بقلم / ممدوح إبراهيم الطنطاوي - كاتب صحافي وباحث مصري
مع التقدم التقني الهائل، وسباق الدول في ركب الحياة المادية الحديثة؛ استطاع الإنسان أن يحقق طفرات علمية ومادية كبيرة في فترة زمنية وجيزة، ولكنه مع هذا التقدم وتلك المدنية لم يصل في جانبه الروحي إلى ما يوافق النزر اليسير من الجانب المادي الذي أفاض فيه، ولذلك نجد الأمراض النفسية قد تفشت في بلاد الغرب، كما انتشرت حالات الانتحار الجماعية والفردية هناك، إلى جانب الجرائم والآفات الأخلاقية والاجتماعية التي عجز علماء النفس والاجتماع عن علاجها، وإن المتدبر الحصيف ليدرك أن هذا الخلل النفسي هو بسبب الفراغ الروحي في تلك المجتمعات التي تعاني من التفكك والقلق - مرض العصر الخطير- ولا سبيل للإنسانية جمعاء لكي تنهض من كبوتها، وتنفض عنها ما علق بها من خبث وأدران إلا بالإسلام الحنيف دين الله الحق، وتطبيق تعاليمه وأحكامه كدستور أمثل ومنهج حياة يشمل جميع جوانبها بلا استثناء.
لم يأت الدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى الآخرة فقط - وإن كانت هي الغاية - غافلاً عن الحياة الدنيا كما يدعي بعض الجهلاء والمتنطعين، ولكنه جاء كاملاً بتعاليمه القويمة ومنهاجه الأمثل الصالح لكل زمان ومكان، والذي يشتمل على مقومات السعادة لمن يدين به ويعتقده، وفيه الخلاص للإنسانية من كل ما اعتراها من مشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية...الخ.
لقد جاء الإسلام يدعو إلى الدنيا والآخرة معاً، ولكن على المسلم أن يعي أن الدعوة للحياة الدنيا مرهونة بالأعمال الصالحة، فللإنسان الحق في أن يعيش حياته، ويعمل ليكتسب المال، ويحصل على ما يعينه على متطلبات هذه الحياة عملاً بقاعدة الأخذ بالأسباب، فالرزاق هو الله تعالى.. وكما رغب الإسلام في العمل نهى كذلك عن الاستكفاف (التسول) والسرقة وكره التطفل والبطالة.. وأعطى الركائز الأساسية لما ينبغي أن تكون عليه المعاملات بين الفرد والآخرين في الأسرة والمجتمع وفي كل نواحي الحياة؛ مما يدل على أن الإسلام يدعو للدنيا شريطة أن يحيا فيها الإنسان على طاعة الله عز وجل واتباع رسوله {، ففي ذلك السعادة والأمن النفسي.. قال تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا( 77 ) {القصص: 77} فعلى المسلم أن يغتنم نصيبه من الدنيا في إطار ما يرضي الله عز وجل فيلتزم بكل ما أمر الله تعالى وينتهي عن كل ما نهى عنه، ويتمسك بسنة الرسول الكريم محمد { فبطاعة الله ورسوله يفوز الإنسان المؤمن بالدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما 71 {الأحزاب: 71}، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من اللهث وراء متاع الدنيا الزائل والانكباب على الشهوات والتكالب عليها؛ لأن في ذلك هلاك الإنسان والخسران المبين.. يقول الله عز وجل: وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا 70 {الأنعام: 70} ويقول تعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور 33 {لقمان: 33}، وقد حذرنا رسول الله { من الدنيا ومتاعها الفاني فلا ينبغي أن تكون أكبر همنا فقال {: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(1).
مدينة بلا روح:
استطاع الإنسان الغربي أن يغزو الفضاء، ويحرك كل شيء من الآلات والأجهزة الإلكترونية عن بعد، واخترع الحاسوب، وتفنن في إنتاج البرمجيات، وتمكن من إنجاز طفرات في جل العلوم التطبيقية، ولكنه - كما تقدم - مع هذا كله لم يستطع أن يصل إلى السعادة والراحة النفسية والطمأنينة اللازمة لسكينة الإنسان وأمنه من كل سوء، وحمايته من الاضطرابات النفسية والتوتر.. فانشغال الغرب بالمحسوسات والماديات عن القيم الدينية والروحية جعلت من الحضارة الغربية المادية جسداً بلا روح؛ فسرعان ما يتغير لون هذا الجسد وتذبل أركانه وتنطفيء زهوته، حتى يمسي جيفة نتنة تصيبنا بأذاها ولا مفر منها إلا بالرجوع إلى معين الإسلام الذي لا ينضب. ونحن هنا نؤكد على أننا لا ننكر على الحضارة الغربية تقدمها المذهل وتقنياتها المتطورة وما قدمته للإنسانية من خدمات مهمة جداً في جانب التقنية والمخترعات والطب ونحوها. فالإسلام دين يدعو إلى العلم النافع والأخذ بأسباب التقدم إلى جانب القيم الدينية والروحية..
وكثير من الغربيين فرحوا بما عندهم من علم ونسوا الله عز وجل، واستباحوا كل ما حرم من منكرات، وها هي الصحف الغربية تطالعنا كل يوم بأخبار وتقارير وإحصائيات تؤكد مدى التخبط والضياع والانزلاق في الموبقات كارتكاب الرذائل والعلاقات المثلية والمحرمة، وإدمان المخدرات، وجرائم الاغتصاب، والسطو المسلح، والقتل حتى باتت جميعها واقعاً يومياً أليماً في المجتمع الغربي أدى إلى تشرذم أواصر الأخوة وتفكك الروابط الأسرية، وضياع الشباب.. ومن أراد منهم الخلاص فإنه يلجأ إلى الانتحار.. وتتنامى هذه المشكلات يوماً بعد يوم، وقد صدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا124 {طه: 124} يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً"(2) فعلى الشباب المسلم أن يعي تلك الحقائق فلا تخدعه زخارف الحياة الغربية وما يدعيه الغربيون من أنهم يحيون حياة الحرية المطلقة فالحرية الحقيقية التزام واتزان ومسؤولية.. ومما لا شك فيه أن الحرية المطلقة هي مفسدة مطلقة.
عصر القلق:
أطلق العلماء والمؤرخون على القرن السادس عشر اسم عصر الضباب، وعلى القرن السابع عشر بأنه عصر النور، والقرن الثامن عشر أسموه عصر العقل، ووصف القرن التاسع عشر بعصر التقدم، أما القرن العشرين الذي ولى منذ بضع سنوات فقد أجمعوا على أنه كان عصر القلق ولبدايات القرن الحادي والعشرين نصيب وافر من هذا المسمى.. وقد نتج هذا القلق كرد فعل طبيعي ومنطقي لمدى الانحطاط الروحي الذي أصاب نفس الإنسان - إلا من رحم الله - مع تقدمه المادي والتقني وانصهار فكره في بوتقة المادة.. كما أن خراب عقيدته جعله يقف عاجزاً عن فهم ذاته، وعن إيجاد حل أمثل لعلاج مشاكله النفسية وعلى رأسها القلق..
والقلق مشكلة نفسية كبيرة إذا إنه من الأسباب الرئيسة لنشوء الاضطرابات والأمراض النفسية، وهو لا يولد مع الإنسان، والسبب في حدوثه هو الخوف من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وكذا التكالب على الدنيا، والغفلة عن الآخرة، واتباع الهوى والشيطان؛ لذا نجد هذا المرض النفسي الخطير يستشري بين الغربيين بصورة رهيبة، ولعل انتشار عيادات العلاج النفسي هناك أكثر من محلات التموين الغذائي خير برهان على ذلك، وقد أثبتت الإحصائيات الحديثة بهذا الشأن أن 85% ممن يترددون على الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية يعانون من مشكلات نفسية وفي مقدمتها القلق.
وقد عمد علماء النفس إلى معالجة هؤلاء المرضى، وعكفوا على بذل كل جهد ممكن ولكن دون جدوى فقد كانت نسبة من عولجوا 3% فقط من مرضى القلق 16% من مرضى الصدمات العصبية 4% من المرضى الذين يعانون من الاكتئاب.
الإيمان خير علاج:
وإذا كان القلق هو السبب الرئيس لنشوء الأمراض النفسية التي عجز الأطباء عن القضاء عليها أو الحد من انتشارها؛ فإن العلاج الأنجح والأمثل للقلق يتوافر في الإسلام دين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومهما جرب البشر من ديانات وضعية أو مذاهب أرضية ونظريات نفسية وأخلاقية فلن يتمكنوا من حل مشكلاتهم وعلاج أمراضهم النفسية إلا بالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره..
والإسلام الحنيف يبث في قلب الإنسان المؤمن روح السكينة والطمأنينة والرضا.. يقول الله تبارك وتعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب 28 {الرعد: 28}.. فالمؤمن حقاً يثق في الله عز وجل، ويعلم يقيناً أن الرزق بيده وحده سبحانه وتعالى، وأن الأرض يورثها لمن يشاء، وبذلك لا يخشى الإنسان الفقر، ولا يخاف من المجهول، وقد اطمأن قلبه لقول الله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها 6 {هود: 6} يقول ابن كثير يرحمه الله: "أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها وأنه يعلم مستقرها ومستودعها"(3).. وعلى الإنسان أن يقنع ويرضى بما قسمه الله له فيشعر بالغنى والراحة النفسية فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي { قال: "ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ(4)، ولكن الغنى غنى النفس"(5) وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله { قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه"(6) فالإيمان خير علاج لقهر الخوف والقلق والتوتر العصبي، وبه يأخذ الإنسان الحياة بما فيها مأخذاً سهلاً فلا يقلق ولا يخاف من المستقبل، وما يمكن أن يحدث فيه إذ هو بيد الله وحده ولا يعلم الغيب إلا هو.. يقول الله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير 34 {لقمان: 34}.. وقال الله تعالى: لكيلا تأسوا على" ما فاتكم 23 {الحديد: 23}، وبهذا يكون الإسلام قد سبق المدنية الحديثة وخبراء علم النفس والأطباء النفسيين في تقرير قاعدة رئيسة ومهمة جداً ألا وهي أن على الإنسان العاقل أن يعيش في واقع يومه إذ الأمس قد ولى، وتؤخذ منه العظة والعبرة فلا يمكن إرجاعه أو تغيير ما حدث فيه، وقد شاء الله عز وجل ما كان، وأما الغد فهو أيضاً بيد الله تعالى، ويمكن للإنسان أن يفكر فيه ولكن عليه ألا يحمل له هماً.. يقول الله عز وجل في كتابه العزيز: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا 23 إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى" أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا 24 {الكهف: 23، 24}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله { أنه قال: "قال سليمان ابن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له - وفي رواية: قال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله { - والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين"(7).
ويأتي علماء النفس بعد أربعة عشر قرناً من الزمان فينادون بما نادى به القرآن الكريم وما دعت إليه السنة النبوية المطهرة من ضرورة وضع الدين موضع الاعتبار، والاعتماد عليه كدستور أمثل ومنهج حياة لعلاج الأمراض الاجتماعية والنفسية وعلى رأسها القلق القاتل، وقد نادى بذلك كثير من علماء الغرب المنصفين كعالم النفس الشهير "وليم جيمس" أستاذ الفلسفة في جامعة "هارفارد" فيقول: "إن أعظم علاج للقلق ولا شك هو الإيمان.. فالرجل المتدين حقاً عصي على القلق محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف" ويقول الطبيب النفسي "و. يونج" عن ضرورة الإيمان لمرضى القلق و الاضطرابات النفسية: "وإنه لم يتم شفاء أحد منهم حقيقة إلا بعد أن استعاد نظرته الدينية للحياة"(8).
التقوى زاد المؤمن:
إن الإسلام يبث الإيمان في قلوب المؤمنين دائماً وأبداً يزدادون هدى وتقوى وطمأنينة، وما فرضه الله عز وجل عليهم من عبادات تؤهلهم للعيش الآمن في راحة وسعادة واتزان نفسي، وجعل الله عز وجل حدوده سياجاً منيعاً يحمي عباده المؤمنين من الانزلاق في الفواحش والمفاسد ومواطن الفتن، وينأى بهم إسلامهم عن مكائد الشيطان؛ لأنهم يعيشون على الأرض أطهاراً طيبين لا يخافون شيئاً ولا يقلقون من شيء لأن زادهم التقوى، يقول الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"197 {البقرة: 197}، وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2ويرزقه من حيث لا يحتسب {الطلاق: 2-3}، وقال الله تعالى مطمئناً الصالحين من عباده: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما 112 {طه: 112}، وقد حض الله عز وجل المسلمين على التحلي بالصبر على ما يصيبهم من مكاره، لأن الصبر هو عدة المؤمن وفيه خير كثير، يقول الله تبارك وتعالى: لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 96 {النحل: 96} والصبر كما قال الحسن: "كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله عز وجل إلا لعبد كريم عنده"..
وقد أوصى علماء النفس بالرضا والتسليم بالواقع، إذا إنه ليس هناك في الدنيا شر محض.. ولا خير محض.. والله وحده الذي يعلم الغيب وعواقب الأمور من خير وشر، يقول الله عز وجل: وعسى" أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى" أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون 216 {البقرة: 216} فقد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خير ولا مصلحة، وقد يكره أشياء وفي كثير منها خير ومنافع، ولا ينبغي له التشاؤم فيتقوقع في هذا الإطار حتى ينتهي به ذلك إلى الاكتئاب ثم يصل إلى مرحلة متأخرة يتمنى فيها الموت أو يلجأ إلى الانتحار ليتخلص مما يعانيه، وقد نهى الإسلام عن هذا وذاك.. نهى عن التشاؤم فقال رسول الله {: "لا عدوى، ولا طيرة"(9) كما نهى { عن تمني الموت فقال: "لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً للموت؛ فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"(10).
فبالتقوى والصبر والرضا بما قسم الله تعالى وما قدر، وبالاطمئنان، واليقين بأنه عز وجل وحده الذي بيده الرزق، والضر والنفع، والحياة والموت يحيا المؤمن حياة سعيدة آمنة، وينعم بالأمن النفسي والاستقرار.. يقول الله تعالى: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا4 {الفتح: 4} وقال تعالى: ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون 30 {الروم: 30}.
الهوامش:
1- رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- ابن كثير- تفسير القرآن العظيم - ج(5)، ص: (239).
3- المرجع السابق- ج(4)، ص: (212).
4- العرض: هو المال.
5- متفق عليه.
6- رواه مسلم.
7- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3424)، ومسلم في الإيمان (1654).
8- ممدوح الطنطاوي (كاتب المقال)- الإسلام في عصر القلق؛ مجلة الثقافية (لندن) - العدد (13)، ص: (57) (ذو الحجة 1416ه - مايو 1996م).
9- متفق عليه.
10- أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.
مع التقدم التقني الهائل، وسباق الدول في ركب الحياة المادية الحديثة؛ استطاع الإنسان أن يحقق طفرات علمية ومادية كبيرة في فترة زمنية وجيزة، ولكنه مع هذا التقدم وتلك المدنية لم يصل في جانبه الروحي إلى ما يوافق النزر اليسير من الجانب المادي الذي أفاض فيه، ولذلك نجد الأمراض النفسية قد تفشت في بلاد الغرب، كما انتشرت حالات الانتحار الجماعية والفردية هناك، إلى جانب الجرائم والآفات الأخلاقية والاجتماعية التي عجز علماء النفس والاجتماع عن علاجها، وإن المتدبر الحصيف ليدرك أن هذا الخلل النفسي هو بسبب الفراغ الروحي في تلك المجتمعات التي تعاني من التفكك والقلق - مرض العصر الخطير- ولا سبيل للإنسانية جمعاء لكي تنهض من كبوتها، وتنفض عنها ما علق بها من خبث وأدران إلا بالإسلام الحنيف دين الله الحق، وتطبيق تعاليمه وأحكامه كدستور أمثل ومنهج حياة يشمل جميع جوانبها بلا استثناء.
لم يأت الدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى الآخرة فقط - وإن كانت هي الغاية - غافلاً عن الحياة الدنيا كما يدعي بعض الجهلاء والمتنطعين، ولكنه جاء كاملاً بتعاليمه القويمة ومنهاجه الأمثل الصالح لكل زمان ومكان، والذي يشتمل على مقومات السعادة لمن يدين به ويعتقده، وفيه الخلاص للإنسانية من كل ما اعتراها من مشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية...الخ.
لقد جاء الإسلام يدعو إلى الدنيا والآخرة معاً، ولكن على المسلم أن يعي أن الدعوة للحياة الدنيا مرهونة بالأعمال الصالحة، فللإنسان الحق في أن يعيش حياته، ويعمل ليكتسب المال، ويحصل على ما يعينه على متطلبات هذه الحياة عملاً بقاعدة الأخذ بالأسباب، فالرزاق هو الله تعالى.. وكما رغب الإسلام في العمل نهى كذلك عن الاستكفاف (التسول) والسرقة وكره التطفل والبطالة.. وأعطى الركائز الأساسية لما ينبغي أن تكون عليه المعاملات بين الفرد والآخرين في الأسرة والمجتمع وفي كل نواحي الحياة؛ مما يدل على أن الإسلام يدعو للدنيا شريطة أن يحيا فيها الإنسان على طاعة الله عز وجل واتباع رسوله {، ففي ذلك السعادة والأمن النفسي.. قال تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا( 77 ) {القصص: 77} فعلى المسلم أن يغتنم نصيبه من الدنيا في إطار ما يرضي الله عز وجل فيلتزم بكل ما أمر الله تعالى وينتهي عن كل ما نهى عنه، ويتمسك بسنة الرسول الكريم محمد { فبطاعة الله ورسوله يفوز الإنسان المؤمن بالدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما 71 {الأحزاب: 71}، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من اللهث وراء متاع الدنيا الزائل والانكباب على الشهوات والتكالب عليها؛ لأن في ذلك هلاك الإنسان والخسران المبين.. يقول الله عز وجل: وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا 70 {الأنعام: 70} ويقول تعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور 33 {لقمان: 33}، وقد حذرنا رسول الله { من الدنيا ومتاعها الفاني فلا ينبغي أن تكون أكبر همنا فقال {: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(1).
مدينة بلا روح:
استطاع الإنسان الغربي أن يغزو الفضاء، ويحرك كل شيء من الآلات والأجهزة الإلكترونية عن بعد، واخترع الحاسوب، وتفنن في إنتاج البرمجيات، وتمكن من إنجاز طفرات في جل العلوم التطبيقية، ولكنه - كما تقدم - مع هذا كله لم يستطع أن يصل إلى السعادة والراحة النفسية والطمأنينة اللازمة لسكينة الإنسان وأمنه من كل سوء، وحمايته من الاضطرابات النفسية والتوتر.. فانشغال الغرب بالمحسوسات والماديات عن القيم الدينية والروحية جعلت من الحضارة الغربية المادية جسداً بلا روح؛ فسرعان ما يتغير لون هذا الجسد وتذبل أركانه وتنطفيء زهوته، حتى يمسي جيفة نتنة تصيبنا بأذاها ولا مفر منها إلا بالرجوع إلى معين الإسلام الذي لا ينضب. ونحن هنا نؤكد على أننا لا ننكر على الحضارة الغربية تقدمها المذهل وتقنياتها المتطورة وما قدمته للإنسانية من خدمات مهمة جداً في جانب التقنية والمخترعات والطب ونحوها. فالإسلام دين يدعو إلى العلم النافع والأخذ بأسباب التقدم إلى جانب القيم الدينية والروحية..
وكثير من الغربيين فرحوا بما عندهم من علم ونسوا الله عز وجل، واستباحوا كل ما حرم من منكرات، وها هي الصحف الغربية تطالعنا كل يوم بأخبار وتقارير وإحصائيات تؤكد مدى التخبط والضياع والانزلاق في الموبقات كارتكاب الرذائل والعلاقات المثلية والمحرمة، وإدمان المخدرات، وجرائم الاغتصاب، والسطو المسلح، والقتل حتى باتت جميعها واقعاً يومياً أليماً في المجتمع الغربي أدى إلى تشرذم أواصر الأخوة وتفكك الروابط الأسرية، وضياع الشباب.. ومن أراد منهم الخلاص فإنه يلجأ إلى الانتحار.. وتتنامى هذه المشكلات يوماً بعد يوم، وقد صدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا124 {طه: 124} يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً"(2) فعلى الشباب المسلم أن يعي تلك الحقائق فلا تخدعه زخارف الحياة الغربية وما يدعيه الغربيون من أنهم يحيون حياة الحرية المطلقة فالحرية الحقيقية التزام واتزان ومسؤولية.. ومما لا شك فيه أن الحرية المطلقة هي مفسدة مطلقة.
عصر القلق:
أطلق العلماء والمؤرخون على القرن السادس عشر اسم عصر الضباب، وعلى القرن السابع عشر بأنه عصر النور، والقرن الثامن عشر أسموه عصر العقل، ووصف القرن التاسع عشر بعصر التقدم، أما القرن العشرين الذي ولى منذ بضع سنوات فقد أجمعوا على أنه كان عصر القلق ولبدايات القرن الحادي والعشرين نصيب وافر من هذا المسمى.. وقد نتج هذا القلق كرد فعل طبيعي ومنطقي لمدى الانحطاط الروحي الذي أصاب نفس الإنسان - إلا من رحم الله - مع تقدمه المادي والتقني وانصهار فكره في بوتقة المادة.. كما أن خراب عقيدته جعله يقف عاجزاً عن فهم ذاته، وعن إيجاد حل أمثل لعلاج مشاكله النفسية وعلى رأسها القلق..
والقلق مشكلة نفسية كبيرة إذا إنه من الأسباب الرئيسة لنشوء الاضطرابات والأمراض النفسية، وهو لا يولد مع الإنسان، والسبب في حدوثه هو الخوف من الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وكذا التكالب على الدنيا، والغفلة عن الآخرة، واتباع الهوى والشيطان؛ لذا نجد هذا المرض النفسي الخطير يستشري بين الغربيين بصورة رهيبة، ولعل انتشار عيادات العلاج النفسي هناك أكثر من محلات التموين الغذائي خير برهان على ذلك، وقد أثبتت الإحصائيات الحديثة بهذا الشأن أن 85% ممن يترددون على الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية يعانون من مشكلات نفسية وفي مقدمتها القلق.
وقد عمد علماء النفس إلى معالجة هؤلاء المرضى، وعكفوا على بذل كل جهد ممكن ولكن دون جدوى فقد كانت نسبة من عولجوا 3% فقط من مرضى القلق 16% من مرضى الصدمات العصبية 4% من المرضى الذين يعانون من الاكتئاب.
الإيمان خير علاج:
وإذا كان القلق هو السبب الرئيس لنشوء الأمراض النفسية التي عجز الأطباء عن القضاء عليها أو الحد من انتشارها؛ فإن العلاج الأنجح والأمثل للقلق يتوافر في الإسلام دين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومهما جرب البشر من ديانات وضعية أو مذاهب أرضية ونظريات نفسية وأخلاقية فلن يتمكنوا من حل مشكلاتهم وعلاج أمراضهم النفسية إلا بالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره..
والإسلام الحنيف يبث في قلب الإنسان المؤمن روح السكينة والطمأنينة والرضا.. يقول الله تبارك وتعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب 28 {الرعد: 28}.. فالمؤمن حقاً يثق في الله عز وجل، ويعلم يقيناً أن الرزق بيده وحده سبحانه وتعالى، وأن الأرض يورثها لمن يشاء، وبذلك لا يخشى الإنسان الفقر، ولا يخاف من المجهول، وقد اطمأن قلبه لقول الله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها 6 {هود: 6} يقول ابن كثير يرحمه الله: "أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها وأنه يعلم مستقرها ومستودعها"(3).. وعلى الإنسان أن يقنع ويرضى بما قسمه الله له فيشعر بالغنى والراحة النفسية فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي { قال: "ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ(4)، ولكن الغنى غنى النفس"(5) وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله { قال: "قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه"(6) فالإيمان خير علاج لقهر الخوف والقلق والتوتر العصبي، وبه يأخذ الإنسان الحياة بما فيها مأخذاً سهلاً فلا يقلق ولا يخاف من المستقبل، وما يمكن أن يحدث فيه إذ هو بيد الله وحده ولا يعلم الغيب إلا هو.. يقول الله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير 34 {لقمان: 34}.. وقال الله تعالى: لكيلا تأسوا على" ما فاتكم 23 {الحديد: 23}، وبهذا يكون الإسلام قد سبق المدنية الحديثة وخبراء علم النفس والأطباء النفسيين في تقرير قاعدة رئيسة ومهمة جداً ألا وهي أن على الإنسان العاقل أن يعيش في واقع يومه إذ الأمس قد ولى، وتؤخذ منه العظة والعبرة فلا يمكن إرجاعه أو تغيير ما حدث فيه، وقد شاء الله عز وجل ما كان، وأما الغد فهو أيضاً بيد الله تعالى، ويمكن للإنسان أن يفكر فيه ولكن عليه ألا يحمل له هماً.. يقول الله عز وجل في كتابه العزيز: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا 23 إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى" أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا 24 {الكهف: 23، 24}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله { أنه قال: "قال سليمان ابن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له - وفي رواية: قال له الملك: قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله { - والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين"(7).
ويأتي علماء النفس بعد أربعة عشر قرناً من الزمان فينادون بما نادى به القرآن الكريم وما دعت إليه السنة النبوية المطهرة من ضرورة وضع الدين موضع الاعتبار، والاعتماد عليه كدستور أمثل ومنهج حياة لعلاج الأمراض الاجتماعية والنفسية وعلى رأسها القلق القاتل، وقد نادى بذلك كثير من علماء الغرب المنصفين كعالم النفس الشهير "وليم جيمس" أستاذ الفلسفة في جامعة "هارفارد" فيقول: "إن أعظم علاج للقلق ولا شك هو الإيمان.. فالرجل المتدين حقاً عصي على القلق محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف" ويقول الطبيب النفسي "و. يونج" عن ضرورة الإيمان لمرضى القلق و الاضطرابات النفسية: "وإنه لم يتم شفاء أحد منهم حقيقة إلا بعد أن استعاد نظرته الدينية للحياة"(8).
التقوى زاد المؤمن:
إن الإسلام يبث الإيمان في قلوب المؤمنين دائماً وأبداً يزدادون هدى وتقوى وطمأنينة، وما فرضه الله عز وجل عليهم من عبادات تؤهلهم للعيش الآمن في راحة وسعادة واتزان نفسي، وجعل الله عز وجل حدوده سياجاً منيعاً يحمي عباده المؤمنين من الانزلاق في الفواحش والمفاسد ومواطن الفتن، وينأى بهم إسلامهم عن مكائد الشيطان؛ لأنهم يعيشون على الأرض أطهاراً طيبين لا يخافون شيئاً ولا يقلقون من شيء لأن زادهم التقوى، يقول الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"197 {البقرة: 197}، وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2ويرزقه من حيث لا يحتسب {الطلاق: 2-3}، وقال الله تعالى مطمئناً الصالحين من عباده: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما 112 {طه: 112}، وقد حض الله عز وجل المسلمين على التحلي بالصبر على ما يصيبهم من مكاره، لأن الصبر هو عدة المؤمن وفيه خير كثير، يقول الله تبارك وتعالى: لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون 96 {النحل: 96} والصبر كما قال الحسن: "كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله عز وجل إلا لعبد كريم عنده"..
وقد أوصى علماء النفس بالرضا والتسليم بالواقع، إذا إنه ليس هناك في الدنيا شر محض.. ولا خير محض.. والله وحده الذي يعلم الغيب وعواقب الأمور من خير وشر، يقول الله عز وجل: وعسى" أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى" أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون 216 {البقرة: 216} فقد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خير ولا مصلحة، وقد يكره أشياء وفي كثير منها خير ومنافع، ولا ينبغي له التشاؤم فيتقوقع في هذا الإطار حتى ينتهي به ذلك إلى الاكتئاب ثم يصل إلى مرحلة متأخرة يتمنى فيها الموت أو يلجأ إلى الانتحار ليتخلص مما يعانيه، وقد نهى الإسلام عن هذا وذاك.. نهى عن التشاؤم فقال رسول الله {: "لا عدوى، ولا طيرة"(9) كما نهى { عن تمني الموت فقال: "لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً للموت؛ فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"(10).
فبالتقوى والصبر والرضا بما قسم الله تعالى وما قدر، وبالاطمئنان، واليقين بأنه عز وجل وحده الذي بيده الرزق، والضر والنفع، والحياة والموت يحيا المؤمن حياة سعيدة آمنة، وينعم بالأمن النفسي والاستقرار.. يقول الله تعالى: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا4 {الفتح: 4} وقال تعالى: ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون 30 {الروم: 30}.
الهوامش:
1- رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- ابن كثير- تفسير القرآن العظيم - ج(5)، ص: (239).
3- المرجع السابق- ج(4)، ص: (212).
4- العرض: هو المال.
5- متفق عليه.
6- رواه مسلم.
7- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3424)، ومسلم في الإيمان (1654).
8- ممدوح الطنطاوي (كاتب المقال)- الإسلام في عصر القلق؛ مجلة الثقافية (لندن) - العدد (13)، ص: (57) (ذو الحجة 1416ه - مايو 1996م).
9- متفق عليه.
10- أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم.