
أحد المحققين ةقد أذهله ما سمع : ( أراك طيبا ، من زرع الطيبة فيك ومن ركبها ؟
-دلفين سكب دمه أبو جهل في باحة غرناطة ..
حاول أحد أعوان المحققين إلقاء القبض عليه ، كان قد توارى في ( السماء ) ..عاق ..عاق ..عاق أبو جهل سكب دم الدلفين في سوق عكاظ ..( صحح معلوماتك) عاق ..عاق ..عاق ..
نوارس التل جابت ضفاف الصحراء ..وأكتملت الجدارية المرسومة على رمل الشاطيء ..جوليا البائسة مر المحققون على مشارف بيتها ..لم يلجوا الباحة ..كان فارس يتقدم نحو مدخل الباب الرئيسي ..وكانت القطة ترمي أحجارا من سجيل من القرميد ..
-مالذي أصابك ..نطقت كاثيا ..وأين إتزانك؟ ..
-رشني أحد المحققين بريقه النتن ..ككلب مسعور ..
-vite إلى الحمام لتغتسلي من الدنس ...
جوليا في هدوء :( ماهكذا يا كاثيا أداب التعامل حتى ..
-pardon maman , la faute est humaine.
هكذا يا كاثيا (أبغيك ..
*** ***
..وقطع الزمن أشواطه السبعة ..أورقت المزهرية كستها ألوان الطيف ..ووشحها (النعناع ) بشعاعه ..وكل سنة تورق حتى جاءت ذكراها السابعة ..القطة داهمتها الشيخوخة ، لكنها كانت هي الأخرى تقطع أشواطها السبعة وتتوضأ بجانبها ..تزورها مثلما يزورها فارس ...دمية كاثيا أعلنت حدادها عليها ..ودمية فارس أيضا ..
وذات ( شوط سابع ) أورقت الجدارية وأهتز الستار ..السابع ..لمقدم فارس ..يحمل دمية إختلطت دموعها بماء الورد ..وهو يقطر على مشارف المزهرية ..ناولها جوليا ( هذه دمية أخرى عثرت عليها في قنوات صرف المياه ..قرب جامعة السربون التي تشع بالنور..(هاكيها) ضعيها قرب المدفأة ...تضعها- جوليا- قرب المزهرية ..وفارس يمسح دموعا عالقة بمقلتيه ..
أسرعت جوليا إلى البيانو :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
كبر الظل ..وصغارت لحاكيا ..
جات الشجرة ..
وكان الحل ..
وما بحت بالحكايا ..
صمتي ظل منديل أخضر ..
كنت أنغيب ، كنت نتعلم ..
كنت انا وكلامي مفتاح السر ..
فارس (يعزف ) نظره عن جوليا العازفة ..إنصرف نحو الباب في إرتخاء ..كانت القطة الهرمة تموء وراءه .. وهو يتقدم نحو مخرج الباب ..غمغم قبل أن يجذب مزلاج الباب :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
ضميت أشواقي ..
وعجنت لحكايا..
يتواصل عزف جوليا ..قرع الكنائس كان يقطع الصمت ..وواصلت جوليا:
أجمعت العم ..أجمعت الخال ..
أجمعت فصول الدهر ..
ودفيت في أعماقي لحكايا ...
**** ****
...سبع دقات أوقفا فارسا أمام مدخل البيت ..عاد أدراجه نحوها ..لم تغب نظراته عن العزف..الجو يشع بالخشوع ..مرر بلطف سبابته وأستدارها ليدير خاتما من فضة يتوسط أصبعه ..يزفر ..جوليا كانت تعزف فصلا من فصول سنفونية الكسوف ..ترشقه بنظرات ثاقبة ، فيما كان يرسل زفراته المتواصلة كموج البحر ..جوليا تلطف نظراتها الثقابة ..تهدأ يداها ..تتثاقل في العزف ..لمسات يديها على البيانو تتراخى ..إبتسامتها تكاد تحاكي إبتسامة الجوكاندا ( الموناليزا) ..وفارس يرقمها بحس مرهف ..يقترب من البيانو ..ستائر البيت تتراقص في نشوة هكذا أحس ..كان الوقع باديا ..ترجمت لمسات يديه خلجات جوليا ..كاثيا وهي تداعب دميتها ترمق المشهد ..ترشق فارس بنظراتها سرعان ما تطرق حياء حينما أحست بأنه يبادلها نفس النظرات ...اللحظة غادرت خشوعها ..والقطة الهرمة تسند ظهرها إلى المزهرية التي أورقت ..خفقان اللحظة يزداد ..
كان فارس يشدو :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
كذبت أقوالهم ..
كذبت الندى
كذبت سطور الحجيا ..
كاثيا تمسح دموعها ..تمرر يدها على يد فارغة ..تداعب ( عقدا ) رقيقا يزين جيدها يبدو علي (صليب الجنوب ) la croix du sud ..ترسل نظرات صوب فارس من جديد .. هرعت إلى أزرارالبيانو ، وهي تخفي ( الصليب ) بيديها قبل أن تناول فارسا كأس النعناع ، وقد كان على الطاولة ..شدت بأناملها على أزرار البيانو ..أنشدت بحنان بعدما إمتصت ما صدر منها ، وما بدا على ملامحها :
حبيت الظل الكبير ..
زرعت فصول الدهر ..
زرعت الكذبة من جديد ..
هكذا كان الظن ..
هكذا نسجت لحجايا ..
مواء القطة ينبعث كزغرودة إيذانا ببدء سنفونية الخلود .مزلاج الباب يفتح ..الكنائس تقرع أجراسها من جديد ..وكان فارس خارج البيت ..يبتعد شيئا ..فشيئا عن الأنظار..فيما كانت كاثيا تملأ عينها الواسعة ثقب الباب ..
****
جان) لبان الحي المتقاعد بقبعته المعهودة وغليونه الذي لا يفارفقه ..يبادر جوليا بالتحية ..يسأل عن زوجته ( كاثرين ) ، وقد تركت وريقة صغيرة فوق الثلاجة مكتوب عليها " ربما سأكون عند جوليا إذا عدت مبكرا من مقر الجمعية" .
-كانت هنا ..أخذت موافقتي وعادات إلى مقر الجمعية ..
-شكرا ..سألحقها ..وأنت هل لك رغبة في الإنضمام ؟
-ربما سيكون ذلك لاحقا .دعوني أرتب بعض ( الأغراض ) ..وربما ألتحق بكم فور عودة بناتي من إفريقيا وكالدونيا ..فارس وكاثيا في الوقت الراهن يكفيان ..
ينفث (جان) (نفسا) من غليونه ..يتكاثف الدخان ..يملأ وجه جوليا..تشيح عنه ..يبتسم (جان ) يعتذر ..يخنقها الدخان ..يكرر الإعتذار ..تعمهما (بسمة ) عارمة ممزوجة بحشرجة ..ويتراشقان بالأعين ..وفي نبرة نابعة من أغوار المشاعر ، يردف (جان ) :(قبل أن تتهاوى المزهرية ..كنت على علم بكل شيء ..وحتى بالوصايا السبع يا جوليا ..الأ أحظى ( بشربة) نعناع تخفف من حدة سعالك وسعالي المخنوق ؟.
-تفضل يا (جلول ) تقولها مازحة ..
-merci
ياجازية بنت لجواد ..قالها بلكنة فرنسية ..
القطة الهرمة تبدي ترحيبها وتقوده نحو المزهرية ..نحو مدخل الصالون ، حيث ينتصب هيكل بيانو عتيق ..تزينه لوحة زيتية لأحد كبار رسامي المدرسة الإنطباعية ..تحاذيه أوراق متناثرة ..غليونه يلسع شاربه ..وهو يشعل ثقب كبريت لينعش غليونه االباهت .. يقفز .. يتفوه دون ن يشعر ..(آه شواربي ..) مابها تضيف جوليا ) أشعلت بها النارلأنعش غليوني ..
-هذا فأل ، ولعه بخور كنائس ..ياجلول ..
يلتفت إليها وهو في محاولة لنفخ النار في غليونه ..عيناه الجاحظتان وشاربه الأبيض يهتزان ( خذلك الزمن يا جازية ..المزهرية آفلت ..أينعت (كاثيا) ماذا تنتظرين وقد مرت سبع سنين عجاف ..بعضها خصب وأغلبها قحط ..وصيد وافر.. خنزير الضاحية يغزو المزارع (الآهلة ) باللفت ..يتفوه جان بهذه الكلمة وهو يوشك أن (يوقد ناره) ..جوليا تسرق زفرة طلت حبيسة بحلقها ..تردفها بإبتسامة مبحوحة ..تمعن النظر في (نار ) الغليون التي بدأت تتلاشى ..وبعض الشذرات وهي تسقط على فستانها البنفسجي ..قسمات وجهها المنحوثة بتجاعيد بدت جلية ..تكشف إشمئزازها ورغبتها في الحكي ..والقص ..وإثارة النوادر ..كاثيا تتثاقل خطواتها نحوها وقد على صدرها " صليب الجنوب بارزا فوق صدرها ..يرمقها (جان).. ترشقه جازية بنظرة لها أكثر من دلالة ك
-النعناع جاهز ياأمي على الطاولة تقول كاثيا في نبرة رومانسية ..
