الغانية اليهودية في الرواية الفلسطينية بقلم:د.حسين ابو النجا
تاريخ النشر : 2005-10-10
الغانية اليهودية في الرواية الفلسطينية

د.حسين ابو النجا


تتميز اليهودية بأنها هي التي تتحكم إلى اليوم في صلة القرابة ، فاليهودي مهما كان الأب هو من كانت أمه يهودية "1" ، ومن المعروف أن تحكم المرأة في صلة القرابة يرجع إلى مجتمعات العشيرة التي كانت سائدة قبل ظهور المجتمع الطبقي ، والتي كانت فيها المرأة - نتيجة للنظام الاجتماعي المتعارف عليه في تلك المجتمعات - هي التي تلعب المقام الأول تماما كما يفعل الرجل في المجتمعات الطبقية ، وذلك بسبب الاعتقاد أن المرأة مرتبطة "بالطابع السحري أو المقدس "2" ، ويتصل بهذه النقطة أن المرأة كانت -أحيانا- تتزوج في الوقت الواحد " العديد من الرجال "3" ، وبعبارة ثانية انه يصعب أن يلتحق المولود بابيه بسبب عدم التأكد من الأبوة ، كما أن طبيعة المرحلة التاريخية قد ساعدت المرأة على أن تلحق بها المولود ، فقد كان نظام الإغارة والسبي يعرض المرأة إلى أن يتمتع بها ، فإذا ما ولدت رفض الرجل أن ينسب الابن إليه لان المولود ابن أخيذة ، أو إذا كان له أبناء فانهم لا يقبلون أن يشاركهم في أبوتهم أحد من أبناء السبايا ، وهكذا لم يكن هناك مفر من أن يلتحق المولود بالأم ، وينسب إليها . وفي الحالات التي تتعدد فيها الزوجات كانت بعض الأنظمة تعين من بينهن امرأة أصيلة ينتسب إليها جميع أولاد الرجل "4" ، مما يؤكد أن الانتساب إلى الأم كان معروفا عند مختلف الأمم.

وإذا عرفنا أن المرأة كانت وما زالت إلى اليوم تقوم بجهد مضاعف داخل البيت وخارجه تبين أنها " البوتقة التي ينفذ منها إلى جوهر الحياة ودلالتها العميقة "5".

ومن هنا فانه إذا كانت صورة الرجل في الرواية ضرورية للتعبير عن الواقع ، فان صورة المرأة في الرواية اشد وضوحا في تعبيرهـا عن الواقع من صورة الرجل "6" ، وذلك لان تجربتها اخصب من جهة ، ولأنها من جهة أخرى " تكثف مشاعر التغيير التي يمر بها المجتمع"7".

وبديهي - بعد ذلك - أن تكون صورة اليهودية اكثر قدرة على استقطاب حركة الواقع اليهودي ، واكثر تمثيلا له.خاصة وأنها إضافة إلى ما سبق تقوم مثلها مثل الرجل بالحرب وهي أشق الأعمال على الإطلاق.

وإذا كانت اليهودية من الأهمية إلى هذه الدرجة ، فانه من الطبيعي أن تهتم بها الرواية الفلسطينية ، وان تقوم بتصويرها ، وان تتباين في عملية التصوير اتجاهات متعددة حسب رؤية كل كاتب وفلسفته في الحياة ، وهو ما قامت به بالفعل الرواية الفلسطينية .

2

اتخذت الرواية الفلسطينية المعاصرة في صورة اليهودية أربعة اتجاهات أساسية ، اهتم الأول بالغانية ، وجعل اليهودية رمزا للغواية تستغل حاجة الرجل الجنسية فتسلبه ماله وصحته ، ثم تلقي به إلى الهاوية ، فأستير"8" في الوارث لخليل بيدس "9" تستدرج إليها عزيزا الحلبي بطل الرواية ، وحين يقع في حبائلها تبتزه بمختلف الوسائل من اجل أن تحقق أهدافها في الحصول على ما تحتاجه من لوازم ومن مال ، المهم أن يحقق لها ما تريد حتى ولو تورط في الديون ، ووجوده لا يمنعها من أن تتصل بغيره لأنها شديدة الحاجة إلى المال ، وحين تستنفذه تنتقل إلى غيره وغيره ، إلى أن تقتل على يد أحد ضحاياها .

