الاسرار الخاصة في حياة صدام الجزء 2
تاريخ النشر : 2004-09-08
أخيراً صدر كتاب الدكتور علاء بشير، طبيب صدام الخاص باللغتين النرويجية والعربية (دار الشروق في القاهرة) وتتولي 17 دار نشر اخري في العالم ترجمته الي مختلف لغات الدنيا لأهميته.

ويحمِّل بشير الشعب العراقي جزءا من مسؤولية وصول صدام الي السلطة واستمراره لثلاثة عقود، لكنه يقر بانه لم يكن ليستطيع رفض منصبه بعد ان ملأ عشرات الاوراق ورد علي مئات الاسئلة، وقد كان آخر لقاء للطبيب مع صدام قبل 6 اسابيع من الحرب لفحص ظهره.

توقف عدي في شارع المنصور

لاصطياد فتاة.. فاصطاده ملثمان

* عالـجت فتيات كان عدي يعذبهن بالسكين أو بإطفاء السجائر في أجسادهن


صيد الفتيات

اشتهر محل الرواد بما يقدمه من المرطبات المتميزة جدا وبالفتيات اللاتي كن يترددن علي المكان. كان المحل يشغل المكان الواقع في الناصية بين الشارعين التجاريين أبو جعفر المنصور والمنصور. وفي كل مساء كان المكان حول محل المرطبات يعج بالشباب حَسني المظهر أبناء العائلات الكبيرة، وبالفتيات اللاتي كن يتجمعن هناك مثل النحل علي العسل. وما رأيته من نافذة العيادة الخاصة بي الكائنة في العقار نفسه أثبت لي أن هذه الناصية الحيوية هي أكثر مكان محبب للشباب في بغداد يمكن فيه اصطياد الفتيات.


بطاقة عدي للفتيات

وبالطبع كان عدي يتردد كثيرا علي هذا المكان، وكان يحب أن يجوب بسيارته المرسيدس أو غيرها الشوارع في تؤدة ليبحث عن الضيوف المناسبين لحفلاته الليلية. حتي إذا رأي فتاة ذات مظهر واعد أرسل إليها أحد أصدقائه أو حراسه ببطاقة تحمل رقم هاتفه، لتتمكن من الاتصال إذا أرادت. وبالفعل كانت هناك الكثيرات ممن فعلن ذلك. وكانت الدوافع لذلك كثيرة، فبعضهن كن يفعلن ذلك طلبا للمال، وبعضهن طمعا في الحصول علي وظيفة، والأخريات كن ينتهزن الفرصة لسؤال عدي عن مكان أخيهم أو أبيهم الذي اختفي في غياهب ومتاهات المخابرات القاتلة. وربما دفع بعضهن الفضول إلي التعرف علي حياة الترف التي يحلم بها الكثير ويعتقدون توافرها خلف أسوار القصور المحصنة.

وأغلبهن كن يجهلن ما ينتظرهن، فعدي لم يكن يتورع عن فعل اي شيء، فكثيرا ما تعين عليّ معالجة بعض الفتيات اللاتي كن يشاركنه حفلاته الليلية، ويتعرضن أثناء مداعبات الفراش إلي التعذيب بالسكين أو إطفاء السجائر في أجسادهن أو إلي أشكال أخري من الانتهاكات.


جمع الفتيات

ولم يكن عدي يكن لهن اي احترام، حتي حينما كان يكافئ إحداهن، فلم تكن مكافأته تتعدي عُلبة مساحيق أو ما شابه ذلك، مما لا يزيد ثمنه عن خمسة أو عشرة دولارات. فقد كان عدي حارسا علي ملياراته.

كان عدي يحتاج كل ليلة إلي نساء، لذا فقد كان هناك ستة من موظفيه يعملون علي جمع الفتيات له. ثلاثة مظن أعضاء اللجنة الأولمبية العراقية التي كان يترأسها عدي كانوا يعملون بدأب علي ذلك، فقد تخصصوا في تنظيم حفلات تبدو وكأنها حفلات بريئة في حدائق الجامعة والمعاهد العليا في بغداد. ولأن عدي كان يحتاج كل ليلة إلي نساء، فقد كان هناك عدد من النساء اللاتي يعملن لحسابه، يقمن بالبحث في هذه الحفلات التي كانت تنظمها اللجنة الأولمبية في أماكن متفرقة من بغداد. ولم يكن يعنيه كثيرا مَن التي تُشاركه الفراش، فقد حكي لنا صديقه القديم وسكرتيره الخاص ظافر محمد جابر أنه في إحدي الحفلات جاءته فتاة باكية وقالت له: «لقد ظننت أنه يهتم بي ولكنه في نهاية الأمر قد أخذ والدتي».

وكانت هذه الحفلات تُقام عادة في نادي اليخوت علي نهر دجلة في منطقة ساحرة الطبيعة، وكثيرا ما كانت تُنظم الانتقالات بالحافلات إلي مواقع الحفلات، التي كانت تتميز باللهو والرقص ويقدم فيها الطعام الفاخر. وكثير من الفتيات كن يحضرن بصحبة إحدي أخواتهن أو بصحبة الخالة أو العمة أو الأم. وكان كل شيء يسير بشكل أنيق، حتي عندما كان عدي يظهر علي شاشة التلفاز وهو ينتقي من بين الحضور من سيشاركونه الأمسيات الخاصة ذات الجو المرح.


انفضاح عدي

وبعد أن يختار من يريدهن كان يترك لبعض الموظفات لديه مهمة إقناع المختارات بالحضور. وكان بعضهن يدركن حقيقة ما يدور في الخفاء، أما الأخريات فكن يوافقن علي الحضور، فقد كانت الحفلات تسير بشكل محترم بدرجة توحي بعدم وجود خطورة في المشاركة فيما يتلوها من الحفلات.

ولم تنطلِ هذه الحيلة علي الفتيات إلا لفترة محدودة.. بعدها انتشر الخبر في بغداد، فقام عدي بطرد موظفاته القائمات علي إقناع وصيد الفتيات له.


أحرق مؤخرتها!

وقد أتت إحداهن إليّ في المستشفي مدعية أنها تعرضت لحروق من موقد يعمل بالغاز في بيتها. ولكن كان بها حرق أدي إلي جرح محيطه عشرة سنتيمترات، له الشكل نفسه علي مؤخرتها وقد كُتبت في وسط الحرق الدائري كلمة «عار». فقد كافأها عدي علي خدماتها الأولمبية المخلصة بأن أحرق مؤخرتها بالحديد الساخن ليجعل فيها علامة مميزة كما يفعل بالأبقار.

وفي يوم الخميس الموافق الثاني عشر من ديسمبر 1996 كان عدي يبحث من جديد في منطقة محل الرواد عن فتيات. وقد اتسم هذا الأمر مع مرور الوقت بالخطورة. كان الكثيرون يعرفون بخروجه إلي شارع المنصور ولم يكن أمرا سريا أنه أحيانا لا يصطحب معه حراسه الشخصيين عندما يخرج للبحث عن صيد لملذاته الليلية. وبمرور السنوات تكررت محاولات اغتياله، كان آخرها في مارس 1993، حيث انفجرت قنبلتان كانتا مُخبأتين في صناديق القمامة أمام مكتبه باللجنة الأولمبية، ولكن الانفجار حدث قبل ذهابه للعمل.


محاولة الاغتيال

وفي أحد أيام شهر ديسمبر خرج عدي بصحبة صديقه علي الساهر في سيارته البورش كاريرا، وبينما توقف في شارع المنصور أمام محل الرواد حيث نزل صديقه ليعطي رقم التلفون لإحدي الفتيات إذا برجلين ملثمين يثبان من أحد الشوارع الجانبية ويطلقان وابلا من الرصاص اخترق كلا من السيارة وابن الرئيس. ولإثارة الفوضي في شارع المنصور المزدحم بالسيارات قام الرجلان بإطلاق بعض الأعيرة النارية في الهواء ثم هربا من ممر صغير إلي شارع مواز لشارع المنصور، حيث كانت بانتظارهما السيارة التي هربا بها. ولم يتم القبض عليهما حتي الآن وإن كان يغلب الظن أنهما من الشيعة المناوئين للنظام الحاكم.

وقد سارت سيارة عدي البورش مسافة ثلاثين أو أربعين مترا قبل أن تتوقف، ثم جري صديق عدي حتي لحق بالسيارة وأسرع بإخراجه منها ونقله في سيارة أُجرة إلي مستشفي ابن سينا. كان فاقد الوعي عندما وصل إلي المستشفي وكان ينزف بغزارة، فلم يعد يربط ساقه اليسري بجسده إلا قطعة صغيرة من الجلد.