وريقات على الرف تبدو بارزة ، تشد إنتباهه ..تيستدرجها صوب إهتمامه بنظرة ثاقبة ..وهو يسحب يده اليسرى المرتجفة من أزرار البيانو التعتيق ..يتثاقل في مشيه نحو الصالون ...الكراسي العتيقة تلفنظره كرداء واق من الشؤم ..هكذا بدا لجازية وهو تراقب تحركاته بعينيها ..
-قلت خنازير الضاحية يغزون حقول اللفت ..أعلم أن زمن الثكالى أقوى من الغيظ ..وأنقى من إنسياب الجداول ..ياجلول ..
-ما أحلى نوادر الشيوخ يقول جان وهو ينفث ما تبقى من غليونه ..وما ألطف أن يركض الجواد في كل الأزمنة ؟
-حتى زمن الثكالى والأيتام ؟
-في كل الأوقات ..
كاثيا كانت تصب النناع لجان الذي إعتراه شرود قبل أن يضيف ( كبرت ياكاثيا..ويصمت ..
دقات بالباب ..تحول حديثهما ..ونسيمات ريح خفيفة تطفيء الغليون ..
-أشرب النعناع ريثما أفتح الباب -ياجلول -تقول جوليا بنبرة ممزوجة بحميمية ..وهي تركض رغم تقدم سنها نحو الباب .
-أه، جئت ياشمطاء الكنائس ، تردف مازحة ..
-أجل ..يابنت لجواد ..ياحاملة الأزمنة التعسة ..يابئر (الضغائن ) و(الصفصاف .
-تفضلي .مزاجك..مايزال على حاله .
جلول يرتشف النعناع ، (إلحقيه يلحقك النحس ) ببركة الكنائس ..يتواريان عن القطة التي ما يفتأ مواؤها يتناغم ..
-نشربه على أنخاب المنديل المعلق على خصر كاثيا ..، تقول كاثرين لزوجها القابع على الطاولة ..اللحظة توحي بسمر دفين ..غابر ..إندملت فيه الأحقاد ..تنم عن تدفق الذكريات ..وإرهاصات الأزمنة المتعاقبة ..وضراوة الضغينة ..لم تفتأ أغصان الشجرة بباحة البيت تهتز ..
وتعاقبت اللحظات .. أدركهم الليل ..وأنصرف الجمع ..تحت وابل من النوادر عن الفاشية وإندثار مجاري التاريخ نحو وجهة واحدة ..
وبدا الليل يقترب من منتصفه ..وقف الجميع عند دقات منتصف الليل ..كل في موقعه ..وأذنت اللحظة بوعي الزمن وصلابة المنبث ..
قالت كاثرين : منتصف الليل بخور غليون جلول الذي ما ينطفيء ينتشي ..ولنفهم اللحظة العارمة ..
..ووقفت القطة الهرمة المضيافة بدورها وسط ( عباءة ) الظلام بالحديقة ..ونحتث اللحظة كثيرا من الأسئلة ..وفصول الإخاء ..المشي صوب الباب كان كمن يتبع جنازة في موكب مهيب ..لحظة إصغاء للجوارح ..ونعاس مكان أبدى خجله من حقد دفين تختزنه الأرجاء ..
إرتوت المزهرية من نداها ..من نبضاتها ..وسكن المكان ..إنهالت زخات الندى على المزهرية ..كالنار والحنين .. وارتسم الخشوع موحيا برعشة السنين ..(وورد ذكر عمي الطاهر على الألسن والشفاه التي إرتعشت من هول الخرائط ..ومن تجهم الغيوم ..لامست أيادي (جان ) المزهرية النائمة ..لتدفن الحقد الدفين ..في خلجات ماض توارى كالضباب ..
قال (جان ) : ما أحلى أن نلتمس عذر عمي الطاهر ..وموريس أودان ..وما أروع أن نشعل قنديلا يتوهج عبر الأزمنة ..والأضرحة ..وأن ترتحل أرواحنا إلى مداها الذي لا ينتهي ..إلى الراحلين ..إلى مسقط رأس الأشياء ..وأن نرتشف من (مراشف ) الينبوع ..قد نقسو على الينبوع ..لكننا نعود إليه حتما للإرتواء ..الماء للجميع ..قد نغوص في القدم .وترتحل بنا السفن إلى أشلائنا ..ونحن أشلاء هذا المدى ..ونفث غليونه .وأنصرف يعانق كاثرين التي كانت تجهش ( بالبكاء .
بقايا شظايا الغليون توزع أشلاءها على فستان جوليا التي كانت تغوص هي الأخرى في سراديب الماضي ...وجرفة التاريخ ...تحترق لطيف عابر ..مر ذات زمن عبر صقيع شتاء بارد عندما كانت الجيوش تعبر -عبثا -كثبان غابات كثيفة تسكنها أرانب برية وديعة وقطط وحشية ألفت نسيمات الربيع ..و(أجبان ) الرعاة ..وبقايا ( أحباب البيان) فوق عمائم الضباب ..وعزف منفرد لحزب شمال إفريقيا ..وذات دهر مرشوش بالحناء ..وشلال الأمجاد ...وزفرت اللحظة التي جثمت على الحناء لتدقها فوق نهر يتدفق على الجميع بدون إستثناء .. بدون تمييز ..
دنا المشرب من المشرب ..رسولا للوئام عندما كانت شرائط الصواعق (تسحق ) الحناء وتنثرها لتختلط بغليون ( جان ) الوديع ..لتجعل اللحظة ناقوس كنائس ..وصلاة مئذنة ..وتهتز الذكريات جذوة جمرة خفيفة على حواشي غليون ( جان ) ..توزع معنى الأشياء على حفيف شجرة الحديقة ومواء القطة التي كانت تستبقهم إلى المخرج الرئيسي للبيت ..
وكان قدح النعناع شاهدا ..
**** ****
الوخز بالإبر ملهاة للوقت ما لم يكن للعلاج .قال الغراب الذي إستجدى (بالثائر) ..وهو يطل من قرميد الباب الرئيسي ..يحمل بمنقاره عصا الترحال ..وبطاقات هوية ..( نجواكم نأي ووجه آخر لفجر محتوم ) محفوف بدم يتوزع على القبائل ..أنتم اللهاث في درب يرتوي بماء يجيء من قنوات صرف المياه ...ماأتعس جرحكم عندما يندمل الجرح ..ويلفحه الخجير ..وما أطيبكم عندما تتيمموا سهد الأرامل ...الخزي للمسافات التي مواكب الجنائز ..ويتمت اليتامى ..وأحيت الفواجع .. لن تسلبوا مني الجوكاندا ولا الملاءة ..وحتى ( الأشواط السبعة ) وكذا الوصايا السبع ..ولن تخرجوا يوسف من البئر ..ولن تعيدوا البصر لأبيه ..ولن أدع لكم دمي القاني ملهاة للوخز ..وللعبة الشطرنج ..أنتم أكمام الرمان ..لكنكم غير ذلك في النوائب .. عاق ..عاق ..عاق ..وأمتطى الريح ..إستحمت المزهرية بنداها ..وبسنى الفجر ..سقط الغراب مغمى عليه من على القرميد الأحمر ..إختلط دمه بين القبائل ..
كبير المحققين ( هذا الذي نبحث عنه .إنتهى كل شيء ..الآن نمزق ملفات وأوراق التحريات ، لم يعد لنا بد الآن من إجراء تحقيقات وقد ظفرنا بالطريدة ..
لا توزعوه بين القبائل - عار -وهذا ليس من شيمنا - دعوه يمخر عباب البحر وحيدا مع ودائعنا هناك ..وعلى مشارف الهضبات ..أحملوه عربونا للشهامة في هودح مرصع بالذهب والفضة والكبرياء ..وأنثروا زغبه (الأحلك ) للريح وللعواصف ..هذا جزاؤه ..دعوه ينزف إلى أن نفرغ من تحقيق آخر ..أجدى من هذا الذي بين أيديكم ..(كمموا ) به أفواه الثكالى والأرامل ..وودائع ( القوافل) المحملة بالمؤونة .. أو أقذفوه من على القرميد مرة ثانية لرتطم بالرض كظاهرة كونية أو كنزلة برد ..أو كمزاد علني تتحث عنه الجؤائد ..أو نطفة حية نعيد بها صياغة حاضرنا ومستقبلنا ..وماضينا التليد ..المجيد ..هو الذي علمنا ( فنون ) الردم وأستباح دم هابيل من قابيل ، أو العكس ، لا يهم ..مرغوا( جسده ) بالوحل ..وأنهشوا عظامه ، أو أسقوا بدمه يبادرنا الظمأى لعلها تورق معزوفات المجد والجدب ..أو تمدنا برأس الأمير ..أو بكلية (كافورالأخشيدي ) نبيعها في الأسواق لقاء حفنة ملح نقتات بها ونسكبها على أطعمتنا ..أو نقايض بها (تيه) الجوكاندا .قال أحدهم .
أدنوا منه قليلا حتى تتأكدوا من هويته ..يقاطعهم عضو من هيئة التحقيق ..وقد تجمعت القبائل الكثيرة بباحة البيت الآمن لجوليا .جاءت من كل فج عميق ..
