الجعفري وزلماي زاد.. من يطرد من؟
هارون محمد
في اجتماع في القصر المخصص لجلال طالباني في حي الجادرية، الملحق بالمنطقة الخضراء في بغداد، الاربعاء الماضي، شارك فيه ممثلو الكتل والاحزاب إضافة الي السفير الامريكي زلماي خليل زاد، الذي ما ان جلس في مكانه وانهي رد السلام والتحيات التي انهالت عليه من المجتمعين حتي تطلع نحو طالباني وابتسامة صفراء زرقاء بدت علي وجهه وقال له بعربية تطغي عليها اللهجة اللبنانية التي تعلمها خلال سنوات دراسته في الجامعة الامريكية ببيروت اوائل السبعينات، مام جلال.. شو سمعت آخر نكتة (فريش) في العراق؟
وفوجئ طالباني واعتقد انه المستهدف بالنكتة بعد ان تزايدت عليه النكات وصارت أحاديث الناس يتداولونها بكثرة عنه، حتي انه شخصياً اعترف بها في لقاء تلفزيوني وردد واحدة منها، وقال لزلماي ضاحكاً، سعادة السفير اذا كانت علي او علي الكرد.. ارجوك قلها بيني وبينك حتي لا يستثمرها الاخرون غامزاً من الحاضرين من مندوبي الائتلاف الشيعي والتوافق والحوار الوطني الذين كانوا في صالة الاجتماع.. فرد زلماي: لا لا.. انها لا تعنيك، بل سمعتها في نشرات الاخبار وتناقلتها بعض وسائل الاعلام والتلفزة خلال الايام القليلة الماضية التي اعقبت حادثة مبني (المصطفي) هكذا لفظها وليس حسينية، تقول النكتة ان بعض قادة الائتلاف من حزب الدعوة وجماعة الصدر (لم يورد اسم المجلس الاعلي) طلبوا من ابراهيم الجعفري باعتباره رئيس الحكومة ان يطردني من العراق!
وساد صمت في صالة الاجتماع قطعه احد مساعدي زلماي المستشار روبرت فورد وهو يتحدث بعربية متكسرة الحروف والمخارج، يبدو ان (الاكوان) ويعني الاخوان لم يفهموا النكتة، بدليل انهم لم يضحكوا رغم انها (تموت) من الضحك!
عندها استفاق الحاضرون من لامبالاتهم وفهموا مغزي النكتة وما تحمله من معني، فارتسمت ابتسامات شامتة علي وجوه جلال وجماعته واخري هازئة علي وجوه التوافقيين وحلفائهم، في الوقت الذي طأطأ اعضاء وفد الائتلاف الشيعي رؤوسهم، وكان من بينهم همام حمودي وحسين شهرستاني وجواد مالكي وغيرهم، وهم في أشد حالات الجزع.
ولم يكتف زلماي بسخريته من الائتلافيين بل مضي في كلامه التهكمي وتحول الي اكثر حدة عندما قال: نحن اصحاب فضل عليكم جميعكم باستثناء جماعة التوافق والحوار الوطني، هذه حقيقة يعرفها الجميع ولا يستطيع احد منكم ان يهرب منها وبالتالي من يحاول التطاول علينا او المساس بنا بكلام سخيف سنضربه علي فمه (ملوحاً بقبضة يده) وسنضطر الي تأديبه، ونطرده الي حيث كان يقيم ويعيش قبل ان يأتي الي العراق.
