[فلسفة الأخلاق عند كانط]
الدكتورة إيمان الصّالح
• تمهيد :
يُعدُّ كانط Immanuel Kant [ 1724م- 1804م ] واحداً من أبرز فلاسفة العصر الحديث ، بل مضى البعض إلى اعتباره أعظم فلاسفة عصره ، فقد عمل على التّصالح بين العلم والدّين بطريقة تبدو أكثر نعومة وأشدّ تأثيراً من ليبنتز [ 1646م _1716م ] ( 1) ، أسّس المثاليّة" النّقديّة أو " المتعالية" ، كما اتّسمت فلسفته الأخلاقيّة بالمثاليّة . عرّف الأخلاق _ عامّةً _ بأنّها : مجال الحريّة البشريّة ، المتميّز من ميدان الضّرورة الخارجيّة والسّببيّة الطّبيعيّة ، فأصبحت بمعنى أكثر ملموسيّة ، مجال اللاّزم ( ما يجب أن يكون) الّذي له طابع كليّ في الأخلاق ( الآمر القطعي) ( 2) . أبدى اندهاشاً كبيراً وشعوراً عارماً حيال أثر عظمة الكون والقانون الأخلاقيّ في عقله ونفسه ، فقد ختم كتابه "نقد العقل العملي" بقوله الشّهير :" شيآن كلّما تأمّلنا فيهما مزيداً فمزيداً من إمعان ، يملآن الذّهن بإعجابٍ ورعبٍ جديدين أبداً ، متزايدين دائماً ، إنّهما السّماوات المرصّعة بالكواكب فوق رأسي ، والقانون الأخلاقيّ في داخلي . وليس عليّ أن أبحث عنهما ، أو أحدس راجماً بالغيب فيهما ، كما لو أنّهما كانا مقنّعين بديجور ، أو كانا في صقع مستشرف يقع ما وراء أفقي . إنّني أراهما أمامي ، وأربطهما مباشرةً ، بإدراكي وجودي ." ( 3) .
و في المضمار السّياسيّ تبرز أهميّة كانط من خلال تقديمه مشروعاً للسّلام العالميّ الدّائم ، ينهي الحروب والعداء بين الدّول ، ويفضّ النّزعات النّاشئة بينها بالطّرق السّلميّة ، فيجنّب النّاس ويلات وكوارث تلك الحروب ، فقد انطوى كتابه الّذي ظهر سنة 1795م " نحو سلام دائم ، محاولة فلسفيّة " على أقسام وملاحق عدّة ، تصوغ شروط السّلام ، والضّمانات الواجب توفّرها لضمان هذا السّلام ، وضرورة إعطاء الفلاسفة الحقّ في تنوير الدّولة والحاكمين فيما يتعلّق بالأمور السّياسيّة ، وتناول علاقة السّياسة بالأخلاق ، فكان مشروعه متّسقاً مع مذهبه كلّه سواء في نظريّة المعرفة ، أو في الأخلاق ، من هنا لا يمكن فهمه أبداً بمعزل عن المبادئ الّتي قرّرها في " نقد العقل المحض" ، و" نقد العقل العملي" و" ميتافيزيقا الأخلاق "، و" فكرة التّاريخ العالميّ من وجهة نظر كونيّة " ( 4) .
لقد استطاع توظيف معارفه الفلسفيّة في مواجهة أخطر التّحدّيات الّتي تتعرّض لها البشريّة ، أعني الحروب وما يرتبط بها من كوارث وويلات ، في مسعىً أخلاقيّ للارتقاء بالإنسانيّة إلى مستويات أكثرَ أخلاقيّة ورقيّاً وتقدّماً . ونظراً لأهميّة الأخلاق في بناء الحياة الإنسانيّة ، ارتأينا تسليط الضّوء على مذهب كانط الأخلاقيّ ، بوصفه أنموذجاً أبرز للفلسفة الأخلاقيّة الحديثة ، الواسعة الذّيوع والانتشار .