صغير المحققين : أنزلوه منزلة النبلاء وأحترموا آل البيت ، ألا ترون جوليا .وضيوفها على قدر وافر من الحياء الآن .. ماذا ذهاكم ..ليست هذه خصالكم معشر عشيرتي ..)
في جلبة يرد الجميع : ( رأي سديد ..
صوت من أقصى الحشد : أخلوا سبيله ، تشابهت علينا الغربان ..لعله يكون من عشيرتنا ..وقد إندس فينا ، أو خرج من أصلابنا ..أو نكون أطعمناه ملحنا ..دعوني أدنو منه ...يتراجع الجمع نحو (الوراء ) يتقدم بإتجاهه ..يرنو منه ..يلمس زغبه ..وقلبه النابض ..تصطك أسنان الغراب ..
ينطق بعسر : دثروني ، صقيع هولكم ، وهذا المكان يفقدني هويتي ..دعوني أسترجع أنفاسي ..ودن (مرج) أعترف لكم بكل شيء ..ولكم أن تستبيحوا دمي إن شئتم ، أو تفرقوه بين عشائركم ..
يجيء من اقصى الشارع راهب مسن ..يحتشد وسط الجمع ..يطلب منديلا يلف به خصر الغراب ليجف حلقه من النعاق ..تمده كاثيا منديلها ..يحترق المنديل من وهج الحمى العالقة بخصر الغراب ..تقترب جوليا ..تدثره بمنديلها ، يحس بدفء وارتعاشة تسيران في أوصاله ..يختنق المشهد بغليون جلول المتطاير ..تدمع السماء رذاذا ..يزداد خفقان الغراب ..يلسعه صقيع المكان ..كأنه الحشر ..يقول بعسر : لكل ليل فجره ..ولليتامى خصب السفوح ..ومواسم الإصطياف ..دعوني أصيح لأعبر عن إنتمائي ..يكفيني رزاياكم ..ويطرق نحو الأرض من الخجل ..يندهش الجميع لهذا الحياء المفرط ..
جدتي التي كانت ضمن الحشد :
-هات شعيرات خصلتي يالعين ..من يفك أسرك الآن ؟ يرمقها الغراب ..يوميء برأسها ..بجناحيه ..:(أنثري زغبي ، هذا كل ما أملك ، كل ماسلبته منك ومن غيرك ضاع مني ..ما زلت أحتفظ في جوفي بدم الدلفين الذي بقره أبو جهل في سوق عكاظ نكاية في شكسبير الذي رفض هيبته .وأشار إلى جسده النحيف .. لتقتطف ما شاءت حتى الأمعاء والأحشاء ..إن رغبت في ذلك ..أبقري جوفي ..تفور منه رائحتكم ..أو أفور أنا كبؤرة حقد وضغينة ورشوة ..
أحد العقلاء في الخلف متلعثما :
-فكوا وثاقه حتى نتبين الخيط الأسود من الأبيض منه ..أسركم له سيعمق شعوره بالتعسف وعدم البوح ..أو ربما العسف ..
الفضول البارد دفع الوافدين إلى الإحتجاج بواسطة الإيماءة بالرؤوس ، ورفع الأيدي نحو السماء ..في إشارة إلى عدم الرضا والقبول ..
وظل الغراب مطروحا على الرض يلتقط أنفاسه ويسترجع لهاثه ..أجراس الكنيسة على بعد أمتار تفد منها تسابيح متكررة ينقلها الصدى إلى موقع الحشد ..(لعلها جنازة أو عرس تقام مراسيمه ، أو صلاة لأمر طاريء ..همهم أحد الحاضرين في ولع ..
وتراءى للجميع بعد ذلك وقع أقدام تقترب وأزيز سيارات تتقدمهم سيارة سوداء فخمة يطل منها شاب غائر العينين ..كاد الدمع يطفر من عينيه ...في مهابة مر الموكب بمحاذاة الحشد ، وقف الجميع إحتراما له ..
إحمرت وجنتا كاثيا حين كانت تخفي خلسة ( سلسلتها ) التي كانت تتدلى من على صدرها ..يرمقها الشاب الغائر العينين ..تطرق في حياء ..يرشقها بنظرة حادة ..تتسلل إلى أعماقها نبرة ندم ..وتأسف ..سرعان ما تعض شفتها بصورة غريزية ..لتمحي آثار خجلها ..وبدت تقاسيم وجهها شاحبة بالرغم من عنفوان شبابها ..تبعث إبتسامة شاحبة مشدودة بعض الشفتين ..تكفيرا عما صدر منها ..وأومأت في الأخير بيدها للشاب بأنها ستلتحق بهم بالمقبرة .راجلة ..ريثما يفترق هذا ( المصب ) الجمع ..
جوليا التي كانت ترقب تحركاتها ، تشدها برفق من أسفل ضفيرتها المتدلية من خلف قفاها ..(إلحقيهم بواسطة الدراجة ..سأنوب عنك -ياكاثيا - إنه فارس وإنه رئيس جمعية الصداقة بين الشعوب وافته المنية ..إلحقيهم يابنيتي ..لا تتأخري .عن الجنازة ..
-أعرف ذلك يا أمي ..كنت على علم مسبقا بمرضه المزمن ..وقد توليت رعايته عن قرب برفقة فارس ..وتوهج وجهها ..غارت عيناها بالبكاء ..سحبت نفسا طويلا ..عضت على شفتها مرة ثانية .. وهي تغادر المكان ..
-لا تنسي أن تقطفي من حواشي المزهرية أزهارا تليق بالمقام -ياكاثيا -، قالت جوليا بحنان ..وقد أورقت ، ومر عليها 12 سنة كاملة ، فصلا بفصل .. -سافعل ذلك ياأمي ..وسأدعو له بالرحمة .قالت بصوت متقطع ..
اللحظة عارمة ..في سكونها زاد من رقة جوليا ..ولم يحسم أمر الغراب ..لم يكن يتطلع إلى الفرار ..ظل جاثما على الرض ينتظر مصيره ..وما ستسفر عنه قرارات الحشد ..وظلت جوليا عينا على الجميع .. هي الأخرى تغيرت سريرتها ، حين نامت عيونها من العياء والحياء ..كانت تسبح في ملكوت أحلامها ..
اللحظة ظلت صكا على بياض ..
وكسا ضباب كثيف أرجاء البيت ..أرجأ المجتمعون الجسم إلى أن ينجلي الضباب ..وظلوا هناك قابعين ..وظلت الأرض مهاجع لهم ، فيما ظلت جوليا تتلقط أذانها تحركات النائمين على الأرض .ما أن أيقنت أن القوم ( غاصو) في غيبوبة ، وعلا شخيرهم - أسرعت إلى البيت فرشتها بالبخور ..وعادت في مثل لمح البصر ..إلى باحة النائمين ..بباقة ورد قطفتها من حواشي المزهرية التي ما تفتأ تورق ، وبدا لها الغراب جسدا هامدا .. وضعت بلطف باقة الورد على الجزء الأيمن من رأسه وانصرفت في هدوء .. حشرج صوت خافت حولها ..لم تعبأ به ، إلا حينما رمقت جفن الغراب يرف خلسة وجناحيه يهتزان ، إعتقدت أنها من فعل نسيمات هبت ..وقد ترامى إليها هذا الصوت ..وهي تبتعد شيئا فشيئا لتنتحي مكانا بعيدا عن الجمع ..سرحت بناظريها صوب أقصى الشارع ...
ها هو الموكب عائد من المقبرة ..
ناولت (متقدم ) الموكب باقة ورد كانت بيدها .:
-هذا عزائي ، أعتذر عن عدم حضور مراسم الجنازة ..
-شكرا..على الباقة ، رد رجل مسن بوجه يبدو عليه الوقار ..
-أه، أنت يا جلول ؟
-كنت أنبت عليك بالمقبرة بوضع باقة زهور ..إقتطفتها من حواشي المزهرية ، غمستها في ماء الورد حتى لا تذبل ..
-حسنا فعلت ياجلول ..
-أعرف واجب الأشياء - ياجازية -
ورنا إلى السماء ... فيما أطرقت جوليا ينتابها شعور كما أنها أذنبت أو إقترفت صنيعا شنيعا .. حين كان الموكب يشق طريقه في خشوع نحو الكنيسة ..ومنها إلى مقر الجمعية ..
إزداد إحساس المكان بالوحشة .. ومرت غمامة عابرة مصحوبة بنسمة باردة إقشعر لها بدن جوليا ....الجمع يلازمه إحساس بأن إنسانا أو شيئا ما، يجب أن يوقظه من سباته ، أو يعزر إبرا تؤلمه ، أو لسعة صاعقة من أي شيء خارج عن الجسد ..حتى لو كانت أفعى أو أخطبوطا يخنق أنفاسه ..إما أن يفيق أو يقبر إلى الأبد ..هذه الهواجس ركبت مخيلة جوليا ، وهي واقفة أمام الحشر وكأنهم من أهل الكهف ..ورنت إلى السماء ..
دوران خفيف كان يعتري كيانها في الإنصراف إلى شؤونها ..سرعان ما عدلت عن الفكرة ..وقد أدركت ثقل المسؤولية .. وانتصرت على هواجسها ..