وتدخل جلال طالباني محاولاً التخفيف من وطأة التوتر الذي خيم علي الاجتماع وقال: يا عزيزي زلماي نحن (ممنونين) منكم ولكم، فانتم اكثر من اصدقاء لنا، خصوصاً نحن الكرد واخواننا الشيعة، لقد اخطأ بعض الاخوان بحقكم فعلاً (مشيراً الي جماعة الائتلاف) واطلقوا تصريحات غير مسؤولة ضدكم، وهم علي استعداد للاعتذار من سعادتكم، فقاطعه السفير الامريكي لا اريد اعتذاراً ولكني سأعرف كيف أرد عليهم مستقبلاً اذا كرروا فعلتهم مرة اخري، واعيدهم الي صوابهم وأعرفهم من يستطيع طرد الاخر من العراق، نحن الذين جئنا بهم وفتحنا لهم ابواب الدخول والعمل والحرية والمناصب، ووفرنا لهم حمايتنا التي لو رفعناها عنهم الان لن يبقي واحد منهم ساعة في العراق، فليحترموا انفسهم وإلا.. ثم التفت الي طالباني وقال له انا خارج من الاجتماع لالتزام خاص بي، ويبقي المستر فورد معكم واصلوا اجتماعاتكم.
هل يحتاج كلام السفير زاد الي تعليق؟ أبداً، فهو في هذه الناحية صادق تماماً ولا يقدر احد علي مجادلته والنقاش معه، ثم ان وهذه حقيقة اخري، السفراء الامريكيين ابتداء من الجنرال جي غارنر مروراً ببول بريمر ونكروبونتي وانتهاء بزلماي خليل زاد، هم أصحاب القرار حتي هذه اللحظة، لذلك نراهم يتصرفون كحكام وليس كسفراء او دبلوماسيين، ونقل لي زميلنا حسن العلوي انه رافق الصحافي والاذاعي الامريكي بوب برايلي مدير اذاعة (صوت امريكا) الاسبق من الكويت الي بغداد بعد تعيين بريمر حاكماً مدنياً للعراق بثلاثة ايام، وعندما توجه الاثنان الي القصر الجمهوري مقر بريمر لاحظ العلوي ان عشرات من قادة الاحزاب والجماعات السياسية يقفون في المدخل المؤدي الي مكتب بريمر وهم يتصببون عرقاً من شدة الحر لان التيار الكهربائي كان مقطوعاً عن القصر ويقول انه سأل بعضهم، ماذا تفعلون.. ولماذا انتم تقفون هنا؟ رد واحد منهم بهمس، سيخرج المستر بريمر من مكتبه، وفهم الصحافي الامريكي ابعاد هذا الموقف المتخاذل وقال للعلوي مشيراً الي الواقفين في الطابور والمتأهبين لاداء التحية علي بريمر عند خروجه الميمون ومروره أمامهم، هؤلاء سيحكمون العراق مبروك عليكم.. دعنا نغادر المكان. ويضيف العلوي، انه ابلغ برايلي وهما يخرجان من باحة القصر، لقد جئت الي هذ المكان عشرات المرات في السابق عندما كان المرحوم احمد حسن البكر رئيساً للجمهورية فلم اجد مرة واحدة هذه الاستعداد العالي والحذر المبالغ فيه من قبل حاشية القصر من موظفين ومرافقين وجنود حراسة، وضحك برايلي وتمتم بكلمات فهم العلوي منها، ان بريمر سييء ولكن من يحتفي به بهذه الطريقة أسوأ منه.