وكذلك ساراي في "من جانبي الطريق" لكامل كاشور"10" ، إنها تنتقل من رجل إلى آخر مادام يملك المال حينا ، وما دام يتمتع بالصحة حينا آخر،وما دام لها فيه مصلحة ، فإذا ما انتهى ماله ، أو تداعت صحته ، أو انتهت المصلحة لفظته ، ولكن المال والصحة والمصلحة لم ينقذوها من الموت على يد أحد العشاق الذين خدعتهم من قبل تماما كما حدث لأستير.

أما الاتجاه الثاني ، فقد صور اليهودية وجودية تعيش حياتها كالناس ، ولا تنشغل بالثقافة العبرية التي تنتقل بالوعي من الدين إلى الدولة ، فجورجينا في القناع لنبيل خوري "11" إنجليزية من أم يهودية تلح عليها بالذهاب إلى إسرائيل والإقامة معها فيها ، ولكن الابنة ترفض بسبب ترك الأم لها في لندن والذهاب إلى إسرائيل ، وحين تلتقي بفلسطيني قادم إلى أوروبا تتعاطف معه ، وتسلم له القياد ، ولكنه حين يعلم بان أمها يهودية يتهرب منها، وتحاول أن تقنعه بمختلف الطرق أنها تتعاطف مع العرب بعامة ، والفلسطينيين بصفة خاصة ، وأنها لا يمكن أن تستسلم لامها وترحل إلى إسرائيل ، ولكن الفلسطيني هو الذي يهرب منها لا لسبب واضح سوى كونها يهودية.

وريتا في المسار لأفنان القاسم "12" لا تكاد تختلف عن جورجينا رغم كونها إسرائيلية ، فالفلسطينيون يسمونها ريتا العربية لحسن معاملتها لهم ، بل إنها تصادق مسيحية منهم ، وتعشق مسلما ، و تستغل امتيازاتها كإسرائيلية للتخفيف عن العرب ، وتسهيل الأمور عليهم ، بل إنها تضحي من اجل حبيبها اكثر من مرة ، وتقبل بعد رحيله غير نادمة كل ما لحق بها من جراء ذلك.

أما الاتجاه الثالث ، فقد جعل فيه الروائيون الفلسطينيون اليهودية رافضة للتربية الصهيونية ، ولكنها عاجزة عن فعل أي شيء ، فهي تكتشف عدم صدق الادعاءات التي ربيت عليها ، ولكنها لا تستطيع إلا أن ترضخ للواقع الذي فرضته عليها الظروف ، فمريام في عائد إلى حيفا لغسان كنفاني "13" زوجة ايفرات كوشن تعرف منذ أن قدمت إلى إسرائيل أن الحياة التي كانت تحلم بها ليست هي التي كانت تريد أن تحياها ، وان السكن في بيت لعربي مطرود ليس هو الذي كانت تأمل فيه ، وان الطفل الذي تربيه إنما هو ابن لعربي مطرود ، ومع ذلك فإنها لا تستطيع إلا أن تقبل بالواقع ، وتسلم به ، وعندما تعرف بعد حرب حزيران أن الحدودستفتح ، وان أهل البيت سيجيئون ، وان أهل الولد سيظهرون ، تعترف لابنها انه ليس ابنها الحقيقي ، وإنما هو ابن لأسرة عربية تركته أثناء النكبة ، وتسمح حين تجيء الآسرة العربية بأخذ الصورة التي كانت معلقة على الجدار، ولكنها تتمسك بالولد بعد أن فقدت زوجها وترفض أن يعود إلى أهله.

