
ما يفصل أوروبا عن آسيا هي سلسلة جبال الاورال، وما يفصل تركيا عن أوروبا هو حجاب المرأة المسلمة، ولقد بدا الحجاب على رقته ومرونة المادة المصنوع منها على الأوروبيين أثقل من جبال الاورال، فقد أمكن إحداث أنفاق عديدة في جبال الاورال، وأمكن اختراقها بوسائل شتى، ولكن اختراق حجاب المرأة المسلمة بدا غير ممكن، فالسفور الذي أطلقه ذات يوم أتاتورك، وعملت عليه المؤسسة العسكرية بغطائها العلماني كثيراً، بات اليوم يشكل هاجساً أوروبياً، إذ سرعان ما عاد الحجاب إلى تركيا، حتى بدت المسالة بالنسبة للأوروبيين أشبه بسباق مع الزمن، بين أحلام العلمانيين، وبين الحنين الشعبي الكبير إلى الماضي الإسلامي العريق.
وإن كان استبدال الطربوش العثماني بالقبعة، وفتح الأحضان لتركيا من قبل الأوروبيين آنذاك قد ساهم في تغذية مشاعر العلمانيين في موقفهم من الإسلام واندلاقهم باتجاه الغرب، فإن تركيا اليوم تقف على العتبة الأوروبية، باحثة عن هوية بعد تغريب دام طويلاً، فهي لم تصبح غربية في أعين الغرب بنا يكفي، ولم تعد شرقية بالكامل كما يريد لها العسكر، وتعتبر مراجعة الذات هي مسألة ملحة بات يسألها كثيرون في الشارع التركي، فبريق أوروبا بعد خمسة وسبعين عاما وأكثر من رحلة التتريك بدأ يخفت في عيون الأتراك، فالعسكر لم يتمكنوا من إيصال تركيا إلى بلدٍ مركزٍ كما كان يزعم أتاتورك، بل بقيت دولة على طرف أوروبا رغم الخدمات الجليلة التي قدمتها للغرب والتي لا تحصى، فيما كانت قبل رحلة التتريك تعتبر دولة الخلافة، ومركز قيادة الأمة الإسلامية بما تحويه من شعوب مختلفة الأجناس والأعراق، كانوا ذات يوم قوة فاعلة في الكون، بل القوة الأكثر عمقاً ووعياً وتسلحاً بالوعي والقيم الإنسانية النبيلة، وكان في ذلك دور تركيا المركزي بل وأهميتها في العالم أجمع.
أحلام في أوروبا
العلمانية التركية تضع نفسها اليوم أمام جملة من الاستحقاقات، أبرزها الفشل على المستوى الداخلي، فهي وبعد عمرها الطويل، وآلاف البرامج والمخططات التي أرادت من خلالها صرف الإنسان التركي عن جذوره الإسلامية، تجد نفسها اليوم أمام استحقاقات أبرزها الإجابة على تساؤلات العقود الماضية أمام الصحوة الإسلامية، فيما بات يعرف بعصر انحسار العسكر، وهي المعادلة التي ظلت تحكم تركيا طوال العقود الثلاثة الماضية، فكلما اقترب العسكر من السلطة، كلما انحسر الإسلام وضاقت الدنيا على الإسلاميين، وكلما ابتعد العسكر مقتنعين بصناديق الاقتراع، كلما عاد الإسلام إلى الواجهة السياسية، وهو ما يشغل الغرب والعلمانيين معاً.
فأوروبا محكومة بقوانين صارمة تحد من قوة العسكر، وتنتظر اليوم اختراع قوانين أشد صرامة،تحت عنوان كبير اسمه مكافحة الإرهاب، تحاول المؤسسات العلمانية الغربية اختراع هذه القوانين، ليس للتضييق على الإسلام في أوروبا فحسب، بل بغية إيقاف أحلام تركيا في أوروبا. وذلك بسبب التنامي لظاهرة الوعي الإسلامي والرغبة والحنين إلى الماضي، وجاء ذلك بصريح العبارات على السنة قادة أوروبا على اختلافهم، والذين وجدوا في الإسلام في تركيا يشكل قلقا لهم، وهي المعادلة الساذجة، حينما تتعثر العلمانية الضخمة بفلسفتها وروحها العصرية بحجاب المرأة المسلمة على سبيل المثال، لتغدو العلمانية أمام بحث عن هويتها من جديد. والحق إن فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وضعت العلمانية بما تحمله من آلية فكرية وسياسية أمام استحقاق كبير، جعلت إعادة رسم أوروبا أمام أوروبا، ثم أمام العالم إشكالية العصر الفكرية، بما يجعل العصور الغابرة -عصور الجنرالات -تطل من وراء ربطات العنق الجميلة، وبما يجعل العلمانية الأوروبية تقف أمام المرآة تعمل على تجميل صورة وجهها بينما الذاكرة تعيش على المخزون القديم المليء بالكراهية للآخرين.
إلى وقت قريب كانت أحلام العسكر كبيرة في أوروبا، والى وقت قريب لم يكن يعلم غالبية الأتراك، أو معظمهم أن تركيا هي «دولة طرف» تؤدي خدمات جليلة للغرب، وتنال امتيازات ومساعدات هي أقل بكثير مما تؤديه من خدمات، والى وقت قريب كان يحاول العسكر استخدام سطوتهم بغية إقناع أوروبا بأن العلمانية تسير على ما يرام، ولكن أين أصبحت تلك الأوهام في سياق هذه المعادلة.
حاجات أوروبا أم حاجة تركيا
من يريد من الآخر أكثر، ومن ينتمي إلى من، فإن كانت العلمانية تنتمي إلى الغرب، فليس اعتناق العلمانية هو الكفيل بتحويل تركيا بتراثها الإسلامي التاريخي الهائل إلى دولة أوروبية، خصوصا وان العلمانية التركية ليس فيها ما يقنع الأوروبيين بها، وذلك لأنها جاءت من الأعلى، وعلى خلاف العلمانية الأوروبية والتي نشأت بفعل ظروف معينة، كرهت فيها عامة الناس التواصل مع الكنيسة التي كانت إنما تزيد الأوروبيين بؤساً ومرارة، فتم طرد الرهبان، ليحل محلهم أصحاب رؤوس الأموال، والذين يقايضون الجهد بالمال، فيما كانت الكنيسة تقايض الجهد بمزيد من إلقاء ظلال العوز على عامة الناس بغية الاستمرار في السيطرة عليهم وبقائهم عبيداً تحت ظلالها.
بالتالي إن العلمانية التي تأتي من الأعلى لا تستقر في التراب الصالح للإنبات، وإنما في مكان آخر، فهذه العلمانية لا تجد سنداً أخلاقياً أو فلسفياً أو اجتماعياً، فهي كمن يزرع في الرمال، ولكنه في نهاية المطاف لا يحصد إلا الغبار.
حاجة تركيا لحظة إطلاق علمانية أتاتورك هي بناء دولة عصرية على شاكلة أوروبا، وحاجة أوروبا عام 1923 لحظة انطلاق علمانية تركيا هي استخدام تركيا لهدم الإسلام، بل استخدام دولة الخلافة لإنهاء الخلافة والإسلام معاً، ويتوافق ذلك مع حمى السيطرة على البلدان الإسلامية، وإشاعة القتل والذبح في الديار الإسلامية من اندونيسيا إلى القارة الهندية آنذاك إلى بقية الدول العربية واستعمار فلسطين وتهويدها بغية منع قيام وحدة الأمة، وصولاً إلى ما تبع ذلك من عدوان على الأمة الإسلامية، والذي لا يزال مستمراً بأشكال متعددة حسب الظروف المتاحة للغرب بغية إذلال الأمة.
بالتالي فقد أراد الغرب من تركيا أن تكون أداة طيعة بيديه، وأرادت تركيا أن تكون أوروبية بما يكفي لتنصلها من الماضي الإسلامي، فجاء الانكباب على العلمانية ولكن هذه العلمانية تبدلت بحيث لا تتسع تركيا في أوروبا، والسبب عودة غير متوقعة للإسلام فيها.
هواجس مشتركة
ذات يوم في ماضي تركيا العلمانية، جاءت صياغة «الكمالية» على اعتبار أنها مشروع حضاري معاصر لخلق دولة قومية علمانية متجانسة ذات بنية حديثة، ومات أتاتورك ولم يأخذ من الأوروبيين سوى القبعة التي استبدلها بالطربوش، ثم حجزت تركيا مقعدها في حلف الناتو عام 1952 وركب العسكر في القطار السريع باتجاه أوروبا، ولكنهم اكتشفوا أنهم كانوا يسيرون بالاتجاه المعاكس حيث أرسلهم الحلف إلى جهة الشرق ليكونوا حراساً أمناء للغرب بجوار أرمينيا -أي الحدود السوفيتية آنذاك- وهكذا وبعد انتظار طويل وخدمات جليلة في عراء تركيا قبالة الاتحاد السوفييتي وبعد انهيار هذا الأخير، توجه العسكر إلى الغرب مجدداً معتقدين بأنه آن الأوان لفتح البوابة الغربية، فجاءت الصفعة قوية على وجههم بما بات يراه كل تركي بأنه إهانة للكرامة التركية، فبعد 75 سنة من الكمالية جاء ضم بلغاريا ورومانيا عدوتا الغرب بالأمس إلى الاتحاد الأوروبي، فيما بقيت الدولة الصديقة للغرب بعد الـ75 سنة تبحث عن بطاقة للركوب في قطار لا تظهر له سكة حديد على الأرض مطلقاً، بل يسير على خطي رمال.
وفوق هذا وذاك بات المواطن التركي في أوروبا يعيش في أزمة، إذ بات المطلوب منه التخلي عن كافة المظاهر الإسلامية في عدوان عنصري لافت على الديانة الإسلامية، ويأتي ذلك من خلال ما بات يسمى ضرورة الاندماج، وهي المعادلة التي اخترعتها العلمانية الحديثة، والتي تقضي بأن يكون المسلمون خارج إسلامهم فيما بقية الديانات لا أحد يأتي على ذكرها بالمطلق كما يجري اليوم في ألمانيا على سبيل المثال لا الحصر . وبهذا الفصل تكون ألمانيا قد تنكرت لماضي الأتراك ومجهودهم الكبير في بناء أوروبا، حيث دخل إلى ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية أكثر من مليون عامل، كانوا سبباً في نهضة ألمانيا، حيث عملوا في بناء ورفد البنية التحتية الألمانية وإزالة مخلفات الحرب، ولكن حين جاء دور دخول تركيا إلى النادي الأوروبي اكتشفت ألمانيا بالذات أن هوية هؤلاء العمال هي إسلامية، وبالتالي لا يصلحون للمستقبل، وذلك أمام عمالة رخيصة ومن نوع أوروبي وهي عمالة مخلفات الإتحاد السوفييتي البائد.
بين الإسلام والجيش
على مقربة من وقع خطى العسكر كانت تنشط الحركة الإسلامية في تركيا، فقبل عشر سنوات من الآن، وفي العام 1995 أفادت الإحصائية الرسمية انه أصبح في تركيا سبعين ألف مسجد، منها ثلاثة عشر ألف مسجد بنيت بين عامي 1980 -1995 وهو أمر أثار حفيظة الكاتب الفرنسي « جان كلود جويبو» عام1993 وحينها تساءل عن جدوى علمانية تركيا.
ومما لا يعرفه الكثيرون عن الإسلام في تركيا، انه ورغم مظاهر السفور التي أطلقتها الدولة وعممتها بالقوة، إلا أن قلب المجتمع التركي، بقي يحتفظ بهويته الإسلامية، والتي تشكل بالنسبة إليه اعتزازاً مهماً بها، وكبقية الشعوب الإسلامية فإن الارتباط بالدين لا يكون نتيجة إملاءات سياسية، إنما هي طبيعة الإسلام التي تربي الفرد المسلم على المحافظة على دينه في كافة الظروف.
التعليم هو الأداة الأساسية التي أراد منها أتاتورك أن تخلق نخبة علمانية غير مرتبطة بالإسلام مطلقاً، بل وحتى الحروف العربية تم حظر استخدامها في اللغة التركية بما يجعل قراءة القرآن عسيرة على الأجيال اللاحقة، ولذلك أخضعت المؤسسة العلمانية التعليم تحت سلطانها منذ عام 1926 وأوكلت إلى الجيش منذ ذلك الوقت المسؤولية بحماية المؤسسات العلمانية. وهكذا تم إقصاء المؤسسات الدينية وتم حظر التعليم الديني، واختفت الدروس التعليمية من الزوايا والتي كانت منتشرة بشكل كبير في تلك الفترة، ومع موت أتاتورك وانتقال السلطة إلى خلفه«عصمت إينونو 1938-1950» بدأ وجه تركيا بالتبدل قليلاً قليلاً، وبدا ذلك واضحاً في العام 1945 عندما قرر إينونو التخلص من فكرة حكم الحزب الواحد، ليطل الإسلام من خلال الواجهة العلمانية من جديد، عبر تجمع للإسلاميين أطلّوا من خلال واجهة وطنية إذ ليس بالإمكان استخدام العبارات الإسلامية بسبب المادة 163 من قانون العقوبات والتي تفرض قيوداً صارمة على النشاطات والدعاية الدينية وهذه المادة بقيت حية إلى عام 1991.
ومع وصول الحزب الديموقراطي إلى الحكم عام 1950 بدا ثمة تحول طفيف يحدث على المجتمع التركي، حيث بُدِء السماح بالتعليم الديني، والذي أخذ يكبر رويداً رويداً، وصولا إلى عام 1960 حينما جاء انقلاب «عدنان مندريس» وكانت حجة الانقلاب آنذاك هي حماية العلمانية من تنامي النزعة الإسلامية. وبذلك تقف تركيا مجدداً أمام الجنرالات ليمارسوا الحكم بشكل مباشر ولتختفي ظلال الأحزاب السياسية أمام سطوة العسكر وجبروتهم، وفي انقلاب عام 1971 ترسخ دور الجيش في مجلس الأمن القومي، ثم جاء انقلاب عام 1980 وفي عام 1982 ترسخ دور الجيش بشكل فعلي من خلال استخدام المادة 35 من نظام المهمات الداخلية للقوات المسلحة كأساس قانوني للقيام بانقلاب عسكري وذلك« في حالة تعرض الديموقراطية أو العلمانية التركية للخطر».
في مطلع السبعينات كانت الحركة الإسلامية تنشط بشكل كبير، وبموازاة ذلك كانت الانقلابات المتتالية، وكانت عمليات تطهير القوات المسلحة من العناصر التي يشتبه بتعاطفها مع الإسلام مستمرة، وأبرز عمليات الطرد الجماعي للضباط من الجيش تركزت في ذروة الصراع السياسي في تركيا بين عامي 1997- 1998 خصوصا مع المظاهرات الكبيرة التي اجتاحت تركيا آنذاك مطالبة بالسماح بالحجاب الإسلامي، ومنع حظره.
الإسلام والواجهة السياسية
تعتبر شخصية «اربكان» من الشخصيات المتميزة في تركيا، حيث خاض الرجل صراعاً سياسياً طويلاً وشاقاً في مواجهة سطوة المؤسسة العسكرية، وكان قد بدأ بتشكيل حزبه السياسي في مطلع السبعينات، وتعتبر تلك الفترة بداية متميزة في استراتيجية الحركة الإسلامية في تركيا، وذلك من خلال المنهج والأسلوب، إذ انه في بلد تحكمه طغمة عسكرية جبارة ليس من السهل إطلاق أصوات المآذن وسط ضجيج المؤسسة العسكرية المانع لذلك، حيث كان تخترع الاتهامات ويعاقب أصحابها بشدة وتضرب أياديهم بعصا من حديد وذلك كله بشكل دستوري، إذ إن الخروج على العلمانية كان عنوانا أساسياً تتخذه المحاكم التركية للتخلص من الإسلاميين.
حزب اربكان عرف باسم حزب النظام الوطني، وانطلق هذا الحزب بخطوات مختلفة عما كان متوقعا منه، فهو ترك العلمانية تسير باتجاهها بينما سار هو بالاتجاه المعاكس، وكان ذلك يعبر عن وعي لدى نخبة هذا الحزب، ففي حين كانت الدولة تكثر من اهتمامها بالنخبة وبالمدن، توجه الحزب إلى الفقراء والأرياف، فبدأت عملية الإحياء الدينية في تركيا من خلال الجمعيات والمؤسسات الخيرية، حيث ساهمت حركة الحزب هذه، في بناء خمسة آلاف مدرسة دينية ابتدائية، وأربعين مدرسة متوسطة لتخريج الأئمة والخطباء، إضافة إلى إنشاء 15 ألف مجموعة لتحفيظ القرآن الكريم، وهو بذلك أعاد إحياء منهج التدرج في العمل، وهو منهج مهم ومعروف في الإسلام، وبالتالي كانت خطوة اربكان قبل وصول حزبه إلى السلطة تعتبر مقدمة مهمة، حيث نال ثقة شعبية كبيرة، جعلت منه عند وصول حزبه إلى السلطة يسير على ذات الخطوة في محاولة لتجنب التصادم مع العسكر، فاهتم بالتركيز على الوضع الداخلي، من خلال زيادة الأجور إلى خمسين بالمئة، والحد من البطالة إلى ما نسبته 17% وهي نسبة ضئيلة جداً بالقياس إلى ما كانت عليه تركيا من قبل.
اربكان والمسألة الفلسطينية
الحنين العثماني وكراهية إسرائيل، وتنكر الغرب إلى تركيا، كلها أشياء أصبحت حديث الشارع التركي، وأصابت كبرياء الأتراك في الصميم. وفي عام 1980 قام اربكان بتنظيم اجتماع شعبي كبير، تحت عنوان «أنقذوا القدس» وأدى هذا الاجتماع الجماهيري إلى حل البرلمان، وإعلان الأحكام العسكرية، وتم اقتياد اربكان إلى سجن أنقرة وحوكم مع 24 من أركان حزبه، ثم قامت السلطات العسكرية بحظر نشاطات حزبه، واتهم الحزب باستخدام الدين لتحقيق مآرب سياسية، وعلى اثر ذلك نشأ حزب الرفاه الإسلامي بقيادة أحمد تقدال، وليعود فيما بعد اربكان إلى تولي زعامة هذا الحزب من جديد في عام 1987ليطرح الحزب شعاره الجديد العدل الاجتماعي إلى جانب مناهضة التبعية للغرب.فقد بدأ حزب الرفاه يلعب على الإحباط التركي من الغرب، وبدأت عملية توجيه الفقراء من خلال استخدام أموال الزكاة لبناء المدارس والمساكن، والعيادات وغير ذلك وفق الاستراتيجية القديمة التي كان يستخدمها اربكان وإنما بشكل موسع ومعلن هذه المرة. وهكذا وجدت تركيا نفسها أمام خيارين إما السيناريو الإسلامي بأبعاده الكبيرة وظلاله المتعددة، وإما السيناريو الأمريكي الصهيوني، وهما سيناريوهان يتصارعان داخل البنية التحتية في الشارع التركي، فيما السياسة الخارجية تظل في قبضة الجيش، وهكذا يعود الجيش إلى الواجهة بعد خطاب اربكان الشهير،ولكن ذلك الانقلاب حمل أبعاداً ودلالات مختلفة.
الانقلابيون بقيادة أيفرين آنذاك لم يتمكنوا من تجاهل الإسلام، بل جاءت عملية استعمال الإسلام لإعادة صياغة الأيديولوجية الرسمية من أجل السيطرة على المجتمع. وذلك عندما أدركوا عجز الاتاتوركية من تأطير المجتمع، فوجدنا أن أيفرين بدأ يستشهد بالآيات القرآنية في خطاباته، حيث تعد تلك سابقة في تركيا، ومع مجيء عام 1982 استقبل الدستور التركي مادة مهمة، وهي جعل الدروس الدينية إلزامية في المدارس، بما يعتبر هزيمة للقاعدة التي أطلقها أتاتورك بحظر كافة مظاهر الإسلام من النظم التعليمية.
شد وجذب
بدا واضحا بعد انقلاب عام 1980 أن تغير وجه البلاد أخذ أشكالا متعددة، فالعسكر كانوا يشيعون تارة أجواء الخوف من حدوث مواجهات مسلحة بين الحركة الإسلامية والعسكر، إلا أن وعي الحركة الإسلامية فوت الفرصة على العسكر بهذه الفرضية، وبات العسكر يحاولون بدء عمليات الشد والجذب، وبغية إعطاء الشارع ظلالا ايجابية حول المؤسسة العسكرية، قام تورجوت اوزال والذي أصبح رئيسا للوزراء عام 1983 بأداء مناسك الحج، ليكون أول رئيس وزراء تركي يصل إلى الديار المقدسة منذ انتهاء الخلافة، والذي بدوره حافظ على صلاة الجمعة حتى وفاته، وتبنى سياسة إسلامية معتدلة أدت إلى الحد من تطرف الاتاتوركية.
ولكن في عام 1998 عندما أصدرت وزارة التربية الوطنية قرارا يقضي بمنع الحجاب في المدارس،وما تلا ذلك من حل لحزب الرفاه الإسلامي أعاد الواجهة العسكرية من جديد إلى الصدارة حيث أخذت المؤسسة العسكرية تسعى من جديد لمحاصرة الإسلام وتشتيت قواه من خلال ما يعرف بسلطتها الدستورية على مجلس الأمن القومي.
تركيا اليوم
بالتأكيد إن النموذج الإسلامي السياسي المطروح اليوم في تركيا لا يعتبر بديلاً إسلامياً بالمطلق، وذلك لأنه لا يعطي للإسلام مكانته الحقيقة ودلالته التاريخية، فهو نموذج محكوم باعتبارات سياسية متعددة، أبرزها ارتباط المؤسسة التركية العسكرية بالمؤسسات الصهيونية العسكرية، وبالرغم من التجاذبات السياسية بين تركيا وأمريكا والاختلاف بشان العراق وغير ذلك، فان السياسة الخارجية هي حكر على المؤسسة العسكرية، بمعنى سلب حق المواطنين من إبداء أرائهم بشان السياسة الدولية، وأبرزها اليوم موقع العلم الصهيوني في سماء أنقرة، بما يشكل للأتراك جرحاً عميقاً بكرامتهم بسبب ما يفعله هذا الاحتلال بإخوانهم المسلمين في فلسطين.
ولكن تبقى كلمة حق، إن الحركة الإسلامية التركية على علتها والظروف التي تحكمها، تبقى لها قيمتها العملية، حيث أعادت الإسلام إلى الواجهة السياسية، ووضعت العلمانية والاتاتوركية في مأزق كبير. وتبقى إلى حد ما أكثر وعياً من الحركات الإسلامية في العديد من البلدان العربية، لأنها توجهت إلى فقراء الناس لتلبية احتياجاتهم فكان لها دورها الاجتماعي الفاعل، فيما هذا الدور هو الغائب الأكبر عن معظم الحركات الإسلامية، والتي لا تتذكر فقراء العرب إلا في شهر رمضان، في حين كانت الحركة الإسلامية في تركيا تستخدم ذلك رصيداً سياسياً لها في صناديق الاقتراع، بينما معظم الحركات الإسلامية اصطفت إلى جوار السلطة وأطبقت على فمها.ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه، لقد استبدلت تركيا الخلافة بالنموذج الأوروبي، ولما لم يتحقق ذلك فهل تشبع الحركات الإسلامية الأتراك في حنينهم إلى الماضي، وهل ثمة بديل في الأفق سوى الإسلام وعودة تركيا نحو صلة ما تقطع مع العالم الإسلامي بسبب أتاتورك.
وإن كان استبدال الطربوش العثماني بالقبعة، وفتح الأحضان لتركيا من قبل الأوروبيين آنذاك قد ساهم في تغذية مشاعر العلمانيين في موقفهم من الإسلام واندلاقهم باتجاه الغرب، فإن تركيا اليوم تقف على العتبة الأوروبية، باحثة عن هوية بعد تغريب دام طويلاً، فهي لم تصبح غربية في أعين الغرب بنا يكفي، ولم تعد شرقية بالكامل كما يريد لها العسكر، وتعتبر مراجعة الذات هي مسألة ملحة بات يسألها كثيرون في الشارع التركي، فبريق أوروبا بعد خمسة وسبعين عاما وأكثر من رحلة التتريك بدأ يخفت في عيون الأتراك، فالعسكر لم يتمكنوا من إيصال تركيا إلى بلدٍ مركزٍ كما كان يزعم أتاتورك، بل بقيت دولة على طرف أوروبا رغم الخدمات الجليلة التي قدمتها للغرب والتي لا تحصى، فيما كانت قبل رحلة التتريك تعتبر دولة الخلافة، ومركز قيادة الأمة الإسلامية بما تحويه من شعوب مختلفة الأجناس والأعراق، كانوا ذات يوم قوة فاعلة في الكون، بل القوة الأكثر عمقاً ووعياً وتسلحاً بالوعي والقيم الإنسانية النبيلة، وكان في ذلك دور تركيا المركزي بل وأهميتها في العالم أجمع.
أحلام في أوروبا
العلمانية التركية تضع نفسها اليوم أمام جملة من الاستحقاقات، أبرزها الفشل على المستوى الداخلي، فهي وبعد عمرها الطويل، وآلاف البرامج والمخططات التي أرادت من خلالها صرف الإنسان التركي عن جذوره الإسلامية، تجد نفسها اليوم أمام استحقاقات أبرزها الإجابة على تساؤلات العقود الماضية أمام الصحوة الإسلامية، فيما بات يعرف بعصر انحسار العسكر، وهي المعادلة التي ظلت تحكم تركيا طوال العقود الثلاثة الماضية، فكلما اقترب العسكر من السلطة، كلما انحسر الإسلام وضاقت الدنيا على الإسلاميين، وكلما ابتعد العسكر مقتنعين بصناديق الاقتراع، كلما عاد الإسلام إلى الواجهة السياسية، وهو ما يشغل الغرب والعلمانيين معاً.
فأوروبا محكومة بقوانين صارمة تحد من قوة العسكر، وتنتظر اليوم اختراع قوانين أشد صرامة،تحت عنوان كبير اسمه مكافحة الإرهاب، تحاول المؤسسات العلمانية الغربية اختراع هذه القوانين، ليس للتضييق على الإسلام في أوروبا فحسب، بل بغية إيقاف أحلام تركيا في أوروبا. وذلك بسبب التنامي لظاهرة الوعي الإسلامي والرغبة والحنين إلى الماضي، وجاء ذلك بصريح العبارات على السنة قادة أوروبا على اختلافهم، والذين وجدوا في الإسلام في تركيا يشكل قلقا لهم، وهي المعادلة الساذجة، حينما تتعثر العلمانية الضخمة بفلسفتها وروحها العصرية بحجاب المرأة المسلمة على سبيل المثال، لتغدو العلمانية أمام بحث عن هويتها من جديد. والحق إن فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وضعت العلمانية بما تحمله من آلية فكرية وسياسية أمام استحقاق كبير، جعلت إعادة رسم أوروبا أمام أوروبا، ثم أمام العالم إشكالية العصر الفكرية، بما يجعل العصور الغابرة -عصور الجنرالات -تطل من وراء ربطات العنق الجميلة، وبما يجعل العلمانية الأوروبية تقف أمام المرآة تعمل على تجميل صورة وجهها بينما الذاكرة تعيش على المخزون القديم المليء بالكراهية للآخرين.
إلى وقت قريب كانت أحلام العسكر كبيرة في أوروبا، والى وقت قريب لم يكن يعلم غالبية الأتراك، أو معظمهم أن تركيا هي «دولة طرف» تؤدي خدمات جليلة للغرب، وتنال امتيازات ومساعدات هي أقل بكثير مما تؤديه من خدمات، والى وقت قريب كان يحاول العسكر استخدام سطوتهم بغية إقناع أوروبا بأن العلمانية تسير على ما يرام، ولكن أين أصبحت تلك الأوهام في سياق هذه المعادلة.
حاجات أوروبا أم حاجة تركيا
من يريد من الآخر أكثر، ومن ينتمي إلى من، فإن كانت العلمانية تنتمي إلى الغرب، فليس اعتناق العلمانية هو الكفيل بتحويل تركيا بتراثها الإسلامي التاريخي الهائل إلى دولة أوروبية، خصوصا وان العلمانية التركية ليس فيها ما يقنع الأوروبيين بها، وذلك لأنها جاءت من الأعلى، وعلى خلاف العلمانية الأوروبية والتي نشأت بفعل ظروف معينة، كرهت فيها عامة الناس التواصل مع الكنيسة التي كانت إنما تزيد الأوروبيين بؤساً ومرارة، فتم طرد الرهبان، ليحل محلهم أصحاب رؤوس الأموال، والذين يقايضون الجهد بالمال، فيما كانت الكنيسة تقايض الجهد بمزيد من إلقاء ظلال العوز على عامة الناس بغية الاستمرار في السيطرة عليهم وبقائهم عبيداً تحت ظلالها.
بالتالي إن العلمانية التي تأتي من الأعلى لا تستقر في التراب الصالح للإنبات، وإنما في مكان آخر، فهذه العلمانية لا تجد سنداً أخلاقياً أو فلسفياً أو اجتماعياً، فهي كمن يزرع في الرمال، ولكنه في نهاية المطاف لا يحصد إلا الغبار.
حاجة تركيا لحظة إطلاق علمانية أتاتورك هي بناء دولة عصرية على شاكلة أوروبا، وحاجة أوروبا عام 1923 لحظة انطلاق علمانية تركيا هي استخدام تركيا لهدم الإسلام، بل استخدام دولة الخلافة لإنهاء الخلافة والإسلام معاً، ويتوافق ذلك مع حمى السيطرة على البلدان الإسلامية، وإشاعة القتل والذبح في الديار الإسلامية من اندونيسيا إلى القارة الهندية آنذاك إلى بقية الدول العربية واستعمار فلسطين وتهويدها بغية منع قيام وحدة الأمة، وصولاً إلى ما تبع ذلك من عدوان على الأمة الإسلامية، والذي لا يزال مستمراً بأشكال متعددة حسب الظروف المتاحة للغرب بغية إذلال الأمة.
بالتالي فقد أراد الغرب من تركيا أن تكون أداة طيعة بيديه، وأرادت تركيا أن تكون أوروبية بما يكفي لتنصلها من الماضي الإسلامي، فجاء الانكباب على العلمانية ولكن هذه العلمانية تبدلت بحيث لا تتسع تركيا في أوروبا، والسبب عودة غير متوقعة للإسلام فيها.
هواجس مشتركة
ذات يوم في ماضي تركيا العلمانية، جاءت صياغة «الكمالية» على اعتبار أنها مشروع حضاري معاصر لخلق دولة قومية علمانية متجانسة ذات بنية حديثة، ومات أتاتورك ولم يأخذ من الأوروبيين سوى القبعة التي استبدلها بالطربوش، ثم حجزت تركيا مقعدها في حلف الناتو عام 1952 وركب العسكر في القطار السريع باتجاه أوروبا، ولكنهم اكتشفوا أنهم كانوا يسيرون بالاتجاه المعاكس حيث أرسلهم الحلف إلى جهة الشرق ليكونوا حراساً أمناء للغرب بجوار أرمينيا -أي الحدود السوفيتية آنذاك- وهكذا وبعد انتظار طويل وخدمات جليلة في عراء تركيا قبالة الاتحاد السوفييتي وبعد انهيار هذا الأخير، توجه العسكر إلى الغرب مجدداً معتقدين بأنه آن الأوان لفتح البوابة الغربية، فجاءت الصفعة قوية على وجههم بما بات يراه كل تركي بأنه إهانة للكرامة التركية، فبعد 75 سنة من الكمالية جاء ضم بلغاريا ورومانيا عدوتا الغرب بالأمس إلى الاتحاد الأوروبي، فيما بقيت الدولة الصديقة للغرب بعد الـ75 سنة تبحث عن بطاقة للركوب في قطار لا تظهر له سكة حديد على الأرض مطلقاً، بل يسير على خطي رمال.
وفوق هذا وذاك بات المواطن التركي في أوروبا يعيش في أزمة، إذ بات المطلوب منه التخلي عن كافة المظاهر الإسلامية في عدوان عنصري لافت على الديانة الإسلامية، ويأتي ذلك من خلال ما بات يسمى ضرورة الاندماج، وهي المعادلة التي اخترعتها العلمانية الحديثة، والتي تقضي بأن يكون المسلمون خارج إسلامهم فيما بقية الديانات لا أحد يأتي على ذكرها بالمطلق كما يجري اليوم في ألمانيا على سبيل المثال لا الحصر . وبهذا الفصل تكون ألمانيا قد تنكرت لماضي الأتراك ومجهودهم الكبير في بناء أوروبا، حيث دخل إلى ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية أكثر من مليون عامل، كانوا سبباً في نهضة ألمانيا، حيث عملوا في بناء ورفد البنية التحتية الألمانية وإزالة مخلفات الحرب، ولكن حين جاء دور دخول تركيا إلى النادي الأوروبي اكتشفت ألمانيا بالذات أن هوية هؤلاء العمال هي إسلامية، وبالتالي لا يصلحون للمستقبل، وذلك أمام عمالة رخيصة ومن نوع أوروبي وهي عمالة مخلفات الإتحاد السوفييتي البائد.
بين الإسلام والجيش
على مقربة من وقع خطى العسكر كانت تنشط الحركة الإسلامية في تركيا، فقبل عشر سنوات من الآن، وفي العام 1995 أفادت الإحصائية الرسمية انه أصبح في تركيا سبعين ألف مسجد، منها ثلاثة عشر ألف مسجد بنيت بين عامي 1980 -1995 وهو أمر أثار حفيظة الكاتب الفرنسي « جان كلود جويبو» عام1993 وحينها تساءل عن جدوى علمانية تركيا.
ومما لا يعرفه الكثيرون عن الإسلام في تركيا، انه ورغم مظاهر السفور التي أطلقتها الدولة وعممتها بالقوة، إلا أن قلب المجتمع التركي، بقي يحتفظ بهويته الإسلامية، والتي تشكل بالنسبة إليه اعتزازاً مهماً بها، وكبقية الشعوب الإسلامية فإن الارتباط بالدين لا يكون نتيجة إملاءات سياسية، إنما هي طبيعة الإسلام التي تربي الفرد المسلم على المحافظة على دينه في كافة الظروف.
التعليم هو الأداة الأساسية التي أراد منها أتاتورك أن تخلق نخبة علمانية غير مرتبطة بالإسلام مطلقاً، بل وحتى الحروف العربية تم حظر استخدامها في اللغة التركية بما يجعل قراءة القرآن عسيرة على الأجيال اللاحقة، ولذلك أخضعت المؤسسة العلمانية التعليم تحت سلطانها منذ عام 1926 وأوكلت إلى الجيش منذ ذلك الوقت المسؤولية بحماية المؤسسات العلمانية. وهكذا تم إقصاء المؤسسات الدينية وتم حظر التعليم الديني، واختفت الدروس التعليمية من الزوايا والتي كانت منتشرة بشكل كبير في تلك الفترة، ومع موت أتاتورك وانتقال السلطة إلى خلفه«عصمت إينونو 1938-1950» بدأ وجه تركيا بالتبدل قليلاً قليلاً، وبدا ذلك واضحاً في العام 1945 عندما قرر إينونو التخلص من فكرة حكم الحزب الواحد، ليطل الإسلام من خلال الواجهة العلمانية من جديد، عبر تجمع للإسلاميين أطلّوا من خلال واجهة وطنية إذ ليس بالإمكان استخدام العبارات الإسلامية بسبب المادة 163 من قانون العقوبات والتي تفرض قيوداً صارمة على النشاطات والدعاية الدينية وهذه المادة بقيت حية إلى عام 1991.
ومع وصول الحزب الديموقراطي إلى الحكم عام 1950 بدا ثمة تحول طفيف يحدث على المجتمع التركي، حيث بُدِء السماح بالتعليم الديني، والذي أخذ يكبر رويداً رويداً، وصولا إلى عام 1960 حينما جاء انقلاب «عدنان مندريس» وكانت حجة الانقلاب آنذاك هي حماية العلمانية من تنامي النزعة الإسلامية. وبذلك تقف تركيا مجدداً أمام الجنرالات ليمارسوا الحكم بشكل مباشر ولتختفي ظلال الأحزاب السياسية أمام سطوة العسكر وجبروتهم، وفي انقلاب عام 1971 ترسخ دور الجيش في مجلس الأمن القومي، ثم جاء انقلاب عام 1980 وفي عام 1982 ترسخ دور الجيش بشكل فعلي من خلال استخدام المادة 35 من نظام المهمات الداخلية للقوات المسلحة كأساس قانوني للقيام بانقلاب عسكري وذلك« في حالة تعرض الديموقراطية أو العلمانية التركية للخطر».
في مطلع السبعينات كانت الحركة الإسلامية تنشط بشكل كبير، وبموازاة ذلك كانت الانقلابات المتتالية، وكانت عمليات تطهير القوات المسلحة من العناصر التي يشتبه بتعاطفها مع الإسلام مستمرة، وأبرز عمليات الطرد الجماعي للضباط من الجيش تركزت في ذروة الصراع السياسي في تركيا بين عامي 1997- 1998 خصوصا مع المظاهرات الكبيرة التي اجتاحت تركيا آنذاك مطالبة بالسماح بالحجاب الإسلامي، ومنع حظره.
الإسلام والواجهة السياسية
تعتبر شخصية «اربكان» من الشخصيات المتميزة في تركيا، حيث خاض الرجل صراعاً سياسياً طويلاً وشاقاً في مواجهة سطوة المؤسسة العسكرية، وكان قد بدأ بتشكيل حزبه السياسي في مطلع السبعينات، وتعتبر تلك الفترة بداية متميزة في استراتيجية الحركة الإسلامية في تركيا، وذلك من خلال المنهج والأسلوب، إذ انه في بلد تحكمه طغمة عسكرية جبارة ليس من السهل إطلاق أصوات المآذن وسط ضجيج المؤسسة العسكرية المانع لذلك، حيث كان تخترع الاتهامات ويعاقب أصحابها بشدة وتضرب أياديهم بعصا من حديد وذلك كله بشكل دستوري، إذ إن الخروج على العلمانية كان عنوانا أساسياً تتخذه المحاكم التركية للتخلص من الإسلاميين.
حزب اربكان عرف باسم حزب النظام الوطني، وانطلق هذا الحزب بخطوات مختلفة عما كان متوقعا منه، فهو ترك العلمانية تسير باتجاهها بينما سار هو بالاتجاه المعاكس، وكان ذلك يعبر عن وعي لدى نخبة هذا الحزب، ففي حين كانت الدولة تكثر من اهتمامها بالنخبة وبالمدن، توجه الحزب إلى الفقراء والأرياف، فبدأت عملية الإحياء الدينية في تركيا من خلال الجمعيات والمؤسسات الخيرية، حيث ساهمت حركة الحزب هذه، في بناء خمسة آلاف مدرسة دينية ابتدائية، وأربعين مدرسة متوسطة لتخريج الأئمة والخطباء، إضافة إلى إنشاء 15 ألف مجموعة لتحفيظ القرآن الكريم، وهو بذلك أعاد إحياء منهج التدرج في العمل، وهو منهج مهم ومعروف في الإسلام، وبالتالي كانت خطوة اربكان قبل وصول حزبه إلى السلطة تعتبر مقدمة مهمة، حيث نال ثقة شعبية كبيرة، جعلت منه عند وصول حزبه إلى السلطة يسير على ذات الخطوة في محاولة لتجنب التصادم مع العسكر، فاهتم بالتركيز على الوضع الداخلي، من خلال زيادة الأجور إلى خمسين بالمئة، والحد من البطالة إلى ما نسبته 17% وهي نسبة ضئيلة جداً بالقياس إلى ما كانت عليه تركيا من قبل.
اربكان والمسألة الفلسطينية
الحنين العثماني وكراهية إسرائيل، وتنكر الغرب إلى تركيا، كلها أشياء أصبحت حديث الشارع التركي، وأصابت كبرياء الأتراك في الصميم. وفي عام 1980 قام اربكان بتنظيم اجتماع شعبي كبير، تحت عنوان «أنقذوا القدس» وأدى هذا الاجتماع الجماهيري إلى حل البرلمان، وإعلان الأحكام العسكرية، وتم اقتياد اربكان إلى سجن أنقرة وحوكم مع 24 من أركان حزبه، ثم قامت السلطات العسكرية بحظر نشاطات حزبه، واتهم الحزب باستخدام الدين لتحقيق مآرب سياسية، وعلى اثر ذلك نشأ حزب الرفاه الإسلامي بقيادة أحمد تقدال، وليعود فيما بعد اربكان إلى تولي زعامة هذا الحزب من جديد في عام 1987ليطرح الحزب شعاره الجديد العدل الاجتماعي إلى جانب مناهضة التبعية للغرب.فقد بدأ حزب الرفاه يلعب على الإحباط التركي من الغرب، وبدأت عملية توجيه الفقراء من خلال استخدام أموال الزكاة لبناء المدارس والمساكن، والعيادات وغير ذلك وفق الاستراتيجية القديمة التي كان يستخدمها اربكان وإنما بشكل موسع ومعلن هذه المرة. وهكذا وجدت تركيا نفسها أمام خيارين إما السيناريو الإسلامي بأبعاده الكبيرة وظلاله المتعددة، وإما السيناريو الأمريكي الصهيوني، وهما سيناريوهان يتصارعان داخل البنية التحتية في الشارع التركي، فيما السياسة الخارجية تظل في قبضة الجيش، وهكذا يعود الجيش إلى الواجهة بعد خطاب اربكان الشهير،ولكن ذلك الانقلاب حمل أبعاداً ودلالات مختلفة.
الانقلابيون بقيادة أيفرين آنذاك لم يتمكنوا من تجاهل الإسلام، بل جاءت عملية استعمال الإسلام لإعادة صياغة الأيديولوجية الرسمية من أجل السيطرة على المجتمع. وذلك عندما أدركوا عجز الاتاتوركية من تأطير المجتمع، فوجدنا أن أيفرين بدأ يستشهد بالآيات القرآنية في خطاباته، حيث تعد تلك سابقة في تركيا، ومع مجيء عام 1982 استقبل الدستور التركي مادة مهمة، وهي جعل الدروس الدينية إلزامية في المدارس، بما يعتبر هزيمة للقاعدة التي أطلقها أتاتورك بحظر كافة مظاهر الإسلام من النظم التعليمية.
شد وجذب
بدا واضحا بعد انقلاب عام 1980 أن تغير وجه البلاد أخذ أشكالا متعددة، فالعسكر كانوا يشيعون تارة أجواء الخوف من حدوث مواجهات مسلحة بين الحركة الإسلامية والعسكر، إلا أن وعي الحركة الإسلامية فوت الفرصة على العسكر بهذه الفرضية، وبات العسكر يحاولون بدء عمليات الشد والجذب، وبغية إعطاء الشارع ظلالا ايجابية حول المؤسسة العسكرية، قام تورجوت اوزال والذي أصبح رئيسا للوزراء عام 1983 بأداء مناسك الحج، ليكون أول رئيس وزراء تركي يصل إلى الديار المقدسة منذ انتهاء الخلافة، والذي بدوره حافظ على صلاة الجمعة حتى وفاته، وتبنى سياسة إسلامية معتدلة أدت إلى الحد من تطرف الاتاتوركية.
ولكن في عام 1998 عندما أصدرت وزارة التربية الوطنية قرارا يقضي بمنع الحجاب في المدارس،وما تلا ذلك من حل لحزب الرفاه الإسلامي أعاد الواجهة العسكرية من جديد إلى الصدارة حيث أخذت المؤسسة العسكرية تسعى من جديد لمحاصرة الإسلام وتشتيت قواه من خلال ما يعرف بسلطتها الدستورية على مجلس الأمن القومي.
تركيا اليوم
بالتأكيد إن النموذج الإسلامي السياسي المطروح اليوم في تركيا لا يعتبر بديلاً إسلامياً بالمطلق، وذلك لأنه لا يعطي للإسلام مكانته الحقيقة ودلالته التاريخية، فهو نموذج محكوم باعتبارات سياسية متعددة، أبرزها ارتباط المؤسسة التركية العسكرية بالمؤسسات الصهيونية العسكرية، وبالرغم من التجاذبات السياسية بين تركيا وأمريكا والاختلاف بشان العراق وغير ذلك، فان السياسة الخارجية هي حكر على المؤسسة العسكرية، بمعنى سلب حق المواطنين من إبداء أرائهم بشان السياسة الدولية، وأبرزها اليوم موقع العلم الصهيوني في سماء أنقرة، بما يشكل للأتراك جرحاً عميقاً بكرامتهم بسبب ما يفعله هذا الاحتلال بإخوانهم المسلمين في فلسطين.
ولكن تبقى كلمة حق، إن الحركة الإسلامية التركية على علتها والظروف التي تحكمها، تبقى لها قيمتها العملية، حيث أعادت الإسلام إلى الواجهة السياسية، ووضعت العلمانية والاتاتوركية في مأزق كبير. وتبقى إلى حد ما أكثر وعياً من الحركات الإسلامية في العديد من البلدان العربية، لأنها توجهت إلى فقراء الناس لتلبية احتياجاتهم فكان لها دورها الاجتماعي الفاعل، فيما هذا الدور هو الغائب الأكبر عن معظم الحركات الإسلامية، والتي لا تتذكر فقراء العرب إلا في شهر رمضان، في حين كانت الحركة الإسلامية في تركيا تستخدم ذلك رصيداً سياسياً لها في صناديق الاقتراع، بينما معظم الحركات الإسلامية اصطفت إلى جوار السلطة وأطبقت على فمها.ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه، لقد استبدلت تركيا الخلافة بالنموذج الأوروبي، ولما لم يتحقق ذلك فهل تشبع الحركات الإسلامية الأتراك في حنينهم إلى الماضي، وهل ثمة بديل في الأفق سوى الإسلام وعودة تركيا نحو صلة ما تقطع مع العالم الإسلامي بسبب أتاتورك.