وما دمنا في حديث السفراء والقصر الجمهوري، لا بد من ايراد حكاية ذلك السفير الايراني واسمه ميرزا زادة ـ لاحظوا اسمه ـ الذي جاء الي بغداد مطلع عام 1964 سفيراً للشاه، وحدد له موعد لتقديم اوراق اعتماده الي الرئيس عبدالسلام عارف، وذهب الي القصر حيث كان الرئيس في استقباله وعلي يمينه السيد صبحي عبدالحميد وزير الخارجية يومذاك والمرحوم عبدالجبار الهداوي مدير المراسم والتشريفات في القصر عهذاك، وعندما بدأ السفير يتلو كتاب اعتماده والمترجم يردد وراءه لاحظ الرئيس ووزير خارجيته ان السفير انهي قراءة كتاب الاعتماد واغلقه وراح يرتجل بعض العبارات ومنها ان بلاده تعتبر البحرين جزءا منها وان تسمية الخليج الفارسي يجب ان تسود في المخاطبات الرسمية بين الدول العربية وايران، فانتفض المرحوم عبدالسلام وتوجه بنظره نحو المترجم وقال له ترجم بالحرف ما سأقوله لهذا العجمي (أسمع يا زاده.. لا انت ولا شاهك الجاسوس الوضيع يسلب البحرين عروبتها، وسيبقي الخليج عربياً غصباً عليكم وعلي من يحميكم، ووالله لولا مكارم الاخلاق والضيافة التي نعتز بها، ولولا انك اجنبي لما جعلتك تخرج من هذا المكان علي رجليك. وصعق السفير وتخاذل وكاد ان يغمي عليه من شدة الخوف وهو يسمع كلام الرئيس الشجاع، وارتبك وبدأ يتوسل بانه لا يقصد الاساءة، ولكن الرئيس عبدالسلام حسم امره وقال له لن تبقي في العراق ليلة واحدة وابلغ هذا الذي يسمونه الشاه والله سيقطع العرب في العراق وغير العراق يده اذا اعتدي علي البحـــرين او الخليج.
وتمعنوا مليا في الموقف البطولي للرئيس عبدالسلام عارف وهو يطرد سفير دولة كان امبراطورها البهلوي معتمداً أول لامريكا في المنطقة، وبين موقف ممن يسمون قادة ورؤساء ووزراء وزعماء يفرض عليهم زلماي رأيه، وهم صاغرون وقابلون وموافقون.
الحكاية الثانية ننقلها عن صحافيين امريكيين رافقوا الوزيرة كوندوليزا رايس في زيارتها الاخيرة لبغداد، فوجئوا يسمعونها تقول لعضو المكتب السياسي للمجلس الاعلي للثورة الأسلامية عادل عبدالمهدي وهو يسلم عليها ويرحب بها (أن رؤيتك أمر يبعث علي السرور)!
وبالتأكيد فان الوزيرة السمراء لم تستفزها سمات عادل الجمالية، فلماذا هذه اللفتة المتميزة؟ انها ببساطة رسالة موجهة الي غريم عبدالمهدي ومنافسه الشيعي علي رئاسة الحكومة ابراهيم الجعفري، وكأنها تقول له.. ولا يهمك خسارتك امام الجعفري نحن معك. واستناداً الي انباء ومعلومات رشحت عن اللقاءات التي اجرتها رايس ونظيرها البريطاني سترو مع الاطراف والكتل السياسية في العراق، فان واشنطن ولندن ابلغتا المعنيين بمن فيهم الجعفري نفسه بان الادارة الامريكية والحكومة البريطانية ارتكبتا اخطاء كثيرة في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية، اعترفت بها الوزيرة الامريكية خلال زيارتها لبريطانيا في الاسبوع الماضي دون الخوض في تفاصيلها، ولكن بعض هذه التفاصيل قالتها كوندوليزا خلال اجتماعاتها في بغداد، ومنها انها ابلغت ممثلي السنة العرب ـ هكذا قدموا لها ـ خلال لقائهم بها ان الرئيس الامريكي واركان الادارة في واشنطن يقرون باخطائهم التي وقعت في العراق خلال المرحلة السابقة، وسمعتم اعترافاتي بذلك، ورد عليها احد الحاضرين ولكن ما نفع الاعتراف ما دامت الاخطاء ذاتها قائمة، فحاولت الوزيرة كعادة المسؤولين الامريكان التهرب من السؤال وقالت: لنترك الماضي خلفنا ونبدأ من جديد، لقد تعلمنا دروساً وتجارب هائلة خلال السنوات الثلاث المنصرمة، وتحدثت عن رؤية جديدة فيها الكثير من التفاصيل علي حد قولها، لم يفصح عنها المجتمعون معها لاعتبارات قالوا انها حساسة وتمس بعض الاطراف الشيعية تحديداً ولا يريدون ان يكونوا طرفاً فيها.
