التحكيم في النزاعات العمالية والنظام العام بقلم: د. نعيم سلامة
تاريخ النشر : 2014-03-19
التحكيم في النزاعات العمالية والنظام العام
الكاتب: د. نعيم سلامة / أستاذ جامعي والمستشار القانوني للغرف التجارية الفلسطينية
تناقلت وسائل الاعلام نهاية الشهر الماضي بأن محكمة صلح رام الله ردت طلباً مقدماً إليها يهدف إلى عدم قبول دعوى رفعت للمطالبة بحقوق عمالية بذريعة وجود (شرط التحكيم) في العقد الموقع بين العامل ورب العمل، وعدت المحكمة أن هذا الشرط (شرط التحكيم) هو شرط باطل لأنه يتعلق بحقوق العامل التي هي من النظام العام، وتجب حمايتها وعدم الانتقاص منها، وأن هذا الشرط قد ينتقص من هذه الحقوق خاصة أن توقيعه جاء مع توقيع عقد العمل، وفي هذه الحالة يكون العامل في حالة من الضعف تجعله يقبل بأي شرط للحصول على فرصة عمل.
ونظراً لأن موضوع التحكيم من الموضوعات الهامة في فلسطين والتي تحتاج إلى تعزيز، ولأن موضوع قانون العمل أيضاً من الموضوعات القانونية الهامة التي تتعلق بكافة النواحي الاجتماعية والاقتصادية والمالية للعامل، جاءت المبادرة من قبلي لإعداد هذه الدراسة للبحث في مدى جواز التحكيم في النزاعات العمالية وهل يعد متعلقاً بالنظام العام أم لا.
ويعرف التحكيم أنه الاتفاق الذي يوافق عليه طرفا النزاع بإرادتها الحرة سواء كانت الجهة التي تتولى اجراءات التحكيم محكم فرد أو هيئة تحكيم أو مؤسسة تحكيم. وبالتالي يكون قوامه الخروج من طرق التقاضي العادية باللجوء لطريقة خاصة، وبالتالي يعتمد أساساً على أن أطراف النزاع هم الذين يختارون قضاتهم بدلاً من الاعتماد على التنظيم القضائي في الدولة.
وقد يرد التحكيم كشرط في العقد (شرط التحكيم) أو قد يتم بعد كتابة العقد أو عند حدوث النزاع (مشارطة التحكيم). وقد عرفت المادة (1790) من مجلة الأحكام العدلية التحكيم:" اتخاذ الخصمين حكماً برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما".
ويمتاز التحكيم ببساطة الاجراءات وسرعتها مقارنة مع القضاء العادي، كما يوفر للأطراف الحرية في اختيار المحكم أو هيئة التحكيم أو مؤسسة التحكيم إذا كان مؤسسياً، كما يمتاز بالسرية، فالكثير من أطراف النزاع يرى في سرية اجراءات التحكيم ميزة مقارنة بالقضاء العادي.  وبين قانون التحكيم الفلسطيني رقم (3) لسنة 2000 في نص المادة (4) منه المسائل التي لا يجوز بها التحكيم حيث تنص على:
لا تخضع لأحكام هذا القانون المسائل الآتية:   
1. المسائل المتعلقة بالنظام العام في فلسطين.   
2. المسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانوناً.   
3. المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية.
وقد عرفت المادة (24) من قانون العمل الفلسطيني عقد العمل الفردي أنه اتفاق كتابي أو شفهي صريح أو ضمني يبرم بين صاحب عمل وعامل لمدة محددة أو غير محددة أو لإنجاز عمل معين يلتزم بموجبه العامل بأداء عمل لمصلحة صاحب العمل وتحت إدارته وإشرافه، ويلتزم فيه صاحب العمل بدفع الأجر المتفق عليه للعامل.
كما وعرف القانون نفسه في نص المادة (49) المفاوضات الجماعية المفاوضة الجماعية هي الحوار الذي يجري بين أي من نقابات العمال أو ممثلين عن العمال وبين صاحب العمل أو أصحاب العمل أو ممثليهم، بهدف حسم النزاع الجماعي أو تحسين شروط وظروف العمل أو رفع الكفاءة الإنتاجية. وأما اتفاق العمل الجماعي هو اتفاق مكتوب باللغة العربية يبرمه طرفا المفاوضة الجماعية ويتضمن أحكاماً تتعلق بتحسين شروط وظروف العمل ورفع الكفاءة الإنتاجية.
وبين الفصل الثالث من الباب الرابع من قانون العمل آلية تسوية النزاعات العمالية الجماعية، بحيث يتم اللجوء إلى مندوب التوفيق في وزارة العمل لحل النزاع، وإذا لم ينجح بحل النزاع خلال عشرة أيام يقوم وزير العمل إحالة النزاع على لجنة توفيق برئاسة أحد موظفي الوزارة وعضوية ممثل عن أرباب العمل وممثل عن العمال، وإذا فشلت لجنة التوفيق في حل النزاع خلال أسبوعين يحق لأي طرف اللجوء إلى المحكمة، وبين القانون كذلك أنه إذا لم يلجأ أي من الطرفين للمحكمة يحق للوزير إلزام الطرفين بالمثول أمام لجنة تحكيم يشكلها الوزير برئاسة قاض وعضوية ممثل عن الوزارة وممثل عن أصحاب العمل وممثل عن العمال. كما بين القانون أنه يكون لمندوب التوفيق ولجنة التوفيق ولجنة التحكيم صلاحيات المحكمة فيما يتعلق بالاستماع للبينات عند نظر النزاع.
وتجدر الإشارة إن القانون لم يذكر ذلك بالنسبة لنزاعات العمل الفردية، ويعود السبب في ذلك في رأينا كون النزاعات الجماعية أكثر تنظيماً وذات أهمية اقتصادية واجتماعية ولكن هذا لا يمنع من اللجوء إلى التحكيم في منازعات العمل الفردية.

وبين قانون العمل أن المحكمة المختصة هي صاحبة الولاية في النظر في المنازعات العمالية ولم يحدد من هي المحكمة المختصة وبالتالي قد تكون محكمة الصلح أو محكمة البداية (حسب الاختصاص القيمي للدعوى العمالية).
وحيث إن قوانين العمل عموماً تهدف بالدرجة الأولى إلى حماية العامل وذلك لأن النظرة للعامل أنه الطرف الأضعف إضافة إلى السماح للعامل في الاثبات بكافة طرف الاثبات وهذا الأمر يؤدي إلى عدم ارتياح المستثمرين لأن النظرة للقضاء العادي تمتاز إلى أن اجراءاته معقدة وطويلة الأمد، كما إن قواعد قانون العمل تمتاز بأنها آمره ولا يجوز الاتفاق على مخالفتها وأن أحكام قانون العمل تمثل الحد الأدنى ويجوز منح امتيازات إضافية عن قانون العمل(م6 من قانون العمل)، والصفة الآمره لقواعد قانون العمل تعد متعلقة بالنظام العام.
وتجدر الاشارة إلى أن التحكيم في المنازعات العمالية، انقسم الفقه والتشريعات بشأنه، وهناك من يرى بعدم جواز التحكيم في المنازعات العمالية لارتباطه بالنظام العام وللأسباب الآتية: (في الدول التي منعته صراحة)
1.    تحدد بعض الدول أن اختصاص النظر في النزاعات العمالية يكون لمجلس التحكيم العمالي، وبالتالي تحدد اختصاص نوعي مطلق وبالتالي يتعلق بالنظام العام ومن هذه الدول فرنسا ولبنان.
2.    خضوع العامل لسلطة رب العمل أثناء توقيع عقد العمل وخلال فترة سريان العقد، وبالتالي تنعدم إرادته في معارضة شرط التحكيم في عقد العمل.
3.    يتم مثول ممثل من الحكومة أثناء المحاكمة أمام مجلس التحكيم العمالي ( تحت طائلة البطلان).
4.    التوسع في صلاحيات مجالس التحكيم العمالية، بحيث تشمل جميع النزاعات الفردية بين رب العمل والعامل.
وبرأينا أن الدول التي منعت التحكيم في النزاعات العمالية حددت جهات تحكيم قضائية صاحبة اختصاص نوعي (مجالس التحكيم العمالية) أما في الدول التي لم تنشيء هذه المجالس ولم تحدد اختصاص نوعي لمحكمة بذاتها للفصل في النزاعات العمالية كما هو الحال في فلسطين فإن الأمر سيكون مختلفاً من وجهة نظرنا، والقول بأن شرط التحكيم في عقد العمل يعد من النظام العام رأي فيه عدم دقة ولا ينسجم مع الغاية التي حددها المشرع في قانون التحكيم، كما سنبينه فيما يلي:
1.    يمكن اللجوء للتحكيم في المنازعات العمالية بدليل أنه لا يوجد نص في قانون العمل يمنع ذلك، واللجوء للتحكيم يؤدي إلى السرعة في حصول العامل على حقوقه بوقت قصير، ويؤدي إلى زيارة الاستثمارات وتشغيل عدد أكبر من الأيدي العاملة.
2.    التحكيم لا يعني التنازل عن الحقوق المحفوظة للعامل وإنما يرسم للطرفين طريقاً سريعاً وسهلاً في تحقيق النظر في القضية وفي النزاع العمالي.
3.    قانون العمل الفلسطيني سمح بشكل واضح تسوية نزاعات العمل الجماعية بطرق التسوية الودية (كما ذكر أعلاه) والتي منها التحكيم مما يدل أن شرط التحكيم في عقود العمل الجماعية صحيح ولا يعد من النظام العام.
4.    شرط التحكيم في عقد العمل لا يسلب أية محكمة اختصاص كون قانون العمل الفلسطيني لم يحدد اختصاص نوعي للمحكمة المختصة في النزاعات العمالية وبالتالي لا يسلب أية محكمة من اختصاصها. كما أن التحكيم لا يسلب العامل حقوقه بل إذا كان لديه أية حقوق فمن خلال التحكيم يستطيع تحصيلها بفترة زمنية بسيطة.
5.    التحكيم في النزاعات العمالية يعد ميزه للعامل، والاتفاق على التحكيم لا يسلب العامل حقوقه ما دام التحكيم هو محكمة من نوع خاص واختيارية يوجدها الطرفين باختيارهم لحسم النزاع وأن هيئة التحكيم أو المحكم أو مؤسسة التحكيم يمارسون مهام القضاة من حيث النظر في النزاع المعروض، ويصدرون حكماً ملزماً لطرفيه، وحيث إن الهدف من التحكيم هو التيسير على الطرفين بإختصار الوقت، واحترام إرادة الطرفين بما يتفقون به لفض نزاعاتهم بأيسر السبل، لذلك فإن التحكيم هو طريق استثنائي عن القاعدة العامة في حل النزاعات وبالتالي ليس فيه مخالفة للنظام العام.
6.    لا يوجد نص في قانون العمل بتحديد محاكم عمالية متخصصة للنظر في النزاعات العمالية والتي تعد مطلباً، وبالتالي لا يوجد اختصاص نوعي لمحكمة بذاتها. كما لا يوجد نص في قانون العمل يقضي بالاستعجال في النزاعات العمالية، فالقضايا العمالية شأنها كباقي النزاعات المدنية والتي تأخذ وقتاً طويلاً أمام المحاكم النظامية.
7.    إن من أسباب تشجبع الاستثمار المحلي والأجنبي الشعور لدى المستثمر بأن آلية فض النزاعات سهلة وسريعة والتي يحققها التحكيم، وبالتالي اللجوء للتحكيم في النزاعات العمالية من شأنها تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي.
8.    يوجد في فلسطين عدد من المحكمين المؤهلين للنظر في النزاعات باختلاف أنواعها ومعتمدين لدى وزارة العدل الفلسطينية ضمن شروط ومعايير واضحة حسب القانون والأنظمة، كما يوجد عدد من المؤسسات المؤهلة العاملة في هذا المجال.
9.    لأن التحكيم ليس مجاني لطرفية فإن ذلك يؤدي إلى التقليل من المطالبات الكيدية التي يتم رفعها على أصحاب العمل.
10.    التحكيم في النزاعات العمالية أصبح ضرورة ملحة لما لهذا الموضوع من أهمية تنعكس ايجاباً على طرفي عقد العمل، وخير دليل على ذلك مذكرة التفاهم التي تم توقيعها بتاريخ   3/2/2014 بين اتحاد الغرف التجارية الفلسطينية والاتحاد العام للنقابات العمالية والتي جاء من ضمن ما تناولته التعاون في موضوع التحكيم في حل النزاعات العمالية.
بالاضافة للأسباب المذكورة أعلاه بجواز التحكيم في النزاعات العمالية أشير بأن محكمة النقض الفلسطينية في القضية الحقوقية رقم (273/2011) أكدت إن مفهوم النظام العام الوارد في نص المادة (4) من قانون التحكيم لا يندرج ضمنه التحكيم في المنازعات العمالية، حيث جاء في نص الحكم: " إن ما توصلت إليه محكمة البداية بصفتها الاستئنافية في قرارها المطعون فيه من أن المقصود بالمسائل المتعلقة بالنظام العام وفق نص المادة (4) من قانون التحكيم هي الاتفاق على إحالة نزاع يعتبر الحكم به لأي طرف مخالف للقانون هو قول يتفق وأحكام القانون والغاية التي شرع فيها التحكيم وفق نص المادة (5) من القانون التي تنص اتفاق التحكيم هو اتفاق بين طرفين أو أكثر يقضي بإحالة كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو قد تنشأ بشأن علاقة قانونية معينة تعاقدية كانت أو غير تعاقدية، ولما كان الأمر كذلك في هذه الدعوى فإن ما ورد في هذا السبب من أسباب الطعن غير وارد وأن ما توصلت إليه المحكمة في حكمها المطعون فيه يكون في هذه الناحية متفقاً وأحكام القانون"
ونرى من هذا الحكم بأن محكمة النقض الفلسطينية أجازت التحكيم في النزاعات العمالية وبالتالي لا يعد من النظام العام بما أن نتيجة حكم التحكيم لا تخالف القانون.
كما إن المستقر لدى محكمة التمييز الأردنية إن شرط التحكيم الوارد في عقد العمل يعد جائزاً ولا يعد مخالفاً للنظام العام، وأشير هنا إلى القضية رقم 10 لسنة 2005 والتي تضمنت من ضمن المباديء التي قرراتها " إن المادة (9) من قانون التحكيم الأردني أجازت التحكيم في المسائل التي يجوز فيها الصلح، وحيث إن الحقوق العمالية التي يطالب بها العامل بعد انتهاء عمله فإنه يملك حق التصرف في هذه الحقوق والمصالحة عليها، لذلك فإن اللجوء إلى التحكيم لا يحرمه من حقوقه العمالية ما دام أن التحكيم هو طريق اتفاقي لحل النزاع أمام هيئة التحكيم وفقا لأحكام قانون العمل، وحيث أن الاتفاق على التحكيم لا يسلب القضاء اختصاصه للبت في النزاع إلا إذا تقدم أحد الخصوم بطلب لوقف الإجراءات قبل الدخول في أساس الدعوى إعمالا لأحكام المادة (109/ب) من قانون أصول المحاكمات المدنية، وحيث أن المميزة – المدعى عليها- قد تقدمت بطلب لرد الدعوى قبل الدخول بالأساس لتمسكها بشرط التحكيم الوارد بعقد العمل لذا يكون الحكم بعدم الأخذ بشرط التحكيم الذي أثارته المدعى عليها يخالف الشرط الوارد في العقد وبالتالي يخالف القانون. والمبدأ الثاني الذي قررته المحكمة نفسها ... أن الطرفين اتفقا على حل أي نزاع ينشأ بينهما عن تنفيذ عقد العمل يتم اللجوء فيه إلى التحكيم، وحيث أن العقد شريعة المتعاقدين وبما أن الجهة المدعى عليها المميزة تمسكت بشرط التحكيم الوارد بعقد العمل فإن تمسكها هذا لا يخالف حكم العقد وأما القول أن شرط التحكيم الوارد في عقد العمل يخالف قانون العمل والنظام العام فقول غير وارد ما دام أن قانون العمل لم يرد فيه أي نص يمنع من اللجوء إلى التحكيم.
للأسباب المذكورة أعلاه نرى جواز التحكيم في النزاعات العمالية جميعها سواء كانت ناتجة عن عقد عمل فردي أم عقد جماعي.