حرية الصحافة في عالم السياسة (الصحافة العربية) .
===========
لا يقتصر تأثير حرية الصحافة على الآراء السياسية وحدها , بل يمتد إلى جميع آراء الناس ,فيعدل عاداتهم وقوانينهم . ولكن حرية الصحافة من حيث ما تمنعه عن الناس من شرور أكثر مما تكفله لهم من فوائد .
لم يستطع أحد أن يبين موقفا وسطا بين استقلال الرأي العام استقلالا تاما , وبين عبوديته الكاملة , ولكن الصعوبة هي الوصول إلى هذا الموقف الوسط . فئن كان ما نرمي إليه كبح استهتار الصحافة وإلزامها بضرورة مراعاة اللياقة في اللغة التي تستخدمها فما كان علينا إلا أن نحاكم المذنب أولا أمام القضاء .فاءن برأت ساحته أصبح رأي الفرد هنا رأي الشعب بأسره .
ومع أن إقامة القضية أمام المحكمة تصبح ألمبادىء نفسها التي لم يجرؤ أحد من الكتاب أن يعترف بها تعرض كلها سافرة في أثناء الدفاع دون خوف من عقاب وما كان يلمح إليه تلميحا مبهما في إصدار واحد صار يكرر في عدد كبير من المنشورات الصحفية .
ليست اللغة سوى التعبير الخارجي عن فكرة , ويمكن القول أنها لا تعدو أن تكون تجسيما للفكرة , ولكنها مع ذلك ليست الفكرة ذاتها .
وقد تصدر المحاكم أحكامها على الجسم , أما المعنى وروح الكاتب فأدق وألطف من أن تمسها سلطة المحاكم بسوء . لقد عملت إذن اكثر مما ينبغي ,فلا سبيل للنكوص , وأقل ما ينبغي لإدراك الغاية . فإذا كان سعينا إلا آن نتابع السير ونقرر فرض الرقابة على المطبوعات , ومع ذلك فلا ننسى أن الرأي السياسي والخطيب السياسي حرا ويقول ويسمع . وبذلك لا يكون غرضنا قد تحقق . لأننا لم نعمل شيئا كقائمين على الرقابة سوى أن زدنا الأمر سوءا على سوئه . فليس الفكر كالقوة المادية التي تنمو وتزداد بزيادة عدد عوالمها المؤثرة فيها . والكتاب لا يعدون كما تعد الجنود في الجيش , فكثيرا ما تزداد قوة الفكرة زيادة كبيرة بحسب قلة عدد الذين يعبرون عنها .
فعبارات شخص واحد راجح العقل , إذا ما وجهت إلى استثارة شهوات جماعة ألقت إليه أسماعها , كان لها من ألقوه اكثر مما يتشدق به ألف خطيب .
وإن سمح للناس أن يتكلموا بحرية في مكان واحد فالنتيجة واحدة كما لو سمح بحرية الكلام في جميع الأماكن .فيجب علينا أن نقضي على حرية الكلام إذن كما قضينا على حرية النشر والصحافة , وعندئذ لا نكون قد ألجمنا كل لسان وأجبرنا كل إنسان على التزام الصمت , ولكن غرضنا الذي نرمي إليه إنما كان أن نمنع سوء استخدام الحرية .
هذا , وليست الرقابة على الصحف خطيرة فحسب في البلاد التي يغلب عليها الأخذ بمبدأ الانتخابات الحرة . بل تكون سخيفة أيضا كل السخف . فعندما يكون حق كل مواطن في الاشتراك في انتخابات ممثليه آمرا معترفا به , يجب آن نفترض فيه القدرة على اختيار ما يحب اختيار من الآراء التي تشغل بال معاصريه , وان نفترض فيه أنه يستطيع أن يقدر الحقائق المختلفة التي يمكن أن تستنبط منها نتائج , حق مقدارها , فسعادة الشعب وحرية الصحافة ,يصح أن يعتبرا آمرين متطابقين كما آن الرقابة على الصحف وحق الانتخابات العام شيئان متضادين تضادا لا يرجى معه أي توفيق بينهما , ولا يمكن الاحتفاظ بهما في مؤسسات الشعب نفسه .
يرى كثيرون في بلداننا العربية أن عطش الصحافة للحرية فيها يرجع أصلا إلى عدم استقرار الأحوال والمناخ السياسي العام وكذلك الأحوال الاجتماعية كما يرجع إلى شهوات المواطن العربي للسياسة , وإلى ذلك الشعور العام بالقلق الذي يغلب على نفوس الناس إثر ذلك كله , حتى يخيل لهم أن الصحافة هي التي ستنقلهم إلى عالم المعرفة والتنوير وتساعدهم على الاستقرار المعلوماتي . ولهذه الأسباب هناك نفوذا كبيرا على لغة الصحافة والأساليب التي تصطنعها في التعبير . فللصحافة الدورية أهواء وميول خاصة بها ومستقلة عن الظروف التي تحيط بها والأحوال الحاضرة في بلدنا لتؤيد هذا الرأي .
ولعلى صحافتنا وبما أعطي لها من هامش للحرية , إذا قيل بأنها تعمل على الهدم , فإننا ننظر إليها بأنها اقل هدما وتدميرا من حيث مبادئها منها في بلدان الحريات الديمقراطية . ذلك إلى أنها عنيفة نفس العنف من غير ما يكون لديها ما عند صحافة البلدان الديموقراطية من الأسباب التي تثير الغضب من اجل الكرامة فهي في بلدنا , كما في بلدان الحريات الديموقراطية قوة عجيبة وخليط من الخير والشر , ومع ذلك لا تستطيع الحرية آن تحيا بدونها ولا شك في آن قوتها في البلدان الغربية اعظم منها بلدنا , ويرجع هذا إلى سبب بسيط كل البساطة , فالبلدان الغربية تسلم بمبدأ سيادة الشعب أي حرية الانتخابات وتطبيق هذا بكل إخلاص . فهم لم يقصدوا أبدا أن يخلقوا من عناصر تتغير كل يوم وتتبدل , مؤسسات تعيش إلى الأبد . ومن ثم فلا جريمة في مهاجمة القوانين الحاضرة , ما دام لا توجد أي نية لانتهاك حرمانها .
ولما كانت لطافة اللغة البشرية وأساليب التحليل فيها تيسران لها دائما أن تفلت من التحليل القانوني . فقد صارت الجرائم التي من هذا القبيل تفلت من أيدي كل من يحاول القبض عليها .
فهم يعتقدون أن التأثير الناجع في الصحافة يستوجب قيام محكمة للنظام القائم و وقادرة على التغلب على الرأي العام ,محكمة تستطيع أن تسير إجراءاتها قي غير ضجة أو إعلان . وتنطبق بأحكامها وقراراتها من غير ذكر لدوافعها التي أدت إلى النطق بتلك الأحكام .
وتعاقب الكاتب على نيته أكثر مما تعاقبه على لغته وألفاظه , فمن يستطيع إذا إيجاد محكمة من هذا القبيل ويعمل على صيانتها والمحافظة عليها كان قد ضيع وقته سدى في مقاضاة حرية الصحافة ذلك لأنه سيكون السيد المطلق في الجماعة كلها , وحرا في التخلص من , الكتاب , حريته في التخلص مما يكتبون , فليس في هذه المسألة إذن وسط بين العبودية وبين الاستهتار , فكي يستطيع المرء أن يستمتع بما تحققه حرية الصحافة من مزايا عظيمة بالغة القيمة و يجب عليه أن يرضى بما تخلقه من مساوئ محتومة . أما من يأمل أن يستمتع بالمزايا ويعفى من الشرور فقد يقع في وهم من تلك الأوهام التي تضلل الأمم عادة في أوقات مرضها عندما تحاول بعد أن عانت من المتاعب , أن تجعل الآراء المعادية والمبادئ المخالفة لمبادئها تعيش جنبا لجنب في أرض واحدة .
هذا ويعزى بعض التأثير لبعض الصحف في بلداننا العربية إلى عدة أسباب نذكر منها : أن حرية الكتابة والتعبير عن الرأي أصبحت ومنذ أحداث سبتمبر- "أيلول" في أمريكا ، ممكن غض الطرف عن بعضها في بعض الدول العربية ، وأصبحت مثل أية حرية أخرى تكون بالغة الأثر كلما كانت جديدة كل الجدة على شعب لم يعتد من قبل أن يستمع إلى شئون الدولة تناقش أمامه , ومن ثمة كانت ثقته بأول خطيب يتقدم للكلام . وزيادة على ذلك فالصحافة تستطيع أن تخلق في الناس شهوات جديدة , وتستطيع استثارة ما قد يكون موجودا منها فعلا .
فالحياة السياسية في بلداننا العربية لم تكن نشيطة ومنوعة بل كانت متهيجة داخل صدور المواطنين , ولكنها يندر أن تتأثر بتلك الشهوات التي لا تهيج إلا إذا كانت تتأثر بها تأثيرا سيئا .
فإذا القينا نظرة على وضع الصحف في معظم الدول العربية نرى بأن معظمها يملك برلمانا ولكنه في المعتاد لا يعبر عن تعارض جوهري مع سياسة الحكومة إذا كما قال أحد المحررين في إحدى الدول العربية " ليس هناك معارضة في الأمة وبالتالي فليس هناك معارضة في الصحافة " . والناس مؤمنون بأنهم ليسوا أحرارا في أن يقولوا ما يفكرون به علنا , وبالتالي فأن المحررين في الصحف بشكل عام ليسوا متلهفين على استخدام صحفهم لحرف أو حتى لاختبار هذا العرف السائد .
والحكومات العربية عبر أجهزة الدولة بالأساس مستبدة , يدعمها نخبة تؤيد الإصلاحات ولكنها بشكل عام كانت تفضل استمرار الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم آنذاك .والمسؤولين في الحكومة يشيرون إلى جهود القادة السياسيين غير الحكوميين وذلك لتقييد الصحافة أكثر كدليل على انعدام الاهتمام بصحافة اكثر حرية .
ويضع هذا المناخ من الرقابة العامة ضغطا كبيرا على محرري الصحف وكتابها ليكونوا موالين أي أن يدعموا الوضع السياسي الراهن وبالتالي تكون الحكومة غير مضطرة لاستخدام الرقابة لأن الصحافة مدركة للمناخ السياسي وتنظم نفسها على أسس الانسجام مع الإجماع العام السائد في مناخ الرأي .
ومع المسيرة التي توجب إنهاء ما قبلها ولو شكليا بعد أحداث أيلول في أمريكا , يبدو أن الحكومات العربية رأت نتائجه تترتب الإسراف الشديد في حرية الصحافة وأنه يجب المحافظة على النظام العام , ولذا أن تلك الحكومات تحاول أحيانا أحياء ما كان دارج بالسابق من المفاهيم الاستبدادية التي كانت سائدة , وتحاول هذه الحكومات أحيانا الترويج لتغييرات معينة مثل توسيع التعليم وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية والأشغال العامة إلى الازدهار الاقتصادي المستمر وحسن الأداء للسياسة الخارجية . وتتوقع الحكومات آن يعتبر أي تعليق عام على هذه الجهود عن الاستحسان ويكون الوزراء والمسؤولين في الغالب حساسون جدا للنقد الموجه لمجالات أنشطتهم ويأخذون هذه الانتقادات على أنها انتقادات شخصية .
ولكن المتطلب الرئيسي المتوقع من الجمهور ومن الصحافة هو غياب النقد والقبول السلبي بأي شيء تفعله الحكومة . ولا يسيطر الرأي العام على مجموعات النخبة الحاكمة ولكنه قد تستمزجه أحيانا فالحكومة تصر على عدم حق النقاش الحر العلني حول القضايا السياسية المهمة , أو القضايا التي تمس المسؤولين بالنقد والمطلوب إيقاف كل نقاش من هذا النوع في الصحف .
وفي الواقع المطلوب من الصحافة أن تكون توافقية مع الحكومة بحيث تصبح الرقابة الذاتية أقسى من المطلوب ويصبح المحررون في الصحافة موالين للحكومة أكثر مما هو مطلوب منهم الولاء للوطن وهمومه . وبالتالي لن يكون هؤلاء الصحفيون قادرين بالفعل على نقد أكثر شجاعة وصراحة للواقع الراهن مما هم قادرون عليه الآن .
وعلى كل حال فأنه من الواضح أن الصيغة التوافقية تشكل تعقيدا لحرية الصحافة وحتى لا ينسى أي صحفي هذا الأمر . تقوم الحكومة عادة بتذكير الصحافة من حين لأخر بمسؤولياتها لدعم المهمة الوطنية في وقت تواجه فيه الدولة مشاكل اقتصادية وتنموية أو أحداث أمنية وغيرها من المشاكل العامة التي قد تقع . والهدف المشترك التي تراه الحكومة مع الصحافة آن يكون الصحافيين مدعوون لنشر الآراء والأفكار التي تفيد في تحقيق أهدافها .
ولكن الجمهور لا ينظر لأراء المحررين الشخصية أي وزن . فالناس لا ينظرون من الصحيفة إلا أن تزودهم بالحقائق والوقائع , ولا يستطيع المحرر أن يسهم في تكوين آراء الجمهور الخاصة إلا عن طريق تغيير هذه الوقائع وتلك الحقائق أو تحريفها عن مواضعها .
وفي الأمم التي قامت فيها حرية الصحافة ترى الناس يتشبثون بآرائهم عن كبرياء بقدر ما يتمسكون بها عن إيمان واعتقاد . فهم يتمسكون بها لأنهم اعتقدوا أنها أراء عادلة , ولأنهم اختاروها من تلقاء أنفسهم اختيارا حرا , وهم يتمسكون بها , لا لأنها اعتقادات صادقة فحسب , بل ولأنها اعتقاداتهم هم .
قال عبقري إن الجهل يجثم دائما عند طرفي المعرفة , ولعله أصدق من ذلك أن نقول إن الاعتقادات الراسخة لا توجد إلا عند الطرفين , أما الشك ففي الوسط . والحق أنا نستطيع أن ننظر إلى العقل البشري من حيث أحوال ثلاثة متمايزة , وكثيرا ما تتوالى الواحدة منها بعد الأخرى .
فقد يعتقد المرء منا بشيء اعتقادا راسخا من جراء تقبلة فكرة أو قضية ما , من غير فحص ثم تساوره الشكوك عندما تواجهه اعتراضات عليها , إلا انه كثيرا ما يفلح في تهدئة هذه الشكوك , ثم يعود إلى معتقداته ذاتها من جديد وعندئذ , لا تكون نظرته إلى الحقيقة هذه المرة غامضة ولا عابرة بل تتجلى له الحقيقة واضحة فيسير على هديها قدما .
فعندما تعمل حرية الصحافة عملها في قوم لا يزالون في أولى هذه الحالات الثلاث ,فأنها لا تقلقل فورا عاداتهم في أن يعتقدوا ما يعتقدونه من غير فحص أو تحر , ولكنها تغير كل يوم موضوعات معتقداتهم هذه غير المبنية على أي تفكير , ويظل العقل البشري لا يميز سوى نقطة واحدة في الوقت الواحد في الأفق العقلي كله , ومع ذلك فهي نقطة تتغير على الدوام . ومع ذلك ما أسرع ما تنتهي سلسلة تلك الآراء المستحدثة , ويأتي دور الخبرة الواقعية فيتبين للناس عندئذ أنهم مخدوعون . فلا غرو أن تورطوا في الشكوك والريب وإساءة الظن بكل شيء . ولا يخفي الحال أن معظم الناس سيظلون دائما في حالة من حالتين اثنين : فأما أن يؤمنوا من غير أن يعرفوا لإيمانهم هذا سببا وإما أنهم لا يعرفون على وجه الدقة ماذا الذي يجب أن يؤمنوا به , فما اقل أولئك الذين يبلغون حالة الإيمان القائم على أساس من الرؤية والتفكير المستقل الذي تهدينا إليها المعرفة الصحيحة وسط ما يساورنا من شكوك !
ومن المشاهد أن الناس في أوقات التحمس الديني الشديد قد يغيرون آرائهم الدينية , على حين يتمسك كل واحد منهم بمبادئه القديمة في الأوقات التي يزداد فيها التشكك العام بين الناس ويشتد , وهذا نفسه يحدث في السياسة عندما تكون الصحافة حرة .
وليس الناس في عصرنا الحاضر مستعدين كل الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل آرائهم ومع ذلك فمن النادر أن يميلوا إلى تغييرها . وثم سبب آخر أقوى من هذا وأرجح , فعندما لا يجد الناس أمامهم آراء ثابتة أكيدة اتجهوا إ إلى الاستمساك بنزعاتهم الفطرية ومصالحهم المادية وحدها , وهي ثابتة بالطبع , وأمور محسوسة محدودة ودائمة اكثر من أي آراء في العالم .
فكلما فكرنا في استقلال الصحافة وما يترتب على هذا الاستقلال من نتائج أساسية , نزداد يقينا بأنه العنصر المقوم لها فعلا . فالشعب الذي أجمع أمره على آن يكون حر , له الحق إذن في أن يطالب باستقلال الصحافة هذا مهما كلفه من ثمن .
ولكن يجب ألا نخلط أبدا بين الحرية المطلقة في ممارسة العمل السياسي وطرح الآراء السياسية وبين حياة السياسة . فإحداهما أقل ضرورة وأشد خطرا من الأخرى قي الوقت نفسه . وكثيرا ما تكون الآراء التي تتكون بتأثير حرية الصحافة ارسخ من الآراء التي تتكون بإشراف رقيب المطبوعات .
د/ محمد ناصر
===========
لا يقتصر تأثير حرية الصحافة على الآراء السياسية وحدها , بل يمتد إلى جميع آراء الناس ,فيعدل عاداتهم وقوانينهم . ولكن حرية الصحافة من حيث ما تمنعه عن الناس من شرور أكثر مما تكفله لهم من فوائد .
لم يستطع أحد أن يبين موقفا وسطا بين استقلال الرأي العام استقلالا تاما , وبين عبوديته الكاملة , ولكن الصعوبة هي الوصول إلى هذا الموقف الوسط . فئن كان ما نرمي إليه كبح استهتار الصحافة وإلزامها بضرورة مراعاة اللياقة في اللغة التي تستخدمها فما كان علينا إلا أن نحاكم المذنب أولا أمام القضاء .فاءن برأت ساحته أصبح رأي الفرد هنا رأي الشعب بأسره .
ومع أن إقامة القضية أمام المحكمة تصبح ألمبادىء نفسها التي لم يجرؤ أحد من الكتاب أن يعترف بها تعرض كلها سافرة في أثناء الدفاع دون خوف من عقاب وما كان يلمح إليه تلميحا مبهما في إصدار واحد صار يكرر في عدد كبير من المنشورات الصحفية .
ليست اللغة سوى التعبير الخارجي عن فكرة , ويمكن القول أنها لا تعدو أن تكون تجسيما للفكرة , ولكنها مع ذلك ليست الفكرة ذاتها .
وقد تصدر المحاكم أحكامها على الجسم , أما المعنى وروح الكاتب فأدق وألطف من أن تمسها سلطة المحاكم بسوء . لقد عملت إذن اكثر مما ينبغي ,فلا سبيل للنكوص , وأقل ما ينبغي لإدراك الغاية . فإذا كان سعينا إلا آن نتابع السير ونقرر فرض الرقابة على المطبوعات , ومع ذلك فلا ننسى أن الرأي السياسي والخطيب السياسي حرا ويقول ويسمع . وبذلك لا يكون غرضنا قد تحقق . لأننا لم نعمل شيئا كقائمين على الرقابة سوى أن زدنا الأمر سوءا على سوئه . فليس الفكر كالقوة المادية التي تنمو وتزداد بزيادة عدد عوالمها المؤثرة فيها . والكتاب لا يعدون كما تعد الجنود في الجيش , فكثيرا ما تزداد قوة الفكرة زيادة كبيرة بحسب قلة عدد الذين يعبرون عنها .
فعبارات شخص واحد راجح العقل , إذا ما وجهت إلى استثارة شهوات جماعة ألقت إليه أسماعها , كان لها من ألقوه اكثر مما يتشدق به ألف خطيب .
وإن سمح للناس أن يتكلموا بحرية في مكان واحد فالنتيجة واحدة كما لو سمح بحرية الكلام في جميع الأماكن .فيجب علينا أن نقضي على حرية الكلام إذن كما قضينا على حرية النشر والصحافة , وعندئذ لا نكون قد ألجمنا كل لسان وأجبرنا كل إنسان على التزام الصمت , ولكن غرضنا الذي نرمي إليه إنما كان أن نمنع سوء استخدام الحرية .
هذا , وليست الرقابة على الصحف خطيرة فحسب في البلاد التي يغلب عليها الأخذ بمبدأ الانتخابات الحرة . بل تكون سخيفة أيضا كل السخف . فعندما يكون حق كل مواطن في الاشتراك في انتخابات ممثليه آمرا معترفا به , يجب آن نفترض فيه القدرة على اختيار ما يحب اختيار من الآراء التي تشغل بال معاصريه , وان نفترض فيه أنه يستطيع أن يقدر الحقائق المختلفة التي يمكن أن تستنبط منها نتائج , حق مقدارها , فسعادة الشعب وحرية الصحافة ,يصح أن يعتبرا آمرين متطابقين كما آن الرقابة على الصحف وحق الانتخابات العام شيئان متضادين تضادا لا يرجى معه أي توفيق بينهما , ولا يمكن الاحتفاظ بهما في مؤسسات الشعب نفسه .
يرى كثيرون في بلداننا العربية أن عطش الصحافة للحرية فيها يرجع أصلا إلى عدم استقرار الأحوال والمناخ السياسي العام وكذلك الأحوال الاجتماعية كما يرجع إلى شهوات المواطن العربي للسياسة , وإلى ذلك الشعور العام بالقلق الذي يغلب على نفوس الناس إثر ذلك كله , حتى يخيل لهم أن الصحافة هي التي ستنقلهم إلى عالم المعرفة والتنوير وتساعدهم على الاستقرار المعلوماتي . ولهذه الأسباب هناك نفوذا كبيرا على لغة الصحافة والأساليب التي تصطنعها في التعبير . فللصحافة الدورية أهواء وميول خاصة بها ومستقلة عن الظروف التي تحيط بها والأحوال الحاضرة في بلدنا لتؤيد هذا الرأي .
ولعلى صحافتنا وبما أعطي لها من هامش للحرية , إذا قيل بأنها تعمل على الهدم , فإننا ننظر إليها بأنها اقل هدما وتدميرا من حيث مبادئها منها في بلدان الحريات الديمقراطية . ذلك إلى أنها عنيفة نفس العنف من غير ما يكون لديها ما عند صحافة البلدان الديموقراطية من الأسباب التي تثير الغضب من اجل الكرامة فهي في بلدنا , كما في بلدان الحريات الديموقراطية قوة عجيبة وخليط من الخير والشر , ومع ذلك لا تستطيع الحرية آن تحيا بدونها ولا شك في آن قوتها في البلدان الغربية اعظم منها بلدنا , ويرجع هذا إلى سبب بسيط كل البساطة , فالبلدان الغربية تسلم بمبدأ سيادة الشعب أي حرية الانتخابات وتطبيق هذا بكل إخلاص . فهم لم يقصدوا أبدا أن يخلقوا من عناصر تتغير كل يوم وتتبدل , مؤسسات تعيش إلى الأبد . ومن ثم فلا جريمة في مهاجمة القوانين الحاضرة , ما دام لا توجد أي نية لانتهاك حرمانها .
ولما كانت لطافة اللغة البشرية وأساليب التحليل فيها تيسران لها دائما أن تفلت من التحليل القانوني . فقد صارت الجرائم التي من هذا القبيل تفلت من أيدي كل من يحاول القبض عليها .
فهم يعتقدون أن التأثير الناجع في الصحافة يستوجب قيام محكمة للنظام القائم و وقادرة على التغلب على الرأي العام ,محكمة تستطيع أن تسير إجراءاتها قي غير ضجة أو إعلان . وتنطبق بأحكامها وقراراتها من غير ذكر لدوافعها التي أدت إلى النطق بتلك الأحكام .
وتعاقب الكاتب على نيته أكثر مما تعاقبه على لغته وألفاظه , فمن يستطيع إذا إيجاد محكمة من هذا القبيل ويعمل على صيانتها والمحافظة عليها كان قد ضيع وقته سدى في مقاضاة حرية الصحافة ذلك لأنه سيكون السيد المطلق في الجماعة كلها , وحرا في التخلص من , الكتاب , حريته في التخلص مما يكتبون , فليس في هذه المسألة إذن وسط بين العبودية وبين الاستهتار , فكي يستطيع المرء أن يستمتع بما تحققه حرية الصحافة من مزايا عظيمة بالغة القيمة و يجب عليه أن يرضى بما تخلقه من مساوئ محتومة . أما من يأمل أن يستمتع بالمزايا ويعفى من الشرور فقد يقع في وهم من تلك الأوهام التي تضلل الأمم عادة في أوقات مرضها عندما تحاول بعد أن عانت من المتاعب , أن تجعل الآراء المعادية والمبادئ المخالفة لمبادئها تعيش جنبا لجنب في أرض واحدة .
هذا ويعزى بعض التأثير لبعض الصحف في بلداننا العربية إلى عدة أسباب نذكر منها : أن حرية الكتابة والتعبير عن الرأي أصبحت ومنذ أحداث سبتمبر- "أيلول" في أمريكا ، ممكن غض الطرف عن بعضها في بعض الدول العربية ، وأصبحت مثل أية حرية أخرى تكون بالغة الأثر كلما كانت جديدة كل الجدة على شعب لم يعتد من قبل أن يستمع إلى شئون الدولة تناقش أمامه , ومن ثمة كانت ثقته بأول خطيب يتقدم للكلام . وزيادة على ذلك فالصحافة تستطيع أن تخلق في الناس شهوات جديدة , وتستطيع استثارة ما قد يكون موجودا منها فعلا .
فالحياة السياسية في بلداننا العربية لم تكن نشيطة ومنوعة بل كانت متهيجة داخل صدور المواطنين , ولكنها يندر أن تتأثر بتلك الشهوات التي لا تهيج إلا إذا كانت تتأثر بها تأثيرا سيئا .
فإذا القينا نظرة على وضع الصحف في معظم الدول العربية نرى بأن معظمها يملك برلمانا ولكنه في المعتاد لا يعبر عن تعارض جوهري مع سياسة الحكومة إذا كما قال أحد المحررين في إحدى الدول العربية " ليس هناك معارضة في الأمة وبالتالي فليس هناك معارضة في الصحافة " . والناس مؤمنون بأنهم ليسوا أحرارا في أن يقولوا ما يفكرون به علنا , وبالتالي فأن المحررين في الصحف بشكل عام ليسوا متلهفين على استخدام صحفهم لحرف أو حتى لاختبار هذا العرف السائد .
والحكومات العربية عبر أجهزة الدولة بالأساس مستبدة , يدعمها نخبة تؤيد الإصلاحات ولكنها بشكل عام كانت تفضل استمرار الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم آنذاك .والمسؤولين في الحكومة يشيرون إلى جهود القادة السياسيين غير الحكوميين وذلك لتقييد الصحافة أكثر كدليل على انعدام الاهتمام بصحافة اكثر حرية .
ويضع هذا المناخ من الرقابة العامة ضغطا كبيرا على محرري الصحف وكتابها ليكونوا موالين أي أن يدعموا الوضع السياسي الراهن وبالتالي تكون الحكومة غير مضطرة لاستخدام الرقابة لأن الصحافة مدركة للمناخ السياسي وتنظم نفسها على أسس الانسجام مع الإجماع العام السائد في مناخ الرأي .
ومع المسيرة التي توجب إنهاء ما قبلها ولو شكليا بعد أحداث أيلول في أمريكا , يبدو أن الحكومات العربية رأت نتائجه تترتب الإسراف الشديد في حرية الصحافة وأنه يجب المحافظة على النظام العام , ولذا أن تلك الحكومات تحاول أحيانا أحياء ما كان دارج بالسابق من المفاهيم الاستبدادية التي كانت سائدة , وتحاول هذه الحكومات أحيانا الترويج لتغييرات معينة مثل توسيع التعليم وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية والأشغال العامة إلى الازدهار الاقتصادي المستمر وحسن الأداء للسياسة الخارجية . وتتوقع الحكومات آن يعتبر أي تعليق عام على هذه الجهود عن الاستحسان ويكون الوزراء والمسؤولين في الغالب حساسون جدا للنقد الموجه لمجالات أنشطتهم ويأخذون هذه الانتقادات على أنها انتقادات شخصية .
ولكن المتطلب الرئيسي المتوقع من الجمهور ومن الصحافة هو غياب النقد والقبول السلبي بأي شيء تفعله الحكومة . ولا يسيطر الرأي العام على مجموعات النخبة الحاكمة ولكنه قد تستمزجه أحيانا فالحكومة تصر على عدم حق النقاش الحر العلني حول القضايا السياسية المهمة , أو القضايا التي تمس المسؤولين بالنقد والمطلوب إيقاف كل نقاش من هذا النوع في الصحف .
وفي الواقع المطلوب من الصحافة أن تكون توافقية مع الحكومة بحيث تصبح الرقابة الذاتية أقسى من المطلوب ويصبح المحررون في الصحافة موالين للحكومة أكثر مما هو مطلوب منهم الولاء للوطن وهمومه . وبالتالي لن يكون هؤلاء الصحفيون قادرين بالفعل على نقد أكثر شجاعة وصراحة للواقع الراهن مما هم قادرون عليه الآن .
وعلى كل حال فأنه من الواضح أن الصيغة التوافقية تشكل تعقيدا لحرية الصحافة وحتى لا ينسى أي صحفي هذا الأمر . تقوم الحكومة عادة بتذكير الصحافة من حين لأخر بمسؤولياتها لدعم المهمة الوطنية في وقت تواجه فيه الدولة مشاكل اقتصادية وتنموية أو أحداث أمنية وغيرها من المشاكل العامة التي قد تقع . والهدف المشترك التي تراه الحكومة مع الصحافة آن يكون الصحافيين مدعوون لنشر الآراء والأفكار التي تفيد في تحقيق أهدافها .
ولكن الجمهور لا ينظر لأراء المحررين الشخصية أي وزن . فالناس لا ينظرون من الصحيفة إلا أن تزودهم بالحقائق والوقائع , ولا يستطيع المحرر أن يسهم في تكوين آراء الجمهور الخاصة إلا عن طريق تغيير هذه الوقائع وتلك الحقائق أو تحريفها عن مواضعها .
وفي الأمم التي قامت فيها حرية الصحافة ترى الناس يتشبثون بآرائهم عن كبرياء بقدر ما يتمسكون بها عن إيمان واعتقاد . فهم يتمسكون بها لأنهم اعتقدوا أنها أراء عادلة , ولأنهم اختاروها من تلقاء أنفسهم اختيارا حرا , وهم يتمسكون بها , لا لأنها اعتقادات صادقة فحسب , بل ولأنها اعتقاداتهم هم .
قال عبقري إن الجهل يجثم دائما عند طرفي المعرفة , ولعله أصدق من ذلك أن نقول إن الاعتقادات الراسخة لا توجد إلا عند الطرفين , أما الشك ففي الوسط . والحق أنا نستطيع أن ننظر إلى العقل البشري من حيث أحوال ثلاثة متمايزة , وكثيرا ما تتوالى الواحدة منها بعد الأخرى .
فقد يعتقد المرء منا بشيء اعتقادا راسخا من جراء تقبلة فكرة أو قضية ما , من غير فحص ثم تساوره الشكوك عندما تواجهه اعتراضات عليها , إلا انه كثيرا ما يفلح في تهدئة هذه الشكوك , ثم يعود إلى معتقداته ذاتها من جديد وعندئذ , لا تكون نظرته إلى الحقيقة هذه المرة غامضة ولا عابرة بل تتجلى له الحقيقة واضحة فيسير على هديها قدما .
فعندما تعمل حرية الصحافة عملها في قوم لا يزالون في أولى هذه الحالات الثلاث ,فأنها لا تقلقل فورا عاداتهم في أن يعتقدوا ما يعتقدونه من غير فحص أو تحر , ولكنها تغير كل يوم موضوعات معتقداتهم هذه غير المبنية على أي تفكير , ويظل العقل البشري لا يميز سوى نقطة واحدة في الوقت الواحد في الأفق العقلي كله , ومع ذلك فهي نقطة تتغير على الدوام . ومع ذلك ما أسرع ما تنتهي سلسلة تلك الآراء المستحدثة , ويأتي دور الخبرة الواقعية فيتبين للناس عندئذ أنهم مخدوعون . فلا غرو أن تورطوا في الشكوك والريب وإساءة الظن بكل شيء . ولا يخفي الحال أن معظم الناس سيظلون دائما في حالة من حالتين اثنين : فأما أن يؤمنوا من غير أن يعرفوا لإيمانهم هذا سببا وإما أنهم لا يعرفون على وجه الدقة ماذا الذي يجب أن يؤمنوا به , فما اقل أولئك الذين يبلغون حالة الإيمان القائم على أساس من الرؤية والتفكير المستقل الذي تهدينا إليها المعرفة الصحيحة وسط ما يساورنا من شكوك !
ومن المشاهد أن الناس في أوقات التحمس الديني الشديد قد يغيرون آرائهم الدينية , على حين يتمسك كل واحد منهم بمبادئه القديمة في الأوقات التي يزداد فيها التشكك العام بين الناس ويشتد , وهذا نفسه يحدث في السياسة عندما تكون الصحافة حرة .
وليس الناس في عصرنا الحاضر مستعدين كل الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل آرائهم ومع ذلك فمن النادر أن يميلوا إلى تغييرها . وثم سبب آخر أقوى من هذا وأرجح , فعندما لا يجد الناس أمامهم آراء ثابتة أكيدة اتجهوا إ إلى الاستمساك بنزعاتهم الفطرية ومصالحهم المادية وحدها , وهي ثابتة بالطبع , وأمور محسوسة محدودة ودائمة اكثر من أي آراء في العالم .
فكلما فكرنا في استقلال الصحافة وما يترتب على هذا الاستقلال من نتائج أساسية , نزداد يقينا بأنه العنصر المقوم لها فعلا . فالشعب الذي أجمع أمره على آن يكون حر , له الحق إذن في أن يطالب باستقلال الصحافة هذا مهما كلفه من ثمن .
ولكن يجب ألا نخلط أبدا بين الحرية المطلقة في ممارسة العمل السياسي وطرح الآراء السياسية وبين حياة السياسة . فإحداهما أقل ضرورة وأشد خطرا من الأخرى قي الوقت نفسه . وكثيرا ما تكون الآراء التي تتكون بتأثير حرية الصحافة ارسخ من الآراء التي تتكون بإشراف رقيب المطبوعات .
د/ محمد ناصر