الشيخ مصطفى الهادي / فنلندا
الواقعة الخالدة : كربلاء رؤية جديدة .
صحائف أسأل الله تعالى أن يجعلها سترا بيني وبين النار يوم القيامة .
كيف نشأ الإجرام ؟ وكيف بدأت الجريمة ؟ إذا كان الله قد نفخ في آدم من روحه ، فمن أين جاء الانحراف في الفطرة ، ومن أين دخل العنف إلى الإنسان ؟
هناك إجماع من قبل الأديان التوحيدية وغيرها ، على أن الشجرة التي أكل منها آدم كانت هي السبب : شجرة معرفة الخير والشر كما في التوراة : (( واوصى الرب الإله آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل اكلا. واما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها … ملعونة الأرض بسببك )). 1
أو شجرة الخطية ، كما في الإنجيل: (( من اجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس )) . 2
أو كما في القرآن في قوله تعالى : (( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )) 3 .
ويكاد موضوع الشجرة يتكرر نفسه في الكتب الأخرى : الأرياني ستيانس ، الكنزا ربا ، الأفستا ، والرشت ، وحتى في الأساطير اليونانية ، والبابلية ، والمصرية والأفريقية ، والهندية .
ويكاد ينحصر سر الدنيا والآخر بهاتين الشجرتين اللتان تمثلان الخير والشر ، الجنة والنار موسى وفرعون ،عيسى وقيصر ، محمد وابو سفيان ، علي ومعاوية ، الحسين ويزيد ،المهدي والسفياني … الخ
هما شجرتان فقط ، كما سمتهما التوراة ، شجرة الخير وشجرة الشر ، فأيد ذلك تعالى في قرآن نتلوه آناء الليل وأطراف النهار فقال تعالى : (( شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين)) والشجرة الثانية : (( شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار )) 4 .
ولما ختم الله الدين و أرسل رسول رب العالمين بين ذلك على لسانه فقال : (( والشجرة الملعونة في القرآن )) 5 .
فأشار النبي إلى تلك الشجرة محذرا منها فقال : (( الشجرة الملعونة هم بنو أمية )) .
ثم بين النبي مفهوم الشجرة الثانية :الشجرة الطيبة ، شجرة الخير ، شجرة المعرفة ، شجرة الحياة ، شجرة النور فقال : ((يا علي خُلق الناس من شجر شتى ، وخُلقت أنا وأنت من شجرة واحدة أنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها وشيعتنا ورقها فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الله الجنة )) . 6
الشجرة الطيبة عندما يسقط ورقها ، فإنه يسقط تحتها .
الشجرة الخبيثة عندما يسقط ورقها فإنه يسقط تحتها أيضا .
فماذا كانت نتائج الأكل من تلك الشجرة ؟
أئمتنا فقط هم الذين يُجيبون على ذلك قال الإمام المعصوم : الأكلة التي أكل منها آدم من الشجرة التي نهاهم الله أن يأكلوا منها ، انعقدت نطفة فكانت قابيل القاتل .لقد زرع العصيان .عصيانا ، والعصيان أجرى أنهارا من الدماء والدموع على طول التاريخ وحتى قيام القائم .
العوامل النفسية المضطربة لها أثر كبير في صنع شخصية الإنسان ، ومنذ الحالة الجنينية : (( يُكتب في بطن أمه شقي أو سعيد )) . ولذلك نهتنا الشرائع السماوية عن أكل الشبهة من مال الحرام .
هرب ( القاتل ) قابيل نادما فأنتج جيلا من القتلة المجرمين السفاحين على طول التاريخ .
قٌتل الحسين (ع) فتحمل الأبناء مع آبائهم وزر ذلك حتى تقوم الساعة .
وكمثال على ذلك فإن أسلاف هؤلاء اليهود هم الذين قتلوا الأنبياء ولكن الله خاطب هؤلاء وأشركهم في عمل أسلافهم لأنهم راضون بما علموا . والراضي بعمل قوم كالداخل معهم .
لما نزل قوله تعالى : (( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ) في اليهود من الذين نقضوا عهد الله ، وكذبوا رسول الله ، وقتلوا الأنبياء وأولياء الله . قال الرسول (ص) أفلا أنبئكم بمن يُضاهيهم من يهود هذه الأمة . قالوا بلا يا رسول الله . قال قوم من أمتي ينتحلون أنهم من ملتي ، يقتلون أفاضل ذريتي وأطائب أرومتي ، ويبدلون شريعتي وسنتي ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف اليهود زكريا ويحيا .
سرّ الخلود .
وقائع كثيرة حدثت في التاريخ ولكنها تلاشت واضمحلت فلم تجد لها ذكرا إلا في بطون الكتب التاريخية .
الواقعة التاريخية الوحيدة الباقية التي سايرت الزمان ، وتناقلها الركبان وخلدها الدهر هي واقعة كربلاء ، والسبب في ذلك هو ضروف المعركة ، وأشخاص المعركة ، والطريقة التي عولجت فيها ثورة الإمام الحسين (ع) من قبل السلطة الحاكمة آنذاك .
التاريخ خلّد ثورة الإمام الحسين (ع) ، ثورة الإمام الحسين سبقت عصرها ، نشأت قبل نشوء الخليقة ، كانت قبل عالم المادة ، في عالم النور ـ كما تنقل لنا الروايات الواردة إلينا عن المعصوم ـ ثم فطر الله الخلق فامتزجت فطرتهم بهذه الثورة ، وعُجنت طينتهم بدماء الثوار .
الأنبياء تحدثوا عنها ، الصالحون تناقلوها ، الكتب السماوية ذكرتها ، بإشارات قد تكون غامضة على ذلك الزمان لأنها لم تعاصر الحدث فلا تعرف مفرداته ، ولكنها ليست غامضة علينا لأننا من عصر كربلاء ، لأنها تسير مع العصر وهي أهم سلاح من أسلحة العصر يتجهز به الثوار في كل عصر ومصر .
ثم تنتقل كربلاء إلى العالم الآخر ، حيث تجري المحاكمة الكبرى . كما ينقل لنا صاحب كتاب اللهوف في قتلى الطفوف قال :
(( روي عن الصادق (ع) يرفعه إلى النبي (ص) أنه قال : إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة (ع) قبة من نور ويقبل الحسين (ع) ورأسه في يده فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بكى لها . فيمثله الله ( عز وجل ) لها في أحسن صورة وهو يخاصم قتلته بلا رأس فيجمع الله (عز وجل ) لها قتلته والمجهزين عليه ومن شركهم في قتله فأقتلهم حتى آتي على أخرهم .
ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) ثم ينشرون فيقتلهم الحسن (عليه السلام ) ثم ينشرون فيقتلهم الحسين ( عليه السلام ) ثم ينشرون فلا يبقى أحد من ذريتنا إلا قتلهم قتلة . فعند ذلك يكشف الغيظ وينسى الحزن )) . 7
وهناك عدد كبير من الروايات التي وردتنا من مصدر أخذها عن الوحي عن الله تعالى والتي تؤكد معرفة الأمم السابقة لنبأ استشهاد الأمام الحسين (ع) بتفاصيلها ،ومن هذه الروايات نذكر وباختصار :
ذكر ابن سعد في طبقاته عن رأس الجالوت عن أبيه قال : ما مررت بكربلاء ، إلا وأنا اركض دابتي حتى أخلف المكان ، قال : قلت : لم ؟ قال : كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان وكنت أخاف أن أكون أنا ، فلما قُتل الحسين قلنا : هذا الذي كنا نتحدث ، وكنت بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض .
وروى ابن كثير الدمشقي قال : مرّ علي (ع) على كعب فقال : يُقتل من ولد هذا رجل في عصابة لا يجف عرق خيولهم حتى يردوا على محمد (ص) الحوض ، فمر الحسن (ع) فقالوا : هذا ؟ قال : لا ، فمرّ الحسين (ع) فقالوا : هذا ؟ قال : نعم . 8
فهل نجد مصاديق ذلك في الكتب السماوية وبوضوح بين لا غبار عليه ؟
نعم إن الحسين عليه السلام هو الذبيحة الذي قُتل قرب نهر الفرات ، فأنظر ماذا تقول التوراة : ((في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا . لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات )) . 9
والنص الكامل الذي يصف تلك المعركة وصفا دقيقا في نبوءة إرمياء النبي حيث جاءت هذه النبوءة ضمن سيل من النبوءات فاقرأ وتمعن : (( عِدّوا المِجن والترس وتقدموا للحرب أسرجوا الخيل وأصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ .
اصقلوا الرماح . البسوا الدروع .
لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء وقد تحطمت أبطالهم وفرّوا هاربين ولم يلتفتوا . الخوف حواليهم يقول الرب .
الخفيف لا ينوص والبطل لا ينجو . في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا .
فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة … لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات )) . 10
فهل قُتل أحد ذبحا غير الحسين بالقرب من الفرات ؟
وهل تعلم أن أرض الشمال هي أرض كركميش في العراق والتي تحمل حرفين من إسم كربلاء : (كر) هي الذبح ، وكميش هي ( الكبش ) أو الضحية على اغلب الأقوال .
ثم كان نداء علي (ع) عند ذهابه إلى صفين ومروره بكربلاء حيث نادى : (( صبرا أبا عبد الله بشط الفرات )) وهو المكان المسمى نينوى من شط الفرات . 11
وقول الإمام زين العابدين في الشام : (( أنا ابن المذبوح بشط الفرات )) وكل هذه النصوص تعضد ما جاء في التوراة . فتمعن .
واليهود أصحاب التوراة كانوا يعرفون واترهم علي بن أبى طالب (ع) فقتلوه كما ذكر ذلك علي نفسه عندما ضربه ابن ملجم صاح الإمام : ( قتلني ابن اليهودية ، لايفوتنكم الرجل )) .13
وهم يعرفون الحسين كما مرّ من روايات كعب ، وكانوا في نفس الوقت يكرهون الحسين كما يكرهون أ بيه وذلك لأسباب منها :
الأول : كرها منهم لأبيه الذي وترهم وقتل صناديدهم وهدم حصونهم في خيبر وسفه أحلامهم .
والثاني : أنهم يعرفون الحسين كأحد رموز يوم المباهلة العظيم الذي دحر الله فيه اليهود ببركة تلك الوجوه المباركة والتي كان وجه الحسين منها .
الثالث : أن الحسين الامتداد الطبيعي للرسول ( حسين مني ) وبهذا فهو يشكل الرسالة بكامل ثقلها مقابل أهدافهم الخبيثة .
ولذلك نرى أنه عندما ورد خبر وصول سفير الحسين إلى يزيد في الشام ، أضطرب يزيد للنبأ وهم كثيرا للأمر ، وهنا تدخل اليهود الذين كانوا يعرفون من هو المقتول عند الفرات . فأشار عليه مستشاره الخاص ( سرجون اليهودي ) بأن يُقلد ولاية الكوفة لعبيد الله بن زياد .
وأخرج ابن قولويه أربع روايات في باب علم الأنبياء بمقتل الحسين من كتابه كامل الزيارات ، وذكر رواية قال فيها أن الملائكة تعلم بمقتل الحسين (ع) وكذلك روى من أن الأنبياء لعنوا قتلة الحسين (ع).
وعن زينب قالت : بينا رسول الله (ص) في بيتي وحسين عندي حين درج ، فغفلت عنه ، فدخل علي رسول الله (ص) فقال : دعيه … ثم قام فصلى فلما قام احتضنه إليه فإذا ركع أو جلس وضعه ثم جلس فبكى ، ثم مد يده فقلت حين قضى الصلاة : يا رسول الله أني رأيتك اليوم صنعت شيئا ما رأيتك تصنعه ؟ قال : أن جبريل أتاني فأخبرني أن هذه تقتله أمتي ، فقلت : فأرني تربته ، فأتاني بتربة حمراء . 14
من هو الحسين بن علي ؟
فالحسين بن علي بن أبي طالب (ع) معروف من هو . أبوه علي بن أبي طالب أول الناس إسلاما ، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) وجدتهُ خديجة بنت خويلد زوج النبي (ص) وعمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وعمه الآخر جعفر الطيار ، يضاف إلى ذلك أن الحسين خامس أصحاب الكساء ، وسيد شباب أهل الجنة ، وأحد الأئمة الذين بشر بهم نبي الإسلام الذي قال في حقه وحق أخيه : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، وأنه مصباح الهدى ، وسفينة النجاة ، وقد نزل في الحسين من القرآن آيات كثيرة ، أوردها أصحاب السنن في مدوناتهم .
ومن هو يزيد بن معاوية ؟
وأما يزيد ، فهو ابن معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق الذي أمر النبي بقتله إذا رأوه على منبره ، ولكن الناس لم يفعلوا ، وجدّته آكلة الأكباد التي شقت بطن حمزة عم النبي ، وأكلت كبده ، وجده الآخر أبو سفيان بن حرب ، الذي حارب الله ورسوله حتى دخل الإسلام نفاقا راغما خانعا . وسيرة يزيد معروفة للخاص والعام فهو يشرب الخمر علنا ، ويلعب بالقرود ، وينادم اليهود والنصارى ، ويلبس الحرير والذهب ، وأغلب المؤرخين يذهبون على أن يزيد تربى تربية نصرانية عند أخواله ، فهو بعيد عن الإسلام ، لا يتورع عن ارتكاب أي محرم من أجل ملذاته ، وهو الذي أمر بضرب الكعبة وتهديمها ، وهو الذي بادر بذبح الأطفال والنساء ، وكان جيشه يعيث بالأرض فسادا دون أن يردعهُ ، حتى قال بحقه بعض الصحابة : خرجنا من عند يزيد وقد خشينا أن ترجمنا السماء بالحجارة .
يضاف إلى ذلك أنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي أجمع المؤرخون على أنها نزلت في بني أمية ، وإليك بعضا من سيرته التي ذكرها المؤرخون :
لما أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس ، طلب من زياد أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة ، فكان جواب زياد له : ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبّغات ، ويدمن الشراب ، ويمشي على الدفوف وبحضرتهم الحسين بن علي بن ابي طالب الخ . 15
وحج معاوية وحاول أن يأخذ البيعة من أهل مكة والمدينة فأبى عبد الله بن عمر وقال : نبايع من يلعب بالقرود والكلاب ويشرب الخمر ويظهر الفسوق ، ما حجتنا عند الله .
وقال ابن الزبير : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد أفسد علينا ديننا .
وقال له الحسين بن علي : كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عما كان احتويته لعلم خاص وقد دل يزيد على موقع رأيه فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول . 16
وأكثر يزيد من نظم الشعر في الخمر والغناء مثل قوله :
معشر الندمـان قــومــوا واسمعـوا صـوت الأغانــي
واشـربــوا كأس مـــدام واتــركـوا ذكــر المثانـي
شغلتــني نغمـة العـــيدان عـــن صــــوت الأذان
وتعوضــت مـــن الحور عجـوزا فـــي الــدنـان
ثم أظهر يزيد ما مكنون في صدره من كره للإسلام ونبي الإسلام في قصيدته التي قال فيها :
عُليّة هـاتي واعلني وتـرنمي بذلك إنّي لا أحــب التناجـيا
حديث أبي سفيان قدما سما بها إلى أُحد حتى أقــام ألبوا كيا
ألا هات اسقّيني على ذاك قهوة تخيرها العنسي كــرما شآميا
إذا ما نظرنا في أمـور قديمة وجدنـا حلالا شربـها متواليا
وان مت يا أم الأحيمر فانكحي ولا تأملي بعد الفــراق تـلاقيا
فان الذي حدّثت عن يوم بعثنا أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا
ولا بد لي من أن أزور محمدا بمشمولة صفراء تروي عظاميا 17
فيزيد في أبياته الشعرية هذه يمجد ما فعله أبو سفيان في معركة أحد ، من قتله لحمزة وغيره من المسلمين ، وأن البعث والنشور هو من الأساطير التي جاء بها محمد فلا بعث ولا نشور بعد الموت ، ثم يستخف بمشاعر المسلمين ويقول : لا بد من لقاء محمد بكأس من الخمرة باردة أروي بها عظامي .
وروى صاحب الأغاني وقال : كان يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الفتك وشرب الخمر ، وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه ، والأخطل ـ الشاعر النصراني ـ وكان يأتيه من المغنين سائب خاثر فيقيم عنده فيخلع عليه . 18
وأخيرا مات أمير المؤمنين وخليفة المسلمين يزيد بن معاوية شهيدا على يد قرده المدلل أبا قيس . فقد روى ابن كثير قال : أن سبب وفاة يزيد أنه حمل قردة على الأتان وهو سكران ثم ركض خلفها وجعل ينقزها فعضته . 19
خليفة هذه أخلاقه وهذا دينه يرى نفسه يقف أما شخص الحسين بن علي (ع) ، كيف سيتعامل معه وهو أشرف منه واكفأ في إدارة شؤون المسلمين ؟
فعندما خرج الحسين بن علي (ع) بعد بيعة أهل الكوفة له مستجيبا لهم ، بعد قيام الحجة عليه بوجود الناصر ، لم يقف يزيد بن معاوية مكتوف الأيدي ، فقد رأى أبوه من قبل كيف تعامل مع الإمام الحق علي بن أبي طالب (ع) عندما هدد بانتزاع ولاية الشام منه ، حيث سلط عليه طغام أهل الشام ولم يبالي معاوية بمن هلك في هذه الحرب من المسلمين كان المهم عنده هو سلامة الولاية ، وجلوسه على الكرسي . وكذلك رأى يزيد كيف أن أباه دس السم إلى الإمام الحسن بن علي (ع) وقتله على الرغم من تنازل الإمام الحسن لمعاوية عن السلطة الدنيوية ، كانت تربية يزيد على هذه الشاكلة . فهل يسكت عن الحسين وهو يتوجه إلى الكوفة لقيادة الجيوش ضده ، كلا طبعا فقد أمر عتاته من أولاد الزناة وسفاكين الدماء وشاربي الخمور بالتوجه إلى حرب الحسين وقتله وسبي آل بيته . وقد نفذ جيش الخلافة هذه الأوامر وزاد عليها ، وأول عمل قام به هو قطعه الماء عن الحسين وأصحابه ، ولم يراعوا حق علي بن أبي طالب عندما أباح لهم الماء في صفين ولم يمنعه عنهم .
فقد روى الطبري في حوادث سنة 60 قال : جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد : أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة .
قال : فبعث عمر بن سعد ، عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يُسقوا منه قطرة وذلك قبل قتل الحسين بثلاث أيام قال : ونازله عبد الله بن حصين الأزدي وعداده في بجيلة فقال : يا حسين ! ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء ! والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا ، فقال الحسين : اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا ! قال حميد بن مسلم والله لعدته بعد ذلك في مرضه فو الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى يبغر ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروي فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصّته يعني نفسه .
لم يبالي جيش الخلافة بالأطفال والنساء والمرضى ، قتلهم العطش أم لا ، المهم هو تنفيذ أوامر الخليفة القابع في الشام يشرب الخمر وينادم القرود .
قتل الأطفال الرّضع
أمتاز جيش الخلافة الإسلامية بميزة فريدة من نوعها : قتل الأطفال وحتى الرضع منهم.
ففي مقتل الخوارزمي وغيره : تقدم الحسين إلى باب الخيمة وقال : ناولوني عليا الطفل حتى أودعه ، فناولوه الصبي ، فجعل يقبله ويقول : ويل لهؤلاء القوم إذ كان خصمهم جدك ، فبينا الصبي في حجره إذ رماه حرملة بن كاهل الأسدي فذبحه في حجره فتلقى الحسين دمه حتى امتلأت كفه ثم رمى به نحو السماء ، وقال : اللهم أن حبست عنا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا ، وانتقم من هؤلاء الظالمين ، ثم نزل الحسين عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه وزمّله بدمه وصلى عليه . 20
ثم تتالى قتل الأطفال . فقد روى الطبري عن هانئ بن ثبيت الحضرمي ، قال : كنت ممن شهد قتل الحسين ، قال : فو الله أني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس وقد جالت الخيل وتضعضعت :
إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه أزار وقميص وهو مذعور يلتفت يمينا وشمالا فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت ، إذا أقبل رجل يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف .
ثم قال الطبري : ثم أن شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه ثم أنهم أحاطوا به إحاطة وأقبل إلى الحسين غلام من عند النساء ، فقام إلى جنبه ، قال : وقد أهوى بجر بن كعب بن عبد الله من بني تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف فقال الغلام : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي ؟ ! فضربه بالسيف فاتقاه الغلام بيده ، فأطنها إلى الجلد فإذا يده معلقة فنادى الغلام يا أبتاه فأخذه الحسين فضمه إلى صدره وقال : يا ابن أخي أصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فان الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول الله (ص) وعلي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن بن علي صلى الله عليهم أجمعين .
ثم عمد جيش الخلافة إلى ترويع النساء والأطفال حيث أحرق الخيام عليهم . فقد أمر عمر بن سعد بن أبي وقاص ! أن تحرق الخيام بالنار ، وجاء شمر بن ذي الجوشن لإحراق مخيم الحسين ، فطعن فسطاط الحسين بالرمح ، ونادى عليّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله ، قال : فصاح النساء وخرجن من الفسطاط ، وقال : وصاح به الحسين يا بن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ! حرّقك الله بالنار .
وعندما قًتل الحسين (ع) لم يدفنوه ، بل عمدوا إلى جسده الشريف فمثلوا به . فقد نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه فانتدب عشرة منهم إسحاق بن حياة الحضرمي فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره .
وأجهز الجيش المنتصر على الجثث الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه يحتزون رؤوسهم ، وأغاروا على خيم نساء الحسين وأطفاله ، واحرقوها بالنار ، وسلبوا ما فيها من متاع ، وما على النساء من حلي وحلل !! .
لقد ارتكب الجيش الأموي الباغي في كربلاء جرائم فظيعة ، لا يصح ارتكابها حتى مع الأعداء الكافرين ، فضلا عن عترة رسول الله (ص) لذلك أصبحت كربلاء تمثل أفظع مأساة في تاريخ البشر ، وفي ذات الوقت فهي أروع ملحمة في سجل البطولة والفداء والصمود .
وهنا ملاحظة يجب إبداءها . فقد تبين أن المقصود من قتل الحسين ليس التخلص من ثورته والحفاظ على كرسي يزيد ، فلو كان هذا المطلب الأساسي ، لكان في قتله وقتل أصحابه الكفاية ولتوقف الجيش عن العمل ، ولكن أن يقوم هذا الجيش بالتمثيل بجثث القتلى ، وخصوصا بالحسين فهذا يدلنا على عمق الكره الذي يكنه هؤلاء ليس للحسين ، بل للنبي وآل النبي ، فالمقصود هو الانتقام من بني هاشم ، وهذا الانتقام على درجة من الطغيان حتى أنه أدى إلى قتل الأطفال والنساء في حرب إبادة لا يوجد فيها للرحمة مكان .
ولو أردنا بيان مقدار هذا الحقد ، لقلنا أن في حمل رؤوس القتلى من آل الرسول (ص) ورض أجسادهم ، ودفن الجيش الأموي لجثث قتلاه ، وترك جثث الحسين وأصحابه في الصحراء بلا دفن تسفي عليهم الرياح ، والصورة التي قادوا فيها السبايا والضعفاء والمرضى ، وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال حفاة عراة ، وقتلهم للأطفال وترويعهم للنساء . لكان ذلك خير مقياس لدرجة الحقد والتحامل التي يتمتع بها جيش الخلافة على الرسول وآل الرسول (ص) ، وقد تمثل هذا الحقد على لسان خليفة المسلمين وإمامهم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان عندما رأى رؤوس القتلى من آل الرسول حيث قال :
لما بدت تلك الحمول واشـرقت تلك الشموس علـــى ربا جيرون
نعب الغراب فقلت صـح أو لا تصح فلقد قضيت من الغريم ديوني 21
ثم ساق جيش الخلافة من تبقى من ذرية الرسول (ص) أسرى إلى الكوفة . ففي فتوح ابن أعثم وغيره من المصادر قال : وساق القوم حرم رسول الله (ص) كما تساق الأسارى ، حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس ينظرون إليهم ، وجعلوا يبكون ويتوجعون ، وعلي بن الحسين مريض ، مغلول مكبل بالحديد قد نهكته العلة ، فقال : ألا إن هؤلاء يبكون ويتوجعون من أجلنا ، فمن قتلنا إذن ؟
فأشرفت امرأة من الكوفة وقالت: من أي الأسارى أنتن ؟ فقلن : نحن أسارى آل محمد (ص) فنزلت وجمعت ملاءا وأزرا ومقانع وأعطتهن .
ثم أدخلوا الأسرى على ابن زياد في قصر الإمارة .
يقول الطبري بسنده عن حميد بن مسلم ، قال : دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم ذلك ، ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس وأجد الوفد قد قدموا عليه فأدخلهم وأذن للناس فدخلت فيمن دخل ، فإذا برأس الحسين موضوع بين يديه وإذا هو ينكث بقضيب بي ثنيتيه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب ، قال له :
أعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فو الذي لا إله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله (ص) على هاتين الشفتين يقبلهما ثم انفضح الشيخ يبكي فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك قال :
فنهض فخرج . فلما دُخل برأس الحسين وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها ، فلما دخلت جلست فقال عبد الله بن زياد : من هذه الجالسة ؛ فلم تكلمه ، فقال ذلك ثلاثا ، كل ذلك لا تكلمه ، فقال بعض إمائها : هذه زينب ابنة فاطمة قال : فقال لها عبيد الله : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد (ص) وطهرنا تطهيرا ، لا كما تقول أنت إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، قال : فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك . قالت كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتخاصمون عنده .
قال فغضب ابن زياد واستشاط قال : فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير إنما هي امرأة وهل تؤخذ المرأة بشيء من منطقها إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل ، فقال لها ابن زياد : قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك ! قال : فبكت ، ثم قالت : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فان يشفيك هذا ، فقد اشتفيت ، فقال لها عبيد الله : هذه سجّاعة ! لعمري قد كان أبوك شاعرا سجّاعا ! قالت : ما للمرأة والسجاعة إن لي عن السجاعة لشغلا ولكني نفثني ما أقول .
ثم جيء بعلي بن الحسين ( زين العابدين ) وادخل على ابن زياد أسيرا مكبلا بالحديد ، فقال له ابن زياد : ما أسمك قال : أنا علي بن الحسين قال : أولم يقتل الله علي بن الحسين ؟ فسكت فقال له ابن زياد : مالك لا تتكلم ؟ قال : قد كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتلته الناس قال
: إن الله قد قتله . قال : فسكت علي فقال له : مالك لا تتكلم ؟ قال : الله يتوفى الأنفس حين موتها وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله . قال : أنت والله منهم ، فقال اقتلوه . فقال : علي بن الحسين من توكل بهؤلاء النسوة ؟ وتعلقت به زينب عمّته فقالت : يا ابن زياد حسبك منا أما رويت من دمائنا وهل أبقيت منا أحد ! قال : فاعتنقته فقالت : أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني معه قال : وناداه علي فقال : يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهم قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام قال : فنظر إليها ساعة ثم نظر إلى القوم فقال : عجبا للرحم والله أني لأضنها ودّت لو أني قتلته أني قتلتها معه دعوا الغلام انطلق مع نسائك .
ثم أمر عبيد الله بن زياد بالأسرى من آل بيت الرسول (ص) من النساء والصبيان فجُهزوا وأمر بعلي بن الحسين فغلّ بغلّ إلى عنقه ، ثم سرّح بهم مع محفّز بن ثعلبة العائذي ـ عائذة قريش ـ ومع شمر بن ذي الجوشن ، فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد ، فلم يكن عليّ ين الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا .
وفي فتوح بن ابن أعثم ، قال : دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي ، فسلّم إليه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما ، ورؤوس أخوته ورأس علي بن الحسين ورؤوس أهل بيته وشيعته ، رضي الله عنهم أجمعين . ودعا علي بن الحسين فحمله وحمل أخوته وعمّاته وجميع نسائهم إلى يزيد بن معاوية ، قال : فسار القوم بحرم رسول الله (ص) من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد ، ومن منزل إلى منزل ، كما تساق أسارى الترك والديلم . 22
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين .
===============================================
المصادر :
1- كما في التوراة سفر التكوين . الإصحاح الثاني ، الفقرة 17 .
2 - الإنجيل . رومية ، الإصحاح الخامس ، الفقرة 12 .
3- سورة البقرة آية 35 .
4 -سورة إبراهيم الآية 24 ـ 25 .
5- سورة الإسراء آية 60 .
6- البحار ج35 ص 25 رواية 20 .
7- موسوعة الإمام الصادق (ع) السيد محمد كاظم القزويني . ج10 ص 294 الطبعة الأولى 1419 . نقلا عن كتاب اللهوف في قتلى الطفوف ص 60
8- روى هذا الحديث : ابن كثير وطبقات ابن سعد ، وتاريخ بن عساكر ، وتاريخ الإسلام للذهبي وغيرهم من المؤرخين .
9- التوراة ، سفر إرمياء الاصحاح 46 الفقرة 6 ـ 11 .
10- نفس المصدر السابق ، النص الكامل .
11 - عندي بحث حول هذا الموضوع أبين فيه الحسين لدى الأمم منذ عصر الخليقة الأول وحتى يوم القيامة ، أبين فيه أن الحسين دخل حتى في معتقدات الأمم الوثنية ، وكان هو بطل الأسطورة على مدى الزمان والمكان وأنه الحاضر في المحابر لا تغترف الأقلام إلا منه .
12 - البحار ج 44 ص 252 .
13- البحار ج 45 ص 113 .
14 - تاريخ ابن عساكر ، وكنز العمال ج13 ص 112 وغيره من المصادر
15 - راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 220 .
16 - الإمامة والسياسة ، لابن قتيبة ج1 ص 170 .
17 - معالم المدرستين للعلامة السيد مرتضى العسكري ، ج3 ص 20 ط 2 . ويقصد كأس من الخمر الأصفر
18 - الأغاني ج16 ص 68 .
19- ابن كثير ج8 ص 436 .
20 - مقتل الخوارزمي الجزء 2 ص 32 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 30 طبع أوربا ، وابن كثير ج8 ص 188 . وغيره من المصادر .
21- تذكرة الخواص ، لاين الجوزي ، ج2 ص 148 .
22 - فتوح ابن أعثم ج5 ص 236 .
الواقعة الخالدة : كربلاء رؤية جديدة .
صحائف أسأل الله تعالى أن يجعلها سترا بيني وبين النار يوم القيامة .
