ربما كانوا تسعة أشخاص أو عشرة، أدلفوا هابطين في يوم ماطر من المنحدر الآتي من المقبرة والمنتهي عند أقدام القرية، قاوموا من أجل الوصول إليها، فأقدامهم كانت تنغرس في الوحل والريح تحاول بإصرار أن تخلع عنهم معاطفهم فيما لا يزدادون إلا تشبثا بها، قال واحد منهم وقد كاد يسقط وهو يحمل التابوت الفارغ: "عذبنا في حياته وها نحن نتعذب بسببه بعد موته"، وقال آخر:" الآن فقط عرفت لماذا اختار أن يموت في هذه الأيام بالضبط!".
كثير من سكان القرية آثروا جو المقهى الدافئ على الانخراط في الجنازة، أحدهم سأل صاحبه الذي يقابله على طاولة الدومينو وقد رأى العائدين من المقبرة: "هل مات شخص ما؟" فأجاب: "يبدو ذلك"، وعلم كل منهما أن الآخر ينافق في كلامه، فكلاهما لم يسأل عن الميت عكس ما يقتضيه موقف مثل ذلك.
- إنه مجذوب المجنون...مات قبل أسبوع ودفنوه اليوم.
هذا ما قاله صاحب المقهى لزبون وجه له نفس السؤال.
- ومن مجذوب المجنون هذا؟...أنا لا أعرفه
- ومن لا يعرف مجذوب المجنون بربك؟ إنه ذلك المجنون المقزز الذي لا يغادر الشارع طيلة النهار وله كلب أسود مقرف.
- الآن عرفته..اللعنة ذلك الكلب الشرس عضني ذات مرة.
قال ذلك تم هم بالخروج وهو يحمل فنجان القهوة بكلتا يديه الباردتين، لكنه عاد فجأة كمن نسي شيئا مهما وقال:
وذلك الكلب المجنون كصاحبه هل مات أيضا؟!.
- لا ولكنه سيموت جوعا عما قريب!.
الزبون الذي بدا الكلب آخر همه خرج، أما القهوجي فواصل إعداد فناجين القهوة والحديث عن مجذوب وكلبه.
لم يكترث أحد بموت ذلك الشخص المألوف في الشارع، ولا يبدوا أن أحدا باستثناء كلبه أحس بأن شيئا ما قد نقص في هذه القرية الصغيرة، حتى جنازته لم يحضرها إلا نفر قليل ممن ترددوا قبل حضورها، فقد فعلو ذلك مكرهين لكيلا تمتد رائحته النتنة إلى أنوفهم... لقد مثل وضعه في التراب خلاصا أبديا لهم، فذلك الشخص المقرف الذي يقضي بياض نهاره في التسكع وطرق أبوابهم طالبا كسرة خبز لن يزعجهم إلى الأبد.
مجذوب الذي مات من شدة البرد كان بيد واحدة، لكنه فعل بها ما لم يفعله كثير ممن لهم يدان اثنتان..كان يهتم بأشجار الشارع المتقابلة والتي تشكل صفين هما أجمل ما فيه، يحمل فأسه ويقلب ترابها، يقلم أغصانها، يسقيها بالماء، ثم ينكمش تحتها وينام، وحين يطلب رغيف خبز يسد به رمقه لا يجده عند أحد. لم يكن مجذوب بطلا في حياته ولم يكن يوم جنازته يوما تاريخيا، لكن تلك الليلة التي دفن فيها بدت الأكثر حزنا ووحشة على الإطلاق فقد خيم على القرية ظلام وصمت غريبين، هطلت الأمطار بشدة كأن السماء تبكي نيابة عن أولئك الذين لم تذرف عيونهم دمعة حزن واحدة، تساقطت أوراق الأشجار المتقابلة في الشارع، ولم يُر أحد في القرية تلك الليلة حتى خيل للبعض أن مجذوبا لم يمت وحده بل ماتت معه القرية كلها.
يعتقد سكان القرية أنه إذا مات شخص ما فسيلحقه ستة أشخاص آخرين في الأيام القليلة المقبلة، فالمقبرة لا تكتفي إلا بسبعة موتى، كان من المنطقي بهذا الاعتقاد الراسخ عند الأهالي جيلا بعد جيل أن ينتظروا الميت المقبل، ولم يكن عليهم أن ينتظروا كثيرا فقد استيقظوا ذات صباح على نبا وفاة الحاج عبد الله أحد الأغنياء الكرماء الذي لم يكن يبخل بعطائه أحدا، موت الحاج عبد الله لا يعني لهم غير شيء واحد وهو أن المال الذي كان يأتيهم منه انقطع والى الأبد.
ثارت ثائرتهم، لم يشعروا بالحزن بل بالغضب، وحملوا مجذوب المجنون المسؤولية، وربما خطرت على بالهم وهم في الطريق لدفن الحاج عبد الله أن يخرجوا جثته ويمثلوا بها عقابا له على فعلته. لقد رأوا أن النحس الذي لازمهم طويلا بسببه لاحقهم بعد موته، والدليل أنه لم يكتف بالذهاب وحده بل أخذ الحاج عبد الله معه!.
الكلب الأسود المتشرد أصبح مثار شؤم عندهم، ولم يرتح لهم بال حتى لقمه أحد الشيوخ بحجر فأرداه قتيلا، وأصبح ذلك الشيخ حكيما بالنسبة إليهم، يزورونه للتقرب منه وهم يحملون معهم ما تيسر من هدايا.
واستمر كل شيء على حاله في تلك القرية الصغيرة...لا شيء تغير باستثناء أشجار الشارع المتقابلة التي بدأت تذبل شيئا فشيئا!.
بقلم علاوة حاجي*
كاتب ومدون جزائري، للاطلاع على مزيد من القصص والمقالات يرجى زيارة مدونتي على الانترنت:
www.maktoobblog.com/1
كثير من سكان القرية آثروا جو المقهى الدافئ على الانخراط في الجنازة، أحدهم سأل صاحبه الذي يقابله على طاولة الدومينو وقد رأى العائدين من المقبرة: "هل مات شخص ما؟" فأجاب: "يبدو ذلك"، وعلم كل منهما أن الآخر ينافق في كلامه، فكلاهما لم يسأل عن الميت عكس ما يقتضيه موقف مثل ذلك.
- إنه مجذوب المجنون...مات قبل أسبوع ودفنوه اليوم.
هذا ما قاله صاحب المقهى لزبون وجه له نفس السؤال.
- ومن مجذوب المجنون هذا؟...أنا لا أعرفه
- ومن لا يعرف مجذوب المجنون بربك؟ إنه ذلك المجنون المقزز الذي لا يغادر الشارع طيلة النهار وله كلب أسود مقرف.
- الآن عرفته..اللعنة ذلك الكلب الشرس عضني ذات مرة.
قال ذلك تم هم بالخروج وهو يحمل فنجان القهوة بكلتا يديه الباردتين، لكنه عاد فجأة كمن نسي شيئا مهما وقال:
وذلك الكلب المجنون كصاحبه هل مات أيضا؟!.
- لا ولكنه سيموت جوعا عما قريب!.
الزبون الذي بدا الكلب آخر همه خرج، أما القهوجي فواصل إعداد فناجين القهوة والحديث عن مجذوب وكلبه.
لم يكترث أحد بموت ذلك الشخص المألوف في الشارع، ولا يبدوا أن أحدا باستثناء كلبه أحس بأن شيئا ما قد نقص في هذه القرية الصغيرة، حتى جنازته لم يحضرها إلا نفر قليل ممن ترددوا قبل حضورها، فقد فعلو ذلك مكرهين لكيلا تمتد رائحته النتنة إلى أنوفهم... لقد مثل وضعه في التراب خلاصا أبديا لهم، فذلك الشخص المقرف الذي يقضي بياض نهاره في التسكع وطرق أبوابهم طالبا كسرة خبز لن يزعجهم إلى الأبد.
مجذوب الذي مات من شدة البرد كان بيد واحدة، لكنه فعل بها ما لم يفعله كثير ممن لهم يدان اثنتان..كان يهتم بأشجار الشارع المتقابلة والتي تشكل صفين هما أجمل ما فيه، يحمل فأسه ويقلب ترابها، يقلم أغصانها، يسقيها بالماء، ثم ينكمش تحتها وينام، وحين يطلب رغيف خبز يسد به رمقه لا يجده عند أحد. لم يكن مجذوب بطلا في حياته ولم يكن يوم جنازته يوما تاريخيا، لكن تلك الليلة التي دفن فيها بدت الأكثر حزنا ووحشة على الإطلاق فقد خيم على القرية ظلام وصمت غريبين، هطلت الأمطار بشدة كأن السماء تبكي نيابة عن أولئك الذين لم تذرف عيونهم دمعة حزن واحدة، تساقطت أوراق الأشجار المتقابلة في الشارع، ولم يُر أحد في القرية تلك الليلة حتى خيل للبعض أن مجذوبا لم يمت وحده بل ماتت معه القرية كلها.
يعتقد سكان القرية أنه إذا مات شخص ما فسيلحقه ستة أشخاص آخرين في الأيام القليلة المقبلة، فالمقبرة لا تكتفي إلا بسبعة موتى، كان من المنطقي بهذا الاعتقاد الراسخ عند الأهالي جيلا بعد جيل أن ينتظروا الميت المقبل، ولم يكن عليهم أن ينتظروا كثيرا فقد استيقظوا ذات صباح على نبا وفاة الحاج عبد الله أحد الأغنياء الكرماء الذي لم يكن يبخل بعطائه أحدا، موت الحاج عبد الله لا يعني لهم غير شيء واحد وهو أن المال الذي كان يأتيهم منه انقطع والى الأبد.
ثارت ثائرتهم، لم يشعروا بالحزن بل بالغضب، وحملوا مجذوب المجنون المسؤولية، وربما خطرت على بالهم وهم في الطريق لدفن الحاج عبد الله أن يخرجوا جثته ويمثلوا بها عقابا له على فعلته. لقد رأوا أن النحس الذي لازمهم طويلا بسببه لاحقهم بعد موته، والدليل أنه لم يكتف بالذهاب وحده بل أخذ الحاج عبد الله معه!.
الكلب الأسود المتشرد أصبح مثار شؤم عندهم، ولم يرتح لهم بال حتى لقمه أحد الشيوخ بحجر فأرداه قتيلا، وأصبح ذلك الشيخ حكيما بالنسبة إليهم، يزورونه للتقرب منه وهم يحملون معهم ما تيسر من هدايا.
واستمر كل شيء على حاله في تلك القرية الصغيرة...لا شيء تغير باستثناء أشجار الشارع المتقابلة التي بدأت تذبل شيئا فشيئا!.
بقلم علاوة حاجي*
كاتب ومدون جزائري، للاطلاع على مزيد من القصص والمقالات يرجى زيارة مدونتي على الانترنت:
www.maktoobblog.com/1