• المنهج :
يعتزُّ كانط بأنّهُ أحدث في الفلسفة ثورةً ، تُماثل ثورة (كوبرنيك) في عالم الفلك ، فبعد أن كان الفكر يتبعُ الأشياء ويُسايرُها ، صارت الطّبيعة كلّها هي الّتي تتبع الفكر من حيثُ معرفتنا به على الأقلّ وتسايره . فغدا هو الّذي يصنع العالم ويُملي قوانينه على الكون الحسيّ كذلك . لقد وجد كانط أنَّ العقلَ عقلان : نظريٌّ وعمليّ ، أمّا العقل النّظريّ فيتناول شؤون المعرفة والعلم ، ويحدّد اليقين الحقيقيّ بالتّجربة الإنسانيّة ، ومعطيات العقل معاً ، وأمّا العقل العمليّ فيتناول الجانب العملي من الوجود ، أي السّلوك والأخلاق ، وينقسم بدوره إلى قسمين : العقل العمليّ بالمعنى الصّحيح ، والعقل العمليّ المحض . يقول كانط :" إنَّ وظيفة العقل العمليّة تقوم على توجيه العقل أعمالنا وأفعالنا ، ويتمّ على نحوين : فإمّا أن يفيد العقل العمليّ من معطيات التّجربة ، فيدرك علاقات الحوادث بعضها ببعض ، بغية استثمار ارتباطها وتعاقبها ، وتحقيق هدف مّا عند توافر شروطه وأسبابه "(5) ، وهذا ما يسميه كانط "العقل العملي بالمعنى الصّحيح" ،أمّا " العقل العمليّ المحض " فيقدّم لصاحبه الإطار أو الشّكل العام لما يترتّب عليه فعله من غير أن يستند في ذلك إلى معطيات التّجربة ، بل يُقدّم هذا الإطار بصورة قبليّة سابقة لكلّ تجربة فعليّة . إنّه ينصّ على ضرورة إطاعة الواجب أيّاً كانت مادّته ، وسواء أكانت هذه المادّة سارّة أم مؤلمة . وهذا العقل العمليّ المحض هو في نظر كانط (الوجدان الأخلاقيّ الصّحيح) . " افعل ما يجب عليك وليحدث ما يحدث" (6) .
من هنا يستخدم كانط منهجين مختلفين في بحث ومعالجة المشكلات الأخلاقيّة ، الأوّل : الانطلاق من معطيات التّجربة ، ثمَّ الصّعود بالتّحليل من هذه المعطيات إلى أعمّ ما يُستطاع إيجاده من قضايا ، لكيّ ينسّقها ويُفسّرها . والثّاني : اتّخاذ مبادئ العقل وتصوّراته للنّزول نحو الظّاهرات ، والمعطى والتّجربة .
أ- المعطى التّجربة :
ما المعطى الّذي يُعنى كانط بمادة تحليله ؟ إنّه ليس الطّبيعة الإنسانيّة مأخوذة في ذاتها ، بل أحكام النّاس والمعاني الأخلاقيّة الشّائعة بوصفها تجلّيات خارجيّة للعقل في مجال الأخلاق . و هنا تجدر الإشارة إلى استفادة كانط من (منهج تقسيم العمل) الّذي أحرز تقدّماً هائلاً في ميداني الصّناعة والعلم ، ومن منهج ديكارت الّذي يَرُدُّ الوقائع إلى طبائع بسيطة ، مُعْتَبَرَةً على أنّها حقيقة ، فمثلما أنّنا في الرّياضيّات نبدأ من وحدات نُشكّل العلم بتوليفها ، كذلك نستطيع أن نقيم الأخلاق بالجمع والتّوليف بين عناصر معزولة ، بهدف استخراج العنصر الأخلاقيّ الحقيقيّ الكامن فيها ، والعناصر المعزولة ههنا هي الأحكام الأخلاقيّة الشّائعة والمتداولة بين النّاس (7) .
ب- منهج الاستنباط الافتراضي :
لم يقنع كانط بالاكتفاء بتحليلٍ شبيهٍ بتحليل الكيميائيّ للمواد الّتي تتكوّن منها العناصر ؟ فابتكر منهجاً شكّلَ إضافةً مهمّةً لمنهج التّحليل البسيط ، اسمه "منهج الاستنباط الافتراضي" ، وهو منهج ينطلق من وضع مبادئ على سبيل الافتراض ، يجري فحصها بمقابلة النّتائج الّتي يتمّ التوصّل إليها مع المعطيات الواقعيّة للتأكّد من صحّتها وصدقيتها ، ثم اعتمادها أساساً في استنباط مبادئ وأفكار جديدة . وهذا المنهج هو المنهج الّذي يُستخدم لاستكشاف القوانين العلميّة (8).
لقد استخدم كانط هذا المنهج اعتقاداً منه أنَّ التّجربة الحسيّة ليست الميدان الوحيد الّذي يُحدّدُ فهمنا ، وينتهي بنا للوقوف على الحقائق العامّة للأفكار ، يقول:" إنَّ التّجربة ليست الميدان الوحيد الّذي يحدّد فهمنا ، لذلك فهي لا تقدّم لنا إطلاقاً حقائق عامّة ، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتمّ بهذا النّوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه . لذلك لا بدَّ أن تكون الحقائق العامّة الّتي تحمل طابع الضّرورة الدّاخليّة مستقلّة عن التّجربة واضحةً ومؤكِّدةً نفسها ."(9) ، إذ لا بدّ أن تكون حقيقيّة ، بغضّ النّظر عن تجربتنا الأخيرة ، وحقيقيّة حتّى قبل التّجربة " فالمعرفة الرّياضيّة ضروريّة ومؤكّدة ، ولا نستطيع أن نتصوّر ما ينقضها في تجربة المستقبل ، فقد نعتقد أنَّ الشّمس قد تشرق غداً من الغرب ، أو أنَّ النّار لا تحرق العصي الخشبيّة في عالم لا تحرق فيه الأشياء ، ولكنّنا لن نعتقد أو نصدّق طيلة حياتنا أنَّ 2+2 يمكن أن يُسفرا عن عدد غير الأربعة . إنَّ مثل هذه الحقائق حقيقيّة قبل التّجربة ، كونها تستمدّ نوعها الضروريّ من تركيب عقولنا الفطريّ ، من الطّريقة الطّبيعيّة الحتميّة الّتي يجب أن تعمل عليها عقولنا ، لأنَّ عقل الإنسان عضوٌ نشيطٌ ينسّقُ ويسبكُ الاحساسات إلى أفكار ، عضوٌ يحوّلُ ضروب التّجربة الكثيرة المشوّشة وغير المنظّمة إلى وحدة من الفكر المنظّم المرتّب (10) . و المعرفة القائمة على هذا النّوع من الحقائق هي ما يسمّيه كانط بالمعرفة القبليّة ، السّابقة على التّجربة ، وهي معرفةٌ بدهيّةٌ صحيحةٌ ، لا تحتاج إلى فحصٍ بواسطة التّجربة ، للتّأكّد من صحّتها .
• ماهيّة الشّعور:
ما الشّعور وما طبيعته ؟ وهل يصلحُ أساساً لبناء حياة أخلاقيّة صحيحة ؟ ثمَّ ما طبيعة العلاقة بين الشّعور والقانون الأخلاقي ؟ ومتى يُصبحُ الشّعور أخلاقيّاً ؟ ...إلخ .
ينطلق كانط في نظرته للشّعور من بعض المسلّمات ، الّتي تنصّ صراحة على عدم أهليّة الشّعور الطّبيعيّ لجعل أفعال الإنسان أخلاقيّة ، متأثّراً فيما يبدو _ من وجهة نظرنا_ بفكرة الخطيئة والسّقوط في الفلسفة اللاّهوتيّة المسيحيّة ، فالإنسان منذ سقوطه في الخطيئة الأولى ، فقد نقاءَهُ الفطريّ ، وأصبح الفساد متأصّلاً في ذاته ، وفقد الشّعور الطّبيعيّ لديه الأهليّة للقيام بأفعال الخير ، ولم يعد قادراً على فعل شيء ، سوى ما يستجيب لميوله الذّاتيّة ورغباته الحسيّة ومنافعه الشّخصيّة . فتحصيل اللّذة وتحقيق المنفعة الشّخصيّة وإلحاق الأذى بالآخرين ، و(حبّ الذّات "الأنانيّة " ، والشّعور بالرّضى عن الذّات " الغرور" )، أبرز سمتين مميّزتين لهذا الشّعور .
وعليه فقد فَقَدَ كلّ من الإرادة و الشّعور القدرة على جعل أفعالنا أخلاقيّة تتّجه نحو الخير ، وأضحى تعامل الإنسان مع الأشياء المحيطة به تعاملاً خارجيّاً بوصفها وسائل لإرضاء ميوله ورغباته وغرائزه الذّاتيّة ، الأمر الّذي ينزع عنها أيّ غطاءٍ أخلاقيّ باعتبار أنَّ " الأخلاق في صميمها عبارة عن الفعل تحت فكرة قانون كلّيّ ، وعدم معاملة الغير كوسيلةٍ بل كغاية " (11)، لكنّ الصّورةَ الأخلاقيّةَ للإنسان ليست قاتمةً إلى حدٍّ يحول دون إصلاحه وبنائه أخلاقيّاً ، فالإرادة الذّاتيّة المسؤولة عن أفعالنا ، قابلة لأن تكون إرادة ط%
الدكتورة إيمان الصّالح
• تمهيد :
يُعدُّ كانط Immanuel Kant [ 1724م- 1804م ] واحداً من أبرز فلاسفة العصر الحديث ، بل مضى البعض إلى اعتباره أعظم فلاسفة عصره ، فقد عمل على التّصالح بين العلم والدّين بطريقة تبدو أكثر نعومة وأشدّ تأثيراً من ليبنتز [ 1646م _1716م ] ( 1) ، أسّس المثاليّة" النّقديّة أو " المتعالية" ، كما اتّسمت فلسفته الأخلاقيّة بالمثاليّة . عرّف الأخلاق _ عامّةً _ بأنّها : مجال الحريّة البشريّة ، المتميّز من ميدان الضّرورة الخارجيّة والسّببيّة الطّبيعيّة ، فأصبحت بمعنى أكثر ملموسيّة ، مجال اللاّزم ( ما يجب أن يكون) الّذي له طابع كليّ في الأخلاق ( الآمر القطعي) ( 2) . أبدى اندهاشاً كبيراً وشعوراً عارماً حيال أثر عظمة الكون والقانون الأخلاقيّ في عقله ونفسه ، فقد ختم كتابه "نقد العقل العملي" بقوله الشّهير :" شيآن كلّما تأمّلنا فيهما مزيداً فمزيداً من إمعان ، يملآن الذّهن بإعجابٍ ورعبٍ جديدين أبداً ، متزايدين دائماً ، إنّهما السّماوات المرصّعة بالكواكب فوق رأسي ، والقانون الأخلاقيّ في داخلي . وليس عليّ أن أبحث عنهما ، أو أحدس راجماً بالغيب فيهما ، كما لو أنّهما كانا مقنّعين بديجور ، أو كانا في صقع مستشرف يقع ما وراء أفقي . إنّني أراهما أمامي ، وأربطهما مباشرةً ، بإدراكي وجودي ." ( 3) .
و في المضمار السّياسيّ تبرز أهميّة كانط من خلال تقديمه مشروعاً للسّلام العالميّ الدّائم ، ينهي الحروب والعداء بين الدّول ، ويفضّ النّزعات النّاشئة بينها بالطّرق السّلميّة ، فيجنّب النّاس ويلات وكوارث تلك الحروب ، فقد انطوى كتابه الّذي ظهر سنة 1795م " نحو سلام دائم ، محاولة فلسفيّة " على أقسام وملاحق عدّة ، تصوغ شروط السّلام ، والضّمانات الواجب توفّرها لضمان هذا السّلام ، وضرورة إعطاء الفلاسفة الحقّ في تنوير الدّولة والحاكمين فيما يتعلّق بالأمور السّياسيّة ، وتناول علاقة السّياسة بالأخلاق ، فكان مشروعه متّسقاً مع مذهبه كلّه سواء في نظريّة المعرفة ، أو في الأخلاق ، من هنا لا يمكن فهمه أبداً بمعزل عن المبادئ الّتي قرّرها في " نقد العقل المحض" ، و" نقد العقل العملي" و" ميتافيزيقا الأخلاق "، و" فكرة التّاريخ العالميّ من وجهة نظر كونيّة " ( 4) .
لقد استطاع توظيف معارفه الفلسفيّة في مواجهة أخطر التّحدّيات الّتي تتعرّض لها البشريّة ، أعني الحروب وما يرتبط بها من كوارث وويلات ، في مسعىً أخلاقيّ للارتقاء بالإنسانيّة إلى مستويات أكثرَ أخلاقيّة ورقيّاً وتقدّماً . ونظراً لأهميّة الأخلاق في بناء الحياة الإنسانيّة ، ارتأينا تسليط الضّوء على مذهب كانط الأخلاقيّ ، بوصفه أنموذجاً أبرز للفلسفة الأخلاقيّة الحديثة ، الواسعة الذّيوع والانتشار .
• المنهج :
يعتزُّ كانط بأنّهُ أحدث في الفلسفة ثورةً ، تُماثل ثورة (كوبرنيك) في عالم الفلك ، فبعد أن كان الفكر يتبعُ الأشياء ويُسايرُها ، صارت الطّبيعة كلّها هي الّتي تتبع الفكر من حيثُ معرفتنا به على الأقلّ وتسايره . فغدا هو الّذي يصنع العالم ويُملي قوانينه على الكون الحسيّ كذلك . لقد وجد كانط أنَّ العقلَ عقلان : نظريٌّ وعمليّ ، أمّا العقل النّظريّ فيتناول شؤون المعرفة والعلم ، ويحدّد اليقين الحقيقيّ بالتّجربة الإنسانيّة ، ومعطيات العقل معاً ، وأمّا العقل العمليّ فيتناول الجانب العملي من الوجود ، أي السّلوك والأخلاق ، وينقسم بدوره إلى قسمين : العقل العمليّ بالمعنى الصّحيح ، والعقل العمليّ المحض . يقول كانط :" إنَّ وظيفة العقل العمليّة تقوم على توجيه العقل أعمالنا وأفعالنا ، ويتمّ على نحوين : فإمّا أن يفيد العقل العمليّ من معطيات التّجربة ، فيدرك علاقات الحوادث بعضها ببعض ، بغية استثمار ارتباطها وتعاقبها ، وتحقيق هدف مّا عند توافر شروطه وأسبابه "(5) ، وهذا ما يسميه كانط "العقل العملي بالمعنى الصّحيح" ،أمّا " العقل العمليّ المحض " فيقدّم لصاحبه الإطار أو الشّكل العام لما يترتّب عليه فعله من غير أن يستند في ذلك إلى معطيات التّجربة ، بل يُقدّم هذا الإطار بصورة قبليّة سابقة لكلّ تجربة فعليّة . إنّه ينصّ على ضرورة إطاعة الواجب أيّاً كانت مادّته ، وسواء أكانت هذه المادّة سارّة أم مؤلمة . وهذا العقل العمليّ المحض هو في نظر كانط (الوجدان الأخلاقيّ الصّحيح) . " افعل ما يجب عليك وليحدث ما يحدث" (6) .
من هنا يستخدم كانط منهجين مختلفين في بحث ومعالجة المشكلات الأخلاقيّة ، الأوّل : الانطلاق من معطيات التّجربة ، ثمَّ الصّعود بالتّحليل من هذه المعطيات إلى أعمّ ما يُستطاع إيجاده من قضايا ، لكيّ ينسّقها ويُفسّرها . والثّاني : اتّخاذ مبادئ العقل وتصوّراته للنّزول نحو الظّاهرات ، والمعطى والتّجربة .
أ- المعطى التّجربة :
ما المعطى الّذي يُعنى كانط بمادة تحليله ؟ إنّه ليس الطّبيعة الإنسانيّة مأخوذة في ذاتها ، بل أحكام النّاس والمعاني الأخلاقيّة الشّائعة بوصفها تجلّيات خارجيّة للعقل في مجال الأخلاق . و هنا تجدر الإشارة إلى استفادة كانط من (منهج تقسيم العمل) الّذي أحرز تقدّماً هائلاً في ميداني الصّناعة والعلم ، ومن منهج ديكارت الّذي يَرُدُّ الوقائع إلى طبائع بسيطة ، مُعْتَبَرَةً على أنّها حقيقة ، فمثلما أنّنا في الرّياضيّات نبدأ من وحدات نُشكّل العلم بتوليفها ، كذلك نستطيع أن نقيم الأخلاق بالجمع والتّوليف بين عناصر معزولة ، بهدف استخراج العنصر الأخلاقيّ الحقيقيّ الكامن فيها ، والعناصر المعزولة ههنا هي الأحكام الأخلاقيّة الشّائعة والمتداولة بين النّاس (7) .
ب- منهج الاستنباط الافتراضي :
لم يقنع كانط بالاكتفاء بتحليلٍ شبيهٍ بتحليل الكيميائيّ للمواد الّتي تتكوّن منها العناصر ؟ فابتكر منهجاً شكّلَ إضافةً مهمّةً لمنهج التّحليل البسيط ، اسمه "منهج الاستنباط الافتراضي" ، وهو منهج ينطلق من وضع مبادئ على سبيل الافتراض ، يجري فحصها بمقابلة النّتائج الّتي يتمّ التوصّل إليها مع المعطيات الواقعيّة للتأكّد من صحّتها وصدقيتها ، ثم اعتمادها أساساً في استنباط مبادئ وأفكار جديدة . وهذا المنهج هو المنهج الّذي يُستخدم لاستكشاف القوانين العلميّة (8).
لقد استخدم كانط هذا المنهج اعتقاداً منه أنَّ التّجربة الحسيّة ليست الميدان الوحيد الّذي يُحدّدُ فهمنا ، وينتهي بنا للوقوف على الحقائق العامّة للأفكار ، يقول:" إنَّ التّجربة ليست الميدان الوحيد الّذي يحدّد فهمنا ، لذلك فهي لا تقدّم لنا إطلاقاً حقائق عامّة ، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتمّ بهذا النّوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه . لذلك لا بدَّ أن تكون الحقائق العامّة الّتي تحمل طابع الضّرورة الدّاخليّة مستقلّة عن التّجربة واضحةً ومؤكِّدةً نفسها ."(9) ، إذ لا بدّ أن تكون حقيقيّة ، بغضّ النّظر عن تجربتنا الأخيرة ، وحقيقيّة حتّى قبل التّجربة " فالمعرفة الرّياضيّة ضروريّة ومؤكّدة ، ولا نستطيع أن نتصوّر ما ينقضها في تجربة المستقبل ، فقد نعتقد أنَّ الشّمس قد تشرق غداً من الغرب ، أو أنَّ النّار لا تحرق العصي الخشبيّة في عالم لا تحرق فيه الأشياء ، ولكنّنا لن نعتقد أو نصدّق طيلة حياتنا أنَّ 2+2 يمكن أن يُسفرا عن عدد غير الأربعة . إنَّ مثل هذه الحقائق حقيقيّة قبل التّجربة ، كونها تستمدّ نوعها الضروريّ من تركيب عقولنا الفطريّ ، من الطّريقة الطّبيعيّة الحتميّة الّتي يجب أن تعمل عليها عقولنا ، لأنَّ عقل الإنسان عضوٌ نشيطٌ ينسّقُ ويسبكُ الاحساسات إلى أفكار ، عضوٌ يحوّلُ ضروب التّجربة الكثيرة المشوّشة وغير المنظّمة إلى وحدة من الفكر المنظّم المرتّب (10) . و المعرفة القائمة على هذا النّوع من الحقائق هي ما يسمّيه كانط بالمعرفة القبليّة ، السّابقة على التّجربة ، وهي معرفةٌ بدهيّةٌ صحيحةٌ ، لا تحتاج إلى فحصٍ بواسطة التّجربة ، للتّأكّد من صحّتها .
• ماهيّة الشّعور:
ما الشّعور وما طبيعته ؟ وهل يصلحُ أساساً لبناء حياة أخلاقيّة صحيحة ؟ ثمَّ ما طبيعة العلاقة بين الشّعور والقانون الأخلاقي ؟ ومتى يُصبحُ الشّعور أخلاقيّاً ؟ ...إلخ .
ينطلق كانط في نظرته للشّعور من بعض المسلّمات ، الّتي تنصّ صراحة على عدم أهليّة الشّعور الطّبيعيّ لجعل أفعال الإنسان أخلاقيّة ، متأثّراً فيما يبدو _ من وجهة نظرنا_ بفكرة الخطيئة والسّقوط في الفلسفة اللاّهوتيّة المسيحيّة ، فالإنسان منذ سقوطه في الخطيئة الأولى ، فقد نقاءَهُ الفطريّ ، وأصبح الفساد متأصّلاً في ذاته ، وفقد الشّعور الطّبيعيّ لديه الأهليّة للقيام بأفعال الخير ، ولم يعد قادراً على فعل شيء ، سوى ما يستجيب لميوله الذّاتيّة ورغباته الحسيّة ومنافعه الشّخصيّة . فتحصيل اللّذة وتحقيق المنفعة الشّخصيّة وإلحاق الأذى بالآخرين ، و(حبّ الذّات "الأنانيّة " ، والشّعور بالرّضى عن الذّات " الغرور" )، أبرز سمتين مميّزتين لهذا الشّعور .
وعليه فقد فَقَدَ كلّ من الإرادة و الشّعور القدرة على جعل أفعالنا أخلاقيّة تتّجه نحو الخير ، وأضحى تعامل الإنسان مع الأشياء المحيطة به تعاملاً خارجيّاً بوصفها وسائل لإرضاء ميوله ورغباته وغرائزه الذّاتيّة ، الأمر الّذي ينزع عنها أيّ غطاءٍ أخلاقيّ باعتبار أنَّ " الأخلاق في صميمها عبارة عن الفعل تحت فكرة قانون كلّيّ ، وعدم معاملة الغير كوسيلةٍ بل كغاية " (11)، لكنّ الصّورةَ الأخلاقيّةَ للإنسان ليست قاتمةً إلى حدٍّ يحول دون إصلاحه وبنائه أخلاقيّاً ، فالإرادة الذّاتيّة المسؤولة عن أفعالنا ، قابلة لأن تكون إرادة ط%