كيف نشأ الإجرام ؟ وكيف بدأت الجريمة ؟ إذا كان الله قد نفخ في آدم من روحه ، فمن أين جاء الانحراف في الفطرة ، ومن أين دخل العنف إلى الإنسان ؟
هناك إجماع من قبل الأديان التوحيدية وغيرها ، على أن الشجرة التي أكل منها آدم كانت هي السبب : شجرة معرفة الخير والشر كما في التوراة : (( واوصى الرب الإله آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل اكلا. واما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها … ملعونة الأرض بسببك )). 1
أو شجرة الخطية ، كما في الإنجيل: (( من اجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس )) . 2
أو كما في القرآن في قوله تعالى : (( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )) 3 .
ويكاد موضوع الشجرة يتكرر نفسه في الكتب الأخرى : الأرياني ستيانس ، الكنزا ربا ، الأفستا ، والرشت ، وحتى في الأساطير اليونانية ، والبابلية ، والمصرية والأفريقية ، والهندية .
ويكاد ينحصر سر الدنيا والآخر بهاتين الشجرتين اللتان تمثلان الخير والشر ، الجنة والنار موسى وفرعون ،عيسى وقيصر ، محمد وابو سفيان ، علي ومعاوية ، الحسين ويزيد ،المهدي والسفياني … الخ
هما شجرتان فقط ، كما سمتهما التوراة ، شجرة الخير وشجرة الشر ، فأيد ذلك تعالى في قرآن نتلوه آناء الليل وأطراف النهار فقال تعالى : (( شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين)) والشجرة الثانية : (( شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار )) 4 .
ولما ختم الله الدين و أرسل رسول رب العالمين بين ذلك على لسانه فقال : (( والشجرة الملعونة في القرآن )) 5 .
فأشار النبي إلى تلك الشجرة محذرا منها فقال : (( الشجرة الملعونة هم بنو أمية )) .
ثم بين النبي مفهوم الشجرة الثانية :الشجرة الطيبة ، شجرة الخير ، شجرة المعرفة ، شجرة الحياة ، شجرة النور فقال : ((يا علي خُلق الناس من شجر شتى ، وخُلقت أنا وأنت من شجرة واحدة أنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها وشيعتنا ورقها فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الله الجنة )) . 6
الشجرة الطيبة عندما يسقط ورقها ، فإنه يسقط تحتها .
الشجرة الخبيثة عندما يسقط ورقها فإنه يسقط تحتها أيضا .
فماذا كانت نتائج الأكل من تلك الشجرة ؟
أئمتنا فقط هم الذين يُجيبون على ذلك قال الإمام المعصوم : الأكلة التي أكل منها آدم من الشجرة التي نهاهم الله أن يأكلوا منها ، انعقدت نطفة فكانت قابيل القاتل .لقد زرع العصيان .عصيانا ، والعصيان أجرى أنهارا من الدماء والدموع على طول التاريخ وحتى قيام القائم .
العوامل النفسية المضطربة لها أثر كبير في صنع شخصية الإنسان ، ومنذ الحالة الجنينية : (( يُكتب في بطن أمه شقي أو سعيد )) . ولذلك نهتنا الشرائع السماوية عن أكل الشبهة من مال الحرام .
هرب ( القاتل ) قابيل نادما فأنتج جيلا من القتلة المجرمين السفاحين على طول التاريخ .
قٌتل الحسين (ع) فتحمل الأبناء مع آبائهم وزر ذلك حتى تقوم الساعة .
وكمثال على ذلك فإن أسلاف هؤلاء اليهود هم الذين قتلوا الأنبياء ولكن الله خاطب هؤلاء وأشركهم في عمل أسلافهم لأنهم راضون بما علموا . والراضي بعمل قوم كالداخل معهم .
لما نزل قوله تعالى : (( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ) في اليهود من الذين نقضوا عهد الله ، وكذبوا رسول الله ، وقتلوا الأنبياء وأولياء الله . قال الرسول (ص) أفلا أنبئكم بمن يُضاهيهم من يهود هذه الأمة . قالوا بلا يا رسول الله . قال قوم من أمتي ينتحلون أنهم من ملتي ، يقتلون أفاضل ذريتي وأطائب أرومتي ، ويبدلون شريعتي وسنتي ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف اليهود زكريا ويحيا .
سرّ الخلود .
وقائع كثيرة حدثت في التاريخ ولكنها تلاشت واضمحلت فلم تجد لها ذكرا إلا في بطون الكتب التاريخية .
الواقعة التاريخية الوحيدة الباقية التي سايرت الزمان ، وتناقلها الركبان وخلدها الدهر هي واقعة كربلاء ، والسبب في ذلك هو ضروف المعركة ، وأشخاص المعركة ، والطريقة التي عولجت فيها ثورة الإمام الحسين (ع) من قبل السلطة الحاكمة آنذاك .
التاريخ خلّد ثورة الإمام الحسين (ع) ، ثورة الإمام الحسين سبقت عصرها ، نشأت قبل نشوء الخليقة ، كانت قبل عالم المادة ، في عالم النور ـ كما تنقل لنا الروايات الواردة إلينا عن المعصوم ـ ثم فطر الله الخلق فامتزجت فطرتهم بهذه الثورة ، وعُجنت طينتهم بدماء الثوار .
الأنبياء تحدثوا عنها ، الصالحون تناقلوها ، الكتب السماوية ذكرتها ، بإشارات قد تكون غامضة على ذلك الزمان لأنها لم تعاصر الحدث فلا تعرف مفرداته ، ولكنها ليست غامضة علينا لأننا من عصر كربلاء ، لأنها تسير مع العصر وهي أهم سلاح من أسلحة العصر يتجهز به الثوار في كل عصر ومصر .
ثم تنتقل كربلاء إلى العالم الآخر ، حيث تجري المحاكمة الكبرى . كما ينقل لنا صاحب كتاب اللهوف في قتلى الطفوف قال :
(( روي عن الصادق (ع) يرفعه إلى النبي (ص) أنه قال : إذا كان يوم القيامة نصب لفاطمة (ع) قبة من نور ويقبل الحسين (ع) ورأسه في يده فإذا رأته شهقت شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بكى لها . فيمثله الله ( عز وجل ) لها في أحسن صورة وهو يخاصم قتلته بلا رأس فيجمع الله (عز وجل ) لها قتلته والمجهزين عليه ومن شركهم في قتله فأقتلهم حتى آتي على أخرهم .
ثم ينشرون فيقتلهم أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) ثم ينشرون فيقتلهم الحسن (عليه السلام ) ثم ينشرون فيقتلهم الحسين ( عليه السلام ) ثم ينشرون فلا يبقى أحد من ذريتنا إلا قتلهم قتلة . فعند ذلك يكشف الغيظ وينسى الحزن )) . 7
وهناك عدد كبير من الروايات التي وردتنا من مصدر أخذها عن الوحي عن الله تعالى والتي تؤكد معرفة الأمم السابقة لنبأ استشهاد الأمام الحسين (ع) بتفاصيلها ،ومن هذه الروايات نذكر وباختصار :
ذكر ابن سعد في طبقاته عن رأس الجالوت عن أبيه قال : ما مررت بكربلاء ، إلا وأنا اركض دابتي حتى أخلف المكان ، قال : قلت : لم ؟ قال : كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان وكنت أخاف أن أكون أنا ، فلما قُتل الحسين قلنا : هذا الذي كنا نتحدث ، وكنت بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض .
وروى ابن كثير الدمشقي قال : مرّ علي (ع) على كعب فقال : يُقتل من ولد هذا رجل في عصابة لا يجف عرق خيولهم حتى يردوا على محمد (ص) الحوض ، فمر الحسن (ع) فقالوا : هذا ؟ قال : لا ، فمرّ الحسين (ع) فقالوا : هذا ؟ قال : نعم . 8
فهل نجد مصاديق ذلك في الكتب السماوية وبوضوح بين لا غبار عليه ؟
نعم إن الحسين عليه السلام هو الذبيحة الذي قُتل قرب نهر الفرات ، فأنظر ماذا تقول التوراة : ((في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا . لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات )) . 9
والنص الكامل الذي يصف تلك المعركة وصفا دقيقا في نبوءة إرمياء النبي حيث جاءت هذه النبوءة ضمن سيل من النبوءات فاقرأ وتمعن : (( عِدّوا المِجن والترس وتقدموا للحرب أسرجوا الخيل وأصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ .
اصقلوا الرماح . البسوا الدروع .
لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء وقد تحطمت أبطالهم وفرّوا هاربين ولم يلتفتوا . الخوف حواليهم يقول الرب .
الخفيف لا ينوص والبطل لا ينجو . في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا .
فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة … لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات )) . 10
فهل قُتل أحد ذبحا غير الحسين بالقرب من الفرات ؟
وهل تعلم أن أرض الشمال هي أرض كركميش في العراق والتي تحمل حرفين من إسم كربلاء : (كر) هي الذبح ، وكميش هي ( الكبش ) أو الضحية على اغلب الأقوال .
ثم كان نداء علي (ع) عند ذهابه إلى صفين ومروره بكربلاء حيث نادى : (( صبرا أبا عبد الله بشط الفرات )) وهو المكان المسمى نينوى من شط الفرات . 11
وقول الإمام زين العابدين في الشام : (( أنا ابن المذبوح بشط الفرات )) وكل هذه النصوص تعضد ما جاء في التوراة . فتمعن .
واليهود أصحاب التوراة كانوا يعرفون واترهم علي بن أبى طالب (ع) فقتلوه كما ذكر ذلك علي نفسه عندما ضربه ابن ملجم صاح الإمام : ( قتلني ابن اليهودية ، لايفوتنكم الرجل )) .13
وهم يعرفون الحسين كما مرّ من روايات كعب ، وكانوا في نفس الوقت يكرهون الحسين كما يكرهون أ بيه وذلك لأسباب منها :
الأول : كرها منهم لأبيه الذي وترهم وقتل صناديدهم وهدم حصونهم في خيبر وسفه أحلامهم .
والثاني : أنهم يعرفون الحسين كأحد رموز يوم المباهلة العظيم الذي دحر الله فيه اليهود ببركة تلك الوجوه المباركة والتي كان وجه الحسين منها .
الثالث : أن الحسين الامتداد الطبيعي للرسول ( حسين مني ) وبهذا فهو يشكل الرسالة بكامل ثقلها مقابل أهدافهم الخبيثة .
ولذلك نرى أنه عندما ورد خبر وصول سفير الحسين إلى يزيد في الشام ، أضطرب يزيد للنبأ وهم كثيرا للأمر ، وهنا تدخل اليهود الذين كانوا يعرفون من هو المقتول عند الفرات . فأشار عليه مستشاره الخاص ( سرجون اليهودي ) بأن يُقلد ولاية الكوفة لعبيد الله بن زياد .
وأخرج ابن قولويه أربع روايات في باب علم الأنبياء بمقتل الحسين من كتابه كامل الزيارات ، وذكر رواية قال فيها أن الملائكة تعلم بمقتل الحسين (ع) وكذلك روى من أن الأنبياء لعنوا قتلة الحسين (ع).
وعن زينب قالت : بينا رسول الله (ص) في بيتي وحسين عندي حين درج ، فغفلت عنه ، فدخل علي رسول الله (ص) فقال : دعيه … ثم قام فصلى فلما قام احتضنه إليه فإذا ركع أو جلس وضعه ثم جلس فبكى ، ثم مد يده فقلت حين قضى الصلاة : يا رسول الله أني رأيتك اليوم صنعت شيئا ما رأيتك تصنعه ؟ قال : أن جبريل أتاني فأخبرني أن هذه تقتله أمتي ، فقلت : فأرني تربته ، فأتاني بتربة حمراء . 14
من هو الحسين بن علي ؟
فالحسين بن علي بن أبي طالب (ع) معروف من هو . أبوه علي بن أبي طالب أول الناس إسلاما ، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) وجدتهُ خديجة بنت خويلد زوج النبي (ص) وعمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ، وعمه الآخر جعفر الطيار ، يضاف إلى ذلك أن الحسين خامس أصحاب الكساء ، وسيد شباب أهل الجنة ، وأحد الأئمة الذين بشر بهم نبي الإسلام الذي قال في حقه وحق أخيه : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، وأنه مصباح الهدى ، وسفينة النجاة ، وقد نزل في الحسين من القرآن آيات كثيرة ، أوردها أصحاب السنن في مدوناتهم .
ومن هو يزيد بن معاوية ؟
وأما يزيد ، فهو ابن معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق الذي أمر النبي بقتله إذا رأوه على منبره ، ولكن الناس لم يفعلوا ، وجدّته آكلة الأكباد التي شقت بطن حمزة عم النبي ، وأكلت كبده ، وجده الآخر أبو سفيان بن حرب ، الذي حارب الله ورسوله حتى دخل الإسلام نفاقا راغما خانعا . وسيرة يزيد معروفة للخاص والعام فهو يشرب الخمر علنا ، ويلعب بالقرود ، وينادم اليهود والنصارى ، ويلبس الحرير والذهب ، وأغلب المؤرخين يذهبون على أن يزيد تربى تربية نصرانية عند أخواله ، فهو بعيد عن الإسلام ، لا يتورع عن ارتكاب أي محرم من أجل ملذاته ، وهو الذي أمر بضرب الكعبة وتهديمها ، وهو الذي بادر بذبح الأطفال والنساء ، وكان جيشه يعيث بالأرض فسادا دون أن يردعهُ ، حتى قال بحقه بعض الصحابة : خرجنا من عند يزيد وقد خشينا أن ترجمنا السماء بالحجارة .
يضاف إلى ذلك أنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي أجمع المؤرخون على أنها نزلت في بني أمية ، وإليك بعضا من سيرته التي ذكرها المؤرخون :
لما أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس ، طلب من زياد أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة ، فكان جواب زياد له : ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبّغات ، ويدمن الشراب ، ويمشي على الدفوف وبحضرتهم الحسين بن علي بن ابي طالب الخ . 15
وحج معاوية وحاول أن يأخذ البيعة من أهل مكة والمدينة فأبى عبد الله بن عمر وقال : نبايع من يلعب بالقرود والكلاب ويشرب الخمر ويظهر الفسوق ، ما حجتنا عند الله .
وقال ابن الزبير : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد أفسد علينا ديننا .
وقال له الحسين بن علي : كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عما كان احتويته لعلم خاص وقد دل يزيد على موقع رأيه فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول . 16
وأكثر يزيد من نظم الشعر في الخمر والغناء مثل قوله :
معشر الندمـان قــومــوا واسمعـوا صـوت الأغانــي
واشـربــوا كأس مـــدام واتــركـوا ذكــر المثانـي
شغلتــني نغمـة العـــيدان عـــن صــــوت الأذان
وتعوضــت مـــن الحور عجـوزا فـــي الــدنـان
ثم أظهر يزيد ما مكنون في صدره من كره للإسلام ونبي الإسلام في قصيدته التي قال فيها :
عُليّة هـاتي واعلني وتـرنمي بذلك إنّي لا أحــب التناجـيا
حديث أبي سفيان قدما سما بها إلى أُحد حتى أقــام ألبوا كيا
ألا هات اسقّيني على ذاك قهوة تخيرها العنسي كــرما شآميا
إذا ما نظرنا في أمـور قديمة وجدنـا حلالا شربـها متواليا
وان مت يا أم الأحيمر فانكحي ولا تأملي بعد الفــراق تـلاقيا
فان الذي حدّثت عن يوم بعثنا أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا
ولا بد لي من أن أزور محمدا بمشمولة صفراء تروي عظاميا 17
فيزيد في أبياته الشعرية هذه يمجد ما فعله أبو سفيان في معركة أحد ، من قتله لحمزة وغيره من المسلمين ، وأن البعث والنشور هو من الأساطير التي جاء بها محمد فلا بعث ولا نشور بعد الموت ، ثم يستخف بمشاعر المسلمين ويقول : لا بد من لقاء محمد بكأس من الخمرة باردة أروي بها عظامي .
وروى صاحب الأغاني وقال : كان يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنين وأظهر الفتك وشرب الخمر ، وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه ، والأخطل ـ الشاعر النصراني ـ وكان يأتيه من المغنين سائب خاثر فيقيم عنده فيخلع عليه . 18
وأخيرا مات أمير المؤمنين وخليفة المسلمين يزيد بن معاوية شهيدا على يد قرده المدلل أبا قيس . فقد روى ابن كثير قال : أن سبب وفاة يزيد أنه حمل قردة على الأتان وهو سكران ثم ركض خلفها وجعل ينقزها فعضته . 19
خليفة هذه أخلاقه وهذا دينه يرى نفسه يقف أما شخص الحسين بن علي (ع) ، كيف سيتعامل معه وهو أشرف منه واكفأ في إدارة شؤون المسلمين ؟
فعندما خرج الحسين بن علي (ع) بعد بيعة أهل الكوفة له مستجيبا لهم ، بعد قيام الحجة عليه بوجود الناصر ، لم يقف يزيد بن معاوية مكتوف الأيدي ، فقد رأى أبوه من قبل كيف تعامل مع الإمام الحق علي بن أبي طالب (ع) عندما هدد بانتزاع ولاية الشام منه ، حيث سلط عليه طغام أهل الشام ولم يبالي معاوية بمن هلك في هذه الحرب من المسلمين كان المهم عنده هو سلامة الولاية ، وجلوسه على الكرسي . وكذلك رأى يزيد كيف أن أباه دس السم إلى الإمام الحسن بن علي (ع) وقتله على الرغم من تنازل الإمام الحسن لمعاوية عن السلطة الدنيوية ، كانت تربية يزيد على هذه الشاكلة . فهل يسكت عن الحسين وهو يتوجه إلى الكوفة لقيادة الجيوش ضده ، كلا طبعا فقد أمر عتاته من أولاد الزناة وسفاكين الدماء وشاربي الخمور بالتوجه إلى حرب الحسين وقتله وسبي آل بيته . وقد نفذ جيش الخلافة هذه الأوامر وزاد عليها ، وأول عمل قام به هو قطعه الماء عن الحسين وأصحابه ، ولم يراعوا حق علي بن أبي طالب عندما أباح لهم الماء في صفين ولم يمنعه عنهم .
فقد روى الطبري في حوادث سنة 60 قال : جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد : أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة .
قال : فبعث عمر بن سعد ، عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يُسقوا منه قطرة وذلك قبل قتل الحسين بثلاث أيام قال : ونازله عبد الله بن حصين الأزدي وعداده في بجيلة فقال : يا حسين ! ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء ! والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا ، فقال الحسين : اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا ! قال حميد بن مسلم والله لعدته بعد ذلك في مرضه فو الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى يبغر ثم يقيء ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروي فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصّته يعني نفسه .
لم يبالي جيش الخلافة بالأطفال والنساء والمرضى ، قتلهم العطش أم لا ، المهم هو تنفيذ أوامر الخليفة القابع في الشام يشرب الخمر وينادم القرود .
قتل الأطفال الرّضع
أمتاز جيش الخلافة الإسلامية بميزة فريدة من نوعها : قتل الأطفال وحتى الرضع منهم.
ففي مقتل الخوارزمي وغيره : تقدم الحسين إلى باب الخيمة وقال : ناولوني عليا الطفل حتى أودعه ، فناولوه الصبي ، فجعل يقبله ويقول : ويل لهؤلاء القوم إذ كان خصمهم جدك ، فبينا الصبي في حجره إذ رماه حرملة بن كاهل الأسدي فذبحه في حجره فتلقى الحسين دمه حتى امتلأت كفه ثم رمى به نحو السماء ، وقال : اللهم أن حبست عنا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا ، وانتقم من هؤلاء الظالمين ، ثم نزل الحسين عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه وزمّله بدمه وصلى عليه . 20
ثم تتالى قتل الأطفال . فقد روى الطبري عن هانئ بن ثبيت الحضرمي ، قال : كنت ممن شهد قتل الحسين ، قال : فو الله أني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس وقد جالت الخيل وتضعضعت :
إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه أزار وقميص وهو مذعور يلتفت يمينا وشمالا فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت ، إذا أقبل رجل يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف .
ثم قال الطبري : ثم أن شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه ثم أنهم أحاطوا به إحاطة وأقبل إلى الحسين غلام من عند النساء ، فقام إلى جنبه ، قال : وقد أهوى بجر بن كعب بن عبد الله من بني تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف فقال الغلام : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي ؟ ! فضربه بالسيف فاتقاه الغلام بيده ، فأطنها إلى الجلد فإذا يده معلقة فنادى الغلام يا أبتاه فأخذه الحسين فضمه إلى صدره وقال : يا ابن أخي أصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ، فان الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول الله (ص) وعلي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن بن علي صلى الله عليهم أجمعين .
ثم عمد جيش الخلافة إلى ترويع النساء والأطفال حيث أحرق الخيام عليهم . فقد أمر عمر بن سعد بن أبي وقاص ! أن تحرق الخيام بالنار ، وجاء شمر بن ذي الجوشن لإحراق مخيم الحسين ، فطعن فسطاط الحسين بالرمح ، ونادى عليّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله ، قال : فصاح النساء وخرجن من الفسطاط ، وقال : وصاح به الحسين يا بن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ! حرّقك الله بالنار .
وعندما قًتل الحسين (ع) لم يدفنوه ، بل عمدوا إلى جسده الشريف فمثلوا به . فقد نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه فانتدب عشرة منهم إسحاق بن حياة الحضرمي فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره .
وأجهز الجيش المنتصر على الجثث الطاهرة للإمام الحسين وأصحابه يحتزون رؤوسهم ، وأغاروا على خيم نساء الحسين وأطفاله ، واحرقوها بالنار ، وسلبوا ما فيها من متاع ، وما على النساء من حلي وحلل !! .
لقد ارتكب الجيش الأموي الباغي في كربلاء جرائم فظيعة ، لا يصح ارتكابها حتى مع الأعداء الكافرين ، فضلا عن عترة رسول الله (ص) لذلك أصبحت كربلاء تمثل أفظع مأساة في تاريخ البشر ، وفي ذات الوقت فهي أروع ملحمة في سجل البطولة والفداء والصمود .
وهنا ملاحظة يجب إبداءها . فقد تبين أن المقصود من قتل الحسين ليس التخلص من ثورته والحفاظ على كرسي يزيد ، فلو كان هذا المطلب الأساسي ، لكان في قتله وقتل أصحابه الكفاية ولتوقف الجيش عن العمل ، ولكن أن يقوم هذا الجيش بالتمثيل بجثث القتلى ، وخصوصا بالحسين فهذا يدلنا على عمق الكره الذي يكنه هؤلاء ليس للحسين ، بل للنبي وآل النبي ، فالمقصود هو الانتقام من بني هاشم ، وهذا الانتقام على درجة من الطغيان حتى أنه أدى إلى قتل الأطفال والنساء في حرب إبادة لا يوجد فيها للرحمة مكان .
