الأعمى و الحفرة
بقلم : مجدي السماك
توجهنا لزيارة صديق لنا لم نره منذ فترة طويلة ، ذهبنا دون إخباره بموعد زيارتنا ، و حين وصلنا إلى الحي المقصود ، فوجئنا بانقطاع الكهرباء ، و المنطقة غارقة في ظلام دامس ، شعرت أننا في قبر ، اختلطت علينا الشوارع و الأزقة ، نكاد لا نرى بعضنا البعض ، كأننا عفاريت الصورة أو أشباح . اضطررنا أن نمشي الهوينى ، كأننا نتدرب على المشي ، كانت بطون أقدامنا تطأ الأرض براحة و هدوء و كأننا نخشى الوقوع في مصيدة أو لغم ارضي .
اخترق الظلام و مسامعنا صوت متحشرج لا يخلو من رخامة سائلا : عم تبحثون ؟ أجاب احدنا قائلا : عن بيت السيد خليل . يبدو أن صاحب الصوت اخذ يشير بيديه إلى الطريق المؤدي إلى البيت المقصود ، فبادرت و قلت له : نحن لا نرى شيئا ، فقال : إذن انتم مثلي ، وهو رجل كفيف يجلس وسط الظلمة . قلت له : إن الظلام دامس ، ولا نرى إشارات يديك . فنهض الرجل الكفيف وقال لنا اتبعوني ، سأوصلكم إلى البيت ، فهو ليس بعيد من هنا.
كان الكفيف يمشي بسرعة و ثقة لا مثيل لها في هذه الدرجة من الظلمة ، فقلنا له : رفقا بنا ، نحن لا نستطيع أن نمشي مثلك ، أننا لا نرى شيئا ، نرجو الاتئاد في مسيرك . ثم تابعت الكلام و قلت له برقة أم كلثوم : لا تنسى أن أديم الأرض من أعين ساحرة الاحورار . استجاب الرجل الكفيف لرجائنا و اخذ يمشي بهدوء ، كأنه يجس الأرض بباطن قدمه ، و قال لنا : احذروا ، لقد اقتربنا من حفرة عميقة ، و بعدها بقليل يوجد عمود كهرباء في منتصف هذا الشارع الضيق . ذكرته مرة ثانية بأننا لا نرى شيئا ، كيف سننجو من هذه الحفرة ؟ أو بالأحرى من منا سيقع بها ؟ حيث بات أكيدا أن الرجل الكفيف لن يقع بها و لن يصطدم بعمود الكهرباء .
عجبت ! يا الهي ! لقد اخرج من جيبه مصباح كهربائي صغير ، يعمل بالبطارية ، و اخذ ينير لنا الطريق . لم أتمالك نفسي ، و وجدتني اسأله كمن أصابه مس من الجنون : لماذا تحمل هذا المصباح و أنت رجل كفيف ؟ فأجاب بصوت ملؤه الخيلاء و الود : أنا احمل المصباح كي أنير الطريق للمبصرين أمثالكم ، لعلكم تستطيعون السير مثلي ، و أنت تعلم أننا نعاني من مشاكل الكهرباء بعد أن قصفت إسرائيل محطة الكهرباء ، اثر اختطاف جنديهم .
و صلنا إلى بيت صديقنا ، و لكن للأسف لم نجده في البيت ، فأصر الرجل الكفيف على استضافتنا عنده ، و اقسم على ذلك أغلظ الإيمان ، فقبلنا على مضض و استحياء ، لأننا اعتقدنا أننا لن نجد ما نتحدث به مع رجل كفيف ليست لنا به معرفة مسبقة ، و بذلك سنفقد التواصل معه في الحديث ، و صلنا بيته ، سارع إلى إضاءة مصباح يعمل بالغاز ، ثم أشار علينا بالجلوس حول مائدة خشبية مستطيلة الشكل و قديمة ، لم يكن احد بالبيت سواه ، انتابني شعور أنني جالس في مقبرة فرعونية ، أو معبدا للحرية ، ذهب إلى المطبخ ثم عاد ومعه أكواب الشاي الذي صنعه لنا بنفسه.
جلس معنا حول الطاولة ، كان دمث الخلق و ضحوك ، حيث قص علينا نكتة و اتبعها بقهقهة مجلجلة ، انطلقت من فمه و كأنها جرس يدق في مدرسة الحياة . سألته عن أهل بيته ، فأجاب بصوت كنعاني : لقد ماتوا جميعا في مجزرة صبرا و شاتيلا ، و أنا فقدت عين واحدة و نجوت باعجوبة ، و أهل بيتي لم يحالفهم الحظ بالنجاة و الحياة ، أما أنا فأعيش بسبعة أرواح ، ثم أنني عاهدت نفسي ألا أموت قبل تحرير فلسطين . سألته عن عينه الأخرى و كيف فقد بصره ، فأجاب قائلا و كأنه يمسك بالماضي بين يديه : لقد فقدتها في غزة و أنا جالس على قارعة الطريق . ثم تابع قائلا و كأنه امتلك كل ما لدى الإغريق من حكمة وما لدى العرب من سحر البيان : لا يبقى كما هو إلا هو ، لقد قاتلت في جميع معارك الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها ، و لم تستطع إسرائيل أن تصب مني سوى عين واحدة ، و هنا في فلسطين فقدت عيني الأخرى دون أن أكون مقاتلا .
أخذنا نتجاذب أطراف الحديث بمواضيع شتى ، سألته عن السلام مع إسرائيل ، فأجاب بصوت قادم من صفحات الكتب القديمة : يا بني ، من يبحث عن السلام لا يحصل عليه ، ومن يريد السلام لا يقتل الحياة .
ودعناه و غادرنا ، و بعد عدة أيام قررنا أن نعيد الكرة مرة أخرى ، و نزور صديقنا في وضح النهار ، و هذا ما حصل بالفعل ، حيث كانت الشمس تحاول جاهدة أن تتخذ من قبة السماء عرشا لها ، و في طريقنا إلى بيته و قع احدنا في الحفرة ، و ارتطم الأخر بعمود الكهرباء.
Magdi_ [email protected]
بقلم : مجدي السماك
توجهنا لزيارة صديق لنا لم نره منذ فترة طويلة ، ذهبنا دون إخباره بموعد زيارتنا ، و حين وصلنا إلى الحي المقصود ، فوجئنا بانقطاع الكهرباء ، و المنطقة غارقة في ظلام دامس ، شعرت أننا في قبر ، اختلطت علينا الشوارع و الأزقة ، نكاد لا نرى بعضنا البعض ، كأننا عفاريت الصورة أو أشباح . اضطررنا أن نمشي الهوينى ، كأننا نتدرب على المشي ، كانت بطون أقدامنا تطأ الأرض براحة و هدوء و كأننا نخشى الوقوع في مصيدة أو لغم ارضي .
اخترق الظلام و مسامعنا صوت متحشرج لا يخلو من رخامة سائلا : عم تبحثون ؟ أجاب احدنا قائلا : عن بيت السيد خليل . يبدو أن صاحب الصوت اخذ يشير بيديه إلى الطريق المؤدي إلى البيت المقصود ، فبادرت و قلت له : نحن لا نرى شيئا ، فقال : إذن انتم مثلي ، وهو رجل كفيف يجلس وسط الظلمة . قلت له : إن الظلام دامس ، ولا نرى إشارات يديك . فنهض الرجل الكفيف وقال لنا اتبعوني ، سأوصلكم إلى البيت ، فهو ليس بعيد من هنا.
كان الكفيف يمشي بسرعة و ثقة لا مثيل لها في هذه الدرجة من الظلمة ، فقلنا له : رفقا بنا ، نحن لا نستطيع أن نمشي مثلك ، أننا لا نرى شيئا ، نرجو الاتئاد في مسيرك . ثم تابعت الكلام و قلت له برقة أم كلثوم : لا تنسى أن أديم الأرض من أعين ساحرة الاحورار . استجاب الرجل الكفيف لرجائنا و اخذ يمشي بهدوء ، كأنه يجس الأرض بباطن قدمه ، و قال لنا : احذروا ، لقد اقتربنا من حفرة عميقة ، و بعدها بقليل يوجد عمود كهرباء في منتصف هذا الشارع الضيق . ذكرته مرة ثانية بأننا لا نرى شيئا ، كيف سننجو من هذه الحفرة ؟ أو بالأحرى من منا سيقع بها ؟ حيث بات أكيدا أن الرجل الكفيف لن يقع بها و لن يصطدم بعمود الكهرباء .