في يوم الخميس المذكور، الذي أطلق فيه النار علي عدي، لم يكن لدي نوبة عمل في مستشفي ابن سينا، كنت في المرسم في منزلي أرسم لوحة حين تلقيت اتصالا هاتفيا قُبيل الساعة السابعة مساء وطُلب مني التوجه إلي المستشفي بأسرع ما يمكن. وعندما وصلت إلي هناك بعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة كان المكان يعج بالحراس الشخصيين وضباط الحراسة الخاصة التي يترأس إدارتها قُصي.


محاولة إنقاذ

وفي غرفة العمليات كان هناك ثلاثة أطباء يعملون علي إنقاذه وقد بدأ ضغطه يتحسن بعد أن أعطوه كميات كبيرة من السوائل لأن ضغط دم عدي كاد يصل إلي الصفر عند نقله إلي المستشفي. ثم قاموا بفتح بطنه حيث اخترقت صدره رصاصة من اليسار، حوالي عشرة سنتيمترات أسفل الإبط، ومرت علي مسافة قصيرة جدا من القلب لتخترق الرئة وتشق المعدة في طريقها للخارج. كان جراح العظام سنان العزاوي هو الذي استقبله وقام بإسعافه حيث كان مناوبا في مستشفي ابن سينا وقت الحادث.

وبعد أن فتحنا القفص الصدري قمنا بخياطة الثقوب والجروح. ولأن الثلث الأعلي من الساق اليسري كان قد ثُقب بفعل الأعيرة النارية، فقد أخذتُ جزءا من عضلة الساق وسددتُ به الثقب في المكان الذي كانت فيه عظمة الساق. وأخيرا قمت بزراعة جزء كبير من الجلد من الجزء الداخلي للفخذ الأيمن علي قصبة الرجل اليسري لأسُد الفتحات بها.


6 ساعات

كما اخترقت عدة رصاصات الفخذ والساق اليمني دون أن تكسر اي عظام أو تدمر العضلات. واستمر عملنا ست ساعات حتي استطعنا أن نسد الثقوب ونُوقف النزيف الذي فقد عدي بسببه كميات هائلة من الدماء، فقد كان إجمالي ما نُقل إليه من دماء خلال أربع وعشرين ساعة عشرة لترات.

ولعله من الصعب أن يقترب شخص ما من الموت مثل ما حدث لعدي في ذلك المساء من شهر ديسمبر.

وبينما كنا واقفين في الغرفة الأمامية لغرفة العمليات نغسل أيدينا، إذ بصدام وسكرتيره الخاص عبد حمود وبعض الحراس الشخصيين يدخلون علينا. ولم يبد علي صدام اي توتر أو حزن بل كان هدوءه لافتا للنظر. وبعد أن حيانا قال لنا: «إننا نضايقكم مرة أخري بمشاكلنا». ثم سكت برهة وقال بعدها: «ولكن الأهم هو أمن العراق والعراقيين».

وسأل عن حالة عدي وأجبناه بأنه بالمقارنة بما حدث له فإن حالته أفضل مما كان يمكن أن تكون عليه. ثم توجه صدام إلي غرفة العمليات، فأشرت إلي عبد حمود بأن هذه ليست بالفكرة الجيدة، فالمنظر سيكون صعبا عليه ولكن عبد حمود لم يجرؤ علي إيقاف صدام.


صدام يتفقد عدي

وكان عدي مازال تحت تأثير التخدير نائما علي طاولة العمليات عاريا من كل شيء إلا بعض الضمادات علي صدره وبطنه وساقه وفخذه، وعلي الأرض كانت هناك بقع كبيرة من الدماء والكثير من الفوط الملطخة بالدماء. فاقترب منه صدام ونظر إليه ثم قال له: «يا بني إن الرجال يجب أن يتوقعوا أن يحدث لهم مثل ذلك».

ثم أخذ يد عدي في يده وقال: «ولكننا علي حق والآخرين علي باطل». ثم قبَّله علي جبينه. وقام قصي الذي كان قد حضر بتقبيله هو الآخر وعلي عتبة حجرة العمليات قبّل قصي يد والده واحتضنه وقبّله علي وجنتيه.

ثم سأل صدام: «ما الذي حدث لأخيك»؟

كان قصي هو رئيس الحراسات الخاصة والمسؤول عن أمن وسلامة الأسرة.


البحث عن فتيات

قال قصي لأبيه إن عدي كان صائما وبعد غروب الشمس كان في طريقه مع صديقه علي الساهر إلي شارع المنصور ليشتري بعض الطعام (سندويتشات). كان عدي يصوم يومي الاثنين والخميس أسبوعيا، وكان يوم الحادثة يوم خميس. واستكمل قصي روايته: «وعندما نزل صديقه من السيارة هاجمه الجناة».

نظر صدام إليه نظرة ملؤها الشك وطلب أن يتحدث مع الساهر. وبالفعل تم إحضاره، ووقف إلي الحائط.

«أعرف أنكما كنتما تبحثان عن فتيات». هذا ما قاله له صدام وهو ينظر إليه نظرة متفحصة. ولم يشكره علي أنه سارع بنقل عدي إلي المستشفي. وكاد الساهر يموت خوفا وهو واقف في مكانه لم يتفوه بكلمه واحدة، ولاحظنا أنه قد تبوّل في سرواله.


شعور ديني!

ولم تكن محاولة قصي تفسير وجود أخيه عند الرواد تفسيرا إسلاميا يرتبط بصيامه وإحساسه بالجوع، لم يكن هذا التفسير محض خيال، فقد كان عدي يتبع تعاليم الإسلام والقرآن بدرجة ما حسب إدراكه لها.

إن موت خاله عدنان خير الله في بداية سنة 1989 في حادثة سقوط طائرة مروحية هو الذي نمي الشعور الديني لدي عدي. كان عدنان هو وزير الدفاع في حكومة صدام، وكان قبل وفاته في ظروف غامضة، محبوبا جدا في الجيش، وكان ضباط الجيش يكنون له احتراما كبيرا. ولكن من الواضح أن عدنان لم يكن من الشخصيات المفضلة لدي عدي.

ولكن توجه عدي نحو الدين لم يكن سهلا، فقد كانت الصلوات اليومية الخمس في اتجاه مكة تمثل بالنسبة إليه مشكلة كبيرة، فلم يكن مثلا يؤدي صلاة الفجر، لأنه كان في ذلك الوقت عادة إما في حالة من السُكر بعد سهراته الطويلة، أو كان بالفعل في سبات عميق وكأنه حجر. وللأسباب نفسها لم يكن يؤدي صلاة الظهر، وكان يحاول تعويض هذا النقص بأن يتبع سنة الرسول ويقوم الليل يصلي لفترات طويلة.


فتوي الخمر

أما مشكلة تعاطي الخمور فقد كانت أشد سوءا، فكما هو معروف فإن شرب الخمر محرم في الاسلام. ولكن عدي كان له شيخ خاص به هو عبدالغفار العباسي المشرف علي البرامج الدينية التي يبثها تلفزيون الشباب الذي كان يمتلكه ابن الرئيس.

في أحد الأيام أرسل عدي ظافر محمد جابر للشيخ ليسأله ما إذا كان من المسموح أن يشرب كأسا من الخمر بعد العشاء.

وعندما سمع الشيخ السؤال سأل: «ومن الذي يريد أن يعرف ذلك»؟

فأجابه جابر: «إنه عدي».

فقال العباسي: «في حالته نعم يجوز».

ساجدة: سيقتل (صدام) أولادي!

كان صدام قد رحل من مستشفي ابن سينا قبل أن تصل أم عدي «ساجدة» إلي هناك. كانت الأم في حالة من الارتباك الشديد وبدا عليها أنها خرجت دونما أي تأهب أو استعداد فقد كان شعرها غير ممشط، ورافقها ابنها قصي إلي غرفة عدي، ولم يفلح في تهدئتها.

وإذا بها تقول باكية: «إنه سيقتل أبنائي»!

فهمت مــا تقصــده، فقد كــان صــدام غير محبـــوب لـدي الشعب العراقي في الآونة الأخيرة، ولم يعد أحد يحتمله أكثر من ذلك ولكن من الذي يجرؤ علي التفوه بذلك.

