الإعلام العربي بقلم:رشا عبدالله سلامة
تاريخ النشر : 2006-07-29
مما لا يخفى على أي متابع أو مطلع على قضية الإعلام و أهميته أن الإعلام هو السلاح الأول بل الأهم في عملية صياغة حياة الشعوب و مفردات تفكيرها و قولبة توجهاتها.. فالإعلام منذ القدم - وعلى الرغم من بساطة وسائله بالقياس مع العصر الحالي - قد احتل الصدارة في اهتمامات شعوب الإنسانية بأكملها.. فكانت المساجلات الشعرية والخطابة في الأسواق العربية القديمة كما كان مسرح شكسبير في الميادين العامة وعلى الملأ في أوروبا من أهم علامات الحياة الإجتماعية كما السياسية والثقافية التي صبغت تاريخ تلك الفترات.. و بتطور الزمان و اختراع الأجهزة الناقلة للصوت والصورة كان التلفاز ذلك الكائن العجيب الذي لعب دوراً لا يقل خطورة و أهمية عن الأحداث التي كان ينقلها و يصوغها بطريقته و حسب منهجية صانعيه و مموَليه.. موقعاً المشاهد في كثير من الأحيان في حيرة التساؤل عما إذا كان ما ينقل من خلاله واقع أم صناعة واقع.. فالكلَ يعرف بأن حرب الخليج في عام التسعين قد سمَيت من قبل الكثيرين من المحللين السياسيين بحرب ال CNNو ذلك لاحتكار هذه القناة نقل الأحداث والتصريحات والتقارير التي تتعلق بتلك الحرب.. كما من المعروف أيضا أن النقطة الأولى التي سجَلت إنجازاً للإعلام العربي هي تغطية قناة الجزيرة للحرب على أفغانستان و لجوء المحطات العالمية للنقل عن الجزيرة في تلك الفترة.. بالإضافة لكون أن الأنظمة الديكتاتورية لطالما منعت استقبال أيَة محطات و قنوات غير خاصتِها الرسمية تحسَباً لزعزعة الصورة التي تصوغها فردياً لشعبها كما كان الحال في النظام العراقي السابق.. ولطالما أسهم الإعلام في رفع معنويات الشعب العربي و (تعشيمه) بالنصر و الفوز و النتيجة كانت انهيار الآمال كما فقدان الثقة في مصداقية الكثير من السياسيين كما حدث في تصريحات الحرب العراقية الأخيرة و حرب السبعة و ستين.. كل تلك الأمثلة ما هي إلاَ أدلَة مبسَطة عن قوَة دور الإعلام و مدى خطورته في رسم سيناريوهات الحياة على كافة الأصعدة سياسية واجتماعية بل و حتى دينية..

و مع الإدراك العميق لكلَ تلك المسائل يصاب المشاهد بالأسى والإحباط الشديد لحال الإعلام العربي الذي وصل مرحلة من التأزم تعادل تأزَم قضاياه.. فمسألة التخصص في القنوات التلفزيونية قد غدت مسألة تشبه( النزول الإنتحاري) نحو الهدف بغضَ النظر عن الطرق و الآثار الجانبية المترتبة.. فالقنوات السياسية المتخصصة لدينا هي قنوات تبثَ البرامج السياسية والنشرات والتقارير الجريئة فيما يتعلَق بخفايا الأروقة السياسية ولكنها تقع في مطب إفتعال مشكلة أو فرقعة سياسية إعلامية لأجل الحفاظ على توهجها و سمعتها في نقل ما لا ينقل و كشف ما لا يكشف.. كذلك في إعتمادها منهج تبني أي منشقَ أو منقلب أو معارض لأي حكومة أو سياسة عربية لدرجة جعلت المشاهد يعتقد بأنها قناة صنعت منبراً للمتمردين بغضَ النظر عن صحة موقفهم..كما وتوقظ لدى المتابع لها عدة أسئلة عن مصدر تمويلها و دعمها و حمايتها.. عدا عن إثارة حفيظته عندما تغضَ النظر عن أيَة قضايا مهما كانت مهمة و خطيرة إذا ما تعلّقت بالبلد الذي يحتضنها مقابل (النبش) و بإصرار على قضايا البلدان الأخرى ممَا سببَ العديد من الأزمات الدبلوماسية مابين بعض الدول العربية بدلاً من محاولة تقريب المسافات..

ومن القنوات الإخبارية التي يتلَهف عليها الكثيرون من طبقة السياسيين والمثقفين يظهر على الجانب الآخر القنوات الدينية التي أثبتت حضورها في الكثير من البلدان العربية و لدى شريحة لا يستهان بها من المتابعين من كافة الأعمار.. و إذ تعدَ هذه القنوات الدينية الخطوة الأولى على طريق الدعوة العصرية للإسلام و تحسين صورته المهتزَة لدى الكثيرين ممّن هم بيننا أو خارج نطاقنا إلا أنها في كثير من الأحيان تنحصر في إطار (الدروشة) من غير محاولة مدّ جسر من التواصل ما بين المتدين والعالم الخارجي.. كما تعتمد منهجية طرح لا تسعى لربط القضايا السياسية الإسلامية بالمتديّن ليبقى موضوع الطرح يتراوح ما بين حق الجوار و برّ الوالدين و أحكام الطهارة و الإختلاط من غير إرواء ظمأ المتدين بإجابته عن الأسئلة الفكرية المتعلقة بالإسلام كمنهج فكري و عقائدي و كذلك من غير توضيح الحقائق السياسية له من وجهة نظر إسلامية محايدة..إلاّ أنّ من إحدى أهم النقاط التي تحسب لصالح هذه القنوات الدينية هو اعتمادها طاقماً شبابياً من المذيعين والمذيعات الذين يمثّلون المظهر الإسلامي الرصين بصورة عصرية تقترب من نفوس المشاهدين بعد سنوات من اعتياد المظهر التقليدي للمتديّن والذي لم يعد يلقى رواجاً كبيراً في عصر الفضائيات الحديث..

و على الضفّة الأخرى للإعلام العربي تظهر القنوات الترفيهية التي أحدثت خلطاً كبيراًما بين الترفيه البريء والترفيه المبتذل الرخيص.. فقنوات الأغاني العربية تبثّ(الفيديو كليبات) طوال الأربعة وعشرين ساعة من غير توقفّ للحظة واحدة إلاّ لعرض الإعلانات التي تصبّ في نفس القناة وهي نغمات الموبايل و خدمة الأغاني و صور الفنّانين على الجهاز الخلوي..أو أن يحدث التوقفّ لعرض برنامج تقف فيه مذيعة (تملك قدراً وافراً من الثقافة و الوقار) لتلقّي اتصالات من المشاهدين( الذين يناقشون قضايا مهمّة كقضيّة فلسطين والعراق أو قضايا اجتماعية و عالميّة كالعولمة).. كما غدت هذه القنوات ميداناً واسعاً للرقص و الهرج و الاستعراض المبتذل الذي ما تخيّل العربي والمسلم يوما أن يدخل بيته ضيفاًً بهذا القدر من (الإحترام).. عدا عن قنوات الأفلام العربية التي أصابتني كما غيري من المشاهدين بالحيرة والدهشة من إعلانها المتواصل عن عزمها عرض أفلام لم تعرض من قبل ولم تمرّ على مقصّ الرقابة (كمحاولة لتسويق ذاتها و تحقيق أرباح أكثر ولو على حساب المبادئ الأخلاقية المسلّم بها عربياً و إسلاميّا)..ومن قنوات الترفيه هذه أطلّ ضيف جديد لم يتعدّ عمر ميلاده في الوطن العربي سنتين أو ثلاثة على الأكثر و هو (تلفزيون الواقع) الذي يعتمد تسليط كاميرا لمدّة أربعة وعشرين ساعة على مجموعة من الشباب والصبايا الذين قدموا من بلدانهم لنيل الأهداف النبيلة و إحراز النصر المؤزر و الذين تلتقط لهم الكاميرا مشاهد الأكل والنوم والرقص و البكاء و الفرح وكل تفاصيل حياتهم اليوميّة التي تثري ذهن المتابع العربي كإثراء سيرة عمر بن الخطاب اليوميّة للذهن..و لتتحوّل هذه اليوميّات فاكهة المجالس العائلية و حتى الرسميّة.. و لعلّ من أكثر هذه البرامج حضوراً في أيامنا هذه برنامج الهواة (ستار أكاديمي) الذي ساقه إلينا حظنا الوافر للتعرّف على ألوان بيجامات المتسابقين الأبطال و نوعيّة الأطعمة التي يفضّلونها دون غيرها و الساعة التي يخلد كل منهم فيها للنوم والراحة.. و إن كان هذا البرنامج والحقّ يقال ينقل صورة واقعية عن تخبّط الشاب والفتاة العربية ووقوعه في مصيدة ما يعتقده(الوسطيّة) متناسياً أنّ هذه الوسطيّة هي خصلة حميدة يتراوح فيها السلوك ما بين درجات الصحّة و ليس ما بين الخطأ والصحّة.. فشباب ستار أكاديمي يصلّون المغرب جماعة مع بعضهم لينطلقوا بعدها لمواصلة وصلات الرقص مع الصبايا!!! و باعتماد طريقة (شحذ الوطنيّة) في نفوس المشاهدين يطلب كل متسابق من أبناء بلده التصويت له والوقوف إلى جانبه والشدّ من أزره حتى إحراز النصر.. و بهذا يتمّ(استغفال وا ستهبال) المشاهد العربي ليصرف أموالاً طائلة على التصويت من غير أن يتنبه إلى كون المسألة محسومة منذ البداية فيما يتعلّق بالربح والخسارة وأنّ المسألة لا تعدو إلاّ اختيار متسابقين ووضعهم في خانة الخطر ممّن هم من دول ذات رخاء معيشي يسمح بالتصويت المكثّف وبالتالي تمويل التكاليف الضخمة لبرنامج كهذا عدا عن صافي الأرباح الذي يملأ جيوب القيّمين عليه..

ومن هذه القنوات جميهعا تنتقي (القنوات الشاملة) من كل بستان زهرة.. فيتمّ تقديم البرامج الدينية والسياسيّة والترفيهيّة.. ممّا يجعلها الإختيار الأقل ضرراً من نواحٍ فكرية و أخلاقية.. إلاَ أنها لا تلبث أن تقع في مصيدة التقليد الأعمى للقنوات الأخرى من غير محاولة ابتكار الجديد.. فمنذ أن انطلق برنامج (من سيربح المليون) والمشاهد العربي يعاني من أزمة تلبّك معوي من كثرة برامج المسابقات التي قد لا يتعدّى مستوى أسئلتها عن لغز (البطّيخة) أو (ماذا يفعل الكمبيوتر في الحرّ؟ ليكون الجواب: يفتح الويندوز!!!)..

كما قد تبنّت هذه القنوات في السنوات الأخيرة مبدأ (تعريب البرامج) بشراء حقوقها من نسخة أجنبية و تغيير شخصياتها إلى عرب.. ومنها برامج تلفزيون الواقع كالبرنامج الذي أسلفت عنه(ستار أكاديمي) و (سوبر ستار) و (من سيربح المليون)و (حياة المتسابقات على لقب ملكة جمال الكون) و لعلّ من أكثرها إثارة لأسى و حسرة المشاهد العربي البرنامج الذي عرض مؤخراً عن العشرين فتاة اللواتي يعشن تحت سقف واحد مع شاب ليختار في النهاية واحدة منهن للزواج بعد أن يقرّرّ في كل حلقة من هي تلك التي تستحقّ الخروج من المسابقة.. و ليثير فضول و تخمين المشاهدين (المهتمين بهذا الحدث الثقافي الجلل) عن من هي الأقرب إلى قلب هذا الفتى و دهشتهم الشديدة إذا لم يتوافق اختياره مع تخميناتهم!!! فهذه القنوات عند تعريبها و حتى مجرّد نقلها لهذه البرامج ولو بلغتها الأصليّة تتناسى أنّها ما هي إلاّ معول هدم لأي لبنة مبادئ أو أخلاق لدى الجيل الناشئ.. كما أنّها إشارة واضحة على عجز الإعلام العربي عن بناء نجاحه الشخصي في البرامج و لجوءه إلى بناء نجاحه على أكتاف برامج عالمية معروفة..

و في خضمّ زوبعة الإعلام العربي يظهر الإعلام الأردني منعزلاً عن العالم.. و كأنّه قد تناول أقراصاً منوّمة أذهبت بوعيه عمّا يدور حوله من برامج القنوات التي تتسابق لإحراز الصدارة.. فجملة (طخّه يا عوّاد) و (خذ بثارك يا مفلح)و (ما بوخذ إلاّ و ظحة لو انقلبت الدنيا)و (ما أريد ولد عمّي) هي ذات المفردات التي شهدت إطلالة التلفزيون الأردني منذ نشأته.. من غير محاولة الإبتكار و ملامسة الروح العصريّة للإعلام مع الحفاظ على جوهر الأصالة والقيم السامية.. كما و يؤخذ باستمرار على التلفزيون الأردني تأخّره الواضح في التغطيات الإعلامية سواءً كان ذلك محليّاً أم عربيّاً.. و بالنظرة الشاملة للكوميديا الأردنية فما هو حاصل فمأساة.. فاستخدام بعض العبارات غير اللائقة للإعلام ككلمة(انطمّ) هي قمّة الفهم الخاطئ لقيم الكوميديا من الناحية الأدبية.. و اعتماد الإضحاك بأيّ وسيلة حتى وإن كانت لا تتعدّى مستوى طلبة الإبتدائي هو دليل واضح على غياب المنهج الكوميدي المدروس.. أمّا في حقل الدراما الأردنيّة فيحتاج المشاهد لعلاج نفسي مكثفّ بعد متابعته لإحدى التمثيليّات الدرامية لكثرة ما تحشى بالمآسي غير المبرّرّة فقط لخلق شعور الضيق والقهر لدى المشاهد.. و ما هذه الجوانب العامّة إلاّ نقطة في بحر أخطاء يغوص به الإعلام الأردني حاليّاً..

فعلى الإعلام الأردني المضيَ قدماً في تحسين صورته الحضارية بما يتوافق مع منهج الأردن في خرط نفسه عربيّاً و دوليّاً و عالميّاً بكافة الحقول والمجالات و لعلّ أوّلها و أهمّها الإعلام..

و أخيراً وليس آخراً فالسعي نحو الإعلام العربي الهادف و بذات الوقت الذي يؤمّن ترفيها يخفّفّ من ضغوطات الحياة العربية هو مسألة لا تأتي بالتطّرف أو افتعال المشاكل ولا بالتزمّت و محاولة حكر الصورة على ما يريده صانعوها و ناقلوها ولا بالإسفاف والإبتذال .. وإنمّا على أسس واضحة تتبنّى دراسة الإعلام و إعطائه حقّه الوافر من الإهتمام في الجامعات والكليّات و كافة المحافل.. مع محاولة بناء صورة ذاتية واثقة بالإستفادة من التجارب الإعلاميّة الرائدة في العالم من غير تقمّصها و تقليدها من غير تفكير..و إنّ غدا لناظره لقريب..

رشا عبدالله سلامة