ليست العاطفة إنما المصلحة دين الحكم و السياسة بقلم:مهيب النواتي
تاريخ النشر : 2006-08-14
ليست العاطفة  إنما المصلحة دين الحكم و السياسة بقلم:مهيب النواتي


ليست العاطفة, إنما المصلحة دين الحكم و السياسة

مهيب النواتي

تبارى كثير من الكتاب منذ بداية الحرب على لبنان لشتم الحكام العرب ومواقفهم التي أعلنوها منذ بداية هذه الحرب, وانسحب شتم الحكام هذا على كثير من الجماهير العربية التي كعادتها تندفع بعاطفتها نحو الأمور.

وللحقيقة فان ما أنا بصدد الكتابة عنه هنا لا يتعلق بمدح الحكام أو شتمهم, إنما هي محاولة لتوضيح بعض الأمور التي كثيرا ما نكررها بنوع من الخطأ كشعوب عربية عندما تلم بنا النوائب والكوارث. فشعوبنا العربية تحتكم في قراراتها ووجهات نظرها إلى العاطفة التي تتعارض وتتناقض مع قواعد وقوانين السياسة, لهذا فإننا نرى ذلك التباين الشديد بين رأي الحكام ورأي الجمهور العربي في كثير من القضايا التي تخرج في تأثيراتها عن حدود الدولة الواحدة أو الشعب العربي الواحد لتصبح قضية كثير من الدول والشعوب العربية.

1 ـ بين السياسة والعاطفة :

السياسة بقواعدها وقوانينها لا تعرف العاطفة, لذا فان مواقف الساسة الذين يدرسون الأمور ويقررونها وفقا لقواعد السياسة التي تعتمد منطق المصالح ومنطق الإمكانيات تتعارض في غالبيتها مع منطق الشعوب التي تعتمد العاطفة, ولان مصالح الدول تتباين وتختلف, فان المواقف لا بد وان تختلف إذا ما تعارضت المصالح بين الدول العربية التي تعيش في ظل كيانات سياسية منفصلة لم ترتق بعد لتكون كيانا واحدا يمكن أن نطلق عليه أمة رغم وجود هيئة سياسية هي جامعة الدول العربية تجتمع تحتها كل الكيانات السياسية العربية.

وللحقيقة فان من حق الساسة أن يعتمدوا منطق المصلحة, لان العاطفة والتمنيات لا تقود جيشوا ولا تبني دولا ولا تحرر أوطانا ولا تلم شمل أمة مشتتة ومتفرقة مثل أمة العرب, وهذا المنطق في قواعد الحكم ليس جديدا في التاريخ العربي, فكل تاريخنا العربي حتى في ظل أوج الدولة الإسلامية القوية كان يعتمد منطق المصلحة لا العاطفة في قيادة الدولة, وإذا ما راجعنا كثيراً من شواهد التاريخ نلاحظ أن حروبا داخلية أو تصفيات جسدية وعرقية " إن جاز تسميتها هكذا " قام بها حكام إسلاميون من اجل مصلحة الدولة الكبرى, ولو احتكم هؤلاء في تقرير سياساتهم لمنطق العاطفة لما فعلوا ما فعلوا.

الجمهور العربي ينظر دائما إلى نخوة المعتصم على أنها إجراء عاطفي هز هذا الخليفة عندما سمع بما حدث للمرأة العمورية, لكن هذا التفسير باعتقادي خاطيء جدا, فالتحليل المنطقي يقول أن المعتصم إنما نصر هذه المرأة لأنه كان يدرك مكامن قوته وكان يعرف أن لديه من القوة ما يستطيع أن ينفذ به مقولته الثانية " لأرسلن لك جيشا أوله عندك وأخره عندي ", والمعتصم كان يعرف أن نصرة المرأة المسلمة التي ضربها الرومي مصلحة لدولته وليس مجرد تعبير انفعالي.

وليس فهم مقولة المعتصم فهما خاطئا من قبل شعوبنا العربية بعيد عن فهمنا لما يٌروَى من مقولات عن الخلفاء الراشدين الذين طلبوا من شعوبهم أن يُقًوِموهم إذا ما اخطئوا, وان يعينوهم على نوائب الحكم, فبعضنا يفهم هذا الإقرار كدلالة على قمة العدل لدى هؤلاء الخلفاء, وهو الأمر الذي لا ننكره, لكننا نعتقد أن أمرأ آخر أكثر أهمية يقف خلف طلب الخلفاء المساعدة من شعوبهم, هذا الأمر يتعلق بفهم هؤلاء الخلفاء لدور الشعوب في تصويب مسيرة الحكام, وهنا لا نقصد عاطفة الشعوب إنما نقصد رؤاهم التي ستعتمد على مصلحة الأمة وستنطلق أرائهم التصويبية من خلالها. وهو الأمر الذي سينقلنا للحديث عن دور الشعوب العربية في تصويب الحكام, وليس في التعارض معهم وصولا إلى شتمهم وسبهم.

2 ـ بين الشعوب وحكامها:



ما نشهده على الساحة العربية فيما يخص علاقات الشعوب بكافة أطيافها " مؤسسات وهيئات ومراكز وجمعيات وأفراد وجماعات وتكتلات وأحزاب " بحكامها هو ذلك المشهد المتكرر عند النوائب, وهو الذي يجسد حالة الصدام بين الطرفين, وقد قلنا أن منبع ذلك هو اختلاف منطلقات الحكم لدى الطرفين, فالحكام ينطلقون من مصالح كياناتهم السياسية, والشعوب تنطلق من عواطفها وتمنياتها, وهو الأمر الذي تتحمل مسئولياته بالدرجة الأولى هذه الأطياف الجماهيرية التي ذكرناها سابقا على اختلافها وتنوعها, لأنها أطياف لم ترتق في فهمها لطبيعة مسئولياتها, ولم تحاول إيجاد قواسم مشتركة بينها وبين الحكام من اجل الوصول إلى المصلحة العليا والقصوى لكيانها السياسي الذي تعيش في كنفه.

أطيافنا الجماهيرية تظل ساكنة طيلة العام ولا تتحرك إلا عندما يشدها مشهد عاطفي, لكن سعيها لإيجاد استراتيجيات وخطط دائمة تمكنها من التحرك وتقديم المساعدة والمساندة والدعم لجمهورها سواء المحلي أو الخارجي " والمقصود هنا خارج حدود الدولة " بشكل دوري ودائم أمر مفقود بتاتا. وسأضرب هنا مثلا بسيطا علينا نحن الفلسطينيين, فشعبنا الفلسطيني تحت الاحتلال منذ نصف قرن وزيادة, وبخلاف الحروب التي خاضها العرب مع دولة الكيان وتعاطف الجماهير العربية ومساندتها لها, لا نجد أن الجمهور العربي يتحرك لمساندة ودعم الشعب الفلسطيني إلا عند اشتداد أزماته, بمعنى الوصول إلى مرحلة تحرك العاطفة لدى الشعوب العربية, عندها نرى مدى صعود أسهم التفاعل والمساندة من قبل الجمهور العربي, هذه المساندة التي تعود لتتراجع بعد أن ينتهي أو يتلاشى الحدث المسبب للعاطفة, رغم أن شعبنا الفلسطيني يحتاج إلى التعاطف والمساندة والدعم العربي الرسمي والشعبي في كل وقت, لان الاحتلال قائم والظروف الفلسطينية الصعبة لا يغيرها أو يبدلها اشتداد أزمة هنا أو مقتل عائلة هناك أو إخراج صورة لمشهد بشع يصور إحدى جرائم الاحتلال التي تمارس كل يوم.

إذن فمسئولية تطوير أداء الجماهير هي مسئولية تقع على كاهل الجمهور نفسه وعلى كاهل منظريه وأحزابه وهيئاته, هذه الهيئات التي يجب أن تخرج عن إطار قوقعتها واكتفائها بلعب دور المعارض من اجل المعارضة, فالمعارضة الحقيقية هي تلك المعارضة البناءة التي تعتمد منطق إيجاد القواسم المشتركة بين الحاكم والمحكوم بهدف خلق هوامش تسمح للمحكوم بمساعدة ومساندة وتصويب الحاكم, لا الاكتفاء بالوقوف عند مواقفه, لنبدأ عندها السب والشتم واللعن والتخوين.

ما حدث من مواقف بعض الحكام العرب إزاء ما يحدث في لبنان أمور يجب ألا نأخذها كشعوب بمنطق العاطفة, ولست هنا بصدد الوقوف مع أو ضد هذا الجانب أو ذاك, فهذا الأمر يمكن تناوله في أحاديث أخرى, كتبنا عن بعضها سابقا, لكن الأكيد أن الحكام العرب في مجملهم ليسو أشرارا إلى درجة الشيطنة, وعلى الجمهور العربي المملوء عاطفة, أن يُرشِد هذه العاطفة ويوجهها بشكلها الصحيح لتصبح قوة فاعلة حقيقية تساند وتساعد وفق رؤى استراتيجية فاعلة, وليس انسياقا لمرحلة ووقت زمني. وهنا سأسجل أن الموقف الشعبي العربي رغم عاطفته الجياشة موقف خجول بدرجة اكبر من أي موقف رسمي, ولم يرق حتى الآن إلى مستوى التحديات التي تواجهها لبنان.

عندما بدأت حياتي السياسية في أوائل الثمانينيات, تربيت على مقولات كلها اعتمدت منطق تخوين الحكام العرب, لكنني عندما ذهبت أول مرة إلى مصر وعبرت سيناء لمدة زادت على الساعتين بالسيارة حتى وصلت قناة السويس, تفاجات بأن كل هذه الأرض أعادها السادات بمجرد التوقيع على معاهدة سلام.

الأكثر من ذلك أنني ذهبت إلى بعض دول الخليج, فرأيت أن صحراء جرداء قاحلة باتت مدنا ودولا من أكثر مدن العالم رقيا وتطورا. قادة هذه الدول الذين عمروها وبنوها صنفوا سابقا في ثقافتنا السياسية على أنهم عملاء وخونة, لا هم لهم سوى قضاء سهرات حمراء ماجنة في لندن وغيرها من عواصم الغرب.

" اللهم اهدي الحكام لما فيه خير الشعوب, واهدي الشعوب لكي تصبح قادرة وفاعلة على استثمار عاطفتها نحو البناء الدائم والفاعل, وارحم ثقافتنا من جهل العاطفة".