كانت ساجدة تعتبر أن الهجوم علي عدي ما هو إلا محاولة من الشعب للانتقام من صدام، لأن أحدا لم يستطع أن يصل إلي الرئيس شخصيا حتي الآن.

وكانت ظروف المعيشة قد وصلت في الخريف من ذلك العام إلي مستوي متدنٍ بدرجة لم تصل إليها منذ بداية الأزمة الاقتصادية التي بدأت مع الحرب ضد إيران عام 1980.

فقد استنزفت السنوات الخمس عشرة الأخيرة آخر طاقات الشعب لما كان فيها من حربين متعاقبتين و عدة محاولات للثورة وعقوبات من الأمم المتحدة، حتي أن مئات الآلاف من الأطفال قد ماتوا من جراء تلك الأحوال القاسية. وبينما كانت ظواهر مثل الفقر والجوع والمرض والجريمة والدعارة تتفشي في البلاد، استمر خبراء التفتيش الدوليين في البحث عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي يمتلكها صدام. وقد تزعم هذا البحث المضني كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العظمي.

زيادة جنون

وفي اليوم التالي اكتشفنا أن عدي فقد القدرة علي الحركة في ذراعه الأيسر ويده ورجله اليسري. بالإضافة لذلك فقد بدأت عينه اليسري تزيغ إلي الداخل واستطعنا أن نكتشف عن طريق رسم المخ وجود إصابة طفيفة في المخ حدثت بسبب انخفاض ضغط الدم الذي عاني منه عدي بعد الحادث عندما نُقل إلي مستشفي ابن سينا. ولم يكن هذا التشخيص مطمئنا، فكيف ستكون الحال لو زاد علي جنون عدي إصابة بالمخ. أعلن مختصو وجراحو المخ والأعصاب في مستشفي ابن سينا في وضوح شـــديد رفضهم لإعــلان هــذا التشــخيص. فالتصــرف الأكـــثر أمنا كان إخفاء هذا الخبــر الســيئ عن عدي وعائلته. علما بأنه لم يطلب من الأطباء إخفاء الحقيقة. لكن هذا السلوك مع العائلة أصبح متعارفاً عليه بسبب سلوك بعض الأطباء المقربين إلي العائلة.

فقد كان علينا نحن الأطباء في مستشفي ابن سينا أن نتصرف دائما بحذر شديد وكأننا نتحرك فوق طبقة رقيقة من الثلج، لأن مرضانا كانوا أكثر الناس في العراق سلطة وتأثيرا. ولهذا فإن اي تشخيص غير صحيح أو اي علاج لا يأتي بنتيجة يكون لهما عواقب وخيمة علي الطبيب المعني، وربما أثّر ذلك في مستقبلنا تأثيرا سلبيا إلي أبعد الحدود.


انسداد الرئتين

وكانت محاولة إنقاذ عدي أصعب مما ظننا. في يوم 20 ديسمبر اشتكي عدي ألما شديدا في صدره، فقمت مع زميلي طبيب الباطنية المناوب بفحصه واكتشفنا وجود العلامات الأولي لانسداد في الرئتين، وليس هذا بالأمر الغريب بعد إجراء العمليات الجراحية الكبيرة، فعادة ما تحدث تجلطات بالدم في الأوردة التي تنقل الدم خلال الجسم. وأحيانا يكون من الصعب اكتشاف مثل هذه التجلطات الدموية التي تبقي عالقة بجدران الأوعية الدموية قبل فوات الأوان.

فعندما تتحرك التجلطات من مكانها، من الممكن أن تتجمع في الرئة لتسد طريق تدفق الدم إليها. وهذا يعني في الغالب الموت المحقق للمريض. وكانت الآلام التي عاني منها عدي في الصدر تدل علي أن بعضا من التجلطات قد تحركت من مكانها وبذلك فالمسألة أصبحت فقط مسألة وقت حتي تتحرك باقي التجلطات إذا لم نتمكن من إذابتها عن طريق المواد المخففة لكثافة الدم قبل أن تصل إلي الرئة.

وكان مجموع عدد الأطباء المعالجين لعدي تسعة، وتمت دعوتنا في يوم ليلة رأس السنة في المساء إلي قصر السجود علي نهر دجلة بالقرب من النصب التذكاري للجندي المجهول لمقابلة صدام الذي كان يريد مجددا أن يطمئن علي حال ابنه. فشرحنا له أن ما يؤرقنا هو وجود تهديد بحدوث انسداد في الرئة واننا نعالجه بشكل مكثف باستخدام مواد مخففة لكثافة الدم. فنظر إلينا صدام وقال لنا إن المرء لا يجب أن ينشغل بالقتلي والجرحي أثناء المعركة «ولكن بعد نهايتها نقدم للجرحي أفضل رعاية وعلاج ممكن». ثم أضاف قائلا: «وهكذا الحال أيضا مع عدي». وبذلك أنهي اللقاء.


المكان نفسه

وبعد ذلك بأسبوع وبينما كنا نفحص عدي أثناء المرور الدوري إذا به يخرج الجميع عَداي من الحجرة. «قل لي يا دكتور علاء، لقد عالجت عمي وطبان أيضا وأجريت له عملية جراحية، أين كانت إصابته، الساق اليمني أم اليسري»؟

«اليسري».

«هلا قلت لي أين بالضبط»؟!

«نعم، في الموضع نفسه الذي تحطمت فيه ساقك بفعل الأعيرة النارية».

«يا إلهي... لقد عاقبني الله»!

ثم سكت برهة سألني بعدها عن المكان الذي يمكن أن يحصل فيه علي أفضل علاج، هل في بغداد أم في الخارج؟ وبينما كنت أناقشه في مزايا وعيوب كل من الإمكانيتين إذا بصدام يدخل علينا وبصحبته أخوه غير الشقيق وطبان، الذي كان يمشي بصعوبة شديدة بالرغم من أنه غادر مستشفي ابن سينا منذ أكثر من نصف سنة.


شماتة وطبان

ومن سخرية القدر أن يرقد الآن ابن أخيه في المستشفي نفسه لإصابته في الساق اليسري أيضا وبطلق ناري حطم الساق كلية في الموضع نفسه الذي أصابه عدي فيه بطلق ناري يوم 8 أغسطس من العام الماضي وهم مجتمعون علي وليمة علي ضفة نهر دجلة، كان ذلك هو اليوم الصعب ذاته الذي هرب فيه أزواج بنات صدام بصحبة زوجاتهم وأبنائهم إلي الأردن. وبعد هذا الحادث آنذاك قدم عدي الاعتذارات لعمه وطلب منه الصفح. ولكن كان لدي شعور قوي بأن وطبان يبذل مجهودا كبيرا في إخفاء شماتته بابن أخيه عدي، علي الرغم من أن وجهه كان عابسا وهو يسأل ابن أخيه عن حاله. لقد كان يكره عدي حتي النخاع.

حاولت ساجدة وأختها توريطي في صفقة

أجهزة رنين مغناطيسي لأن صدام يثق بي

* طبيب أعشاب خدع صدام بدواء للسرطان.. فمات مرضاه


الدجالون

نتيجة لعدم توافر الثقة بالأطباء تحول الطب في العراق إلي مجرد وهم ودجل.

وفي نهاية الثمانينات تلقيت يوما اتصالا هاتفيا من وزير الصحة آنذاك عبد السلام محمد سعيد الذي أبلغني بأن زوج ابنة صدام ووزيره للتصنيع الحربي والمدني حسين كامل المجيد يريد مقابلتي. حين قابلته كان معه قصاصة ورق من صحيفة وشريط فيديو قصير عن دواء ساحر لعلاج السرطان.

وقد قدم المخترع نفسه للرئيس الذي تحمس كل التحمس لاختراعه وقرر تقديم الدعم له، ولذلك فقد حضر إلي حسين كامل.


سحر.. طبي

ويعرض شريط الفيديو كيف يتم شفاء عدد من مرضي السرطان بما يشبه المعجزة بعدما يشربون بعض الأكواب من إكسير الأعشاب الذي أعده المخترع، الذي يقف في مطبخه يحرك الإكسير في قارورات كبيرة.

قال لي الوزير: «يجب أن أصارحك بأنني يساورني الشك في ذلك المُرَكب، ولكن المرضي يبدون في الشريط في حال أفضل بكثير بعدما شربوا من هذا المشروب العجيب الذي يقدمه لهم المخترع».

