بعد ثلاث سنوات على الاحتلال العنف الطائفي مسؤولية من؟ د. راقية القيسي باحثة في شؤون العراق
يقول غالبية العراقيين البسطاء أننا نعيش جميعا منذ قرون عديدة على ارض واحدة ونتقاسم مصير مشترك واحد ، وان اندلاع العنف الطائفي والصراع الاهلي امر غير معروف في العراق. ثم يستنتجوا من هذه الحقيقة الحياتية البسيطة بأن انزلاق البلاد الى مستنقع العنف الطائفي والثأر الذي اغرق البلاد بالدم وجعل العراق على شفا حرب اهلية مرعبة، تزامن مع دخول قوات الاحتلال وحلفائها الى العراق.
لقد حلل العراقيون البسطاء باسلوبهم الفطري اسباب الاستقطاب الطائفي وتطوره، وجاء تحليلهم لا يختلف عما قاله المفكر المصري الماركسي سمير امين بأن الاستقطاب ملازم للرأسمالية وهو جزء من اليات التوسع الراسمالي..الذي ينتج بالضرورة ازمة تؤدي الى الصراع والحروب نتيجة التنافس على النفوذ والموارد.
ومن المعروف بأن الكيانات السياسية الطائفية، جرى تأسيسها او أحتوائها، من المجموعات المعارضة في بريطانيا والولايات المتحدة، وبرعاية السلطات الامريكية والبريطانية، منذ السنوات الاولى التي اعقبت اخراج الجيش العراقي من الكويت. وتم ذلك في اطار التعاون المناهض لدكتاتورية نظام صدام في العراق. وعندما توفرت الظروف لغزو العراق ، دخلت هذه الكيانات كتفا الى كتف مع قوات الغزو وعلى راسها (الشخصية البارزة في عالم البيزنس الامريكي المصرفي العراقي احمد الجلبي ).
وبعد دخول هذه الكيانات العراق، أشاعت أجواء النزعة الطائفية، التي اصبحت تكتنف كل جوانب الحياة. فوَلدت مناخ من الاستقطاب الطائفي والاثني، أدى الى ازمة سياسية خانقة، نتيجة التنافس على السلطة السياسية والهيمنة الاقتصادية على موارد النفط. ومع اشتداد الازمة نتيجة لهذا الاستقطاب والتنافس، بدات الاطراف المتحالفة مع قوات الاحتلال تنغلق تدريجيا على نفسها، وتشكك بالاطراف الجدد في العملية السياسية، وترفض اي مشاركة في النفوذ السياسي والموارد .. الامر الذي ادى الى تصعيد اجواء العنف والثأر الطائفي، وهذه هي دائما عوامل اندلاع الصراع والحروب في التاريخ ، وهي ملازمة للتوسع الامبريالي للدول.
وظهرت أزمة الاستقطاب الطائفي والاثني بشكل صارخ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. فقد عمت الفوضى في أماكن عديدة من العالم نتيجة اندلاع الروح القومية العرقية، الذي أدى الى تمزق دول عديدة. واحتدمت المنافسة الاقتصادية بين حلفاء الحرب الباردة. وظهرت دول عديدة ترفض الوصاية الامريكية، وغير راضية على قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي.
وقد وجدت الولايات المتحدة صعوبة بالغة ، في ادارة أزمة الاستقطاب الطائفي/الاثني، على الصعيد العالمي، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من خلال سياسة الاحتواء، لأن هذه السياسة أصبحت غير متماسكة بعد ان استنفذت اغراضها بغياب العدو الشيوعي.
لهذا أصبح الاستقطاب الطائفي والاثني بعد احداث الحادي عشر من سيبتمبر، يأخذ منحى اكثر سهولة، بسبب ظهور العدو (الارهاب) الذي سيكون شماعة لتعليق ازمة الاستقطاب، الذي تولده آليات التوسع الرأسمالي الامبريالي للسيطرة على العالم. وهذا ما جعل الرئيس الامريكي بوش الابن يسجل ليلة الحادي عشر من سيبتمبر في مفكرته الملاحظة التالية:
{اليوم وقعت بيرل هاربور القرن الحادي والعشرين (وهذه أشارة لاسباب دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية) نعتقد انه اسامة بن لادن. ونعتقد ان هناك اهدافا اخرى سيتم مهاجمتها في الولايات المتحدة، ولكنني أناشد البلاد أن تعود لحياتها الطبيعية، لا يمكننا ان نسمح لأي أرهاب بأن يتخذنا كرهائن، وأملي هو أن يتيح ما حدث لنا الفرصة لان نقود العالم ضد الارهاب}
أنطلاقا من مضمون هذه الملاحظة فأن الرئيس بوش ورهطه (المحافظين الجدد) كانوا بانتظار الفرصة لايجاد (عدو)، يخفي وجه النزعة الاحتكارية الصارخة للرأسمالية بعد أنفرادها بالقوة على الصعيد العالمي.
وقد قدمت شبكة القاعدة ودكتاتورية صدام، هذه الفرصة الذهبية، التي ساعدت (نمور الراسمالية) من أحداث تغيير جوهري في السياسة الخارجية الامريكية، التي أصبحت بدل الاحتواء والردع، المنع والوقاية من الاخطار، وفقا لاستراتيجية الدفاع الوقائي.
وهكذا جاءت ولادة أستراتيجية الدفاع الوقائي، متلازمة مع حاجة الولايات المتحدة لدعم صراعها مع القوى الاخرى المنافسة على الزعامة العالمية، ورفضها بقيام اي منافس دولي، يشاركها في توزيع القوة.
ووفقا لهذه التحول الاستراتيجي الكبير، أصبحت الولايات المتحدة تركز على الاخطار الثانوية التي قد تهدد المصالح الامريكية اذا اسيئ التعامل معها ، مما قد تتحول الى اخطار اكبر تهدد الامن الامريكي ويقوض في النهاية السلام العالمي .
ومن الملاحظ بأن الولايات المتحدة تحاول دائما أن تربط بين التهديد الذي يشكل خطر على أمنها القومي الامريكي، وبين الامن العالمي. وأستنادا لذلك، فهي تشعر بالاحساس بأنها تقوم بمهمة تاريخية واخلاقية في مواجهة معسكر الشر والظلم الذي يهدد وجودها والوجود الانساني بمجمله. ويعتقد بوش وبلير وفقاً لتصريحاتهم المعلنة، بانهم يقومون بهذه المهمة الاخلاقية بارادة من الرب وبأيعاز منه.. !
وعلى هذا الاساس، ووفقا لارادة الرب، يصر قادة واشنطن ولندن، بأن الحرب على العراق ليس خطئاً، وأن أسباب تدهور الاوضاع هو نتيجة أساءة التصرف لمرحلة ما بعد الحرب. وان أستمرار التدهور الامني في العراق، يمكن ان يوصل الامور الى نهاية مفجعة تهدد المصالح الامريكية اذا انسحبت قوات الاحتلال . ولهذا سيظل العراق بحاجة الى وجود قوات وقواعد عسكرية كثيفة في العراق، وفي عموم الشرق الاوسط، وسيستمر هذا الوجود طوال القرن الحادي والعشرين. ولهذا السبب يرفض قادة الاحتلال اعطاء موعد لانسحاب او جدولة موعد محدد لخروج قواتهم من العراق.
ومن مفارقات السياسة الامريكية/البريطانية، التصريحات الاخيرة، بظهور رغبة مفاجئة للحوار بين الايرانيين والامريكيين بوساطة المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق (حليف ايران الاستراتيجي في العراق). وقد حدثت هذه الخطوة المفاجئة بعد التهديدات الامريكية التي حذرت ايران من التدخل في الشؤون الداخلية للعراق. وهذه السياسة المتناقضة التي تحكم طبيعة العلاقات الامريكية/البريطانية مع ايران ، مشابهة للسياسة الامريكية/البريطانية المتناقضة مع الالمان قبيل الحرب العالمية الثانية .
