الفلسفة الجماليّة والأخلاقيّة للجسد الإنساني
الدكتور سامي الشيخ محمد
القول في خلقة الجسد الإنساني :
تجمع الدّيانات السّماويّة ،والكتب المقدّسة ، والفلسفات الجماليّةُ الإنسانيّة ، بأنَّ الإنسان خُلق على أجمل صورة وأحسن تقويم . فجسد الإنسان الحي جسدٌ ناطقٌ وفاعلٌ وجميلٌ بالقياس إلى المخلوقات الحيّة على مختلف أنواعها ، جسدٌ يؤثّر في العالم ، ويتأثّر به ، بفعل الأعضاء والحواس والقدرات العقليّة والنّفسيّة والمواهب الطّبيعيّة الموجودة فيه . من هنا اعتبر الإنسان رأس المخلوقات وسيّدها جميعاً ، بوصفه ذا قدرةٍ وسلطةٍ فاعلةٍ على نفسه وعلى الأشياء من حوله .
لقد قهرَ جزءاً من شرور الطّبيعة الجامدةِ والحيّة ، رغم أنَّ جسدَهُ متناقضٌ في بنيته ، ويحوي من عناصر الفساد ما يكفي لكراهيته ونأي الآخرين عنه ، بمقدار ما فيه من عناصر الحسن والجمال والفتنة ، ما يُحبّبهم به ويجذبهم إليه .
على أنَّ خلقة الجسد ليست واحدةً لدى جميع أفراد النّوع الإنساني ، إذ تنطوي على ضروبٍ من الاختلاف والتّنوّع والتّباين ، ما يجعل من اختلافها وتنوّعها سمةً مميّزةً لها . من هنا لا وجود للخلقة الكاملة الخالصة ، المنزّهة عن النّقص وضروب الفساد في الحياة الدّنيويّة ، لعلّة انطوائِها على مزيجٍ متناقض من عناصر الجمال والقبح والنّقاء والفساد .
- القول في عيوب الجسد وسترها :
لماذا أُطلِقَ على الجسد العاري عيباً أو عورةً ؟ العيبُ والعورةُ معنيان يشيران إلى النّقص ، وانعدام الكمال عن الأشياء . وبما أنّهُ لا وجود للجسد الكامل على الإطلاق ، فإنَّ النّقص فيه عيبٌ ، لعلّة انعدام التّمام عنه ، من ناحيةٍ أخرى عيوب الجسد العاري أكثر من عيوب الجسد المستتر ، فكلّما كان اللّباس خافياً أعضاء الجسد عن حاسّة العين قلّت عيوبه ، ناهيك عن أنَّ عُريّ الجسد يكشف مواطن القبح فيه ، على اعتبار أن الجسد الكامل جماليّاً غير موجود .
من هنا ستر الجسد سترٌ لقبحه بمعنى ما من المعاني ، حتّى أنَّ الوجه غير الجميل ، يمكن إخفاء عيوبه ، بالاستعانة بالمساحيق التّجميلية ، أو بمنديلٍ جميل من قماش .
من ناحيةٍ أخرى يميل الإنسان بفطرته إلى اكتشاف الجسد المستور ، فيُفتتن به لدى انكشافه عليه ، ويتعلّق به عاطفيّاً ، في حين لا يبعثُ الجسدُ السّافر قدراً مساوياً لهذهِ الفتنة والإثارة ، ليس هذا فحسب بل يبعثُ الجسدُ العاري على التّنافر والتّباغض ، في حين يبعثُ الجسدُ المستور على التّجاذب والمودة والتّراحم .
لذا ستر الجسد ضرورةٌ جماليّة وأخلاقيّةٌ للجسد ، ضرورة القشرة للثّمرة ، فالقشرة غطاء الثّمرة تحفظها من التّلف والفساد ، مدّة أطول من المدّة الّتي تكون الثّمرةُ فيها بدون قشرة ، القشرةُ غطاء الثّمرة وسِترُها وعفّتها ، تطيل في عمرها وتقيها ممّا يُفسدها ، فتحفظُ نضارتها ، وتجعلها صالحةً للتّناول في أوقاتٍ مختلفة ، كذلك الحال بالنّسبة لغطاء الجسد ، فيه وقايةٌ للجسد من العوامل الجويّة كالبرودة والسّخونة ، به يبقى الجسدُ نظيفاً بمنأىً عن التّلوّث الّذي تُحدثهُ الغبارُ والأتربةُ والأشعّةُ ، وكثيرٌ من الأوبئة المبثوثة في الهواء ، وبهِ يتحقّقُ سترُ عيوب الجسدِ ومفاتنه ، إنَّهُ غطاءٌ لعفّة الإنسان ، على ألاّ يُفهَم من ذلك أنَّ غطاء الجسد وزينتهُ الظاهريّة أمارةٌ على عفّة الإنسان ، فرغم أنّهُ شرطٌ ضروريٌّ لازمٌ للعفّة ، إلاَّ أنّهُ غير كافٍ لتحقّقها ، فكم من الأجساد الكسوّة بثياب العفّة تسكنها رذائلُ جامحة .
مع أنّهُ لا يمكن الحديث عن عفّة دون سترٍ أو غطاءٍ يحفظها ويصونها ، ويحجبها عن الأبصار ، وإثارة الشّهوات والغرائز الإنسانية . تماماً كالثّمرة الّتي لا تستطيع الحفاظ على نضارتها ، لأكثر من برهةٍ قصيرةٍ زمنيّاً في حال نزع القشرة الخارجيّة عنها ، فكم من الثّمر الفاسد ما يسرُّ النّاظرين بجمال قشرته الخارجيّة .
نعم ثمّة ما يمكن قولهُ عن علاقة الغطاء بالجسد ، فالغطاء الّذي يزيّن جسداً ما ويكسبه مزيداً من الحسن والجمال ، يمكن أن يضيف قبحاً لجسدٍ آخر ، تبعاً لجماليّة الغطاء من ناحية ، وقدرته على إخفاء النّواقص والعيوب أو إظهارها من ناحية أخرى .
أمّا إظهارُ بعض أجزاء الجسد ـ كالوجه والرّأس واليدين إذا لم يكن عيبٌ ظاهرٌ فيها ـ خيرٌ من إخفائها رغم أنّها مغطّاة إمّا بالأدمة أو بالشّعر ، بوصفهما لازمتين جماليّتين لها ، نعم فالشّعر أجملُ غطاءٍ للرّأس الحليق .
جماليّة الجسد والأخلاق الفاضلة :
ثمّة علاقة بين الجسد الجميل والأخلاق الفاضلة ، إذ يمكن أن تتّخذ شكل علاقة اتّصالٍ واتّحاد ، أو علاقة تنابذٍ وانفصال . من هنا ليس بالضّرورة أن يكون الجسد الجميلِ فاضلاً أخلاقيّاً ، غير أنّهُ بالمقارنة مع الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، فإنّهُ أقلّ مرتبةً جماليّة منه بالضّرورة .
فإذا كان الجمالُ خاصيّةَ الجسد الجميل جماليّاً ، فإنَّ الرّوعةَ والجلالَ والاستثناءَ خاصيّةُ الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، لعلّة الأثر الجماليّ الّذي يُحدثه العنصر الأخلاقيّ ، في إصدار الأحكام الأخلاقيّة والجماليّة المتعلّقة بجماليّة الجسد .
فالجسد المبتذل أخلاقيّاً لا يحظى بنفس القدر من الاحترام والتّقدير ، والتّبجيل والإعجاب الّذي يحظى به الجسد الفاضل ، مهما بلغ من مراتب الحسن والجمال .
لقد حظي الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، باهتمام الأدباء ، والفلسفات الأخلاقيّة ، والدّيانات على مختلف أنواعها ، فكان موضع ثناءٍ وإعجاب ، بينما قوبل الجسد المبتذل ، بالنّبذ والإدانة والاستنكار . من هنا تشكّلُ العفّةُ الأخلاقيةُ عنصراً ضروريّاً ، ينضاف للعناصر الجماليّة عند الإنسان ، بوصفه أساساً في إصدار الأحكام التّقويميّة والجماليّة لدى كثيرٍ من الأفراد ، وكأنَّ الجمال الموضوعيّ للجسد الإنسانيّ ، يضلُّ ناقصاً ما لم يقترن بالعنصر الأخلاقيّ لدى الإنسان .
[email protected]
الدكتور سامي الشيخ محمد
القول في خلقة الجسد الإنساني :
تجمع الدّيانات السّماويّة ،والكتب المقدّسة ، والفلسفات الجماليّةُ الإنسانيّة ، بأنَّ الإنسان خُلق على أجمل صورة وأحسن تقويم . فجسد الإنسان الحي جسدٌ ناطقٌ وفاعلٌ وجميلٌ بالقياس إلى المخلوقات الحيّة على مختلف أنواعها ، جسدٌ يؤثّر في العالم ، ويتأثّر به ، بفعل الأعضاء والحواس والقدرات العقليّة والنّفسيّة والمواهب الطّبيعيّة الموجودة فيه . من هنا اعتبر الإنسان رأس المخلوقات وسيّدها جميعاً ، بوصفه ذا قدرةٍ وسلطةٍ فاعلةٍ على نفسه وعلى الأشياء من حوله .
لقد قهرَ جزءاً من شرور الطّبيعة الجامدةِ والحيّة ، رغم أنَّ جسدَهُ متناقضٌ في بنيته ، ويحوي من عناصر الفساد ما يكفي لكراهيته ونأي الآخرين عنه ، بمقدار ما فيه من عناصر الحسن والجمال والفتنة ، ما يُحبّبهم به ويجذبهم إليه .
على أنَّ خلقة الجسد ليست واحدةً لدى جميع أفراد النّوع الإنساني ، إذ تنطوي على ضروبٍ من الاختلاف والتّنوّع والتّباين ، ما يجعل من اختلافها وتنوّعها سمةً مميّزةً لها . من هنا لا وجود للخلقة الكاملة الخالصة ، المنزّهة عن النّقص وضروب الفساد في الحياة الدّنيويّة ، لعلّة انطوائِها على مزيجٍ متناقض من عناصر الجمال والقبح والنّقاء والفساد .
- القول في عيوب الجسد وسترها :
لماذا أُطلِقَ على الجسد العاري عيباً أو عورةً ؟ العيبُ والعورةُ معنيان يشيران إلى النّقص ، وانعدام الكمال عن الأشياء . وبما أنّهُ لا وجود للجسد الكامل على الإطلاق ، فإنَّ النّقص فيه عيبٌ ، لعلّة انعدام التّمام عنه ، من ناحيةٍ أخرى عيوب الجسد العاري أكثر من عيوب الجسد المستتر ، فكلّما كان اللّباس خافياً أعضاء الجسد عن حاسّة العين قلّت عيوبه ، ناهيك عن أنَّ عُريّ الجسد يكشف مواطن القبح فيه ، على اعتبار أن الجسد الكامل جماليّاً غير موجود .
من هنا ستر الجسد سترٌ لقبحه بمعنى ما من المعاني ، حتّى أنَّ الوجه غير الجميل ، يمكن إخفاء عيوبه ، بالاستعانة بالمساحيق التّجميلية ، أو بمنديلٍ جميل من قماش .
من ناحيةٍ أخرى يميل الإنسان بفطرته إلى اكتشاف الجسد المستور ، فيُفتتن به لدى انكشافه عليه ، ويتعلّق به عاطفيّاً ، في حين لا يبعثُ الجسدُ السّافر قدراً مساوياً لهذهِ الفتنة والإثارة ، ليس هذا فحسب بل يبعثُ الجسدُ العاري على التّنافر والتّباغض ، في حين يبعثُ الجسدُ المستور على التّجاذب والمودة والتّراحم .
لذا ستر الجسد ضرورةٌ جماليّة وأخلاقيّةٌ للجسد ، ضرورة القشرة للثّمرة ، فالقشرة غطاء الثّمرة تحفظها من التّلف والفساد ، مدّة أطول من المدّة الّتي تكون الثّمرةُ فيها بدون قشرة ، القشرةُ غطاء الثّمرة وسِترُها وعفّتها ، تطيل في عمرها وتقيها ممّا يُفسدها ، فتحفظُ نضارتها ، وتجعلها صالحةً للتّناول في أوقاتٍ مختلفة ، كذلك الحال بالنّسبة لغطاء الجسد ، فيه وقايةٌ للجسد من العوامل الجويّة كالبرودة والسّخونة ، به يبقى الجسدُ نظيفاً بمنأىً عن التّلوّث الّذي تُحدثهُ الغبارُ والأتربةُ والأشعّةُ ، وكثيرٌ من الأوبئة المبثوثة في الهواء ، وبهِ يتحقّقُ سترُ عيوب الجسدِ ومفاتنه ، إنَّهُ غطاءٌ لعفّة الإنسان ، على ألاّ يُفهَم من ذلك أنَّ غطاء الجسد وزينتهُ الظاهريّة أمارةٌ على عفّة الإنسان ، فرغم أنّهُ شرطٌ ضروريٌّ لازمٌ للعفّة ، إلاَّ أنّهُ غير كافٍ لتحقّقها ، فكم من الأجساد الكسوّة بثياب العفّة تسكنها رذائلُ جامحة .
مع أنّهُ لا يمكن الحديث عن عفّة دون سترٍ أو غطاءٍ يحفظها ويصونها ، ويحجبها عن الأبصار ، وإثارة الشّهوات والغرائز الإنسانية . تماماً كالثّمرة الّتي لا تستطيع الحفاظ على نضارتها ، لأكثر من برهةٍ قصيرةٍ زمنيّاً في حال نزع القشرة الخارجيّة عنها ، فكم من الثّمر الفاسد ما يسرُّ النّاظرين بجمال قشرته الخارجيّة .
نعم ثمّة ما يمكن قولهُ عن علاقة الغطاء بالجسد ، فالغطاء الّذي يزيّن جسداً ما ويكسبه مزيداً من الحسن والجمال ، يمكن أن يضيف قبحاً لجسدٍ آخر ، تبعاً لجماليّة الغطاء من ناحية ، وقدرته على إخفاء النّواقص والعيوب أو إظهارها من ناحية أخرى .
أمّا إظهارُ بعض أجزاء الجسد ـ كالوجه والرّأس واليدين إذا لم يكن عيبٌ ظاهرٌ فيها ـ خيرٌ من إخفائها رغم أنّها مغطّاة إمّا بالأدمة أو بالشّعر ، بوصفهما لازمتين جماليّتين لها ، نعم فالشّعر أجملُ غطاءٍ للرّأس الحليق .
جماليّة الجسد والأخلاق الفاضلة :
ثمّة علاقة بين الجسد الجميل والأخلاق الفاضلة ، إذ يمكن أن تتّخذ شكل علاقة اتّصالٍ واتّحاد ، أو علاقة تنابذٍ وانفصال . من هنا ليس بالضّرورة أن يكون الجسد الجميلِ فاضلاً أخلاقيّاً ، غير أنّهُ بالمقارنة مع الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، فإنّهُ أقلّ مرتبةً جماليّة منه بالضّرورة .
فإذا كان الجمالُ خاصيّةَ الجسد الجميل جماليّاً ، فإنَّ الرّوعةَ والجلالَ والاستثناءَ خاصيّةُ الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، لعلّة الأثر الجماليّ الّذي يُحدثه العنصر الأخلاقيّ ، في إصدار الأحكام الأخلاقيّة والجماليّة المتعلّقة بجماليّة الجسد .
فالجسد المبتذل أخلاقيّاً لا يحظى بنفس القدر من الاحترام والتّقدير ، والتّبجيل والإعجاب الّذي يحظى به الجسد الفاضل ، مهما بلغ من مراتب الحسن والجمال .
لقد حظي الجسد الجميل الفاضل أخلاقيّاً ، باهتمام الأدباء ، والفلسفات الأخلاقيّة ، والدّيانات على مختلف أنواعها ، فكان موضع ثناءٍ وإعجاب ، بينما قوبل الجسد المبتذل ، بالنّبذ والإدانة والاستنكار . من هنا تشكّلُ العفّةُ الأخلاقيةُ عنصراً ضروريّاً ، ينضاف للعناصر الجماليّة عند الإنسان ، بوصفه أساساً في إصدار الأحكام التّقويميّة والجماليّة لدى كثيرٍ من الأفراد ، وكأنَّ الجمال الموضوعيّ للجسد الإنسانيّ ، يضلُّ ناقصاً ما لم يقترن بالعنصر الأخلاقيّ لدى الإنسان .
[email protected]