فأجبته بأنني أعتقد أنه يخلط مشروبه بكمية كبيرة من الكورتيزون، لأن مريض السرطان تتحسن حالته عقب تناوله هذه المادة ولكنها لا تعيق انتشار المرض. ولكي أكون أكثر وضوحا، إنني سأكون حذرا جدا قبل أن أثق بشخص يدعي أنه باحث في مرض السرطان وهو لا يملك مايكروسكوبا واحدا في معمله.

وبعد مضي شهرين افتضح أمر هذا المعالج النصاب الذي تحمس له صدام، فقد كان الجزء الأكبر من مشروبه السحري يتكون من الكورتيزون، ومات معظم مرضاه بعد تصوير الفيديو بفترة وجيزة، كما اتضح أن ذلك المخترع كان قد سُرِّح من الجيش لإصابته بمشكلات نفسية.


اختراع آخر

ولم يكن طبيب الأعشاب ذلك هو الوحيد الذي تمكن من خداع صدام، ففي الفترة نفسها التي كنت أعالج فيها صدام من مسامير الرجل ظهرت صيدلانية، وادعت اختراع مرهم لعلاج الغرغرينا وتريد تجريبه علي مرضانا.

كثير من مرضانا كانوا يعانون من الغرغرينا. ومرض السكر هو من أكثر الأمراض انتشارا في الشرق الأوسط، ومن أهم آثار هذا المرض حدوث تصلب في الأوعية وخصوصا في الساقين، وبسبب ضعف الدورة الدموية تحدث في هذه الأماكن بعض الحروق، حيث يكون الحل الوحيد هو البتر لتجنب انتشار موت الأنسجة الذي يهدد حياة المريض. ولم ترغب الصيدلانية أن تخبرنا بتركيبة المرهم الذي اخترعته، وكانت تدعي قدرتها علي منع انتشار الحالة وتحسين سريان الدورة الدموية بشكل هائل وبالتالي لن نضطر بعدها للبتر ويتم بذلك إنقاذ سيقان كثيرة.

وتردد الحديث وقتها عن أن هذا الكشف هو إعجاز عالمي يستحق جائزة نوبل.

قامت المخترعة بالكتابة لصدام وحكت له عن كشفها العلمي، ورد عليها الرئيس متلطفا: «حسب معلوماتي فإن الكثير من الأفكار الجديدة المتطورة لا تجد لها فرصة بسبب البيروقراطية، وأنا أعتقد أنهم سيحاولون وضع العراقيل في طريقك».

وحضرت إلي مستشفانا ومعها خطاب يؤكد لنا فيه عبد حمود رغبة الرئيس في أن نساعدها بأقصي جهدنا.

فأجبتها إلي طلبها قائلا: «لا مانع من أن تجربي مرهمك علي مرضانا بشرط أن توقعي تعهدا ينص علي تحملك وحدك المسؤولية كاملة عن حالاتهم، فنحن لا نعرف أي شيء عن المكونات الكيميائية لهذا المرهم أو الأعراض الجانبية لاستخدامه، ولكن إذا قبلت تحمل المسؤولية بشكل شخصي فلا مانع لدي».

فقالت لي إنها ستحضر في اليوم التالي ولكنها لم تفعل.


معاقبة طبيب القلب

ثم أتت بعد ذلك إلي رياض محمد صالح مدير عام مركز صدام لجراحة القلب. كان الدكتور صالح من أهم أخصائيي القلب في العراق وكان لفترة طويلة في الفريق الطبي الخاص بالرئيس. وفي يوم فقد وظيفته مما أثار عجبنا في البداية، حتي عرفنا السبب بعدها.

قام الدكتور صالح في إحدي المرات بفحص صدام واكتشف أن ضغط دمه كان مرتفعا جدا، ولذا فقد نصحه الطبيب بالإقلال من أكل الدهون والملح والإقلال من التدخين وقبل الفحص التالي قام أحد الحراس الشخصيين لصدام بإبلاغ الطبيب بأن صدام لم يقلل من التدخين بل علي العكس أصبح يدخن أكثر من ذي قبل، ولم يتبع نصيحة الطبيب.

وعندما قاس الطبيب ضغط دم صدام قال له: «يا سيادة الرئيس، يجب أن أذكرك أن التدخين يمثل ضررا كبيرا وخطرا علي ضغط الدم، لذا فيجب عليك الإقلاع عن التدخين».

واستشاط صدام غضبا وجنونا.

«أغلق فمك . لقد قلت لي ذلك من قبل. إنك تكرر نفسك. إذا كنت أدخن أم لا فهذا أمر يخصني أنا فقط، وأنت ليس لك أي لزوم هنا».

الصيدلانية علي الخط

وعلي الرغم من أن مدير المستشفي قد احتفظ بعد هذه الواقعة بوظيفته إلا أن بقاءه في هذه الوظيفة أصبح مهددا بعد ظهور تلك الصيدلانية.

فقد كان من بين ما طلبته أن تتولي هي علاج الفريق الركن هشام صباح الفخري وهو أحد القواد الذين جرحوا أثناء الحرب ضد إيران.

وكان اللواء مصابا بالغرغرينا في رجليه نتيجة للدرجة المتقدمة من مرض السكر التي كان يعاني منها. وحكي لي الدكتور صالح شاكيا: «لم أجرؤ علي الرفض فقد حضرت بصحبة أحد حراس صدام، لقد أخبرته بأن الأطباء الذين قابلتهم هنا لم يبدوا أي ترحاب أو تعاون، وهذا ما لم يقبله صدام».

وبعد يوم من استخدامها للمرهم السحري علي باطن ساق الفريق، قام الدكتور صالح بأخذ عينة من المرهم في السر ليفحص تركيبها البكتيري.

وأثبت التحليل المعملي أن المرهم يحتوي كمية كبيرة من البكتيريا بمختلف أنواعها. وعندما واجه الصيدلانية بهذه النتيجة ثارت وصرخت فيه: «كيف تجرؤ علي أخذ عينة من المرهم وتفحصها في المعمل دون علمي! ثم خرجت من الحجرة غاضبة».

وعلي الفور ذهبت إلي القصر الجمهوري لتشتكي للرئيس، الذي كان يسمع لها دائما. وكان ما حدث بالنسبة إليه دليلا قاطعا علي أنهم يضعون العراقيل في طريقها، وأن الأطباء يرفضون التعاون معها.

وبالفعل تلقي بعدها الدكتور صالح قرارا بعزله عن منصبه كمدير لمركز صدام لأمراض القلب. وبعد ذلك كلف مستشفي اليرموك بالتعاون مع المخترعة. ثم دعاها صدام إلي مكتبه بصحبة وزير الصحة وأربعة من المتخصصين في الأمراض التي تفضي إلي موت الخلايا وقال الرئيس إنه قد أعطي أوامره بتخصيص معمل وفريق عمل لمساعدة الطبيبة علي إتمام أبحاثها حول المرهم الجديد في مستشفي اليرموك. ولكن ساقي الفريق الفخري لم يمكن إنقاذهما وتم بترهما.


قدم الرئيس اليمني

وفي يوم العاشر من شهر فبراير تم اصطحابي من مستشفي ابن سينا إلي بيت صغير بالقرب من الجسر المعلق لكي أفحص قدم الرئيس اليمني في تمام الساعة الخامسة مساء، ولكني اضطررت لانتظاره فترة، لذلك فقد اعتذر لي صدام عند قدومه علي تأخره عليَّ.


الحظر الجوي

كان لديه محادثة مهمة مع مجموعة من الضباط واستمرت المحادثة أطول مما توقع. كان الضباط يعملون علي تطوير نظام دفاع جوي لاستخدامه في منطقة الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق.

«إنهم يفهمون عملهم جيدا ويحققون تقدما، ولكنهم بحاجة إلي المال. إلا أننا لا نملك الكثير منه بسبب العقوبات». «كما يقول ماركس: يختفي المال دائما، عند المواقف الحرجة».

بدأ حظر استخدام المجال الجوي أولا في الشمال، ربما لإعطاء الأكراد الذين يعيشون في الأماكن الشمالية التي هربوا إليها بعد أحداث الشغب عام 1991 إحساسا إضافيا بالأمان.

أعلمت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا بغداد بحظر تحليق أي طائرات أو مروحيات عراقية شمال خط العرض 36، حيث المناطق المسماة بالمناطق الآمنة، وبعد عام من الحظر قررت القوي العظمي الثلاث فرض حظر مماثل في الجنوب، مبدئيا حتي خط عرض 32 جنوبا.

كان العرب المقيمون في مناطق المستنقعات آنذاك يشنون حرب عصابات لا جدوي منها ضد جنود الحكومة، ولكن تم تجفيف جميع المستنقعات من خلال مشروع صدام لردم المستنقعات.

وعلي حد علمي لم يكن سبب الحظر الجوي هو حماية ذلك الشعب الصغير أو حماية الهاربين من الأكراد وإنما فقط لفرض الرقابة علي العراق.

وغطت منطقتا الحظر معظم أراضي العراق، خصوصا بعد توسيع المنطقة الجنوبية حتي خط عرض 33.

كانت الطائرات الأميركية والإنكليزية والفرنسية حتي عام 1998 تذكر دائما أن صدام لم يعد هو صاحب الأمر في البلاد. وتجلت هذه الحرب النفسية من خلال خمسين إلي مائة طلعة جوية يوميا.

وفي حال حدوث أي محاولة لضرب إحدي طائرات الحلفاء كان ردهم يأتي دونما تأخير بأن ينسفوا المواقع وقواعد الصواريخ العراقية.

وخلال تلك المهمات الجوية في مناطق الحظر قتل المئات من العراقيين وجرح الآلاف.


مفهوم الوطنية

ولم تُجدِ محاولات الدفاع عن المجال الجوي العراقي، فلم يحدث أن أصيبت إحدي الطائرات الأميركية أو الإنكليزية أو الفرنسية خلال طلعاتهم الاستكشافية، ثم استكمل صدام حديثه قائلا: حيث إننا لا نملك الأموال الكافية لتطوير نظام دفاع جوي، فلن يبقي لنا في الوقت الحالي إلا الوطنية ... فأجبته: «إن الوطنية مفهوم غير واضح المعالم».

«ماذا تعني بالضبط...»؟

«إن الوطنية ترتبط عادة بتعبير الإنسان عنها وليس بما يؤديه الإنسان من عمل في سبيل وطنه، فالبعض يظن أن خروجه في مظاهرة في الطريق العام هو أكثر وطنية من قضائه ساعات طويلة في معمله وهو يقوم بالأبحاث العلمية».

«أنا أثق بأن العراقيين يعرفون جيدا ما يفعلون، عندما يخرجون في مظاهرة. فكما يحكي لنا تاريخ حضارة العراق، أن هذا الشعب تزداد وطنيته عندما يهدده عدو خارجي».

ثم سكت الرئيس برهة قال بعدها: «ولكن المشكلة أنه إذا قلت حدة التهديد الخارجي مرة أخري، فإن شعورهم الوطني يتراجع ويسقط الناس في بئر السلبية والإهمال».


منجم ذهب

كان برنامج النفط مقابل الغذاء الذي وفر الطعام لملايين الناس بمثابة منجم ذهب لكل من أقارب صدام وزعماء الحزب والوزراء، الذين استغلوا الفرصة ليزدادوا ثراء، فقد كانت الصفقات عملاقة، فمن 1997 حتي انهيار الحكومة العراقية في أبريل 2003 تم شراء سلع غذائية وأدوية بأكثر من عشرين مليار يورو. وبالتالي فإن أي مبلغ عمولة حتي لو كان بنسبة مئوية بسيطة فإنه يجلب لصاحبه مبالغ طائلة .

وكان يجب اعتماد الفواتير والمشتريات والموافقة عليها من لجنة العقوبات المنبثقة عن مجلس الأمن والتي كانت تراقب الحساب المجمد الذي تحولت إليه المليارات من عائد بيع النفط العراقي. وكان دور اللجنة الأساسي هو منع صدام من شراء أي أسلحة جديدة أو أي معدات أو تجهيزات قد تساعده في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. ولكن لم يتسن للجنة مراقبة هذا الكم الكبير من الصفقات غير المشبوهة أو العقود التي يتم توقيعها وما تضمنته من عمولات. وكان من الواضح أن خداع المراقبين في نيويورك لم يكن بالأمر العسير. فالعملية كانت تتلخص ببساطة شديدة في اختيار الموردين الذين هم علي استعداد لدفع عمولات بشكل غير شرعي لعصابة الذئاب من الفسدة في السر وبطرق خفية علي السعر النهائي قبل عرض العقود علي لجنة العقوبات للموافقة. وكلما ارتفع السعر ارتفعت العمولات.


القطاع الصحي

ولم يكن القطاع الصحي استثناء، ففي الوقت الذي كنا نصرخ فيه طلبا لبعض الأدوية المهمة لإنقاذ حياة مرضانا وطلبا للمشارط والأربطة والضمادات الحيوية وأدوية التخدير، كانت تصل إلينا أجهزة طبية حديثة وباهظة الثمن. وفجأة وصل إلي جميع مستشفيات العراق أجهزة طبية عالية التقنية وأجهزة الرنين المغناطيسي، علي الرغم من أن معظم الأطباء لم يكونوا علي دراية بكيفية تشغيل تلك الأجهزة. وكنا بذلك شهود عيان علي لون من أخبث وأحقر وأقذر ألوان الفساد.

كان المرضي يموتون وهم علي طاولات العمليات لأن متخصصي التخدير لم تتوافر لهم الأدوية الأساسية لإنقاذ حياة هؤلاء المرضي من الأدوية التي تستخدم أثناء أو بعد العمليات الجراحية. وكانوا يضطرون لاستخدام عقاقير لها آثار جانبية مميتة.

لا بد أن وزير الصحة مدحت مبارك كان علي دراية بما يجري ولكن لم يكن بمقدور أحد تغيير مجري الأحداث.

ساجدة وإلهام

حتي زوجة صدام ساجدة وأختها إلهام، زوجة وطبان أخي صدام غير الشقيق، كلتاهما لم تمتنعا عن المشاركة في الفساد. فالجميع كان يريد نصيبه من الكعكة.

في أحد الأيام اتصلت بي إلهام وطلبت مني أن أذهب إليها في البيت، لأنها تريد محادثتي في موضوع له أهمية كبيرة بالنسبة إلي الأمة.

«ساجدة وأنا نرغب في تقديم خدمة لبلدنا في هذا الوقت العصيب». هكذا بدأت حديثها بعد أن قدم لنا الخدم الشاي.

«أعرف أنه سيتم شراء عدد كبير من أجهزة الفحص بالرنين المغناطيسي وغيرها من الأجهزة، وقد اتصلت بنا شركة أميركية مقرها بيروت بهذا الخصوص، فالشركة علي استعداد لتوريد الأجهزة لنا وبسعر أفضل مما قدمه الموردون لوزارة الصحة من شركة سيمنز».

ثم أضافت قائلة: «والأجهزة المعروضة علينا أفضل وأكثر فعالية».

وعلمت أن بعض ممثلي الشركة سيحضرون مساء اليوم التالي إلي عيادتي الخاصة لشرح الموضوع لي بشكل أكثر تفصيلا.


صدام يثق بك

وأكدت لي أخت زوجة الرئيس: «الموضوع مستعجل جدا، وإنه من العار أن تفلت هذه الفرصة من أيدينا».

وطلبت مني أن أكتب خطابا بصفتي محل ثقة صدام أشرح له فيه أن أجهزة الرنين المغناطيسي المعروضة من تلك الشركة هي أرخص وأفضل من غيرها، ولذلك فيجب شراؤها لجميع مستشفيات العراق.

فقلت لإلهام إن هذا ليس تخصصي وإنها يجب أن تسأل مختصّ أشعة. فقالت لي: لا، فصدام يثق بك أنت، لذلك فإن ساجدة تريدك أنت أن تكتب خطاب التوصية بعد أن قرأت كتيبات الدعاية الخاصة بالشركة وقابلت مندوبيها.

وكما توقعت فقد زارني مندوبو الشركة في عيادتي وأخبروني بأن أجهزتهم هي الأفضل في السوق العالمية كلها. وأخبروني أنني سأستفيد شخصيا من وراء هذا الموضوع. وكان أحد المندوبين لبنانيا والآخر عراقيا.

وبعد خروجهما من عندي اتصلت بإلهام وقلت لها:

«يؤسفني أن أخبرك أنني لن أكتب الخطاب للرئيس كما طلبتما مني» فقالت لي: «حسنا».

ثم عاودت الاتصال بي بعدها مباشرة وأخبرتني أنها قد تحدثت مع أختها وتريد مني الحضور إلي مستشفي ابن سينا.


توقيع بالقوة

وعندما ذهبت إلي المستشفي كان بانتظاري الحارس الشخصي لساجدة ومعه خطاب فيه أنني أقترح علي صدام أن وزارة الصحة يجب أن تشتري أجهزة الرنين المغناطيسي من الشركة المعنية لأنها تقدم أرخص وأفضل عرض. وكان الخطاب جاهزا ولا ينقصه إلا توقيعي.

فاتصلت بإلهام مرة أخري وقلت لها: «لقد قرأت الخطاب ولكن كيف لي أن أوقع مثل هذا الخطاب وأنا لا أعرف الكثير عن هذا التخصص ولذلك فأنا لا أنوي اقتراح أي شيء لا علي الرئيس ولا علي غيره».

فأجابتني متعجبة: «إنك تتصرف بشكل غريب، إن ساجدة تطلب منك هذا الصنيع. ساجدة، زوجة الرئيس تطلب منك شخصيا المساعدة. إنها تعرف أن صدام يثق في أنك لن تخدعه».

فقلت لها: «يؤسفني وأرجو منك المعذرة فأنا لن أوقع علي شيء». فغضبت إلهام وأغلقت الخط بعنف.

ثم تلقيت منها اتصالا هاتفيا بعد ثلاثة أيام، قالت لي فيه: «لقد وجدنا طبيب أشعة وقد وقع بالفعل علي الخطاب والآن يمكن أن توقع أنت أيضا علي الخطاب».

«ليس عندي أي نية لذلك حتي الآن».

وجن جنونها هذه المرة أيضا ولكنها لم تعاود الاتصال بي بعد ذلك.

ومضت أيام بعد آخر محاولة فاشلة للأختين لإقناعي بالتوقيع، وإذا بأهم سكرتير لدي صدام عبد حمود يحضر إلي مستشفي ابن سينا ويدخل دون مقدمات في الموضوع: «لقد كان تصرفا حكيما منك أنك لم توقع الخطاب الخاص بأجهزة الرنين المغناطيسي».

وسألته كيف عرف بالأمر..؟ فأجابني: «هذا عملي».


عين السمكة

وفي يوم السادس عشر من فبراير أي بعد مضي حوالي أسبوعين من إزالتي «لعين السمكة» من قدم صدام كان الجرح شبه ملتئم كلية، لقد جاؤوا بي إلي بيت صغير جديد علي الأرض بقصر الرضوانية بالقرب من مطار بغداد الدولي، وكان الجو غير مريح في الهواء الطلق بسبب الريح الباردة.

كان دكتور طاهر التكريتي المختص بالأمراض الباطنية في فريق صدام الطبي قد قام بقياس ضغط دمه الذي أصبح طبيعيا الآن وكعادته كان صدام يدخن واحدا من سيجار الهافانا الكبير. وبدا عليه الإرهاق والتعب. وقال لي صدام بعد أن انصرف الدكتور التكريتي: «ما رأيك يا دكتور علاء في العقوبات التي فرضتها علينا الأمم المتحدة. إلي أي مدي يتضرر منها الناس العاديون»؟

«لا شك في ان الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا علي العراق قد أثّر علينا جدا. إن نسبة من خمسة عشر حتي عشرين في المائة من المشاكل الاقتصادية التي نعاني منها السبب فيها تلك العقوبات.أما السبب الرئيسي في نظري فهو السياسة الاقتصادية المزرية التي تسبب فيها الكثير من مسؤولي الدولة».

بينما كنت أتحدث مع صدام كان النقيب سرمد الصفار واقفا بأحد أركان الحجرة، وكان أكثر الحراس الذين يثق فيهم صدام.

وعندما هممت باستكمال حديثي أشار له صدام أن يغادر الحجرة، ولاحظت أن صدام لم يعجبه ما قلته له.

وسألني: «ما الذي تعنيه بالضبط»؟

فأجبته: «هذا هو الانطباع الذي اكتسبته من خلال احتكاكي بالناس وبالمرضي وهذا يتوافق مع ملاحظاتي الشخصية».

فسألني: «هل تستطيع إثبات ذلك» ؟

«فشرحت له إنه إذا سعي أي مواطن عراقي مثلا لتأسيس شركة وطلب الموافقات اللازمة فسيكون بانتظاره جحيم حقيقي من البيروقراطية».

واستطردت في كلامي قائلا: «علي المرء أن يتوقع الأسوأ الآن. إن آجلا أو عاجلا سيكون لزاما دفع رشاوي صغيرة أو كبيرة من أجل الحصول علي موافقة. إنه الجحيم بحق».

صدام يعترف

جلس صدام برهة صامتا ثم قال: «أنا أعاني مشكلة صعبة. أنا أبذل مجهودا كبيرا لأجد الأشخاص المناسبين للمناصب العليا. وأنا أعرف أن وزرائي ليسوا بالمجتهدين ولا هم شديدو الذكاء، وكذلك زعماء حزب البعث أيضا. عندما أناقش معهم قضايا معقدة يستمر الأمر أحيانا فترات طويلة جدا حتي يفهموا ما أتكلم عنه أساسا».

وأحيانا أتصفح مثل هذه المناقشات وأري علي الفور أنهم لم يفهموا أي شيء.

وسكت الرئيس ثم أشعل سيجارا جديدا وقال بعدها: «لقد جربت أن أعين بعض أعضاء الحزب من الذين لم أجربهم من قبل وعينتهم نوابا للوزراء ومديرين في الوزارات ليتدربوا علي العمل ولأوقف بهم فيض الفساد. وتوهمت أن أهل الثقة في الحزب أفضل من العاملين في الحكومة ولكن ثبت لي بعد فترة لا تجاوز الشهر أن الأوضاع قد ازدادت سوءا». وعندما خرجت من عنده رثيت لحال الدكتاتور بالرغم من أنه لم يكن هناك داع لذلك.

صدام يركل عشيقته ويطردها لأنها اعتبرت غزو الكويت نحساً علي العراق

* استشارتني سميرة الشهبندر في شأن شد الجلد رغم أنها لا تحتاجه


زوجات الرئيس

في أحد أيام الصيف قبل أربع سنوات أرسلت سميرة الشهبندر بطلبي. وكانت تسكن في بيت عادي مفروش بأثاث عادي، لا يبعد كثيرا عن الجسر المعلق علي نهر دجلة، وكان الجسر قد أعيد بناؤه بعد أن دمرته القنابل في فبراير 1991 أثناء حرب الخليج. كانت سميرة، الزوجة الثانية للرئيس، قد رأت برنامجا عن جراحات التجميل في إحدي المحطات التلفزيونية التي تشاهدها عن طريق طبق الاستقبال، وكانت تريد أن تسألني عن جدوي مثل هذه العمليات.

قلت لها إنها يجب ألا تصدق كل ما يقال في هذه البرامج، لأن جراحات التجميل أصبحت الآن تجارة رابحة في العالم كله. ومن السهل أن يقع المرء ضحية بعض الأطباء الدجالين والمستشفيات المحتالة ممن يعدون بأكثر مما يستطيعون. قالت لي: «عندي تجاعيد كثيرة في وجهي ورقبتي». كانت سميرة الشهبندر ذات الشعر الأشقر الفاتح والعينين الزرقاوين لا تزال جميلة، رغم أنها أصبحت بين الخمسين والستين إلا أنها لم تكن بحاجة لعملية شد جلد.

وبعد أن فحصتها بدقة أكثر قلت لها: «من الواضح أنك ستبدين أصغر في السن، إذا أجريت لك جراحة تجميلية».


عملية سرية

واتفقنا علي إجراء العملية يوم الجمعة لأنه يوم العطلة في العراق وباقي العالم الإسلامي. لذلك كان من المعتاد أن يخلو مستشفي ابن سينا يوم الجمعة من الأطباء والممرضات، ولذلك قررنا أن تكون العملية في الصباح كي لا يكثر القيل والقال، وهي المادة الأساسية للحديث عند معظم الناس.

ومر كل شيء يومها بسلام وكما خططت له، فقد نقلت زوجة الرئيس بعد العمــلية إلي جنــاح مخصـص لصدام وأفراد عائلته المقربين. ورجعت إلي المستشفي في مساء اليوم نفسه لأتأكد من عدم حدوث أي مضاعفات، وكان كل شيء علي ما يرام.

ثم طرحت عليها سؤالا عابرا: «هل يعلم زوجك بهذه العملية»؟ أجابتني:«لا».

وأصبت بقشعريرة في جسدي، فقد كانت لدينا أوامر واضحة من صدام بأن نخبره علي الفور بأي مساعدة طبية تقدم لأي من أفراد عائلته.

وقلت لها: «لا أظن أنك مدركة لحجم المشاكل التي سببتها لي بإخفائك أمر عملية التجميل عن الرئيس».


مراقبة دائمة

كان من الواجب علينا إعلام مكتب الرئيس بتفاصيل متابعة علاج عائلته حتما، ولكنه علي الرغم من ذلك لم يكن يثق بنا، فكان يكلف رجاله بمراقبتنا بشكل دائم وكان بعضهم لا يتورع عن أن ينصب لنا الفخاخ.

في بداية الثمانينات وبعد مضي فترة قصيرة علي طلبهم مني الاشتراك في الفريق الخاص بالرئيس، بدأت مجموعة من الشابات الجميلات يفدن علي عيادتي الخاصة وكلهن طلبن مني أن أجري لهن عمليات لا تقع في مجال تخصصي.

وكما هو معروف، فإن العفة لها قيمة كبيرة في العالم الإسلامي وإذا لم يقطر الدم علي ملاءة السرير ليلة الزفاف فإن العواقب قد تكون مأساوية جدا. فكثير ما كانت نساء العائلة يجلسن أمام الباب متربصات مثل الصقور ينتظرن خروج دليل العفة إليهن ليفاخرن به ويعرضنه أمام العشيرة كلها.

وإذا لم يتوافر دليل العفة المطلوب فإن حياة العروس تكون في خطر خصوصا عندما يتدخل الأب أو الأخ أو ابن العم لرد الاعتبار والشرف للعائلة. يمكن للمرء أن يكذب، ويحتال، ويسرق أو يغدر وحتي يقتل ولا يفقد شرفه علي الرغم من ذلك. ولكن لا يمكن لأحد أن يزوج ابنته إذا فقدت عذريتها قبل الزواج فهذه هي الجريمة التي ليس لها عقاب سوي الموت. ولكن يمكن تجنب هذا الموقف العصيب عن طريق بعض الحلول الطبية. وأسهل هذه الحلول وأكثرها شيوعا هو أن تذهب العروس قبل زفافها مباشرة أو في اليوم نفسه إلي طبيب أمراض النساء الذي يقوم بعمل بعض الوخزات الموضعية التي ينطلق منها الدم في الليلة الموعودة منقذا بذلك السعادة العائلية.

وهناك قوانين في العراق وفي معظم دول الشرق الأوسط تمنع الأطباء من إجراء مثل هذه العمليات. ولكن بعض زملائي يقبلون أن يتدخلوا جراحيا لإنقاذ مريضاتهم مقابل بدل مادي جراء المخاطرة.


فتيات دون حياء

أما فيما يتعلق بالفتيات اللاتي حضرن إلي عيادتي وطلبن مني إجراء تلك العملية، فقد كان هناك شيء مريب: فأولا لم يبد علي أي واحدة منهن الإحراج وهي تطلب مني إجراء تلك العملية لها، وثانيا كن يخلعن ثيابهن بسرعة خاطفة ويقفزن علي السرير المخصص للكشف علي المرضي، وثالثا لم تحاول إحداهن أن تناقشني في قراري عندما كنت اخبرهن برفضي وأطلب منهن الخروج من عيادتي نظرا لأنني لا أجري مثل تلك العمليات. ولو كان الأمر صحيحا لكان تصرف الفتيات مختلفا جدا، كان من الطبيعي أن يتوسلن إلي ويطلبن مني المساعدة. لقد كان من الواضح جدا أن هناك شخصا ما أرسلهن الي كنوع من الاختبار لأخلاقي ومبادئي كطبيب قبل أن أقبل في الدائرة القريبة من الرئيس.

كان هناك عدد من النساء الجميلات يعملن في وكالات الأنباء التابعة للحكومة. وبعضهن يعملن لحساب الرئيس بشكل مباشر ومستقل عن البوليس السري الرسمي.

فتيات صدام

كان صدام يحب أن يقوم شخصيا باختيارهن أثناء وجوده في الجامعات، ومؤسسات البحث، والشركات، والهيئات الإدارية المركزية أو الفرعية، وكان يتم استدعاؤهن إلي مكتبه حيث يمتدح عملهن النشط والفعال ثم يمنحهن مناصب مهمة في الوزارات والإدارات وباقي المؤسسات الإدارية الحكومية.

ولم يكن عددهن قليلا، وكان صدام، كما حكي لي بعض حراسه، يدعوهن للقاء شهري في يوم وموعد محددين، وربما كانت علاقته بأخريات متميزة لفترات أحيانا تطول وأحيانا تقصر. كان يعاملهن بلطف ورقة وكرم كما كان يستمع باهتمام شديد لكل ما يقصصنه عليه.

وترددت بعضهن علي عيادتي من أجل تصغير حجم أنوفهن أو إجراء عمليات تجميل أخري. ولم يكن الرئيس يتحمس عندما كانت إحداهن تطلب مساعدتي ولكنه كان يوافق في النهاية بسبب إلحاحهن عليه.

وكانت معظمهن لا يذكرنه بسوء بل يتحدثن عنه بشكل جيد ونادرا جدا من بينهن من عاشت معه موقفا سيئا.

ضرب وركل

ولكن كان عليهن دائما أن يكن علي حذر، فقد حكت لي إحداهن أنه طردها ذات ليلة بعد أن قالت له إن دخوله الكويت قد جلب النحس علي العراق. عندها غضب الرئيس وركلها وضربها ثم أخبرها أنه لا يود أن يراها بعد ذلك أبدا.

وفي صباح اليوم التالي وصلها من مكتبه مبلغ مالي كبير يؤمن مستقبلها.

ولكن معظم النساء اللاتي كان يتعامل معهن صدام بشكل منتظم لم يصبحن عشيقات له، فالأهم بالنسبة له كانت المعلومات وحتي الثرثرة التي كن ينقلنها اليه. كما كان يكلف بعضهن بالتقرب إلي مديريهن، حيث كان هناك بعض المتعطشين للحب من الوزراء وكبار الضباط وأعضاء الحزب الذين كانوا يستغلون سلطاتهم لمصالح شخصية، يدفعون ثمنا غاليا لتلك الأسرار التي قد يسرون بها لساعات من الحميمية، عندما كانت أخبارهم تصل الي صدام من خلال شبكة النساء التي تعمل له. وكان ذلك بلا شك هو السبب في كثير من الحالات المفاجئة التي تم فيها تسريح البعض أو إلقاء القبض عليهم أو إعدامهم.

التجسس علي المصمم

كان الوضع يتأزم عندما يضايق أحد عن غير عمد واحدة من العاملات لحساب صدام. فقد كان مثلا مازن الآلوسي لسنوات طويلة المصمم المعماري الأوحد والمفضل للرئيس، وقد درس الهندسة المعمارية أيضا في أميركا، لذلك كان مشرفا علي بناء عدد من القصور والبيوت السكنية والمساجد والقري السياحية لصالح كبراء بغداد والعراق كما كان يقوم بعمل تصميمات البناء بنفسه.

كان ينتهي من المشروعات دائما في الوقت المحدد وبالتكاليف المحددة. وقد قلده صدام جميع الميداليات وأعلي الأوسمة التي تمنحها دولة العراق، وكنت قد تعرفت علي الآلوسي عندما كلف الرئيس مكتبه بتشييد تمثالي «اللقاء» في أحد شوارع بغداد الحيوية. ولكنه لم يحضر افتتاح التمثال لأن صدام كان قد غضب عليه وطرده من وظيفته.

كان صدام قد قابل مهندسة معمارية شابة في أحد مواقع العمل وأراد أن يضمها الي شبكة النساء التي تعمل لصالحه. لذلك طلب من الآلوسي أن يعينها عنده في مكتبه. ولكنها بعد أن بدأت في العمل كانت تأتي متأخرة وتمشي مبكرة بينما كان زملاؤها يكدون من أجل إنهاء المشاريع في الموعد المحدد. فقام الآلوسي بتهديدها بطردها من العمل إذا استمرت في عدم التزامها وبذلك وضع النهاية لمستقبله المهني كرئيس للمكتب الهندسي الذي يعمل لصالح الرئيس. أولا استدعاه صدام إليه وطالبه بالرجوع عن خطاب الإنذار الذي وجهه للمهندسة، ثم طالبه بالاعتذار لها علي الفور. وأخبره أنه تم تخفيض درجته في العمل وتم نقله إلي مكتب أمانة بغداد.

كانت المهندسة في بداية الثلاثينيات من عمرها ولم تكن في رأيي شديدة الجمال، ولكن معظم الرجال كانوا يرون أنها امرأة جذابة.


نصيحة إلي ناجي صبري

في أحد الأيام أرسلها صدام إلي بصحبة أحد حراسه لأفحص أحد جفنيها لأن فيه عيبا خلقيا طفيفا ولذلك لا يرضيها شكله. فشرحت لها أن عملية التجميل ستترك هي أيضا أثرا، لذا فأنا أنصح بأن تتركيه علي حاله، ووافقتني الرأي ولم أسمع عنها أي شيء حتي سافرت في شهر سبتمبر عام 2001 لحضور مؤتمر طبي في دوسلدورف، وسافرت عبر فيينا وكالمعتاد نزلت ضيفا علي صديقي ناجي صبري الحديثي وزوجته، وكان سفيرنا في العاصمة النمساوية. وفي إحدي الأمسيات بينما كنا نجلس ونتجاذب أطراف الحديث، حكي لي السفير أن ثمة امرأة عراقية قد وصلت إلي المدينة هي وزوجها، وكان لا يعرفها، فهما ليسا من عائلة صدام أو من مشاهير العراق ولكن سكرتير الرئيس عبد حمود اتصل به وطلب منه أن يهتم بها كل الاهتمام، ولم يفهم السفير لماذا؟ فكلاهما لم يبد أنه يشغل منصبا مهما في العراق فسألته عن اسمها وأخبرني به. فنصحته أن يحسن استقبالها جدا ويعاملها كأفضل ما يكون، فقد أردت بنصيحتي تجنيب صديقي ان يقوم بأي تصرف خاطئ. لأنها لو رجعت إلي العراق غير راضية عنه فسوف يجلب له ذلك الكثير من المشاكل. وبالفعل استمع السفير وزوجته الي نصحي ونظما لها برنامجا يقنعها بما تستحق هي وزوجها.


إجازة علي الدانوب

وقد جاءت الأوامر من عبد حمود بألا يبخل عليهما بأي تكاليف حتي تكون إقامتهما ناجحة، وعلي الرغم من أن الزوجين قد جاءا معهما بالكثير من الدولارات إلا أن السفير كانت لديه أوامر بصرف كل ما يحتاجانه كي لا ينقصهما أي مال في بقية الأسبوع الذي يقضيانه كإجازة لهما علي نهر الدانوب.

بدت علي المرأة السعادة البالغة عندما وصلت وزوجها إلي المطار، وكان معها من الملابس والهدايا ما لا يعد ولا يحصي وهما في طريقهما إلي العراق الذي يعاني من الحصار الاقتصادي منذ فترة. وكانت بعض الحقائب مكتظة ببذلات وقمصان وأربطة العنق الفاخرة ولم تكن تلك الملابس علي مقاس زوجها وإنما علي مقاس رجل في مثل جسم صدام.


مكافأة إلي ناجي صبري

وحصل ناجي صبري علي رضا الرئيس، فقد تم استدعاؤه إلي بغداد في الصيف الذي تلاه وتم تعيينه وزيرا للخارجية، وقد حكي لي صديق أن المرأة قد امتدحته جدا بعد عودتها من فيينا وأنها قد اقترحت علي الرئيس أن يستبدل وزير الخارجية محمد سعيد الصحاف بسفيره في النمسا لأنه رجل مخلص ومهذب ومجتهد.

أخبرني الحديثي لماذا أصبح آخر وزير خارجية في حكومة صدام؟ في بداية الثمانينات كان أخوه محمد صبري الحديثي نائب وزير الخارجية ولكن علي حسن المجيد الملقب «بعلي الكيماوي» وابن أخيه حسين كامل نجــحا باقــناع صدام بأن نائب وزير الخارجية يخطط هو ومجموعة من المتآمرين لعمل انقلاب عليه حيث كان محمد صبري من الأشخاص الأكفاء والمخلصين.


لم أعلم بذلك

وبالتالي تم القبض عليه وتعذيبه وإعدامه في النهاية، كما تم القبض علي شقيقه الثاني شكري أيضا، ولكنه بعد أن تعرض للتعذيب وللسجن لفترة طويلة تم إطلاق سراحه. وعندما عين ناجي صبري الحديثي في منصبه الجديد، حضر إليه صدام وقال له: «لقد سمعت أن أخاك قد قتل، ولم أكن علي علم بذلك». وهذه لم تكن بالطبع الحقيقة ولكن الحديثي كان يشعر أن صدام بدأ يفكر في شعبيته وسمعته. ربما يكون قد عينه وزيرا للخارجية ليصلح ما أفسده قبل عشرين سنة. ولم يكتف الرئيس بتعيينه وزيرا للخارجية، بل أحاطه بقدر من العناية والتكريم لإثبات حسن نيته هذه المرة.

وتوقعت الأسوأ عندما عرفت وأنا في مستشفي ابن سينا من سميرة الشهبــندر أن الرئيــس لا يعــرف شيــئا عن تلــك الجــراحة البسيطة، وقبل أن أنهي حديثي معها. إذا بصوت أقدام في الردهة الخارجية ودخل علينا صدام وبدا عليه التوتر والخوف.

وسألني: «هل حدث شيء»؟

فردت سميرة: «لا، لقد تم استئصال ورم خلف الأذن». فنظر إلي صدام وسألني: «هل هذا خطير»؟ فأجبت: «لا هذا مجرد تجمع دهني علي الجانب الأيسر من الرقبة، وتم استئصاله. ولكنني اضطررت أن أستأصل جزءا من الجلد من مكان التجمع الدهني، مما جعل خدها الأيسر يبدو أكثر نضارة، وفعلت الشيء نفسه في الجانب الأيمن من الوجــه والرقــبة لكي لا تكون هنـاك فــروق بين الجانبــين بعد أن يتـم شفاء الجلد. وكل شيء علي ما يرام ويمكنها أن تغادر المستـشفي مساء اليوم».

نظر إلي صدام وابتسم وسكت ولكني أظن انه فهم منذ البداية نوع العملية التي أجريتها لزوجته. وكانت هذه المرة الوحيدة التي أخفيت فيها بعض ما فعلته لزوجته.

رسميا لم يكن لصدام إلا زوجة واحدة وهي ساجدة ابنة خاله خير الله. وقد تزوجا عام 1958 أثناء إقامة صدام في القاهرة بعد المحاولة الفاشلة لقتل الزعيم عبد الكريم قاسم. وقتها هرب صدام أولا إلي سوريا ومنها جاء إلي منفاه في مصر.


ساجدة والزوجة الأخري

لم يصارح صدام زوجته ساجدة، رغم وجود اشاعات بأنه قد تزوج سميرة الشهبندر. وهذا ما حدث بالفعل. لكن هذا الموضوع كان من المحرم الكلام فيه في نطاق الأسرة. وفي أحد الأيام كنت أتكلم مع إلهام أخت ساجدة وكانت متزوجة من وطبان، أحد الإخوة غير الأشقاء لصدام. وحكت لي أنها مقتنعة شخصيا بأن زوج أختها يسر عنهم شيئا وأنه قد تزوج بأخري. ثم قالت لي: «إن ساجدة لا تريد أن تعرف أي شيء عن هذا الموضوع وصدام ينكر كل شيء».

لم تكن حياة ساجدة سهلة، أذكر أنني دعيت ذات مرة في صباح يوم شتوي إلي قصر الرئيس في الضفة الغربية علي نهر دجلة، فقد كان عليّ إجراء عملية بسيطة في ذراعها الأيسر، وكانت إحدي غرف القصر مجهزة كعيادة واتفقنا علي إجراء العملية في اليوم التالي.

وعندما حضرت في اليوم التالي نسيت أن أضع علي يدها المخدر الموضعي قبل أن أقطع الجلد بالمشرط، وكانت هي المرة الأولي والأخيرة التي حدث فيها مثل هذا الخطأ. ولكنها لم تتفوه بكلمة ولم تتأوه، ولم أنتبه لما حدث إلا عندما لاحظت أن كمية الدم الخارجة من الجرح أكثر مما يجب حتي غطّت الجرح تماما، لأن التخدير الموضعي عادة ما يوقف الدورة الدموية في المكان المعني.

فسألتها: «هل تألمت جدا»؟ قالت لي: نعم.

سألتها: «لماذا لم تطلبي مني أن أتوقف»؟

فنظرت إلي ساجدة وقالت: «لأن من يحتمل الحياة مع صدام، يحتمل أي شيء آخر».

*يتبع في الجزء 3