عجبت ! يا الهي ! لقد اخرج من جيبه مصباح كهربائي صغير ، يعمل بالبطارية ، و اخذ ينير لنا الطريق . لم أتمالك نفسي ، و وجدتني اسأله كمن أصابه مس من الجنون : لماذا تحمل هذا المصباح و أنت رجل كفيف ؟ فأجاب بصوت ملؤه الخيلاء و الود : أنا احمل المصباح كي أنير الطريق للمبصرين أمثالكم ، لعلكم تستطيعون السير مثلي ، و أنت تعلم أننا نعاني من مشاكل الكهرباء بعد أن قصفت إسرائيل محطة الكهرباء ، اثر اختطاف جنديهم .
و صلنا إلى بيت صديقنا ، و لكن للأسف لم نجده في البيت ، فأصر الرجل الكفيف على استضافتنا عنده ، و اقسم على ذلك أغلظ الإيمان ، فقبلنا على مضض و استحياء ، لأننا اعتقدنا أننا لن نجد ما نتحدث به مع رجل كفيف ليست لنا به معرفة مسبقة ، و بذلك سنفقد التواصل معه في الحديث ، و صلنا بيته ، سارع إلى إضاءة مصباح يعمل بالغاز ، ثم أشار علينا بالجلوس حول مائدة خشبية مستطيلة الشكل و قديمة ، لم يكن احد بالبيت سواه ، انتابني شعور أنني جالس في مقبرة فرعونية ، أو معبدا للحرية ، ذهب إلى المطبخ ثم عاد ومعه أكواب الشاي الذي صنعه لنا بنفسه.
جلس معنا حول الطاولة ، كان دمث الخلق و ضحوك ، حيث قص علينا نكتة و اتبعها بقهقهة مجلجلة ، انطلقت من فمه و كأنها جرس يدق في مدرسة الحياة . سألته عن أهل بيته ، فأجاب بصوت كنعاني : لقد ماتوا جميعا في مجزرة صبرا و شاتيلا ، و أنا فقدت عين واحدة و نجوت باعجوبة ، و أهل بيتي لم يحالفهم الحظ بالنجاة و الحياة ، أما أنا فأعيش بسبعة أرواح ، ثم أنني عاهدت نفسي ألا أموت قبل تحرير فلسطين . سألته عن عينه الأخرى و كيف فقد بصره ، فأجاب قائلا و كأنه يمسك بالماضي بين يديه : لقد فقدتها في غزة و أنا جالس على قارعة الطريق . ثم تابع قائلا و كأنه امتلك كل ما لدى الإغريق من حكمة وما لدى العرب من سحر البيان : لا يبقى كما هو إلا هو ، لقد قاتلت في جميع معارك الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها ، و لم تستطع إسرائيل أن تصب مني سوى عين واحدة ، و هنا في فلسطين فقدت عيني الأخرى دون أن أكون مقاتلا .
أخذنا نتجاذب أطراف الحديث بمواضيع شتى ، سألته عن السلام مع إسرائيل ، فأجاب بصوت قادم من صفحات الكتب القديمة : يا بني ، من يبحث عن السلام لا يحصل عليه ، ومن يريد السلام لا يقتل الحياة .
ودعناه و غادرنا ، و بعد عدة أيام قررنا أن نعيد الكرة مرة أخرى ، و نزور صديقنا في وضح النهار ، و هذا ما حصل بالفعل ، حيث كانت الشمس تحاول جاهدة أن تتخذ من قبة السماء عرشا لها ، و في طريقنا إلى بيته و قع احدنا في الحفرة ، و ارتطم الأخر بعمود الكهرباء.
Magdi_ [email protected]