ولو أردنا بيان مقدار هذا الحقد ، لقلنا أن في حمل رؤوس القتلى من آل الرسول (ص) ورض أجسادهم ، ودفن الجيش الأموي لجثث قتلاه ، وترك جثث الحسين وأصحابه في الصحراء بلا دفن تسفي عليهم الرياح ، والصورة التي قادوا فيها السبايا والضعفاء والمرضى ، وهم مقيدون بالسلاسل والأغلال حفاة عراة ، وقتلهم للأطفال وترويعهم للنساء . لكان ذلك خير مقياس لدرجة الحقد والتحامل التي يتمتع بها جيش الخلافة على الرسول وآل الرسول (ص) ، وقد تمثل هذا الحقد على لسان خليفة المسلمين وإمامهم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان عندما رأى رؤوس القتلى من آل الرسول حيث قال :
لما بدت تلك الحمول واشـرقت تلك الشموس علـــى ربا جيرون
نعب الغراب فقلت صـح أو لا تصح فلقد قضيت من الغريم ديوني 21
ثم ساق جيش الخلافة من تبقى من ذرية الرسول (ص) أسرى إلى الكوفة . ففي فتوح ابن أعثم وغيره من المصادر قال : وساق القوم حرم رسول الله (ص) كما تساق الأسارى ، حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس ينظرون إليهم ، وجعلوا يبكون ويتوجعون ، وعلي بن الحسين مريض ، مغلول مكبل بالحديد قد نهكته العلة ، فقال : ألا إن هؤلاء يبكون ويتوجعون من أجلنا ، فمن قتلنا إذن ؟
فأشرفت امرأة من الكوفة وقالت: من أي الأسارى أنتن ؟ فقلن : نحن أسارى آل محمد (ص) فنزلت وجمعت ملاءا وأزرا ومقانع وأعطتهن .
ثم أدخلوا الأسرى على ابن زياد في قصر الإمارة .
يقول الطبري بسنده عن حميد بن مسلم ، قال : دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم ذلك ، ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس وأجد الوفد قد قدموا عليه فأدخلهم وأذن للناس فدخلت فيمن دخل ، فإذا برأس الحسين موضوع بين يديه وإذا هو ينكث بقضيب بي ثنيتيه ساعة فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب ، قال له :
أعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فو الذي لا إله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله (ص) على هاتين الشفتين يقبلهما ثم انفضح الشيخ يبكي فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك قال :
فنهض فخرج . فلما دُخل برأس الحسين وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها ، فلما دخلت جلست فقال عبد الله بن زياد : من هذه الجالسة ؛ فلم تكلمه ، فقال ذلك ثلاثا ، كل ذلك لا تكلمه ، فقال بعض إمائها : هذه زينب ابنة فاطمة قال : فقال لها عبيد الله : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد (ص) وطهرنا تطهيرا ، لا كما تقول أنت إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، قال : فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك . قالت كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتخاصمون عنده .
قال فغضب ابن زياد واستشاط قال : فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير إنما هي امرأة وهل تؤخذ المرأة بشيء من منطقها إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل ، فقال لها ابن زياد : قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك ! قال : فبكت ، ثم قالت : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فان يشفيك هذا ، فقد اشتفيت ، فقال لها عبيد الله : هذه سجّاعة ! لعمري قد كان أبوك شاعرا سجّاعا ! قالت : ما للمرأة والسجاعة إن لي عن السجاعة لشغلا ولكني نفثني ما أقول .
ثم جيء بعلي بن الحسين ( زين العابدين ) وادخل على ابن زياد أسيرا مكبلا بالحديد ، فقال له ابن زياد : ما أسمك قال : أنا علي بن الحسين قال : أولم يقتل الله علي بن الحسين ؟ فسكت فقال له ابن زياد : مالك لا تتكلم ؟ قال : قد كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتلته الناس قال
: إن الله قد قتله . قال : فسكت علي فقال له : مالك لا تتكلم ؟ قال : الله يتوفى الأنفس حين موتها وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله . قال : أنت والله منهم ، فقال اقتلوه . فقال : علي بن الحسين من توكل بهؤلاء النسوة ؟ وتعلقت به زينب عمّته فقالت : يا ابن زياد حسبك منا أما رويت من دمائنا وهل أبقيت منا أحد ! قال : فاعتنقته فقالت : أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني معه قال : وناداه علي فقال : يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهم قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام قال : فنظر إليها ساعة ثم نظر إلى القوم فقال : عجبا للرحم والله أني لأضنها ودّت لو أني قتلته أني قتلتها معه دعوا الغلام انطلق مع نسائك .
ثم أمر عبيد الله بن زياد بالأسرى من آل بيت الرسول (ص) من النساء والصبيان فجُهزوا وأمر بعلي بن الحسين فغلّ بغلّ إلى عنقه ، ثم سرّح بهم مع محفّز بن ثعلبة العائذي ـ عائذة قريش ـ ومع شمر بن ذي الجوشن ، فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد ، فلم يكن عليّ ين الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا .
وفي فتوح بن ابن أعثم ، قال : دعا ابن زياد زحر بن قيس الجعفي ، فسلّم إليه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما ، ورؤوس أخوته ورأس علي بن الحسين ورؤوس أهل بيته وشيعته ، رضي الله عنهم أجمعين . ودعا علي بن الحسين فحمله وحمل أخوته وعمّاته وجميع نسائهم إلى يزيد بن معاوية ، قال : فسار القوم بحرم رسول الله (ص) من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد ، ومن منزل إلى منزل ، كما تساق أسارى الترك والديلم . 22
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين .
===============================================
المصادر :
1- كما في التوراة سفر التكوين . الإصحاح الثاني ، الفقرة 17 .
2 - الإنجيل . رومية ، الإصحاح الخامس ، الفقرة 12 .
3- سورة البقرة آية 35 .
4 -سورة إبراهيم الآية 24 ـ 25 .
5- سورة الإسراء آية 60 .
6- البحار ج35 ص 25 رواية 20 .
7- موسوعة الإمام الصادق (ع) السيد محمد كاظم القزويني . ج10 ص 294 الطبعة الأولى 1419 . نقلا عن كتاب اللهوف في قتلى الطفوف ص 60
8- روى هذا الحديث : ابن كثير وطبقات ابن سعد ، وتاريخ بن عساكر ، وتاريخ الإسلام للذهبي وغيرهم من المؤرخين .
9- التوراة ، سفر إرمياء الاصحاح 46 الفقرة 6 ـ 11 .
10- نفس المصدر السابق ، النص الكامل .
11 - عندي بحث حول هذا الموضوع أبين فيه الحسين لدى الأمم منذ عصر الخليقة الأول وحتى يوم القيامة ، أبين فيه أن الحسين دخل حتى في معتقدات الأمم الوثنية ، وكان هو بطل الأسطورة على مدى الزمان والمكان وأنه الحاضر في المحابر لا تغترف الأقلام إلا منه .
12 - البحار ج 44 ص 252 .
13- البحار ج 45 ص 113 .
14 - تاريخ ابن عساكر ، وكنز العمال ج13 ص 112 وغيره من المصادر
15 - راجع تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 220 .
16 - الإمامة والسياسة ، لابن قتيبة ج1 ص 170 .
17 - معالم المدرستين للعلامة السيد مرتضى العسكري ، ج3 ص 20 ط 2 . ويقصد كأس من الخمر الأصفر
18 - الأغاني ج16 ص 68 .
19- ابن كثير ج8 ص 436 .
20 - مقتل الخوارزمي الجزء 2 ص 32 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 30 طبع أوربا ، وابن كثير ج8 ص 188 . وغيره من المصادر .
21- تذكرة الخواص ، لاين الجوزي ، ج2 ص 148 .
22 - فتوح ابن أعثم ج5 ص 236 .