فقد كانت الجهود الامريكية/ البريطانية انذاك عدم التصدي الفعال لنمو الهتلرية، وعدم اعاقة تثبيت النازية العنصرية في السلطة، وبالتالي، توجيه عدوانها نحو الشرق لمواجهة خطر الشيوعية العالمية بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا.
وكانت (اتفاقية ميونخ) الرمز للتواطىء المباشر بين انكلترا وفرنسا مع دول المحور الفاشي (المانيا وايطاليا)، والذي تم به تحديد مصير الدول الاوربية ذات السيادة التي اعلنت المانيا ادعاءاتها تجاهها.
اما دور الولايات المتحدة، فهي شكليا لم تشارك آنذاك في مؤتمر ميونخ حول التسوية السلمية للمسالة، والذي فتح الباب عمليا للعدوان الفاشي الالماني، ولكنها كانت راضية على نتائج المؤتمر المذكور، بحجة عدم وجود مخرج من الازمة الا (التهدئة) وحل المسالة سلميا والا فان هتلر سيتقدم لقصف باريس ولندن.
وكشف الكاتب السوفيتي، ليف بيزبتنسكي، من خلال معلومات موثقة ، حصل عليها من ارشيف الولايات المتحدة، بان (معاداة الشيوعية) وسياسة (مؤتمر ميونخ)، انقلبت الى ماساة دفعت ثمنها اوربا باسرها. فلاضعاف الشوعية العالمية، كان يجب تحقيق الاحتلال الهتلري لغالبية الدول الاوربية واحدة تلو الاخرى، فقد فقدت النمسا استقلالها وتجزأت تشيكوسلوفاكيا واحتلت بولونيا والدنمارك والنرويج واليونان والبانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورك، والسلاح الجوي الالماني قصف انكلترا. ثم تقدم الالمان بقوى عسكرية هائلة في حزيران 1941 للاحتلال السريع للاتحاد السوفيتي واخضاعه وفق خطة (بارباروسيا) كمقدمة للسيطرة العالمية، .. ومع ذللك لم تتخذ الاجراءات الحازمة لايقاف النازية عند حدها بل كان الموقف الامريكي/البريطاني، الصمت والترقب والتنديد الشفوي بالعدوان النازي (؟) والان نطرح السؤال التالي:
أليست الجهود الامريكية البريطانية المشار اليها اعلاه مشابه لجهودهم الحالية في دعم الطائفية وتسليمها السلطة واستخدام سياسة التهدئة مع ايران، من اجل ان يكون العراق الجبهة الاساسية لحرب الارهاب كما ردد ذلك قادة الاحتلال المرة تلو الاخرى في خطاباتهم ..! أما مؤتمر القمة في السودان فليس سوى جزء من مسلسل سياسة التهدئة، ستدفع ثمنه الانظمة العربية الواحدة بعد الاخرى ..!
والان ما الحل ازاء هذه الفوضى المعممة ونزعة الحرب والدمار ؟
لا شك أننا امام صفحة مظلمة في العلاقات الدولية نتيجة لمفهوم عقيدة الدفاع الوقائي ضد الارهاب. فهي عقيدة غامضة وشديدة الالتباس. تستخدم حاليا في تبرير الاضطهاد وتكييف الواقع العراقي والعربي مع الاستقطاب الطائفي ؛ وستجعل المنطقة تدور في حلقة مفرغة من العنف والصراع الاهلي لقرن قادم من الزمن .
لذا اعتقد بان المهمة الاساسية لمرحلتنا الراهنة، هو (اولا) رفض المشروع الامريكي في العراق ومشاريع التهدئة التي تدار برعاية الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهم الاقليميين والعراقيين. لان هدف هذه المشاريع هي استنزاف العراق والمنطقة العربية.
(وثانيا) تكريس الجهد للقيام باعمال سلمية مفيدة مثل تنظيم دعوة دولية (ضد التطرف). ومحاولة الاتصال بالمنظمات والحركات السياسية الاقليمية والدولية وتعريف الشعوب الاخرى المحبة للسلام بان ما تقوم به الولايات المتحدة وحلفائها في العراق هو ارهابا للعراقيين المدنيين لأمركتهم، وهو ارهابا للانظمة العربية لامركة العرب، (رغم استنكاري للسلوك السياسي لهذه الانظمة ). (وثالث) تقدبم الدعم والمساندة للمقاومة العراقية المسلحة للاحتلال، لانها حق شرعي محمي بالقانون الدولي.
ينبغي أن نعلم بان الخوف من الارهاب الذي يعيشه العالم الان، والذي لعب به الرئيس الامريكي الحالي ورهطه من المحافظين الجدد دورا بارزا، قد ضيق الافق لدى الناس. ففي ظل سياسة الخوف، وحماس قادة واشنطن ولندن الذين ياخذون قرارتهم السياسية من الرب في مطاردة الارهاب ، سيتم تبرير الاضطهاد بحجة المصلحة العامة، وسيتم سحق المعارضة دون رحمة. وهذه الزمرة على استعداد لنشر البؤس والشقاء والفوضى والدمار لفرض زعامتهم العالمية، كما هو الحال في العراق .. وهنا تكمن اهمية المشاركة في تنظيم الدعوة الدولية ضد (التطرف واشاعة نزعة الحروب). فهذه الدعوة ستكشف بان عقيدة الدفاع الوقائي ضد الارهاب ليست سوى اوهام ماساوية ستحدث ضررا بليغا بالبشرية لكونها عقيدة لفرض الارهاب وليس منعه..!
د. راقية القيسي
باحثة في شؤون العراق
/3/2006
IJA 175@ btinte
et.com
يقول غالبية العراقيين البسطاء أننا نعيش جميعا منذ قرون عديدة على ارض واحدة ونتقاسم مصير مشترك واحد ، وان اندلاع العنف الطائفي والصراع الاهلي امر غير معروف في العراق. ثم يستنتجوا من هذه الحقيقة الحياتية البسيطة بأن انزلاق البلاد الى مستنقع العنف الطائفي والثأر الذي اغرق البلاد بالدم وجعل العراق على شفا حرب اهلية مرعبة، تزامن مع دخول قوات الاحتلال وحلفائها الى العراق.
لقد حلل العراقيون البسطاء باسلوبهم الفطري اسباب الاستقطاب الطائفي وتطوره، وجاء تحليلهم لا يختلف عما قاله المفكر المصري الماركسي سمير امين بأن الاستقطاب ملازم للرأسمالية وهو جزء من اليات التوسع الراسمالي..الذي ينتج بالضرورة ازمة تؤدي الى الصراع والحروب نتيجة التنافس على النفوذ والموارد.
ومن المعروف بأن الكيانات السياسية الطائفية، جرى تأسيسها او أحتوائها، من المجموعات المعارضة في بريطانيا والولايات المتحدة، وبرعاية السلطات الامريكية والبريطانية، منذ السنوات الاولى التي اعقبت اخراج الجيش العراقي من الكويت. وتم ذلك في اطار التعاون المناهض لدكتاتورية نظام صدام في العراق. وعندما توفرت الظروف لغزو العراق ، دخلت هذه الكيانات كتفا الى كتف مع قوات الغزو وعلى راسها (الشخصية البارزة في عالم البيزنس الامريكي المصرفي العراقي احمد الجلبي ).
وبعد دخول هذه الكيانات العراق، أشاعت أجواء النزعة الطائفية، التي اصبحت تكتنف كل جوانب الحياة. فوَلدت مناخ من الاستقطاب الطائفي والاثني، أدى الى ازمة سياسية خانقة، نتيجة التنافس على السلطة السياسية والهيمنة الاقتصادية على موارد النفط. ومع اشتداد الازمة نتيجة لهذا الاستقطاب والتنافس، بدات الاطراف المتحالفة مع قوات الاحتلال تنغلق تدريجيا على نفسها، وتشكك بالاطراف الجدد في العملية السياسية، وترفض اي مشاركة في النفوذ السياسي والموارد .. الامر الذي ادى الى تصعيد اجواء العنف والثأر الطائفي، وهذه هي دائما عوامل اندلاع الصراع والحروب في التاريخ ، وهي ملازمة للتوسع الامبريالي للدول.
وظهرت أزمة الاستقطاب الطائفي والاثني بشكل صارخ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. فقد عمت الفوضى في أماكن عديدة من العالم نتيجة اندلاع الروح القومية العرقية، الذي أدى الى تمزق دول عديدة. واحتدمت المنافسة الاقتصادية بين حلفاء الحرب الباردة. وظهرت دول عديدة ترفض الوصاية الامريكية، وغير راضية على قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي.
وقد وجدت الولايات المتحدة صعوبة بالغة ، في ادارة أزمة الاستقطاب الطائفي/الاثني، على الصعيد العالمي، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من خلال سياسة الاحتواء، لأن هذه السياسة أصبحت غير متماسكة بعد ان استنفذت اغراضها بغياب العدو الشيوعي.
لهذا أصبح الاستقطاب الطائفي والاثني بعد احداث الحادي عشر من سيبتمبر، يأخذ منحى اكثر سهولة، بسبب ظهور العدو (الارهاب) الذي سيكون شماعة لتعليق ازمة الاستقطاب، الذي تولده آليات التوسع الرأسمالي الامبريالي للسيطرة على العالم. وهذا ما جعل الرئيس الامريكي بوش الابن يسجل ليلة الحادي عشر من سيبتمبر في مفكرته الملاحظة التالية:
{اليوم وقعت بيرل هاربور القرن الحادي والعشرين (وهذه أشارة لاسباب دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية) نعتقد انه اسامة بن لادن. ونعتقد ان هناك اهدافا اخرى سيتم مهاجمتها في الولايات المتحدة، ولكنني أناشد البلاد أن تعود لحياتها الطبيعية، لا يمكننا ان نسمح لأي أرهاب بأن يتخذنا كرهائن، وأملي هو أن يتيح ما حدث لنا الفرصة لان نقود العالم ضد الارهاب}
أنطلاقا من مضمون هذه الملاحظة فأن الرئيس بوش ورهطه (المحافظين الجدد) كانوا بانتظار الفرصة لايجاد (عدو)، يخفي وجه النزعة الاحتكارية الصارخة للرأسمالية بعد أنفرادها بالقوة على الصعيد العالمي.
وقد قدمت شبكة القاعدة ودكتاتورية صدام، هذه الفرصة الذهبية، التي ساعدت (نمور الراسمالية) من أحداث تغيير جوهري في السياسة الخارجية الامريكية، التي أصبحت بدل الاحتواء والردع، المنع والوقاية من الاخطار، وفقا لاستراتيجية الدفاع الوقائي.
وهكذا جاءت ولادة أستراتيجية الدفاع الوقائي، متلازمة مع حاجة الولايات المتحدة لدعم صراعها مع القوى الاخرى المنافسة على الزعامة العالمية، ورفضها بقيام اي منافس دولي، يشاركها في توزيع القوة.
ووفقا لهذه التحول الاستراتيجي الكبير، أصبحت الولايات المتحدة تركز على الاخطار الثانوية التي قد تهدد المصالح الامريكية اذا اسيئ التعامل معها ، مما قد تتحول الى اخطار اكبر تهدد الامن الامريكي ويقوض في النهاية السلام العالمي .
ومن الملاحظ بأن الولايات المتحدة تحاول دائما أن تربط بين التهديد الذي يشكل خطر على أمنها القومي الامريكي، وبين الامن العالمي. وأستنادا لذلك، فهي تشعر بالاحساس بأنها تقوم بمهمة تاريخية واخلاقية في مواجهة معسكر الشر والظلم الذي يهدد وجودها والوجود الانساني بمجمله. ويعتقد بوش وبلير وفقاً لتصريحاتهم المعلنة، بانهم يقومون بهذه المهمة الاخلاقية بارادة من الرب وبأيعاز منه.. !
وعلى هذا الاساس، ووفقا لارادة الرب، يصر قادة واشنطن ولندن، بأن الحرب على العراق ليس خطئاً، وأن أسباب تدهور الاوضاع هو نتيجة أساءة التصرف لمرحلة ما بعد الحرب. وان أستمرار التدهور الامني في العراق، يمكن ان يوصل الامور الى نهاية مفجعة تهدد المصالح الامريكية اذا انسحبت قوات الاحتلال . ولهذا سيظل العراق بحاجة الى وجود قوات وقواعد عسكرية كثيفة في العراق، وفي عموم الشرق الاوسط، وسيستمر هذا الوجود طوال القرن الحادي والعشرين. ولهذا السبب يرفض قادة الاحتلال اعطاء موعد لانسحاب او جدولة موعد محدد لخروج قواتهم من العراق.
ومن مفارقات السياسة الامريكية/البريطانية، التصريحات الاخيرة، بظهور رغبة مفاجئة للحوار بين الايرانيين والامريكيين بوساطة المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق (حليف ايران الاستراتيجي في العراق). وقد حدثت هذه الخطوة المفاجئة بعد التهديدات الامريكية التي حذرت ايران من التدخل في الشؤون الداخلية للعراق. وهذه السياسة المتناقضة التي تحكم طبيعة العلاقات الامريكية/البريطانية مع ايران ، مشابهة للسياسة الامريكية/البريطانية المتناقضة مع الالمان قبيل الحرب العالمية الثانية .
فقد كانت الجهود الامريكية/ البريطانية انذاك عدم التصدي الفعال لنمو الهتلرية، وعدم اعاقة تثبيت النازية العنصرية في السلطة، وبالتالي، توجيه عدوانها نحو الشرق لمواجهة خطر الشيوعية العالمية بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا.
وكانت (اتفاقية ميونخ) الرمز للتواطىء المباشر بين انكلترا وفرنسا مع دول المحور الفاشي (المانيا وايطاليا)، والذي تم به تحديد مصير الدول الاوربية ذات السيادة التي اعلنت المانيا ادعاءاتها تجاهها.
اما دور الولايات المتحدة، فهي شكليا لم تشارك آنذاك في مؤتمر ميونخ حول التسوية السلمية للمسالة، والذي فتح الباب عمليا للعدوان الفاشي الالماني، ولكنها كانت راضية على نتائج المؤتمر المذكور، بحجة عدم وجود مخرج من الازمة الا (التهدئة) وحل المسالة سلميا والا فان هتلر سيتقدم لقصف باريس ولندن.
وكشف الكاتب السوفيتي، ليف بيزبتنسكي، من خلال معلومات موثقة ، حصل عليها من ارشيف الولايات المتحدة، بان (معاداة الشيوعية) وسياسة (مؤتمر ميونخ)، انقلبت الى ماساة دفعت ثمنها اوربا باسرها. فلاضعاف الشوعية العالمية، كان يجب تحقيق الاحتلال الهتلري لغالبية الدول الاوربية واحدة تلو الاخرى، فقد فقدت النمسا استقلالها وتجزأت تشيكوسلوفاكيا واحتلت بولونيا والدنمارك والنرويج واليونان والبانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورك، والسلاح الجوي الالماني قصف انكلترا. ثم تقدم الالمان بقوى عسكرية هائلة في حزيران 1941 للاحتلال السريع للاتحاد السوفيتي واخضاعه وفق خطة (بارباروسيا) كمقدمة للسيطرة العالمية، .. ومع ذللك لم تتخذ الاجراءات الحازمة لايقاف النازية عند حدها بل كان الموقف الامريكي/البريطاني، الصمت والترقب والتنديد الشفوي بالعدوان النازي (؟) والان نطرح السؤال التالي:
أليست الجهود الامريكية البريطانية المشار اليها اعلاه مشابه لجهودهم الحالية في دعم الطائفية وتسليمها السلطة واستخدام سياسة التهدئة مع ايران، من اجل ان يكون العراق الجبهة الاساسية لحرب الارهاب كما ردد ذلك قادة الاحتلال المرة تلو الاخرى في خطاباتهم ..! أما مؤتمر القمة في السودان فليس سوى جزء من مسلسل سياسة التهدئة، ستدفع ثمنه الانظمة العربية الواحدة بعد الاخرى ..!
والان ما الحل ازاء هذه الفوضى المعممة ونزعة الحرب والدمار ؟
لا شك أننا امام صفحة مظلمة في العلاقات الدولية نتيجة لمفهوم عقيدة الدفاع الوقائي ضد الارهاب. فهي عقيدة غامضة وشديدة الالتباس. تستخدم حاليا في تبرير الاضطهاد وتكييف الواقع العراقي والعربي مع الاستقطاب الطائفي ؛ وستجعل المنطقة تدور في حلقة مفرغة من العنف والصراع الاهلي لقرن قادم من الزمن .
لذا اعتقد بان المهمة الاساسية لمرحلتنا الراهنة، هو (اولا) رفض المشروع الامريكي في العراق ومشاريع التهدئة التي تدار برعاية الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهم الاقليميين والعراقيين. لان هدف هذه المشاريع هي استنزاف العراق والمنطقة العربية.
(وثانيا) تكريس الجهد للقيام باعمال سلمية مفيدة مثل تنظيم دعوة دولية (ضد التطرف). ومحاولة الاتصال بالمنظمات والحركات السياسية الاقليمية والدولية وتعريف الشعوب الاخرى المحبة للسلام بان ما تقوم به الولايات المتحدة وحلفائها في العراق هو ارهابا للعراقيين المدنيين لأمركتهم، وهو ارهابا للانظمة العربية لامركة العرب، (رغم استنكاري للسلوك السياسي لهذه الانظمة ). (وثالث) تقدبم الدعم والمساندة للمقاومة العراقية المسلحة للاحتلال، لانها حق شرعي محمي بالقانون الدولي.
ينبغي أن نعلم بان الخوف من الارهاب الذي يعيشه العالم الان، والذي لعب به الرئيس الامريكي الحالي ورهطه من المحافظين الجدد دورا بارزا، قد ضيق الافق لدى الناس. ففي ظل سياسة الخوف، وحماس قادة واشنطن ولندن الذين ياخذون قرارتهم السياسية من الرب في مطاردة الارهاب ، سيتم تبرير الاضطهاد بحجة المصلحة العامة، وسيتم سحق المعارضة دون رحمة. وهذه الزمرة على استعداد لنشر البؤس والشقاء والفوضى والدمار لفرض زعامتهم العالمية، كما هو الحال في العراق .. وهنا تكمن اهمية المشاركة في تنظيم الدعوة الدولية ضد (التطرف واشاعة نزعة الحروب). فهذه الدعوة ستكشف بان عقيدة الدفاع الوقائي ضد الارهاب ليست سوى اوهام ماساوية ستحدث ضررا بليغا بالبشرية لكونها عقيدة لفرض الارهاب وليس منعه..!
د. راقية القيسي
باحثة في شؤون العراق
/3/2006
IJA 175@ btinte
et.com