ولكن الشيء الذي بات معروفاً ان كوندوليزا رايس وسترو حددا ثلاثة ايام تنتهي يوم الخميس المقبل مهلة للجعفري اما ان يقنع المختلفين معه وتعقد الجمعية الوطنية اجتماعاً لها في الاسبوع القادم لانتخاب هيئتي رئاستي الجمهورية والجمعية تمهيداً لتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، او ينسحب الجعفري ويترك للائتلاف حرية ترشيح شخص آخر.
وواضح ان هذه المهلة ستجعل الجعفري بين أمرين احلاهما مر بالنسبة له، فاما ان يتنازل للتحالف الكردي والتوافق السنية ويخضع لهما، وهذا ما يجعله هدفاً لقذائف من اطراف في الائتلاف، ستتهمه بالتخلي عن (مظلومية) الشيعة المزعومة والانخراط في معسكر اعدائهم كما يسمون، او يتنازل لمنافسيه في الائتلاف وخصوصاً للمجلس الاعلي والفضيلة والمستقلين، وبذلك يواجه خسارتين، الاولي في الجمعية الوطنية حيث لن ينجح في تمرير حكومته ولن يقدر علي جمع 140 نائباً لتزكيتها وسط اعتراضات التحالف الكردي وجبهتي التوافق والحوار والوطني، والخسارة الثانية ان التيار الصدري سيتخلي عنه اذا وجده يغازل عبدالعزيز وشهرستاني وجماعة الفضيلة، وهذا التيار كما اثبتت الاحداث يدفع بالجعفري الي الصدام مع منافسيه في الائتلاف ومعارضيه في التحالف الكردي والتوافق. وعلي هذا الاساس فان الايام القليلة المقبلة ستحمل احداثاً باتت معروفة مسبقاً، وستظهر نتائج زيارة رايس وسترو لبغداد وما رسماه مع المستر زلماي هناك.
هارون محمد
في اجتماع في القصر المخصص لجلال طالباني في حي الجادرية، الملحق بالمنطقة الخضراء في بغداد، الاربعاء الماضي، شارك فيه ممثلو الكتل والاحزاب إضافة الي السفير الامريكي زلماي خليل زاد، الذي ما ان جلس في مكانه وانهي رد السلام والتحيات التي انهالت عليه من المجتمعين حتي تطلع نحو طالباني وابتسامة صفراء زرقاء بدت علي وجهه وقال له بعربية تطغي عليها اللهجة اللبنانية التي تعلمها خلال سنوات دراسته في الجامعة الامريكية ببيروت اوائل السبعينات، مام جلال.. شو سمعت آخر نكتة (فريش) في العراق؟
وفوجئ طالباني واعتقد انه المستهدف بالنكتة بعد ان تزايدت عليه النكات وصارت أحاديث الناس يتداولونها بكثرة عنه، حتي انه شخصياً اعترف بها في لقاء تلفزيوني وردد واحدة منها، وقال لزلماي ضاحكاً، سعادة السفير اذا كانت علي او علي الكرد.. ارجوك قلها بيني وبينك حتي لا يستثمرها الاخرون غامزاً من الحاضرين من مندوبي الائتلاف الشيعي والتوافق والحوار الوطني الذين كانوا في صالة الاجتماع.. فرد زلماي: لا لا.. انها لا تعنيك، بل سمعتها في نشرات الاخبار وتناقلتها بعض وسائل الاعلام والتلفزة خلال الايام القليلة الماضية التي اعقبت حادثة مبني (المصطفي) هكذا لفظها وليس حسينية، تقول النكتة ان بعض قادة الائتلاف من حزب الدعوة وجماعة الصدر (لم يورد اسم المجلس الاعلي) طلبوا من ابراهيم الجعفري باعتباره رئيس الحكومة ان يطردني من العراق!
وساد صمت في صالة الاجتماع قطعه احد مساعدي زلماي المستشار روبرت فورد وهو يتحدث بعربية متكسرة الحروف والمخارج، يبدو ان (الاكوان) ويعني الاخوان لم يفهموا النكتة، بدليل انهم لم يضحكوا رغم انها (تموت) من الضحك!
عندها استفاق الحاضرون من لامبالاتهم وفهموا مغزي النكتة وما تحمله من معني، فارتسمت ابتسامات شامتة علي وجوه جلال وجماعته واخري هازئة علي وجوه التوافقيين وحلفائهم، في الوقت الذي طأطأ اعضاء وفد الائتلاف الشيعي رؤوسهم، وكان من بينهم همام حمودي وحسين شهرستاني وجواد مالكي وغيرهم، وهم في أشد حالات الجزع.
ولم يكتف زلماي بسخريته من الائتلافيين بل مضي في كلامه التهكمي وتحول الي اكثر حدة عندما قال: نحن اصحاب فضل عليكم جميعكم باستثناء جماعة التوافق والحوار الوطني، هذه حقيقة يعرفها الجميع ولا يستطيع احد منكم ان يهرب منها وبالتالي من يحاول التطاول علينا او المساس بنا بكلام سخيف سنضربه علي فمه (ملوحاً بقبضة يده) وسنضطر الي تأديبه، ونطرده الي حيث كان يقيم ويعيش قبل ان يأتي الي العراق.
وتدخل جلال طالباني محاولاً التخفيف من وطأة التوتر الذي خيم علي الاجتماع وقال: يا عزيزي زلماي نحن (ممنونين) منكم ولكم، فانتم اكثر من اصدقاء لنا، خصوصاً نحن الكرد واخواننا الشيعة، لقد اخطأ بعض الاخوان بحقكم فعلاً (مشيراً الي جماعة الائتلاف) واطلقوا تصريحات غير مسؤولة ضدكم، وهم علي استعداد للاعتذار من سعادتكم، فقاطعه السفير الامريكي لا اريد اعتذاراً ولكني سأعرف كيف أرد عليهم مستقبلاً اذا كرروا فعلتهم مرة اخري، واعيدهم الي صوابهم وأعرفهم من يستطيع طرد الاخر من العراق، نحن الذين جئنا بهم وفتحنا لهم ابواب الدخول والعمل والحرية والمناصب، ووفرنا لهم حمايتنا التي لو رفعناها عنهم الان لن يبقي واحد منهم ساعة في العراق، فليحترموا انفسهم وإلا.. ثم التفت الي طالباني وقال له انا خارج من الاجتماع لالتزام خاص بي، ويبقي المستر فورد معكم واصلوا اجتماعاتكم.
هل يحتاج كلام السفير زاد الي تعليق؟ أبداً، فهو في هذه الناحية صادق تماماً ولا يقدر احد علي مجادلته والنقاش معه، ثم ان وهذه حقيقة اخري، السفراء الامريكيين ابتداء من الجنرال جي غارنر مروراً ببول بريمر ونكروبونتي وانتهاء بزلماي خليل زاد، هم أصحاب القرار حتي هذه اللحظة، لذلك نراهم يتصرفون كحكام وليس كسفراء او دبلوماسيين، ونقل لي زميلنا حسن العلوي انه رافق الصحافي والاذاعي الامريكي بوب برايلي مدير اذاعة (صوت امريكا) الاسبق من الكويت الي بغداد بعد تعيين بريمر حاكماً مدنياً للعراق بثلاثة ايام، وعندما توجه الاثنان الي القصر الجمهوري مقر بريمر لاحظ العلوي ان عشرات من قادة الاحزاب والجماعات السياسية يقفون في المدخل المؤدي الي مكتب بريمر وهم يتصببون عرقاً من شدة الحر لان التيار الكهربائي كان مقطوعاً عن القصر ويقول انه سأل بعضهم، ماذا تفعلون.. ولماذا انتم تقفون هنا؟ رد واحد منهم بهمس، سيخرج المستر بريمر من مكتبه، وفهم الصحافي الامريكي ابعاد هذا الموقف المتخاذل وقال للعلوي مشيراً الي الواقفين في الطابور والمتأهبين لاداء التحية علي بريمر عند خروجه الميمون ومروره أمامهم، هؤلاء سيحكمون العراق مبروك عليكم.. دعنا نغادر المكان. ويضيف العلوي، انه ابلغ برايلي وهما يخرجان من باحة القصر، لقد جئت الي هذ المكان عشرات المرات في السابق عندما كان المرحوم احمد حسن البكر رئيساً للجمهورية فلم اجد مرة واحدة هذه الاستعداد العالي والحذر المبالغ فيه من قبل حاشية القصر من موظفين ومرافقين وجنود حراسة، وضحك برايلي وتمتم بكلمات فهم العلوي منها، ان بريمر سييء ولكن من يحتفي به بهذه الطريقة أسوأ منه.
وما دمنا في حديث السفراء والقصر الجمهوري، لا بد من ايراد حكاية ذلك السفير الايراني واسمه ميرزا زادة ـ لاحظوا اسمه ـ الذي جاء الي بغداد مطلع عام 1964 سفيراً للشاه، وحدد له موعد لتقديم اوراق اعتماده الي الرئيس عبدالسلام عارف، وذهب الي القصر حيث كان الرئيس في استقباله وعلي يمينه السيد صبحي عبدالحميد وزير الخارجية يومذاك والمرحوم عبدالجبار الهداوي مدير المراسم والتشريفات في القصر عهذاك، وعندما بدأ السفير يتلو كتاب اعتماده والمترجم يردد وراءه لاحظ الرئيس ووزير خارجيته ان السفير انهي قراءة كتاب الاعتماد واغلقه وراح يرتجل بعض العبارات ومنها ان بلاده تعتبر البحرين جزءا منها وان تسمية الخليج الفارسي يجب ان تسود في المخاطبات الرسمية بين الدول العربية وايران، فانتفض المرحوم عبدالسلام وتوجه بنظره نحو المترجم وقال له ترجم بالحرف ما سأقوله لهذا العجمي (أسمع يا زاده.. لا انت ولا شاهك الجاسوس الوضيع يسلب البحرين عروبتها، وسيبقي الخليج عربياً غصباً عليكم وعلي من يحميكم، ووالله لولا مكارم الاخلاق والضيافة التي نعتز بها، ولولا انك اجنبي لما جعلتك تخرج من هذا المكان علي رجليك. وصعق السفير وتخاذل وكاد ان يغمي عليه من شدة الخوف وهو يسمع كلام الرئيس الشجاع، وارتبك وبدأ يتوسل بانه لا يقصد الاساءة، ولكن الرئيس عبدالسلام حسم امره وقال له لن تبقي في العراق ليلة واحدة وابلغ هذا الذي يسمونه الشاه والله سيقطع العرب في العراق وغير العراق يده اذا اعتدي علي البحـــرين او الخليج.
وتمعنوا مليا في الموقف البطولي للرئيس عبدالسلام عارف وهو يطرد سفير دولة كان امبراطورها البهلوي معتمداً أول لامريكا في المنطقة، وبين موقف ممن يسمون قادة ورؤساء ووزراء وزعماء يفرض عليهم زلماي رأيه، وهم صاغرون وقابلون وموافقون.
الحكاية الثانية ننقلها عن صحافيين امريكيين رافقوا الوزيرة كوندوليزا رايس في زيارتها الاخيرة لبغداد، فوجئوا يسمعونها تقول لعضو المكتب السياسي للمجلس الاعلي للثورة الأسلامية عادل عبدالمهدي وهو يسلم عليها ويرحب بها (أن رؤيتك أمر يبعث علي السرور)!
وبالتأكيد فان الوزيرة السمراء لم تستفزها سمات عادل الجمالية، فلماذا هذه اللفتة المتميزة؟ انها ببساطة رسالة موجهة الي غريم عبدالمهدي ومنافسه الشيعي علي رئاسة الحكومة ابراهيم الجعفري، وكأنها تقول له.. ولا يهمك خسارتك امام الجعفري نحن معك. واستناداً الي انباء ومعلومات رشحت عن اللقاءات التي اجرتها رايس ونظيرها البريطاني سترو مع الاطراف والكتل السياسية في العراق، فان واشنطن ولندن ابلغتا المعنيين بمن فيهم الجعفري نفسه بان الادارة الامريكية والحكومة البريطانية ارتكبتا اخطاء كثيرة في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية، اعترفت بها الوزيرة الامريكية خلال زيارتها لبريطانيا في الاسبوع الماضي دون الخوض في تفاصيلها، ولكن بعض هذه التفاصيل قالتها كوندوليزا خلال اجتماعاتها في بغداد، ومنها انها ابلغت ممثلي السنة العرب ـ هكذا قدموا لها ـ خلال لقائهم بها ان الرئيس الامريكي واركان الادارة في واشنطن يقرون باخطائهم التي وقعت في العراق خلال المرحلة السابقة، وسمعتم اعترافاتي بذلك، ورد عليها احد الحاضرين ولكن ما نفع الاعتراف ما دامت الاخطاء ذاتها قائمة، فحاولت الوزيرة كعادة المسؤولين الامريكان التهرب من السؤال وقالت: لنترك الماضي خلفنا ونبدأ من جديد، لقد تعلمنا دروساً وتجارب هائلة خلال السنوات الثلاث المنصرمة، وتحدثت عن رؤية جديدة فيها الكثير من التفاصيل علي حد قولها، لم يفصح عنها المجتمعون معها لاعتبارات قالوا انها حساسة وتمس بعض الاطراف الشيعية تحديداً ولا يريدون ان يكونوا طرفاً فيها.
ولكن الشيء الذي بات معروفاً ان كوندوليزا رايس وسترو حددا ثلاثة ايام تنتهي يوم الخميس المقبل مهلة للجعفري اما ان يقنع المختلفين معه وتعقد الجمعية الوطنية اجتماعاً لها في الاسبوع القادم لانتخاب هيئتي رئاستي الجمهورية والجمعية تمهيداً لتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، او ينسحب الجعفري ويترك للائتلاف حرية ترشيح شخص آخر.
وواضح ان هذه المهلة ستجعل الجعفري بين أمرين احلاهما مر بالنسبة له، فاما ان يتنازل للتحالف الكردي والتوافق السنية ويخضع لهما، وهذا ما يجعله هدفاً لقذائف من اطراف في الائتلاف، ستتهمه بالتخلي عن (مظلومية) الشيعة المزعومة والانخراط في معسكر اعدائهم كما يسمون، او يتنازل لمنافسيه في الائتلاف وخصوصاً للمجلس الاعلي والفضيلة والمستقلين، وبذلك يواجه خسارتين، الاولي في الجمعية الوطنية حيث لن ينجح في تمرير حكومته ولن يقدر علي جمع 140 نائباً لتزكيتها وسط اعتراضات التحالف الكردي وجبهتي التوافق والحوار والوطني، والخسارة الثانية ان التيار الصدري سيتخلي عنه اذا وجده يغازل عبدالعزيز وشهرستاني وجماعة الفضيلة، وهذا التيار كما اثبتت الاحداث يدفع بالجعفري الي الصدام مع منافسيه في الائتلاف ومعارضيه في التحالف الكردي والتوافق. وعلي هذا الاساس فان الايام القليلة المقبلة ستحمل احداثاً باتت معروفة مسبقاً، وستظهر نتائج زيارة رايس وسترو لبغداد وما رسماه مع المستر زلماي هناك.