الأخبار
حادث "هبوط صعب" لمروحية تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجيةتحول هام.. الولايات المتحدة تستعد لتصنيف القنّب كمخدر ذو خطورة أقلثورة القهوة واستخدامها في صناعة الخرسانةالإعلامي الحكومي بغزة: الاحتلال منع إدخال 3000 شاحنة مساعدات خلال 13 يوماًسموتريتش: إسرائيل في طريقها للحرب مع حزب الله اللبنانيفيديو مسرب يكشف حقيقة العلاقة بين أحمد أبو هشيمة و روان بن حسينتعرف على خفايا الإصابة بمرض التهاب الكبد الوبائيفي اليوم 226 للعدوان: شهداء وجرحى بعدة استهدافات في قطاع غزةالصحة بغزة: 70 شهيداً في ثمانية مجازر بالقطاع خلال 24 ساعة الماضيةجنوب إفريقيا: ما يحدث في فلسطين فصل عنصريجيش الاحتلال الإسرائيلي يدخل لواءً عسكرياً رابعاً للقتال في مدينة رفحالجيش الإسرائيلي: إصابة 44 جندياً بمعارك غزة نهاية الأسبوع الماضيالأردن يطالب بإجراء تحقيق دولي في "جرائم حرب كثيرة" مرتكبة في غزةالاحتلال يحاصر مستشفى العودة شمال غزة بعد قصفه بالمدفعيةاستشهاد مدير مباحث شرطة المحافظة الوسطى بغزة بغارة إسرائيلية
2024/5/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

رؤية صوفية يتطابق فيها الظاهر والباطن.. والله ومخلوقاته بقلم: خالد سعيد - لندن

تاريخ النشر : 2005-05-30
رؤية صوفية يتطابق فيها الظاهر والباطن.. والله ومخلوقاته

خالد سعيد - لندن

حين وصلتني رواية " شجرة المسرات:سيرة إبن فضلان السرية " للشاعر والناقد والروائي الفلسطيني " محمد الاسعد " انتابني القليل من الشك في أن ما سأراه سيكون متنا ًً تجريبيا ً جديداً لهذا الكاتب الذي يكتب منذ عقدين تقريبا ً سرداً روائيا ً قوامه التجريب، ويواصل هذا السرد بلا توقف عند هذا الشكل أو ذاك، أو من دون أن يؤخذ بإنجازه فيقدسه ويطوف به في كل مرة يكتب فيها. أقول هذا لأن رواياته السابقة، أطفال الندى ، و نص اللاجئ ، وحدائق العاشق (1990 -2001 ) على التوالي قدمت صيغاً للمتن الروائي بلا سوابق ولا لواحق، وهذا من خصائص المغامرة التجريبية. إن الفنان التجريبي لا يغامر بتقديم تجربة إلا ليغادرها إلى أخرى مختلفة لغة ً وأسلوبا ً وموضوعا ً.

على هذه الأرضية، لم تفاجئني " شجرة المسرات " المدوّخة على حد تعبير أحد الأصدقاء، مثلما لم تفاجئني هذه النقلة إلى عالم التصوف، على رغم أن المنحى الصوفي في التصور والتخيل لا تفتقر إليه روايته السابقة، وعلى الأخص حدائق العاشق. لقد وجدت ُ نفسي هنا أمام متن روائي مشبع بحاسة التصوف، تتعدد طبقاته حتى ليصعب حصرها، وتتعدد فضاءاته حتى ليصعب ارتيادها بلا دليل أو معجم ثقافي. فمرّة ً يجد القارئ نفسه أمام قراءات واسعة في التراث العربي، ومرة يجد نفسه راحلا على صفحات العقائد والفلسفات الشرقية والغربية، ومرة يأخذه العجب من تلميحات إلى العلوم الحديثة والفنون، ويدهش مرات من التنقل الحر في عالم الآثار والحفريات. وكل هذا متداخل مثل خيوط في زربية تحتشد زخرفتها بإشارات ٍ وتلميحات وإحالات إلى كتب ونظريات وشخصيات وأحداث تخترق الأمكنة والأزمنة على امتداد ألف عام.

الحس الصوفي هنا ينسجم مع هذا الأسلوب في النسج والتكوين، بل هو ضرورة فرضتها رؤيا تنظر إلى الوجود بوصفه شبكة علاقات، لاتنفصل فيه الأزمنة عن بعضها البعض، ولا يتمايز فيه الظاهر عن الباطن، ولا تتمايز فيه الإمكنة. هذه الرؤيا شعرية أو تحمل من الشعر طابعه الخالد ؛ شمول الإحساس وعمقه. إن التصوف، أي الصعود إلى مراتب تعلو فيها البصيرة والبصر على الزائل والعابر، هو أيضا من خصائص النظرة الشعرية، ووسيلة استكشاف للأسئلة الكبرى.