** حاشيـــة بين الروابـــي والذاكــــرة المرض يستأصل ، هذا ما قالت في أول رحلة في ذاكرتها ، والجرح الغائر ..يجب أن يوخز بالإبر ..تراتيل ماض تليد تخترق مخيلتها وهي واقفة ..مذعورة ..الجمع كأنه مشتلة ..أو هكذا دار الأمر في خلدها ..أحست بخشخشة تدنو منها ..إنه الغراب جاء يزحف ..هو الوحيد الذي إستيقظ بعد نوم إستغرق زهاء 12 ساعة كاملة ..قال : قرروا مصيري .
-هذه ليست مسؤوليتي ردت جوليا ، تنسل من سرحانها ..إلى قرار حاسم يجب أن يتم الفصل فيه ، وهي لاتملكه ..قالت في قرارة نفسها ك مالهذا الغراب ظل حبيسا ، إما أن تكرموا متواه ..أو يخلى سبيله ..)
الغراب يجثو ..ويعود إلى مكانه ..ليغفو في إنتظار الفصل ..خشخشة أخرى بالقرب منها تحاشت النظر إليها هذه المرة ..وبمنتهى الورع دعت السماء أن تفك قيد هذا الغراب ، وهي تحمي وجهها بمرفقيها لتمسح دمعة منهمرة من عينيها ..يخدش تفكيرها (السطو) على أحدهم أو إحضار دلو ماء ، أو أي شيء لإيقاظهم ...بدت لها فكرة رائعة ..تجلت في أن تسقيهم نعناعا باردا تصبه في (فيه) أول واحد في الصف ..حتى تتخلص من ( السوسبانس ) ..فكرت مليا ..عدلت ..هرعت إلى بيتها ..القريبة من الحشد النائم ..أدركت مشارف المزهرية ..حاولت قطف باقات زهور تبعث عبيرا طيبا ..لكنها عدلت ..قالت ، أقرت أن العبير الطيب لا يوقظ النيام ، بل يزيد من شخيرهم ..ماذا أفعل ، إختلط الأمر لديها ..وقفت مليا أمام المزهرية تبحث عن حل مجد ..يخرجها من هذه ( الورطة ) فكرت مليا ..مليا ..مليا .. تسمرت في مكانها ..قرع بالباب يصعق شرودها ..( هذا أنذا عدت يا أمي رفقة فارس ، تقول كاثيا بصوت ناعم ..) تقبلها بحرارة :( والجمع ، أيزال على حاله كأنه مشتلة؟
فارس بوجه (حاقن ) : حاولت إيقاظهم ..لكن دون جدوى -ياخالتي - يقول فارس ، ويبتسم بعدما إستدار نحو وجهة أخرى خلسة .
-وكيف إستطعتم إختراقهم ، وقد ملؤوا كل الأرصفة ، وحتى باحة الفناء الخارجي للبيت وبقية المشارف ..؟
-كنا (نرفس ) الرؤوس ياخالتي ..ما عدا الغراب الذي وخزه وقعنا فتأثر ..وصاح عاق ..عاق ..عاق ..وألتحف السماء ..
-ياللمصيبة ..يالوعتي ..ماذا فعلتما - أجرمتما - كيف لي أن أتصرف مع من إنتدبوني حارسة عليهم طوال هذه المدة ..ومن أين لي أن (أسترد) لهم ما(وكلوني ) عليه ..وبماذا (أتولى ) الغرامة ؟.
حتى المرحوم لم يدع لي إلا كتيبات عتيقة وبعض الجداريات ورسومات لم تكتمل ، وبعض الوثائق منها النص الأصلي للوصايا السبع ، أحتفظ بها بخزانتي الخاصة ..وندبت خديها باكية ..
يقاطعها صوت صارخ من خلف الباب :
-ماهكذا عهدتك يا(ربيعة)(2) بنت (( برشك)) الشرشالية ..الفحلة ..عمي الطاهر تحت إبط السفينة يقرئك السلام ...علينا أن نحدث صغارنا بكل ما نملك ..لا مجال الآن لأن نخفي عنهم حقهم في الإنتماء والجذور ...
-هذا أنت ياجلول ..وقد كان دخان غليونه يتطاير نحوها ..
وهو يدنو من الباب ..كدت أن تغرقني في عرقي ..دع عنك هذا الغليون ..
-هذه فعلة الشباب ..يا ....جاز.....ربيعة ..ربيحة ..ونفث ما تبقى من غليونه ..ولج فناء البيت ( هذا الغليون هدية المرحوم ..يدخل ضمن الوصايا السبع التي بجوزتك )
جوليا يا يزال يساورها الشك في أمر الغراب ..تستدرج فارسا لأن يطمئنها ... تهم بالخروج لتتأكد بنفسها ..وقد شحب وجهها .. وتجهم ...تستوقفها كاثيا ..تسحبها من فستانها .
-كنا نمج فقط ..الغراب ما يزال مع الحشد أسيرا ..روحه فقط هي التي صعدت إلى متواها .. تكون قد صلبت أو تراءى لنا ذلك ..لكن الأكيد أنه أحس بالوحز ففرك عينيه ..وهز جناحيه ..وبدت تقاطيع وجهه جامحة كجواد يتأهب للعدو ..أو كفارس يتزعم ساحة الوغى ...وثب حقا ..سبع وثبات ..هو ذا الأكيد لدينا ياخالتي ..
تزدحم في مخيلتها مدارات السنين ..وأختراق الأزمنة للأزمنة ..ومسار ( الوثب) عند (هاجر ) أمام بئر زمزم ذات زمن قاحل ..قبل أن تنفجر (عين ) زمزم ..ويحوم طائر حولها وهي تقطع أشواطها السبع ..قالت ( تعلمت منه هذا ذات سمر ) ...وطفقت بالمكان تعد (واحد..إثنان..إلى غاية سبعة) ..
القطة الهرمة كانت هي الأخرى تحاكيها ..وأهتزت ستائر البيت السبع على مرمى العين ..وكان الوقت مليئا بالنجوى بين فارس وكاثيا .وهما يعدان دقات أجراس كنائس لم تصل سبع دقات ...
صوت فارس يردف ، وهو ينصرف :( هؤلاء ناموا ثمانية ...) في الأندلس .. عبد الرحمن الداخل ..موسى بن نصير كانا معنا في جنازة رئيسنا الذي واريناه التراب ..وكان الغراب معنا ..ألقى كلمة التأبين ..
التقاسيم تقطلر غضبا ..بصوت شديد اللهجة أثارهما :( وأنا أيضا نمت سبعا في عكة وماجاورها ..) هذا هو الذي يجب أن يصدر منك يا (....)
إغتاظ فارس لردها ..(هذه هي لعبة الشطرنج ياخالتي ) ..
(جان ) من بعيد : ( مايحك لك غير ظفرك وما يبكي لك غير شفرك) .
الغراب مبتسما ، وقد بسط جناحيه ( الصياح للديكة ..والحج للمؤمنين ..وللنسور جبالها ) ..دبحتها فتنة الكلمات ونجوى (الممكن ) ..يعلو جسدها روحها ..يمتطيه كما يحلو للنسور أن تعتلي ( شموخ) الجبال ..ساورها الشك في منحنى اللفظ وغريزة النطق ..حاكت خيالها ..عزوبتها ..إلتقاؤها برومان قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها ..سكتت عن مدلول اللفظة ..ونحتت فصول الكنائس في مخيالها ..تسللت إلى وجدانها خزانة الوصايا السبع ..وأختزنت غضبها المتنامي ..وفي إبتسامة عريضة :(رافقتكم السلامة ) ..لكن ظل يعج في خلدها أمر الغراب الذي بسط جناحيه ..كيف تخلص من الحشد ..مالذي فصل روحه عن جسده ..وشحت جيدها بمنديلها ..وشرعت تصب الماء على المزهرية .
القطة الهرمة تتوضأ بريقها ..
أيقنت في الأخير أن يقظات الموت هي سكراتها ..وأن لعبة الشطرنج كانت تروض بها فكرها .. وتذكرت زرقاء اليمامة ..أضافت ( هذا أيضا تعلمته منه ) ..وأن جذوة التاريخ - جتما - ستضيئها شموع تنير كنائس ومساجد القادمين مع التاريخ ( هذا ما تعلمته منه أيضا ) ..وأنصرفت لشؤونها ..سرعان ما أتجهت رأسا نحو البيانو ، وشرعت تنشد :
أفتحت العار ..ألعار العار ..
أملين الخير ..
أغلقت منافذ الريح ..
أغلقت منافذ البسمة ..
وكبّرت الحكايا ..
جان ) كان يصفق ..فيما كانت جوليا تمسح دموعا عالقة بمقلتيها ، أنشد على البيانو العتيق :
جاني الخير ..جاتني لمعاني ..
أضحيت أنا الظل ..
أنا الشجرة اللي تحكم ..
أنا خيوط لحكايا ..
أنا البسمة ..أنا الوعدة ..
وأضحات لعماق ..
ظل كبير ..كبير ..
يجكي وما يتكلم ..
تسربل وتر مهتريء من شدة الضغط على أزرار البيانو ..حاول (جان ) إصلاحه لمواصلة العزف ..كانت كاثيا ..تتسلل في همس إلى مستوى وجهه ..وهو منكب يصلح العطب ..تختطف غليونه الخافت ..يقفز ..تقول مبتسمة : هكذا جرى للغراب ياعمو ..ها أنذا أصلح العطب ..أشعل غليونك ..دعنا نواصل العزف بأصواتنا الشجية ..ألسنا شبابا كما تعوت أن تسمينا دوما ...
وينفلق الشذو من حناجرهما ..كانت كاثيا أول من أنشد :
أضحيت أنا وهو ..
خيط من خيوط لحكايا ..
جيت أنا وهو للظل الكبير ..
نصبنا خيمة ..
أصنعنا غيمة ..
يقاطعها فارس ..وشمعة متقدة بيده :
نزلت قطرات لمطر ..
نزلت قطرات الندى ..
فورت الشجرة ..
تبللت لحكايا ..
غابت هي ..
غابت البسمة ..
إنحنى عمي جلول لإشعال الغليون ..كان الغراب يكمل ( سرقوا لي الحجايا ) ..أضاف ( أعط القوس باريها ) قبل يختفي هذه المرة وإلى الأبد ..
علم الناس جميعهم بالخبر ..ماعدا عنترة بن شداد الذي كان مشغولا بتسوية وضعيته العائلية من أبيه ..ومذيعة الأخبار بالأجهزة المرئية التي لم تصلها أخبار الغراب ..ثم آل قارون ..وبعض من شباب (الغساسنة ) ..وطفيليون آخرون جاؤوا لمناصرة موسى بنو نصير على عبد الرحمن الداخل ..وعروج على خير الدين ..صفقوا للخوارج على الخوارج ..وأستباحوا دم الحسين في النحف ..قلة من كانوا في الصف الأمامي يسمعون خطبة الإمام ..وقلة قليلة كانوا وراء السياج بإحدى مقاطعات ( الهند) للتفرج على السيرك ..هم هؤلاء الذين لم يصلهم خبر إختفاء الغراب .قالت القطة الهرمة وهي تتوضأ بريقها ..
كل الناس حضروا مراسيم الدفن ..وتأكد خبر موته ..فارس يقرأ التأبين ..وجوليا تصنع حلوى ( الميعاد) ..سفينة الخشب نقلت جثمان الغراب نحو متواه الأخير ..سار في الموكب نخبة من (الشخصيات ) ..نطق أحد العقلاء (لم تبتروا صدره لتتأكدوا من ( توقف ) قلبه عن ( النبض )لم تعقلوه ( كما نياقكم ) لتتأكدوا من أنه فعلا مات ..أوقفوا الموكب عن السير نحو المقبرة ..(ركب) أحدهم النعش .لم يجد الغراب ..كان قد إختفى من (التابوت) .
من حيث لا يدرون ..وجدوا أحد المحققين منتصبا أمامهم ..قال (بإحترافية ) أنا له ..أنا أتولى أمر ( تشريح ) جثثه ..الغراب بحوزة رجالي ..لا تشغلوا بالكم به ...
أحدهم (والموكب هل يسير نحو المقبرة بدون ميت؟) ..
أدفنوا أحياءكم ..قال الغراب وهو على علو منخفض ( الغراب مات إلى غير رجعة ..قال (صقر ) كان ضمن الموكب ..أنا الذي ( بقرت) أحشاءه ..هذا ( صداه) ..واصلوا (سيركم ) نحو المقبرة ..
سار الموكب نحو المقبرة ..نحو متواه الأخير ..
ساروا ..ساروا ..وأستوت الأرض بساطا ..
ورجت الأرض ثانية ..(مسيح ) الأرض والسماء كان نجارا يقتات من الخشب ..وأهتزت الأرض ثانية ..
وسار الموكب نحو مداه ..
عاد الصقر ليؤكد شهادة وفاة الغراب ..وأكد آخرون ..
تداولت الخبر صحف كثيرة مختلفة المشارب ..لم تصدق الخبر ..وعوت ذئاب ..ومازالت تعوي ..
...ويجيء فقيه المدينة من أقصى المدينة ( أقضوا دينه إن كان عليه دين ) ..
وتمتد الأرض بساطا ..يرتوي الماء من الماء ..ويتسربل الخبر من جديد ..تعوي الذئاب ..تختزن ( المطامر ) قمح الشتاء ..وتجود البيادر بالسخاء ..(مسيح ) الأرض والسماء يقتات من الخشب ..وسخاء البيادر ..وفقيه القرية ( يحطم ) القباب ..يغتاظ ( المسيح النجار ) ..يقول فقيه القرية ( أصلبوه من جديد ) ..وتستوي الأرض .. يواصل موكب الجنازة سيره نحو المقبرة ..يعود الشؤم لإبن الرومي ..ويتطير من وجهة الغراب نحو اليسار ومن لونه الأسود ..عنترة بن شداد ينصفه أهله . .ليس في النوائب فقط ..حتى في الرخاء والسلم ...ونمل سليمان صار أبكم صغيرا مثل الديدان ..يفقد حيويته ..تفقد الجداول ماءها ..وعاءها ..إمتصها زبد البحر الأعور ..وأحاجي الأقاصي ..
...ومر ثعلب ماكر ..يخترق الموكب ..يحتقره دون حياء ..يسلم مفتاح المقبرة ..وفأس ( الحفر) لخاله كان ضمن الوفد ..( خال الثعلب الماكر صديق للغراب ) كان ضمن الموكب ..أخفى تقاطيع وجهه وأندس ضمن الموكب الحاشد ...
***** ****
على حافة المتوسط نوارس وطيور تغرد لشجاعة غاندي ( المهاتما ) العظيم ....ملح البحر وأطياف الماضي والمعاني ..في غرناطة ..تسأل عمن قتل خير الدين في تلمسان أو عروج في إستنبول ..قال الثعلب الماكر لخاله الذي تقدم موكب الجنازة ..لا يغير من قشرة الأرض شيئا ولا من هيجان البحر ..
وتقدم الموكب نحو الضريح ..
هبت نسيمات عليلة ..إرتدى (بعض ) السائرين في الموكب أقمصتهم ومعاطفهم إتقاء للعواصف.. ولكل الفصول ..
ضحك كبير العقلاء ..همهم :(هؤلاء يلسعهم النسيم العليل ..يلفحهم حر الهجيرة ) لا تفارقهم ( معاطفهم ) في كل الفصول ..
لا تستبقوا (الموكب ) لعلنا لا نصل الضريح .من يدري ؟
المسافة بين الحقد والسلم إضراب (غاندي ) عن الطعام تعبيرا عن مقاومته ..ليس جبنا ولا إنطواء عن النفس ..وليس خوفا من (البرهماتي المتعصب ) الذي إغتاله وهو في طريقه إلى الصلاة بأحد المعابد بنيودلهي ..قال أحد العقلاء ..صفقت حواشي بومرداس ..وأعلن الصفصاف إنتشاءه ..
كلنا نكتب بالحبر الجاف ..السائل مع دمع المأقي .قال المتيمون بعشق ليلى ..المتيمون بسحر الإبتسامة الخفيفة ( للموناليزا ) ..وقال القادمون من أصقاع أخرى : إمتشق خالد بن الوليد سيفه المسلول ..وجاب البراري بحثا عن كنوز فرعون وقارون في الربع الخالي ..وصفدت الشمس الحاقدين على خالد بن الوليد ..والمترفون في الأرض ..وكذا (الأتباع ..
ورجت الأرض من جديد ..صفائح من (صفد ) من (رماد) من نار (حنطت ) الأباطرة ..وأنتصب خالد بن الوليد شامخا كأوراسنا .. إحتمى الغراب بهوانه ..وتسربل وتر البيانو العتيق من يد ( جان ) المرتعشة ...مزق المعزوفات (عقاب ) شرير (يحترف ) المهانة .
وظلت (دمية ) كاثيا صامدة كأوراسنا ..
وعاد فقيه المدينة إلى التساؤل ( هل قضيتم دين الغراب قبل أن تواروه التراب ؟ ) ..جدتي التي كانت (ضمن ) الحشد :( شعيراتي وخصلتي ..وصيحتي غلى (ملح الطعام ) لغاندي قضاء على الغراب ..هذا ما أملك ولعله أثمن ما أملك ..أقضيه عليه .هو الذي سرق مني قبل أن (نحتشد) ونمشي في جنازته ..أوتار معزوفة مطمحي إلى " ملمح الطعام " لغاندي ..
جدتي أوت الجبل بمحض إرادتها ..والموكب مايزال يواصل سيره نحو المقبرة .لم يصل بعد .
آيت منقلات آوى الجبل أيضا رفقة الشاعر السي محند أو محند والكاهنة ..وكسيلة ..
لالة فاطمة نسومر تتسامى ..تعتلي جبل ( يما قورايا ) في إنتشاء ..منديل الظفر يلوح من على قلعة بني حماد ..وربيع ( الثكالى ) أزهر ..
وأنفلق الفجر ..وزغردت جدتي ..
نطق الغراب من (تابوته ) : أنا أيضا أرجو صفحكم لآوي جبلكم الأشم ..الشامخ . يتسمر الموكب في مكانه (يتحلق ) العقلاء حول ( النعش ) يساورهم الشك في نواياه ..تطل الجوكاندا من جوف الغراب :( إمنحوه صفحكم ) ..أنا السمحاء ..هذا ما سمعه العقلاء فقط ..
وأنطفأت جذوتها ..
ونطقت ليلى ( أنا أختها في الصفح ) ..أنا السمحاء ..وأندثرت ..
ونطقت حمامة ( أنا أختهما في الصفح ) ..أنا السمحاء .وأنتظرت ..
نطقت الروابي ..نطقت البوادي ..والسواقي ..قالت: نأوي جبلكم الأشم ..السفح به صفيح نار ورماد ..وثعالب من حنايانا هبطت ..
نأوي الجبال .تأوينا ..نعتكف ..نصفح ..وأنتظرت رجع الصدى ..
إرتوى السفح بمأقي الجبال .رق حال ( السفح ) جاب البراري ..والبوادي .
كان المنبث غضا في منبثه .
*** ****
الموكب الجنائزي في طريقه إلى المقبرة ..يتمايل ( التابوت ) ..تسقط قطرات من الخطايا على الأرض ..والموكب يسير ..
يترنح التابوت ..يثقل ميزانه ..يخف ..يرتعش الحاملون لع ..تقشعر النفوس ذهولا ..تتساقط الخطايا ..يصل ميزان التابوت غلى (قسطاس ) ( ريشة هدهد ) أو طاوس ..تزداد الحيرة والذهول ..تحتسي الأرض خطايا التابوت ..
فقيه المدينة في ذهول : (أقضوا ما تبقى من دينه ..
تحتسي الغربان خطاياه ..وتنجلي الخطايا مثل الليل ..يندهش الجميع .قال أحدهم : كيف تنجلي الخطايا -مثل الليل - هذا (ضرب من اللفظ الزائد في المعنى ..
إنها تحولات الدهر يرد فقيه المدينة ..
وترتعش الأرض ..
يكثر نحلها .نملها ..وحيثان البحر ..تصعد إلى اليابسة ..إنه يوم الأزفة ..قال صدى من الحشد ..الرض تكثر إرتدادتها ..وتستقر .
مشارف التابوت (يكسوها ) ندى غريبا لم يعرف له مثيل في مثل هذه المواكب الجنائزية ..وتحصن التابوت بخطاياه من جديد ..
الرجع إلى التابوت كأن شيئا لم يكن ..لم تسقط خطيئة واحدة منه ..إنها ذرات ندى ورذاذ مطر ..وأضغاط أحلام .نطق الغراب من داخل التابوت ..
وتأجل موعد التشييع ..إلى أن يفتي فقيه القرية والمدينة (معا ) ..لعل الوجهة كانت خاطئة ..وخطيئة ..قال فقيه المدينة ..( شيعوه على الطريقة المالكية ) ..تجهم وجه الجميع ( يحتارون ) لهذا (الطرح) ..إستدار الغراب نحو العقاب ..وأبتسما ..فيما آوى الجميع إلىجبل أشم يربط مشارف المدينة بمشارف (المدينة ) الأخرى ..يتوسط تلالا وروابي ..و(وقع) أقدام منحوتة من العصور الغابرة ..في إنتظار فتوى جديدة أخرى ..
*** ****
مسح الإسكافي أحذية المارة عبر شوارع المدن المجاورة ..
وسكن الليل الضارب في الدجى ..
تعالت صيحة (الديك ) في حلكة الدجى .قال الآوون إلى الجبل الأشم ..
-من مسح أحذية السائرين في مواكب الجنائز ؟
-كثرة (الهرولة ) أجاب العقاب ..
من يحفظ أحاجي جدتي من الإندثار ..من يحفظها من سرقة اللصوص .ومحترفي (الأحاجي ) ومريدي الولائم ..(ساكنة الولائم ) وماسحو الأحذية ..قال فقيه المدينة ..وآوى إلى الجبل الأشم ..
سطوح الأبنية غزاها النحل والقمل ..وسماسرة ( المناقصات ) ..وآوت إلى الجبل الأشم ..آوى الجميع إليه ..كسيلة ..ماسينيسا ..يوغرطة ..
مريدو الولائم .حولوا المأتم إلى مسلك آخر ..
نطق الغراب .قال : هذا ليس إتجاهي ..وآوى طواعية إلى الجبل الأشم ..
يحتشد الجميع بمرتفعات الحصن ..ثمة ضوء قمر خافت أطل من السفوح ..يهرول الجمع بإتجاهه لإلتقاط ( صورة تذكارية جماعية
ينسى مريدو الولائم أن أحذيتهم لم تكن ملمعة ..يعودون إلى السفح ..( يتطاولون ) على العشب ..يمسحون ....(...) يلمعون أحذيتهم .
خشخشة كانت ( رجع صدى ) ..يتوارون في أقبية أرانب وديعة تسكن المنطقة ..يصيبهم الجوع ..ويذهلهم ( عشب) الضاحية ..صياح الديكة يوقظهم مع إنفلاق الفجر ..كان المأتم قد تحول إلى حفل ختان ..
..وأطلت شمس السفوح من على البوة المطلة على المدينة ، حيث كان فقيه المدينة (يدبج ) فتواه ..قال : أرجعوا من حيث جئتم ..(فصلنا نحن العقلاء ) في أمر الغراب والعقاب ..لا تأووا جبلا لا يعصمكم من الدجال ..لا تعتلوا شموخ الجبال ..طوفان قادم مع الريح ..بإتجاه الغرب .إستوا على البساط ..إتقاء للفتنة والحر.. كان اباطرة الأباطيل أول من إنصاع ..
وأندمل الجرح ..الذي ظل غائرا ..يطعن جوف الغراب بعد (سقوطه ) (سقتطته) من القرميد ..
قال :( والآن نفسي يانفسي ..)
...وجاء من أقصى الرض..فرس يعدو ...يحفرا أثلاما برحم ( الأرض ) يثير العجاج من أقدامه ..من حوافره ..تسقط أوراق من (غمد) صفيحة ساحنة ملفوفة (في ) محفظة مرصعة (بالجلد الخالص )..يلتقطها (مريدو الولائم) يقرأ أحدهم هذه الجملة : ( نادرا ما يبيض الدجاج في السوق ) يطرحونها أرضا ..يواصل الفارس المغوار شقه للأمصار والبراري .
كبير العقلاء ( هذا هو نجمكم الساطع ) إنتظروا عودته بعد حول ..الآن إطمئنوا ..لا جبل .ولا مأوى يحميكم غير ( برنوسه ) ..ينصاع الجميع حتى الغراب ..
يجتمع النواب (في البرلمان) بقبتيه ..القبة الأولى ..وجهتها القبة الثانية ..والقبة الثانية وجهتها الإيمان بالقضاء والقدر .. يبتسم الأمازيغ ..مفتي المدينة يسحب ماسينيسا ..الكاهنة ..طاكفريناس ..يوغرطة ..يعانق كسيلة عبد الرحمن بن رستم ..يوسف بن تاشفين .إبن تومرت ..وشيح بوجهه عن زهير بن قيس البلوي ..
يتشدق الغراب بمنقاره ..يقرأ لوائح ( التصويت .
هو ذا الغراب الأسود الحبشي .قالت جدتي ..وعدلت عن ( الصفح ) ..يغضب الغراب ..يرمي الخصلة في الأرض وتخمد النار النار التي تأججت في القبتين ..
تحكم آلهة اليونان على سيزيف بالإنصياع لمؤذن المدينة ..الذي نفذ أوامر الجدة بعد سقوط الصخرة في الشوط السابع ..بين الجبل والجبل ..ويتوارى سيزيف في أحاجي جدتي التي إبتلعها الغراب .
قال مفتي المدينة ..:( سيزيف ليس من فصيلتنا ..لا تحق له الشهادة .لأنه مملوك ...
قال أحد السائرين في الموكب ( أبقروا أحشاء الغراب لنستريح من نعيقه ..(لم يمت .ولم يحيا ..ولم يأب المقابر ..ولا الكنائس والمدائن ..والمآذن ..
وجف الريق في حلق القطة الهرمة التي سارت مع الموكب ..
يخدش (العقاب ) التراب بمنقاره.كان ثمة قابيل وهابيل يعلنان الصفح ..ويتعانقان ..
رئيس جلسة القبتين يرفع الجلسة ..تتدخل جدتي ( واصلوا التصويت ) لعل الهودج القادم من الأهاقار ..من توات ..من قورارة يحمل الثمر .لا الدم القاني جوليا التي كانت (تسامر ) جان -في إنتظارالفصل -تعزف لحن الخلود خلسة ....تصوت لفصل الموقف ..ويحتدم الشجار ..
غربان الضاحية يتظاهرون في حشد (عارم) يتفرق الجمع ..تلغى مراسيم التشييع ..صحف (الناس ) تتناقل الخبر بإشمئزاز وإمتعاض ..يركن الإسكافيون إلى نقر الأحذية خلسة ...تأهبا للحول القادم .
تطل بلقيس من أعالي الروابي ..يهرع ( المارقون ) في محاولة لإجتثاث أجنحة فراشات كانت تقتات (الريع) على حواشي سبأ ..وسد مأرب ..
ويحتدم الشجار ..
..وأطلت بلقيس ثانية من على مملكتها .قالت (أخطأتم الوجهة كعادتكم ..نمل سليمان وملكي تزهقه مدنكم الموبوءة )نهر مأرب ومنابعه أنهر تجري صوب المدى ..صوب الروافد ..
فارس العودة لم يأت بعد ..
ينكمش ( المارقون ) ..يحملون أحذيتهم فوق كواهلهم كغيمة لا تمطر ..
قال كهانهم ( الحول قريب ) ..
الفارس يركض نحو الحقول ..يراه الكهنة في شكل نحلة تمتص رحيقها ..يهرعون إلى كهوفهم ..ينثرون البخور والتمائم على باقي الضفاف الأخرى ..تذروها الرياح ..يعود الكهنة إلى بلقيس يسألونها ( عودة الفارس ) ..
تتطاير أصوات المزامير والطبول ..كالتبن في مهب الريح ..يقهقه فقيه المدينة
( هذا شأن آخر..
**** ****
في مجرى النهر ..يتوطن زمن الملاحم ..زمن الإنبعاث ..هو ذا ( الأفيد ) قال الغراب وقد إمتعض للهاث الكهنة ..يستوى على نعشه ..يمشي مختالا فوق رؤوسهم ..يحط على أبشعه (خلقة) يقول (هذا موطني ومملكتي ) صوتوا على هذا الذي إخترته ملكل عليكم ..يرفض الجميع ..يتشاجرون من جديد ..
يستكين مريدو الكهنة للصمت ..يجيء النهر الجارف ..يتحدث الناس عن الطاعون ، وقد وقد أصاب جزءا من مدن مستباحة ..غارقة في ردم (النفايات ) قرب الشواطيء والمرافيء ..كان ثمة عنكبوت ينسج بيته الواهن .يقول في إسترخاء وحياء ووقار : (أوهن بيوتي أشبه بممراتكم نحو (حقول التبن ) التي أقتات منها ..وتقتات منها فئران الضاحية ..
لم يكترثوا للنصيحة ..وظلوا كعادتهم يتهامزون بالألقاب ..
يمر طيف الفارس ..يعكس سراب الصحراء ..يقفون ..يتأهبون ..(يناضلون ) ..
تبح ( مزاميرهم ..كانت سلحفاة تتجول (بالضاحية ) تقول : (كل عطلة فيها خير .
يرنو الفارس مرة أخرى من على الروابي (كانوا يترقبونه عبر التلال ) .قال أحدهم : أشعلوا الشموع ..أوقدوا الحطب ..لمعوا -خصوصا - الأحذية ..كان الغبار ..ينثر (عجاجه ) على أعينهم ..ولم يكترثوا ..يتوارى الفارس ..يقطع (الأمصار ) يمر كهبة ريح ..
يسخر من كهنة الريح والتاريخ والملح (الأجاج ) ..قال :( الملح للجميع .
أصبت يقول الغراب ..ويقول غاندي ( الملح للطعام ..
أطياف الستائر السبع تقتلعها الريح من وقع عجاج يثيره الفارس الذي جاء من (رحم الشعب ) ..يمخر عباب الأرض ..
***** ****
يستفيق النائمون بباحة جوليا ..ينفخ (جان) نار غليونه مبتهجا ..يتوسط الجمع الحاشد منتشيا ... يقول ( اللوحة الزيتية ..الجدارية قد إكتملت ..
يدبج حواشيها ..ينفض الغبار عنها ..يستريح قليلا ..يسقي حواشي المزهرية بماء الورد ..بماء يفيض من (لبنه .
حليب القطة (الأبيض ) الذي كانت تقتات منه يتسربل ..يتسرب بإتجاه النائمين ..يصيبهم التسمم جميعا ..
***** ****
الناعورة في حقل القرية تغتسل في جنباتها بلقيس ..وتلتئم الضواحي بالضواحي.يركل حمار الحي إرث اليتامى و(حبوس ).(عجوز حي تاجماعت) الطاعنة في السن ببوسمغون يزورها القادمون من باريس و(وأحياي درو بفرنسا ) للتجوال وإلتقاط صور تذكارية ..قرب واحة النخيل ..ومراحيض تأكلت جدرانها من القدم ..تتعالى (حضرة ) التيجانيين ..
تموء القطة ..في ( حوش ) جوليا في فرساي .. ينتصب الفارس أمام الجمع : (هل أكمل المحاضر محاضرته ؟ ) .
-في جلبة إننا بصدد إتمام فصولها .
يفرك (جان ) عينيه الجاحظتين ..يشعل غليونه ثانية ..يمتطي (الجواد) الواقف بمحاذاته ..وقد إستأذن صاحبه ..:( الآن أن أوان الفصل ..وأن للجواد أن يمتطي صهوة الريح .
غزلان توات تبدي ترحيبها بالقادم المقدام ..
تبتسم جوليا ..يتكاثر الذباب على الأسطح ..وعلى شرفات المباني ..تهتز القطة فرحا للذباب المتكاثر :( هذا فصل الخريف ..فصل العطاء ..وموسم جني التمور ) ينتشي المحاضر ، وهو يكمل فصول المحاضرة : ( يقول الكبار ، ويقول الأثر جناح الذباب يغمس في القهوة عندما يسقط بها أو في أي سائل ويشرب ) .
يقول أحد الواقفين : أكمل الباقي .
-في هذا القدر دلالات ، إسأل أهل المعرفة والدلالات ..
فقيه المدينة ( أجل هو ذا الصواب ..هو ذا الفصل ..
تتوارى أنجم ..فصول ..مواسم ..تسطع أخرى ..ويتوقف الموكب عن (الدفن ) .(ترفس ) أرجل القادمين من زمن القحط أخاديد الأبرياء ..ويلتئم الجرح ..
.تهطل أمطار ..(تصطك ) الأرض من جديد ..ضفيرة حنان كانت بأحشاء المدينة ..تسقط كالخطايا ..يتقيؤها الغراب الذي إبتلع كل الضفائر ..في (خيبر ) ويترب وتوات ..
فارس يرمق. دميته تغتسل بندى المزهرية ..تفيض كاثيا (بالدمع ) تقول : قال الغراب : دميتي جابت أزقة (خيبر) مثلما جابتها ضفيرة حنان .وكل الضفائر ..) ..لكنها تضيف : (غربان خيبر منيت بالهزائم ، هكذا حدتثني أمي جوليا ..
تنهدت ..زفرت ..وأردفت : لولا أنني رضعت ضرع الوطن لأعتنقت ( عشق ) ليلى ..
لكن.. ثم سكتت..
فارس ظل يرشقها بنظرات حادة ..
***** ****
بموانيء وهران ..بومرداس ..شرشال ..طفلة بهية الطلعة ، تنتظر مقدم الفارس في (شغف ) أصابتها عاهة ..تغور في أصدائها ..ترتوي من جلد (أجرب ) .. يتهاطل (عليه ) الذباب ..يسرق عنفوانها رجل شرير ..تزوج أمها قسرا بدون فاتحة .يقال أنه رافق أبا جهل إلى حيث وأد الدلفين ..دميتها بيدها الممدودة إلى أسفل خصرها ...تذرف دمعة ..تمسح أخرى ..تهلوس أحيانا : (كما في البؤبؤة كنوز ( الطحالب ) وصفد المآقي يغازل جوابي ..جوارحي ..إنكساراتي ..أسألها عبر الصلب والترائب ..تغادر مصنع الآجر الأحمر .لترتطم بكنوز الدنيا .وترتطم بالوشاح المسيج بأقحوان الأماسي الناعسة.
تكتب رسائل للشهداء ..وهي العابرة لمتاهات سرو الونشريس ..وأدغال (سيدي بلعباس ) ..يخفق الصفد في حرارة القلم ..تضيف : (أريد مقابلة مع رئيس البلدية ..
قالت أرصفة الموانيء وأصداءها : ( من تعنين يابنيتي ؟
-أختي في الوطن والطهارة ..غارت عيناها ..إلتهمها البحر ذات دهر ..
-هي ليلى رد عمي الطاهر ..(يابنيتي ) تكبرين وتعرفين من هو مصالي الحاج ..كسيلة ..فاطمة نسومر ...
قالت الطفلة بهية الطلعة : ( لماذا طعن زهير بن قيس كسيلة ؟.
تنهد عمي الطاهر .أحجم عن الرد ، قالت الأصداء : هذه براءة الدهر يابيتي ..
الأرض ترتعش من جديد ..يستيقظ البحر الأعور يبتسم دوفانسي ( أنا أيضا سرقوا مني الموناليزا ) سرقوا إبتسامتي الساحرة ..الخفيفة ..هدروا دم الأحرار ..هذا شأن الدنيا ( يابنيتي ..
يقطع حديثهما هدير مياه ..يتراءى من بعيد ..كان البحر يفيض كما الدمع في المأقي .. يجف البحر ..تختنق اليابسة بديدان البحر ..
تفر الطفلة إلى قبو بإحدى الأبنية المهترئة ..خوفا من الذباب ..والديدان ..ترتطم الأرض بالبحر ..والبحر بالسماء ..تسوق الرياح سنابل فرساي وباريس و(مجوهرات ) الأستقراطيين ..وممتلكات الحوض الآخر ..في زمن الغلبة والفواجع .
وجفت مأقي كاثيا ..
تتدحرج الموناليزا بين موج وآخر ..تسقط (حبات ) قمح من منقار الغراب .
نفايات قرب الشاطيء تسير نحو عرض البحر ..يخرج الناس إلى واجهته ..صفائح الماء الزلج تعكس طيف الجوكاندا ..هاهو ذا الفارس يشق البحر ..قال الواقفون : طارق بن زياد أنهى رحلته ..
قال الغراب : لم ينهها بعد ..من يزيح الذباب على وجه الطفلة ؟ ويستوى على التابوت ..
قوس قزح يتراءى ..يفصل اليابسة عن البحر ..ينكمش الغراب ..يعود إلى تابوته ..
فقيه المدينة .كان يقرأ التمائم ..يتعوذ من هول الدهر ..يبحث عن أجوبة الطفلة الغارقة في تأوهاتها ..تستحم (سبحته ) في (نصف) قوس قزح ..قال : ( قرأتك في الثوراة ، في الإنجيل .في الزابور ، وفي الفرقان ..بحثت عنك في سماء الله ..وفي كل القارات ..تطاولت على السبت والخميس -ماعدا الجمعة -فتشت عنك في أقبية الماء لأنجب الماء الذي يجذبني نحو الينبوع ..ينجبني إبنا عاقا ..سكنت أيام الأحد ..من الفجر إلى ما وراء الدهر والظهر ..لأسترق صخورا صلدة ..الأيام تسير لاهثة إلى الخلف ..وأنت تسيرين نحو جبنك ..ووهنك المعهودين ..تغازلك أطياف البراري ..وبقر الجاموس ..القابع دوما على قارعة الطريق ..تخافين معاكسة الثيران لك ..ينتشلك الحياء من الحياء ..
قالت الطفلة (آمين ..) من يحمي الديار من قرن الجاموس ؟ .
**** ****
يجتمع البرلمانيون (تحت القبتين ) يتناقشون أمر الغراب ..أحد المعارضين يشهر رأيه في وجه المجتمعين ..يهدد بإستقالته والإنسحاب من الجلسات .وقد مل كثرة التأجيل ..الغراب الذي كان أمام العارضة :( لاجدوى في المناقشات..وقد تشابهت الغربان ..ترفع الجلسة إلى الأبد ..
**** *****
حمائم المرسى ..تتوسط السماء بين الحوضين ..قوس قزح يشع نوره ..تتوارى الأحاجي ..يتوارى التقيؤ ..وتندمل جراح الطفلة اللاهثة ..هتافات الواقفين على الواجهة تتعالى ..وتتوقف الجرائد عن الصدور ..يمتلك الرعب عمي الطاهر ..وهو ينخر إبط السفينة ..ترتجف أوصاله من كثرة الوخز ..اللولب ما يفتأ غائرا بركبته اليسرى ..يمتنع عن البوح مثلما الريح تمتنع عن البوح بأسرار الضفة الأخرى ..وشذرات الحضارات ..فقيه المدينة يمل الإستشارات البيزنطية ..
سفينة قادمة من بعيد ..تحمل من كل زوج أثنين ..
السفن القادمة من بلاد الإغريق وعرض (المانش ) يكثر توافدها ..تصطدم بأعلي البحار ..يمتليء الملأ بالمدى ..ويرتحل الجوع من القرية الموبوءة ..يمتص البحر ضفائر حنان من جديد ..
يصرخ الأزواج في السفينة : ( لعنة الله عليك أيها البحر الأكول..
نسيمات تهب ..على اليابسة ..تخرج الطفلة من قبوها ..تلتحق بالسفينة الراسية ببومرداس ..الطفلة تلهو بدميتها ..تفرك عينيها ..(تزيح ) الذباب الذي يلاحقها ...تتوسط ( الأزواج
ربان السفينة في إنتشاء :( لنا عندك مفاجأة ) تبتسم الطفلة ..البريئة ..تقول بألحاح : ( طلبت مقابلة رئيس البلدية ) .يتعجب الربان من هذا الإنشغال ..ينطق الغراب (علموها مشي الحمام ..قبل أن يستقيم عودها ..علموها الركض رافعة رأسها ..مشيي أنا أعرج كما تعلمون ..
تغادر السفينة بومرداس ..ترسو بوهران بالمرسى الكبير .تعود إلى شرشال ..يسقط ( تابوت ) الغراب ..يتهشم ..يحتشد الفضوليون حوله ..يعتري الغراب غثيان حاد ..يتقيأ ما في جوفه ..تبتل أرصفة الميناء بعفونته ..يشعل =جان ) غليونه ..يتمتم فقيه المدينة ( عملية الإسترجاع مفيدة ) ..يتواصل القيأ .يزحف الغراب نحو البحر ..يزداد غثيانه ..تكنسه جوليا ..تمرغه في وحل البحر الأعور ..تقول : (هاك عفونتك ) أنا الشرشالية الفحلة .بنت ( برشك) ..خذ ( زبلك ) أرحني من عفنه ..كما ظللت تجلب البؤس عبر القرون ..تلتفت نحو جان ، بغضب شديد : ( أفتح الآن سجل الوصايا السبع ؟ ).. يوميء لا بالنفي ..تواصل بنفس النبرة : بين المعراج والمعراج لفحة شمس ..وإستثمار الذاكرة ..تخدش الذاكرة صورة ضوئية ..وتباشير ليال سبع قرب المزهرية ...ياجلول - دعني أشفي غليلي ..بين المروج والمروج دفء اللحظات ..والأزمنة ..دعني أشفي غليلي ..
**** ****
منارات شرشال لا تبيض في السوق ..مثلما تبيض أحاجي الغواني في سراديب الماضي ..مخبوءة وصايايا في منديل كاثيا ..منارات شرشال وجدي ..دعني أتقيأ النازية ياخالي ..دعني أرتدي مسافاتي .قالت وفتحت حقيبتها ..
في وجل يشيح جلول بوجهه عنها ..: (هو ذا العد التنازلي يابنت أختي
وفتح حقائبه ..:(خاوية تلك المسافات من عنفوان العد الهرمي ياأبنتي أختي (ما يحك لك غير ظفرك ..وما يبكي لك غير شفرك .
قالت كاثيا : ماهذه الهمهمة يا .......
قالت جدتي : صفح الجدة أقوى من مسافات التيه ..ياكاثيا ..بنيتي ..
وأرتوت دموع شرشال بأرض شرشال ..
منارات المدينة تعلن الإنطلاق نحو البحر ..
قالت كاثيا : ماهذا ....؟
-إرتسامات المولد النبوي الشريف ..توقد الشموع ..يركب الناس (ظهر السفينة .المركب ) يرستم الفرح ...
قال الفارس الذي جاء من رحم الشعب :( أرفع راسك يا أبا ، عنقر طربوشك يا أبا )
ينتشي عمي الطاهر. يبحث عن لولبه المغروس في ركبته ..يجد نفسه ملفوفا في رداء كاثيا ..في برنوس الفارس ..في حنان جوليا ..وحسرة ( جان ).
يقول (أين أنا.).
تشع أنوار المنارة ..تفيض مآقيه بالدمع ..ينهمر كالمطر ..يقول ( كنت أنخر سفينة .كانت ...) ترتطم الأمواج ..تكسو اليابسة ..يموت من كان في السفينة .من كان (يحفر) ..من كان (ينحت) إبطها ..تغدو الرياح قوية ..تجرف البحر الأعور ( يأوي الجبل الأشم من نجا .
شحرور أخضر ..ينقر نايي..صبابتي ..كنتُ معهم ..أفتح حقائبي ..
-من خول لك ( الإقدام ) قال الذي نجا..
تفتح كوة السفينة ..يمتطيها فارس ..يصله صوت هامس :( هاك خاتمي ..وجدي ..هاك وئامي..أصفحي ، قال نجار المدينة لكاثيا..
قوافل (توات) تجيء محملة بالثمر والرطب ..تطل البتول من مرجاجو بوهران ..دلاء (جان) لبان المدينة توزع الحليب ..تتضوع رائحة المزهرية بالياسمين ..خاتم كاثيا كان يلمع ..كان خاتم فارس يسطع ...
وشرب الصفصاف الماء من الماء ..
يتوقف عويل الجوكاندا ..تعتلي هودج فارس وكاثيا ..
تتأوه الطفلة الجرباء ..( ألم تفتحوا حقائبكم ..ألم تعتلوا صهوة الأصقاع الأخرى ؟..يجذبها الشحرور بلطف : ( خل البئر بغطاه ..هذا أوان الشذو.. ياطفلتي ..
تسحبها جوليا إلى حقيبتها : (هذه محفظة مني لك)إنسي رئيس البلدية ..
تتقدم نحوها كاثيا : ( هذا مئزر مني لك ..ياصغيرتي .
يتقدم نحوها فارس :( هذه كراسة ومقلمة مني لك -ياعزيزتي .
تقلع السفينة ..تحك جدتي رأس عمي الطاهر : ( عفوت عنك ، وعن صعلتك ياولدي ..الصغر أهبال .وقلة المعرفة تغبن مولاها ) ..تنهمر عيونه بالدموع ...
الصفصاف يشرب الماء من الماء ..ترتوي التلال والمداشر .
وفي السفينة من كل زوج اثنين .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف