
إمامة الفاسق
د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
[email protected]
في قضية محورية كقضيتنا هذه: قضية إمامة الفاسق، حيث كثر الكلام في زمننا هذا حولها وحول الإسلام ومدى صلاحيته للتطبيق على واقع أمتنا المعاصرة بين مؤيد ومتشرط ومعارض؛ نجد الإسلام لا يحيلنا في ذلك إلى نصوص صماء تصطدم بالعقل، ولا تلبي مصالح الواقع الذي نعيش فيه؛ بل يجعل الأمر كعادته يدور مع العقل والمصلحة؛ حتى أنا نجده قد يرجح تقليد الفاسق الإمارة: ما لم نجد ذا كفاية غيره، وأمنا منه على أنفسنا وأموالنا، ووجدنا منه حرصًا على مصالح الأمة.
وها هي بعض أقوال علمائنا في ذلك والتي تثير الدهشة والعجب والإعجاب بهذا الدين العظيم:
يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: الفسق على ضربين: أحدهما ما تابع فيه الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة؛ فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات، وإقدامه على المنكرات؛ تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها .... وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض، فيتأول لها خلاف الحق؛ فقد اختلف العلماء فيه، فذهب فريق منهم إلى أنه يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها؛ وقال كثير من علماء البصرة: إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج منها.
أما الجويني، وابن تيمية، وأحمد، فيجوزون عقد الإمامة حتى للفاسق بالمعنى الأول، بالشروط التي ذكرناها آنفًا.
يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه: "غياث الأمم في التياث الظلم": "ولو فرض فاسق يشرب الخمر، أو غيره من الموبقات، وكنا نراه حريصًا مع ما يخامره من الزلات، وضروب المخالفات، على الذب عن حوزة الإسلام، مشمرًا في الدين لانتصاب أسباب الصلاح العام العائد إلى الإسلام، وكان ذا كفاية، ولم نجد غيره، فالظاهر عندي نصبه، مع القيام بتقويم أوده، على أقصى الإمكان".
ويقول ابن تيمية في كتابه: "السياسة الشرعية" وكذا في كتابه: "منهاج السنة" : "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ...... فإذا تعين رجلان: أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررًا فيها؛ فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا .... [ وقد ] سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف؛ مع أيهما يغزى ؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يغزى مع القوي الفاجر".
ويستدل ابن تيمية على صحة ذلك المنهج بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – :"إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" . . رواه البخاري ومسلم . . وفي رواية : "بأقوام لا خلاق لهم". . رواه النسائي وأحمد . .
ويستدل على ذلك كذلك بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم‘ بل وقال فيه: "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد وسيف من سيوف الله سله الله عز وجل على الكفار والمنافقين" . . رواه أحمد . . مع أنه كان يعمل أحيانًا ما قد ينكره النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ حتى إنه قد رفع يديه إلى السماء مرة وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" رواه البخاري والنسائي وأحمد لما أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة؛ ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وعلى نفس هذا النهج سار الصديق – رضي الله عنه – فلم يزل يستعمل خالدًا في حروب الردة وفي فتوح العراق والشام رغم ما كان يصدر عنه من هفوات، واكتفى بعتبه عليها، ولم يعزله؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
وعلى الرغم من أن أبا ذر – رضي الله عنه – كان من أصلح الصحابة في الأمانة والصدق حتى قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم-: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" . . رواه الترمذي وأحمد . .ومع هذا فقد قال له النبي – صلى الله على وسلم - :"يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم" . . رواه مسلم . .
وهكذا يتبدى لنا أن موقف الإسلام من هذه القضية كعادته هو موقف يتفق مع العقل وطبائع الأمور، ولا يؤدي إلا إلى أفضل النتائج بأقل الخسائر.
-------------------------------------------------
عنوان المراسلات:المملكة العربية السعودية - المدينة المنورة – جامعة طيبة – كلية المجتمع – ص.ب: (2898)
ت: 0508628894
د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
[email protected]
في قضية محورية كقضيتنا هذه: قضية إمامة الفاسق، حيث كثر الكلام في زمننا هذا حولها وحول الإسلام ومدى صلاحيته للتطبيق على واقع أمتنا المعاصرة بين مؤيد ومتشرط ومعارض؛ نجد الإسلام لا يحيلنا في ذلك إلى نصوص صماء تصطدم بالعقل، ولا تلبي مصالح الواقع الذي نعيش فيه؛ بل يجعل الأمر كعادته يدور مع العقل والمصلحة؛ حتى أنا نجده قد يرجح تقليد الفاسق الإمارة: ما لم نجد ذا كفاية غيره، وأمنا منه على أنفسنا وأموالنا، ووجدنا منه حرصًا على مصالح الأمة.
وها هي بعض أقوال علمائنا في ذلك والتي تثير الدهشة والعجب والإعجاب بهذا الدين العظيم:
يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: الفسق على ضربين: أحدهما ما تابع فيه الشهوة، والثاني ما تعلق فيه بشبهة؛ فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات، وإقدامه على المنكرات؛ تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها .... وأما الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض، فيتأول لها خلاف الحق؛ فقد اختلف العلماء فيه، فذهب فريق منهم إلى أنه يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها؛ وقال كثير من علماء البصرة: إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج منها.
أما الجويني، وابن تيمية، وأحمد، فيجوزون عقد الإمامة حتى للفاسق بالمعنى الأول، بالشروط التي ذكرناها آنفًا.
يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه: "غياث الأمم في التياث الظلم": "ولو فرض فاسق يشرب الخمر، أو غيره من الموبقات، وكنا نراه حريصًا مع ما يخامره من الزلات، وضروب المخالفات، على الذب عن حوزة الإسلام، مشمرًا في الدين لانتصاب أسباب الصلاح العام العائد إلى الإسلام، وكان ذا كفاية، ولم نجد غيره، فالظاهر عندي نصبه، مع القيام بتقويم أوده، على أقصى الإمكان".
ويقول ابن تيمية في كتابه: "السياسة الشرعية" وكذا في كتابه: "منهاج السنة" : "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ...... فإذا تعين رجلان: أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررًا فيها؛ فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينًا .... [ وقد ] سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف؛ مع أيهما يغزى ؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يغزى مع القوي الفاجر".
ويستدل ابن تيمية على صحة ذلك المنهج بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – :"إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" . . رواه البخاري ومسلم . . وفي رواية : "بأقوام لا خلاق لهم". . رواه النسائي وأحمد . .
ويستدل على ذلك كذلك بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم‘ بل وقال فيه: "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد وسيف من سيوف الله سله الله عز وجل على الكفار والمنافقين" . . رواه أحمد . . مع أنه كان يعمل أحيانًا ما قد ينكره النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ حتى إنه قد رفع يديه إلى السماء مرة وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" رواه البخاري والنسائي وأحمد لما أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة؛ ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وعلى نفس هذا النهج سار الصديق – رضي الله عنه – فلم يزل يستعمل خالدًا في حروب الردة وفي فتوح العراق والشام رغم ما كان يصدر عنه من هفوات، واكتفى بعتبه عليها، ولم يعزله؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
وعلى الرغم من أن أبا ذر – رضي الله عنه – كان من أصلح الصحابة في الأمانة والصدق حتى قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم-: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" . . رواه الترمذي وأحمد . .ومع هذا فقد قال له النبي – صلى الله على وسلم - :"يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم" . . رواه مسلم . .
وهكذا يتبدى لنا أن موقف الإسلام من هذه القضية كعادته هو موقف يتفق مع العقل وطبائع الأمور، ولا يؤدي إلا إلى أفضل النتائج بأقل الخسائر.
-------------------------------------------------
عنوان المراسلات:المملكة العربية السعودية - المدينة المنورة – جامعة طيبة – كلية المجتمع – ص.ب: (2898)
ت: 0508628894