هذا على صعيد الوسائل، أما على صعيد تقنيات السرد، فقد لمحت ُ أصداء لذلك الأسلوب الأثير في الأدب العربي، أسلوب الليالي العربية أو بالأصح أسلوب الرواة الشعبيين، مضافا ً إليه عناية مفرطة بالمتعة والإمتاع، وتدوير الكلام تدويرا ً يذكّر بشعراء الملاحم وهم يقصون أخبار أبطالهم، أويتقمصون شخصياتهم إلى درجة الإندماج الكامل بهم فكراً وعاطفة ً. بل ويصل التقمص إلى درجة عالية من الشعرية فيصل إلى الشجر والحجر والمياه، ويتحول السرد إلى نشيد يحتفي بالأحداث والشخصيا ت والمواقف، ولكنه لا يركز عليها، فهي ليست المقصودة لأنها في النهاية رموز وعلامات تشير إلى ما هو أعمق وأبعد من وجودها العابر ذاته.

المنطلق هو أن الرحالة العربي المسلم أحمد إبن فضلان ( من القرن الرابع الهجري ) رحل في سفارة إلى بلاد البلغار على ضفاف نهر الفولغا، ووصف رحلته في المخطوطة الشهيرة المنسوبة إليه، وهي مخطوطة اكتشف نصها غير الكامل كما يرى بعض المحققين، ونُشرت وترجمت إلى عدة لغات، ووجد فيها الباحثون الروس أقدم وصف لأسلافهم الفايكنغ الذين يشكلون مع السلاف صلب الكيان الروسي. ولكن الراوية لا يلتفت إلى هذه المخطوطة أو هي ليست موضوع روايته، بل إلى ما يرى أنها مخطوطة أخرى سرية لابن فضلان كتبها أو أملا فصولها على كاتبه ورفيق رحلته " إبن العلوي "، ولم تصل هذه المخطوطة إلى بغداد لأن إبن فضلان لم يرجع ( حسب الراوية ) إلى بغداد بل اقام في بلاد البلغار، وهناك عاش حياة مختلفة لم تذكرها كتب التاريخ وإن احتوتها المخطوطة السرية. إذا ً، يبتكر الكاتب تحت عنوان " شجرة المسرات " مخطوطة ذات موضوع مختلف، ومعها يبتكر سيرة للمخطوطة ذاتها تحكيها الأيدي التي تداولتها، وعلقت عليها، وسير الشخصيات التي تأثرت بها.

من حيث الموضوع، تتحدث المخطوطة، ويتحدث الناس، ويتحدث الباحثون، ويتحدث الراوية، عن تحولات روحية ألمت بأحمد إبن فضلان بتأثير حياته في بغداد العباسية في فترة شهدت ذروة ازدهار الحضارة العربية –الإسلامية، كما شهدت بداية الإنحدار الحضاري في الوقت نفسه. ويبتكر الكاتب لابن فضلان ماض ٍ يعود به إلى مدينة " يثرب "، وإلى هربه منها إلى بغداد في شبابه، وهناك يبدأ حياة وعلاقات تصله بكتب الحضارات المجاورة وبأم الخليفة المقتدر وأحداث وشخصيات عصره مثل الحلاج والجنيد، كما تصله بشعراء بغداد وصعاليكها وفقهائها. وتمنحه هذه أرضية للتحول الثاني الذي سيلم به خلال رحلته بين القبائل الهمجية، وخلال إقامته في بلاد البلغار، ومعرفته بالسندي تاجر القوارير وحامل مباديء العقائد الهندية. ويصل ابن فضلان عبر تجاربه هذه وتحولاته إلى مراتب روحية عليا تماثل مراتب المتصوفة في رفضهم لنظم الديانات الرسمية، وتأكيدهم على شخصية العلاقة الروحية بمنبع الوجود، أي الله بلا وساطة من نظم وطقوس.

اما من حيث سيرة المخطوطة، فقد،عُرفت كما يقول الراوية، في الأزمنة القديمة والحديثة، إذ تداولها رهبان التيبت، وعلق عليها الشيخ الرئيس ابن سينا، وقرأتها قرة العين البهائية، واتخذتها إيزابيل إبنة البابا الروسي الهارب مرشدا ً روحيا ً في الصحراء الجزائرية، وعرفها الاشتراكيون والفوضويون الروس في سويسرا وبطرسبورغ....إلخ. بل وعُثر على هوامش كتبها على المخطوطة الموجودة في مكتبة الدراسات الشرقية في بطرسبرغ عدد من الأشخاص مثل الديسمبري الشاعر ريليف والشيخ المصري عياد الزهراوي المدرس في الجامعة هناك، والشاعر السوري الهارب من قبضة العثمانيين رزق الله حسون، وناقش ما ورد فيها من حكايات حول نسبية الزمان والمكان وطبيعة المادة علماء فيزياء الكوانتم من أمثال هايزنبرغ ونيلز بور وآخرون.

كل هذا من نسج خيال الراوية بالطبع، إلا أنه خيال جامح ومدوخ كما أسلفت ينقل القارئ من عصر إلى آخر كما لو أن العصور متجاورة لا متعاقبة، فلا تعاقب في هذا المزيج من أساطير عربية وهندية ويابانية واسكندنافية، ومن اجتماع حكمة الطاو بحكمة القرآن أو اجتماع جدل الفقهاء بأقوال المتصوفة والمجان والشعراء، ناهيك عن إعادة كتابة وتأويل الأحداث التاريخية والتقاط اللحظات الدالة على الانحدار الحضاري بصور يجتمع فيها اربعة خلفاء عباسيين من فترات مختلفة مسمولي العيون على مقعد واحد أمام ساحة الكرخ الخالية، أو بصور بوادر نهضة يتحدث فيها ابن فضلان المولود في القرن العاشر الميلادي عن لقائه بقرّة العين البهائية وجمع من متصوفة عدة عصور في خيمة " بدشت " في أواخر القرن التاسع عشر.

في كلا الجانبين، المخطوطة وسيرتها، يجد القارئ نفسه أمام شبكة من العلاقات بين الأشخاص والأفكار والأحداث تفتقر إلى المسار المألوف في السرد القصصي. لاشيء يتبع شيئا ً، بل الكل في وقت واحد معا ً. ولهذا جاء مسار السرد مبتكرا ً غير مالوف في عالم الرواية العربية مثلما لاحظ الناقد العراقي " ياسين النصير " في مقال له عن هذه الرواية. ولهذا أيضا ً، يمكن للقارئ، إنطلاقاً من أي فصل من فصول الرواية ( وقد أطلق عليها الكاتب اسم مداخل ) أن يجد نفسه في قلب الرواية. ويجد من حوله خيوطها المنسوجة معا ً في منطقة تعلو متعمدة على المكان والزمان. فكيف يحدث هذا ؟ إنه يحدث إنطلاقا ً من مبدأ سرد جديد كل الجدة، نظرية ً وتطبيقا ً، ورد على لسان إبن فضلان نفسه حيث يقول: " إذا جمعت َ بين طرفين، الماضي والمستقبل وبينهما الحاضر، ستسمع صوتا ً مختلفا ً، وترى مشهدا ً مختلفا ً تماما ً مثلما يكون الحال حين تسمع إلى يمينك َ وشمالك َ أوتارا ً تعزف وأوتارك َ بين يديك مرخية أو صامتة، عندها تسمع عزفا ً هنا وعزفا ً هناك، ولن تسمع المعزوفة كاملة ومتناغمة إلا إذا شددت َ أوتارك، وعندها فقط ستجد نفسك َ في قلب المقطوعة كاملة. لن يكون لا الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل بل الكل الكبير "

الكل الكبير هو موضوع هذه الرواية وقد اتخذت إليه سبلا مستمدة من فيزياء الكوانتم ورؤى التصوف وشيء من تلميحات قرآنية وحوارات من كتاب الهندوس المقدس باجافات كيتا ( الانشودة السماوية ) وايماءات بوذية الزن اليابانية، وما لم استطع الوصول إلى مصادره. وفي الوصول إلى هذا الكل الكبير متعة، هي مزيج من متعة المستنير بالمفهوم البوذي ومن متعة ساكن النعيم بالمفهوم الاسلامي. ومع ان هذا النهج الروائي قد يجعل الرواية صعبة على غالبية القراء، نظراً لورود كل هذا تلميحا ً والماعا ً، ومن دون وضع هوامش مفسرة، إلا إنني اجد ه نهجا لابديل له في تجربة روائية من هذا النوع تنطلق من فلسفة ترى الوجود كلا متلاحما ً من حيث الزمان والمكان، أي لا وجود في أعماقه للتفاوت الزماني والمكاني. وتتغلغل هذه الرؤية الفلسفية في جسم السرد كله، فتهيمن على محتواه وشكله، محدئة ً بذلك تلاحما ً بين الشكل والمضمون. أي أن الشكل هو الذي قرر ضرورة هكذا مضمون، وهكذا مضمون قرر ضرورة هكذا شكل، وهوما يعني صعوبة أن يتحول هذا النمط من السرد الروائي إلى قالب، بل سيظل كما أتوقع تجربة يغادرها صاحبها فور الإنتهاء منها. وأخيرا ً، ألاحظ بأن هذا النهج كان نهجا ً واعيا ً ولم يكن اعتباطا ً، بدليل أنه مشروح في المتن بدقة، ومن هذا الشرح استمدت الرواية عنوانها ذا المغزى الديني: " لعل طموح ابن فضلان كان يؤججه هذا الحدس بوجود صورة مختلفة للتفكير والحياة، نعرفها إذا خرجنا على الخط المستقيم ووحدانية إما هذا أو ذاك، فقال بالتجاور والتماكن والتزامن، فانبثق من كل هذا معنى جديد للوجود في نفسه وفي ما حوله، بل ومعنى جديد للموت والحياة والألم والمسّرة، للأسى والبهجة، كأن الوجود معه تحوّل إلى شجرة مسّرات ".

ـ

* شجرة المسرات: سيرة ابن فضلان السرية، محمد الاسعد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف