قبلة بيت لحم الأخيرة لأسامة العيسة - بقلم : ابراهيم جوهر - القدس
تاريخ النشر : 2014-02-18
أسامة العيسة وقبلة بيت لحم الأخيرة
رواية المكان وتاريخه والناس وأحوالهم.
تتمثل رؤية الرواية في انتقاد تنظيمات سياسية فلسطينية وشخصيات وقيادات حاولت استغلال الوطن لمصلحتها الذاتية، فتحوّل إلى ( وطن الشهداء والكذابين)، وتروي تاريخ مدينة بيت لحم وثقافتها وأحيائها. جاءت الأحداث والانتقادات بلغة
لا ينقصها جرأة في الطرح والنقد، وتشويق في الحدث والسردأ وإبهار في المعلومات، وفي أسلوب التداخل الفني والتوازي (المونتاج) .
الأسلوب المعتمد على التاريخ الذي تتقاطع معه قصة الراوي (رائد) و(سميرة)؛ شخصيتان من الزمن الشبابي الفوّار بالحركة والشعارات والمبادئ، حمل رسالة الرواية التي تشير إلى التغيّر الحاصل في المكان والإنسان، فالمكان لم يعد ذات المكان، ومثله الإنسان، الأمر الذي يقود إلى الاغتراب ويعمّقه ويدفع بالراوي إلى البحث عن خلاص جماعي للمدينة والناس.
يكتب أسامة العيسة روايتين متداخلتين بأسلوب (المونتاج) السينمائي؛ رواية بيت لحم وتاريخها وعمارتها وعائلاتها وحاراتها، ورواية الراوي (رائد الحردان) مع (سميرة) المثقفة اليسارية المتطرفة في طروحاتها ، وكيف آلت العلاقة بينهما إلى جمود، وتنافر، وتضاد مبدئي ومسلكي. انحازت (سميرة) إلى الجندر والمنظمات غير الحكومية مشبوهة الثقافة والتمويل، بينما انحاز الراوي (رائد الحردان) إلى الكفاح وقضى عشرين عاما في الاعتقال.
خطان متوازيان كانا منذ البداية جمع بينهما الحب والشباب والجامعة، هي كانت في قمة التجلّي والشعارات ، وهو في قاع الهدوء و(النسنسة) ... في النهاية كان هو هو، ولكنها لم تبق هي هي!
أسلوب سلس ذو رموز وأسئلة ومعلومات قام عليه هيكل الرواية التي رصدت تغيّر المكان، والإنسان، وأشارت بمتابعة جريئة إلى عيوب السياسيين والمرحلة.
النهاية جاءت رمزية ذات أبعاد؛ الراوي (رائد) – للاسم دلالة الثبات وحمل البناء والقيادة– لا يجد مكانا يرتاح فيه ويطمئن سوى التوزّع في صحراء القدس الممتدة حتى البحر الميت. كل شيء تغيّر، وكل الناس تغيروا أيضا، والشعارات والتنظيمات ومفهوم النضال والوطن. وحده الراوي بما يمثله من انتماء غير مشوّه سيتكاثر في الصحراء التي قدّمت أبناءها الفقراء شهداء من أجل وطن حقيقي.
رواية المكان والإنسان والثورة التي تأكل شعاراتها وروحها، هذه هي رواية (قبلة بيت لحم الأخيرة).
كانت أسماء الشخصيات في رواية أسامة العيسة ذات دلالة أبعد من مجرد كونها أسماء فقط للتمييز الإنساني المعهود؛ فسميرة الشابة الممتلئة حيوية واندفاعا وثورية التي لا ترضى بأقل من فلسطين من بحرها حتى نهرها، تلك الفتاة التي تخلت عن حبها الشخصي لصالح حبها وطنها ومبادئها، وجدناها في النهاية تسارع إلى النقيض في خط عيشها المتحوّل مع إفرازات مرحلة (أوسلو) وما رافقها وجاء بعدها من تغيير في المفاهيم ونكوص عن المبادئ والمسلكيات، فانساقت مع سياسة المنظمات غير الحكومية وموضة ال(باجيرو) الساحرة، بل راحت تنظّر للمرحلة الجديدة وتنتقد الراوي الذي يذكّرها بما كانت تنادي به وتعمل من أجله وتنتقد الآخرين ممن لا يواكبون حركتها ويوافقون أفكارها.
(سميرة) رغم ما في الاسم من دلالة السمر والجمال ، كانت مجرد (سمر) وتسلية في مرحلة الشباب والنهوض الثوري! وهي التي تشير إلى مرحلة ، وتنظيمات يسارية وثورية سارعت للنزول عن الجبل.
(سميرة) ظلت في الرواية بلا اسم يشير لعائلتها، مجرد (سميرة) وكفى. ربما كانت مسلكياتها اللاحقة كفيلة بالتعريف بها.
أما الراوي نفسه (رائد الحردان) فهو يحمل اسم عائلته التي يعني هنا فنيا اكتمال المسمى ودلالة الاسم. إنه مكتمل الهوية في جانب التعريف به وبموقفه؛ (رائد) من الريادة حتى ولو كانت سيرته غير ذات دلالة على رياديته وفق مفاهيم الحماسة الثورية غير المبنية على أسس واضحة في البدايات كما كانت عليه (سميرة) وما ترمز إليه. (رائد) الواثق من حبه، وذاته، لم يدفعه اتهام زملائه له بالتخاذل والمسكنة و(النسنسة) لتغيير موقفه من حبه ل(سميرة) ولا للتراجع عن إسهامه في العمل التوعوي المتمثل بكتابة بيانات حزب سميرة التي كانت توجه إلى الناس. ثم هو يحمل اسم عائلته (الحردان) والحرد هو الزعل والغضب والاحتجاج، فكان غاضبا منتقدا غير موافق على أمور عدة؛ على الحماسة الطاغية، وعلى الشعارات غير الواقعية، وعلى مسلكيات الشباب الثوري المتباينة، وأخيرا على هذا التخلي الفاضح عن الشعارات والارتماء في أحضان من كانوا أعداء الأمس.
يقف القارئ على نوع من التناقض المؤلم في موقف (سميرة) وهي تخاطب (رائد) في مكتبها برام الله معجبة بما قاله عنها الأميركان وعن إنجازاتها لصالح (الجندر)! أضحى النضال على جبهة (الجندر) أولى من اي جبهة أخرى...
أما الشاعر المتملّق (حمدان الأحمر) الذي سبق في التراجع ، وفي التخاذل والسعي وراء مكاسب شخصية وأنانية تتعلق بالربح المادي والشهوات الآنية على حساب القضايا الكبرى وطنيا وفكريا وإبداعيا، فهو يمثل شريحة المثقفين المبدعين في تراجعهم عن نقائهم وفي خيانة ضمائرهم وأدوارهم، وفي مكابرتهم ومزايداتهم التي تخفي حقيقة مواقفهم غير الثابتة، المتلوّنة.
رواية (قبلة بيت لحم الأخيرة) رواية التراجع والتغيّر الحادث في الناس، والمكان، والمبادئ، والعمل؛ التراجع والانتقال إلى الضد. وقد أجاد الكاتب في التعبير والتصوير والإقناع والإمتاع، وفي تصوير الشخصيات التي تمثل حركات وتنظيمات وأحزابا ومجتمعا يسير نحو ما يظنه خلاصا وهو لا يدري أنه السراب القاتل.
إنها رواية موجعة وهي تعرّي، وتفضح، وتشخّص، لكنها لم تنس الإشارة إلى البدائل العملية لهذا الخراب الطاغي الذي عاشت فيه شخصياتها وراويها، وهو بديل مفتوح على آفاق فنية يمكن تدارسها والاجتهاد في مراميها وأبعادها.