وروتي في الصورة الأخيرة في الألبوم لسميح القاسم "14" في الآداب ، وابنة لضابط كبير يفخر به المجتمع الإسرائيلي لقيامه بالواجب ضد العرب ، ويحتفظ لنفسه بألبوم فيه صور العرب الذين يقتلهم على الحدود ، ولكنها حين تتعرف على أمير العربي الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية ، والمتخرج من الجامعة العبرية بماجستير في العلوم السياسية ، والذي لا يجد في إسرائيل عملا ، فيضطر إلى أن يعمل نادلا في أحد المطاعم ، تتزعزع في داخلها كل الصور المقولبة التي زرعتها الأسرة والمجتمع في نفسها منذ أن كانت طفلة ، وحين تزور أسرته في قريتهم ، وتتعرف على أخيه علي الذي يمنعه النظام من إكمال تعليمه الجامعي على الرغم من تفوقه في البجروت "15" لأنه عربي ، يتأكد لها أن هناك فرقا بين ما هو واقع بالفعل وبين ما يقال عن الفلسطينيين في إسرائيل ، وأن كل ما قد زرعته الأسرة والمجتمع لا يزيد عن أن يكون تكرارا لما كان قد فعله باليهود هتلر، وتنفجر المأساة حين يقتل أبوها على الحدود السورية عليا أخا أمير- وهو يحاول اجتيازها-من اجل إكمال تعليمه في دولة عربية بعد أن أغلقت في وجهه الأبواب إلى مختلف الجامعات العبرية بحجة انه إرهابي ، وتدخل المستشفى من وقع الصدمة، ثم لا تلبث أن تموت وهي تتمنى أن تكون صورة علي آخر صورة في البوم أبيها الرهيب.

أما الاتجاه الرابع ، فقد صور اليهودية متخلية عن الواقع الإسرائيلي ، وتذهب في تمردها عليه إلى حد أن تحمل ضده السلاح ، فمريم في حبات البرتقال لناصر الدين النشا شيبي "16 " المانية من داخاو ترغمها الحركة الصهيونية- بعد الخروج من المعتقل- على أعمال لا تؤمن بها ،ولكنها تتمرد بعد ذلك ، وتشارك الفلسطينيين في كفاحهم ضد الهجرة حتى ولو دفعت عمر هاثمنا لذلك. ومثلها لمياء في " نبتة في البيداء " لفتحية محمود الباتع "17" ترفض الواقع الإسرائيلي ، وتتعاون مع الثوار الفلسطينيين إلى درجة أنها تحمل معهم السلاح ، وتكافح الصهيونية مثلها مثل الرجال.

وراحيل في " الهجرة إلى الجحيم " لمحمود شاهين "18" لا تكتفي برفض الواقع الإسرائيلي وإنما تنحاز إلى الجانب الفلسطيني ، وتتزوج من فدائي ، وتشترك معه في القتال ضد المؤسسة الإسرائيلية.

وواضح أن الرواية الفلسطينية في تصويرها لليهودية قد اختلفت من كاتب إلى آخر بسبب ما بين الكتاب من الاختلاف في الرؤية ، وعلى العموم فان صورة اليهودية عند مختلف الكتاب الفلسطينيين صورة سلبية حتى في احسن الأوقات التي تضحي فيها من اجل الفلسطيني نفسه ، أو من اجل قضيته ، ومن البديهي أن هذه الصورة متأثرة بطبيعة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين ، وهي طبيعة لا يمكن أن تتجرد تماما من تأثيرات المواقف السياسية التي افرزها الصراع منذ -بداية ظهور الحركة الصهيونية إلى اليوم.

ولقد انحاز خليل بيدس إلى ما هو مأثور فصور اليهودية أفعى تلدغ عشاقها ، وتبدلهم بعد أن تستنفذ أغراضها منهم ، وكذلك فعل كامل كاشور حين جعل بطلة روايته تبدل عشاقها حينا وأزواجها أحيانا ثانية من اجل المال مرة ، و من اجل التمتع بصحة الرجل وعافيته مرة أخرى.

3

تقوم الوارث أساسا على رؤية انفعالية اكثر مما تقوم على إبداع نوعي معبر عـن الوعي التاريخي الاجتماعي ، ولذا فان الرواية لم تتمكن من القدرة على إنارة الوعي لكونها غير معلولة للمؤلف ، لأنها تصدر عن تصور ذهني خالص ، وليس عن ذات اجتماعية قادرة على الفاعلية "19".

فأستير ممثلة يهودية توقع - بالتنسيق مع شخصيات يهودية أخرى - في حبائلها عزيزا الحلبي المهاجر من الشام إلى مصر بعد أحداث 1860 ، والوارث الوحيد لعمه التاجر الغني ، وتخطفه من خطيبته نجلاء التي اختارها له عمه ، وتحاول أن تسخره لكي تحقق به طموحها ، فتجعله يستدين من اجلها المرة بعد المرة بحجة عربة مرة ، وبحجة معطف مرة أخرى ، وبحجة أثاث مرة ثالثة ، وأخرى بحجة عقد من الألماس ، وهكذا إلى أن تورطه في ديون لا يمكن له سدادها من دون أن يفتضح أمره ، ولا تكتفي بذلك ، بل إنها تحثه على سرقة عمه وخطيبته ، ثم تلفظه حين لم يعد قادرا على تحقيق أهدافها في الحصول على الأموال التي تحتاجها ، وتنتقل إلى أحضان غيره وغيره ، وفي النهاية تموت على يد أحد ضحاياها ممن غررت بهم .

وواضح أن العلاقة بين كل من استير وعزيز ليست " حالة اجتماعية عامة "20" كما يقول الدكتور ناصر الدين الأسد ، لأنها غير مبنية على إشباع ذاتي ، أو على نظام اجتماعي عام ، ومن هنا فإنها ليست غراما بالمعنى الحقيقي ، ولكنها مجرد انبهار لا اكثر، فالبطل يعيش في واقع يلتحف بالعادات والتقاليد ، وينغلق على نفسه ، ويمتنع فيه الاختلاط. وهكذا فانه ،حين يتعرف على أستير التي لا تؤمن بتلك العادات أو التي تنتمي إلى عادات مخالفة تسمح للمرأة أن تختلط بالرجل ، ينبهر، و يتهيأ له انه يحبها ، والحق انه لم يكن حبا ، وإنما هو ابتزاز تقوم به استير بالاتفاق مع مجموعة من اليهود ، وما خضوع عزيز إلا هروب من الانغلاق الذي تفرضه طبيعة المجتمع ، وتحاصره فيه.

ثم إن هناك أمرا يتمثل في كون البطل عزيز مسيحيا ، ومن المعروف أن الانغلاق في المجتمع المسيحي اقل إحكاما منه لدى الجماعات الإسلامية بسبب التقاليد من جهة ، وبسبب التعاليم الدينية من جهة أخرى ، وهي فسحة تتيح المجال لبناء علاقات اجتماعية اكثر مما هو مسموح به في الجماعات الإسلامية ، ومن هنا فان عقد العلاقة بين مسيحي ويهودية بسبب العادات أمر غير مقنع ، وأظن أن الكاتب قد اضطر إلى ذلك لسببين أولهما : أن العلاقة بين المسيحية واليهودية أقوى من أحدهما والإسلام بحكم الثقافة المشتركة بينهما ، وبحكم الطبيعة الاجتماعية من حيث أن كلا منهما أقلية تعيش وسط أغلبية ، أما الثاني فانه يتمثل في تجنب الحساسية المفرطة بين المسيحي والمسلم بعد أحداث 1860 .

ولكن ذلك لم يمنع الكاتب من أن ينهل من القران الكريم ، فالغواية بين عزيز واستير إعادة صياغة لقصة يوسف وزليخة كما صورها القرآن الكريم ، وليس من غريب الصدف أن تقع القصتان في مصر ، وان تكون إحدى الشخصيتين الأساسيتين قادمة إلى مصر من الشام ، وان يكون القادم رجلا والمقيمة امرأة ، تماما كما هو الحال في القصة القرآنية.

ويتصل بهذه النقطة إن الكاتب حين يختار لروايته مسيحيا فانه ينحاز لدينه ، ويتعالى على الواقع الذي يؤكد أن الأغلبية مسلمة ، وان اختيار النماذج البشرية ينبغي أن يتم عن طريق إدراك الواقع الذي يمد الرواية" بالمضمون ويساهم في تحديد الشكل الداخلي للعمل "21" ، ومن المعروف أن الإسلام لم يتعصب ضد أحد بل انه - على عكس محاكم التفتيش - "22" ادمج غير المسلمين في المجتمع ، وجعلهم أهل ذمة ، وحفظ لهم كل الحقوق التي ظلوا بها إلى الآن في أحضان المجتمع ، الأمر الذي هيا الفرص أمام الكاتب لكي يتقبل الواقع ويصوره بموضوعية ، ولكن الكاتب ظل على الهامش ، ولم يندمج في الواقع فيتمثل بشخصيات من المسلمين ، أن الكاتب حين يصر على أن تكون كل الشخصيات يهودا ونصارى فانه لا يتجاهل الواقع ، وإنما يصر على استبدال الأغلبية بالأقلية ، وهو منطق أعوج لا يمكن التفرج عليه من بعيد ، لان مثل هذا المنطق هو الذي سمح لإسرائيل أن تحول الأقلية إلى أغلبية بعد 1948 ، والذي صرنا نعاني منه مسيحيين ومسلمين منذ ذلك التاريخ.

وإذا عرفنا أن الرواية لا تقع في فلسطين ، وإنما في مصر تأكد لنا أن الكاتب لا يواجه واقعه ، ولكنه يهرب منه إلى بيئة أخرى مخافة الانتقاد ، كما يقول الدكتور عبد المحسن طه بدر"23" ، وليس كما قال الدكتور احمد أبو مطر" كان يريد من خلال شخصيات الرواية اليهودية أن يصور مكائد اليهود آنذاك لإفساد الشباب العربي في فلسطين خدمة لأغراضهم الخاصة "24" ، والباحث في الرواية لا يجد فيها ولو بالتأويل ما يشير إلى السياسة ولو من بعيد ، وليس فيها من فلسطين سوى هوية كاتبها ، فلا بيئة فلسطينية ، ولا أشخاص فلسطينيون ، ولا إشارات إلي فلسطين ، فكيف توصل الدكتور آبو مطر إلى ذلك؟.

والأدهى من ذلك انه يعترف أن هذا الجانب من رواية الوارث ليس بعيدا عما عرفه واقع العلاقة بين العرب واليهود في فلسطين قبل عام 1948" 25 "، ولا أدري مرة ثانية من أين أتى أبو مطر بذلك ، وهو يعرف أن الكاتب –لو أن البيئة المحلية كانت تقبل بذلك- ما كان لجأ إلى بيئة أجنبية ، وإلى شخصيات أجنبية ،خاصة وان الكاتب قد عاش المرحلة كما لم يعشها أبو مطر نفسه ، فمن أين له أن يعرف أن الغرام في تلك المرحلة بين يهودية وفلسطيني- مهما كانت ديانته- كان واقعا في فلسطين ، والحق انه لم يكن إليه من سبيل لا في ذلك الوقت ، ولا في أي وقت آخر، وإذا تعثرنا في الواقع بحالة فردية أو عدة حالات ، فان المنطق لا يقتضي أن نضخم ما هو نادر وقليل ، ونجعله كثيرا وشاملا مطلقا كما يفهم من قول أبي مطر، لأننا أن فعلنا ذلك فإننا لن نقنع أحدا ، لا لصعوبة تصديقه ، وإنما لتناقضه الجوهري مع عملية الصراع التي ابتدأت في ذلك الوقت، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا انه إذا كانت العلاقة ليست غريبة فلماذا لم يختر بيدس نماذج بشرية من فلسطين ،وبيئة فلسطينية حتى يتم التعليل لروايته فتكتسب بذلك القدرة على الإقناع ، ولماذا اضطر إلى الاستعانة بما هو أجنبي من بيئة وشخصيات وأحداث؟ ، ولكن الكاتب لم يفعل ذلك لان طبيعة المرحلة كانت تفرض عليه ،حتى ولو كان الأمر صحيحا فانه كان عليه ألا يقوم بذلك ، فقد صدرت الرواية بعد أن اخذ وعد بلفور يتجسد في الواقع الفعلي ، وهو ما كان يتطلب من المؤلف في لحظات المواجهة أن ينتمي إلي الواقع الذي يعيش فيه ، وان ترتبط الموضوعة الاجتماعية الخالصة بالواقع السياسي ، ومن هنا فانه يتأكد أن الاتكاء من اجل أن ترتفع اسهم الرواية لا يمكن أن يغطي الشمس بالغربال.

وواضح الآن أن الكاتب قد انطلق من إطار غير مدرك بدقة ، وان روايته لم تستطع أن تدرك الواقع المتحرك باستمرار في المرحلة التاريخية الاجتماعية شديدة الخصوصية ، ولذا فإنها فقدت القدرة على التفاعل مع" البيئة التي تعيش فيها " 26" لم تستجب الرواية للإطار الاجتماعي والطبيعي الذي أحاط بها فان عدم الاستجابة لحركية الواقع وسياق الحياة يسمها بعدم التبصر والروية ، وأول ما سيظهر ذلك في رسم الشخصيات بعامة و الغانية على وجه الخصوص .

فقد اختار لبطلته اسم استير، و لا شك أن الاختيار ليس اعتباطيا ، وإنما يتم من اجل أداء غرض معين ، ومن المعروف أن اسم استير ذو إيحاءات دينية وتاريخية يمكن أن تطور الشخصية ، ولكن الكاتب قد جرد استير من كل الدلالات التي ارتبطت بها عبر الأزمنة حين جعلها تخلد إلى الاكتفاء بالغواية ، وتمتنع عما هو ديني أو سياسي ، وهو تجريد لا يمكن أن يساعد على تقديم شخصية سوية ، بقدر ما يساعد على تقديم شخصية مسطحة بعد أن كانت قد توفرت لها أسباب الثراء .

ولا شك أن اختيار الاسم للبطلة مرتبط -احب الكاتب أم لم يحب- بتلك الدلالات التي لا يمكن تجاوزها. إن تجريد الشخصية -التي تحمل دلالات تاريخية ذات صلة بالواقع الحياتي الذي صدرت فيه الرواية - هو في جوهر الأمر فصل لها عن الخلفيات التي يمكن أن تساهم في تعميق أبعادها الثرية ، لان النبض الذي توحي به تلك الأسماء لا يمكن تناسيه أثناء القراءة ، ومن هنا فان الرواية تفقد منذ البداية تعاطف القارئ ، وإذا عرفنا أن استير التاريخية قد استخدمت- لكي تحقق أهدافها-الأسلوب نفسه الذي استخدمته استير بطلة الرواية تأكد أن الصلة بينهما قوية لا تقبل الفصل كما فعل الكاتب.

وبديهي بعد ذلك أن الربط بين استير والغواية يتطلب توضيح الشخصية من الزوايا التي تتطلبها الغواية ، وأول هذه الزوايا الجانب الجسماني لأنه المدخل الطبيعي إلى الأحداث في الرواية.

والحق أن الرواية قد حشدت لاستير من الصفات الجسمانية ما لا يمكن أن يجتمع في امرأة واحدة فهي. في الربيع العشرين "ص2" قد امتازت بالجمال "ص2" ، وان هذا الجمال قد أفرغ عليه الشباب أجمل حلله "ص2" النادر المثال "ص24" إلى حد أن مجرد ذكرها قد محا " ذكر كل جميلة وقفت على مسارح التمثيل أو في معابد الجمال "ص25".

وعلى هذا النحو يكون الكاتب قد أسرف في انفعاله ، فهي في الربيع العشرين ، ومن البديهي أن الجمع بين الربيع والعشرين انفعال وليس واقعا ، فالربيع ذو ظلال وإيماءات بهيجة ، فكأنه يمهد لما ستقوم به استير من خير ، ولكننا حين نبحث عن تجسيد لهذه الإيحاءات فإننا لا نكاد نجد منها شيئا ، بل إننا لا نجد إلا ما هو عكس لما أوحى به الكاتب. ولم يكتف الكاتب بذلك وإنما أضاف إلى الربيع صغر السن ، ولكن صغر السن وان كان له نصيب من الواقع إلا انه موروث شعبي ، فقد درجت السير الشعبية على تثبيته في الأذهان حين تجعل المحبوبة صغيرة السن دائما ، فالفتاة لكي تحب يجب أن تكون صغيرة وإلا فإنها غير جديرة بأن يلهث خلفها الرجال.

وتتأكد الانفعالية حين يربط الكاتب بين السن والحب فهل من المنطقي ألا يكون الحب إلا في العشرين ؟ وما الذي يمنعه أن يقع في غير العشرين؟ وإذا كان ذلك مقبولا ، فهل يمكن لفتاة في العشرين من العمر أن تمتلك كل هذه الحنكة في المناورة ،والخبرة في الابتزاز التي جهد الكاتب في حشدها للفتاة ، إن المنطق يفرض أن تكون هناك علاقة تناسب بين الحدث والعمر ، وإلا اختل رسم الشخصية وصار من الصعب عليها أن تقنع المتلقي.

ولا شك أن الكاتب يدعي على استير اكثر مما يصفها ، أن فتاة العشرين -في ذلك الوقت - لا يمكن أن تكتسب كل تلك المهارة التي يتفتق عنها ذهن الكاتب .

وهي من جهة أخرى ليست مجرد فتاة جميلة ، وإنما هي مجموع النساء في واحدة ، لقد جند لها الكاتب صفة من هنا ، وأخرى من هناك إلى أن خرجت عما هو واقعي ، فهي قد تكون جميلة ولكنه لا يمكن أن تكون كما ذكر الكاتب اجمل من وقف على مسرح ، وإذا كان يمكن أن تكون كذلك ، فهل يمكن أن تكون في نفس الوقت اجمل من جميع من وقف في معابد الجمال بهذا الإطلاق الذي ينطبق على جميع الأمكنة وجميع الأزمنة ؟، وإذا عرفنا أن البغاء كان مهنة دينية محترمة إلى حد أن الشعوب القديمة كانت تلقب العاهرة بالقديسة "27" تأكد انه لا بد أن تكون قد تطلعت إليه مختلف النساء مما يوحي بان اجمل الجميلات كن يتطلعن إليه . ومن البديهي انه لا يمكن أن تكون استير اجمل منهن جميعا.

ولا شك أن الكاتب بهذا الإطلاق الواسع يخرج من إطار الواقع إلى الإفراط في الذاتية ، صحيح أن كل امرأة جميلة بحكم كونها امرأة خلقها الله في احسن صورة ، وصحيح أن عيون المحبين ترى ما لا تراه العيون الأخرى ، ولكن الصورة التي قدمها لنا الكاتب ليست من الواقع ، وإنما هي من تأثيرات العهد القديم الذي عرفه الكاتب من خلال الكتاب المقدس ، ومن المعروف أن العهد القديم حافل بالقصص التي تصور المرأة في منتهى الجمال .

وهو من جهة أخرى جمال مطلق وعام من دون أي تفاصيل " فالوجه جميل "ص13"، ومنير "ص62" ، وفوق كل ذلك فان تكوينها " جميل "ص23" ، وعندما تعوزه تفاصيل جديدة فانه يلجا إلى التعميم فيقول أنها أبهى من طلعة شمس الضحى "ص2".

والملاحظ أن الكاتب لا يكتفي بتكرار كلمة جمال في كل من الوجه والتكوين من دون تبرير ، ولكنه هو الذي يقرر ذلك من دون أن يجعلنا نحس بهذا الجمال ولو في لفتة صغيرة تمر بسرعة خاطفة ، وتتأكد بحركة مادية ملموسة .

ولكنه يصل في النهاية إلى إنها أبهى من طلعة شمس الضحى وهو إضافة إلى ما فيه من مغالاة واضحة يتناقض مع ما درج عليه العرب في وصف المرأة بالقمر ، وكأن الكاتب لم يكفه ما سبق من أوصاف الجمال ، فأضاف إليها طلعة الشمس في الضحى ، كل ذلك في قالب ذهني مجرد وأسلوب تقريري يعجزان عن الإقناع بواقعية تلك الأوصاف. وواضح منذ البداية أن الكاتب لا يصور امرأة في الواقع ، وإنما يصور امرأة من الخيال لا علاقة لها بالواقع ، فاليهودية التي قدمها الكاتب لا توجد في الواقع وإنما في خياله وحده ، فإسقاط كل هذا الجمال على استير من زاوية ثانية دليل على أن صورة اليهودية في ذهن الكاتب مرتبطة أساسا بالجمال ، أي أن كل يهودية لكونها يهودية هي آية في الجمال ، وهو ما لا يمكن أن يقول به أحد إلا العهد القديم.

وإذا كان الكاتب في الجمال متأثرا بالعهد القديم فانه متأثر أيضا بمثالية الجسم الطبيعي للمرأة عند الإغريق "28"، والدليل على ذلك انه يفصل القول في جمال استير ليس كما هو في الواقع وإنما كما يجب أن يكون ، فالشعر "الحالك الناعم على كتفيها "ص3" ، أو "غدائرها الجميلة مدلاة على كتفيها كأنها كفاف من المسك "ص63" ، والذراعان "ذراعاها ناصعتان "ص23" ،

والجسم "على هذا البدن البض الغض "ص24" ، والأعضاء مرة لينة " لين أعضائها" "ص23" ، وأخرى متناسبة "تناسب أعضائها " "ص2" ، وعندما لا يبقى أمامه شيء آخر يقول إنها رشيقة" رشاقتها "ص3" ، و"هذا القد والاعتدال" "ص4" ، وكأن لين الأعضاء وتناسبها ليسا من الرشاقة في شيء.

ومن الواضح أن الكاتب حين يجعل الشعر اسود حالكا يخرج عما هو مألوف في الواقع الحقيقي ، فاليهودية في الذهن مقترنة بأنها ذات شعر ذهبي اصفر وليس حالكا كما ذهب الكاتب مما يؤكد من جديد أن الكاتب يفرض على الشخصية من عنده وليس كما هي في الواقع ، ويخيل إلى أن السبب في ذلك راجع إلى أن الكاتب لا يرسم شخصية ، وإنما يرسم من الذهن صورة لتقابل الأبيض والأسود ، فإذا كان الشعر اسود فان الجسم يجب أن يكون ابيض لكي يجتمع الليل والنهار كما هو مشهور في الشعر العربي وفي الحكايات الشعبية ، فالشعر مسك والجسم بض ، مع الملاحظة بالتناقض بين هذا وبين ما سبق حين تحدث عن طلعة الشمس التي لا يوجد فيها ما يدل على السواد.

ويظهر أن الكاتب قد عني بالجانب الجسماني عناية واضحة على الرغم من كل شيء ومع ذلك فانه لم يوفيه حقه حيث ظلت العناية نسبية فقد اكتفى منه ببعض الأشياء ولم يتطرق إلى بعضها الآخر ، فنحن لا نكاد نجد أي ذكر لعينيها مثلا ، ولا للطول ، والوزن ، ولا العوامل الوراثية ، ولا الشذوذ ، ولا آثار الوحم والحمل وغيرها مما يرتبط بالكيان البيولوجي للمرأة ، مما لم يساعد على ترسيخ الشخصية في أذهاننا . وان هذه الأوصاف الجسمانية قد قدمت دفعة واحدة وليس على مرات متعددة ، وأنها مجردة عن ظروف الحياة التي تعيشها الشخصية ، أي إنها بلا خلفية . وقد كان يمكن لهذه الصفات الجميلة أن توحي بجمال الأفعال ولكن الكاتب قابل بين الجمال في الصفات والقبح في الأفعال ، وعلى الرغم من اهتمام الكاتب برسم الملامح الخارجية لاستير كاللون والشعر والجسم والذراعين والجمال في محاولة لإقناعنا بإمكانية وجود مثل هذه الشخصية في الواقع الفعلي ، إلا انه لم يتمكن من ذلك لأنه قد جرد الشخصية من الكيان النفسي الذي لا يوجد له اثر في الرواية رغم انه من الجوانب الأساسية في الشخصية كانت إنسانا في الواقع أم شخصية روائية.

ولولا المبدأ الأخلاقي الذي جاء في ثنايا وجهات النظر لما كان له ذكر، وخلاصة الأمر فيه انه ما دامت جميلة في العيون فان جمالها بحاجة إلى المال ، وهي على الرغم من ان لها راتبا من المسرح الذي تعمل فيه "ص3" إلا أنها تعتمد على الأموال التي تأخذها من الذين يحبونها "ومما كانت تتقاضاه من مدير المسرح من أموال الراغبين فيها "ص3" ، أنت أدرى بشدة احتياجي إلي المال "ص4" ، ولا تمل من أن تكرر ذلك في كل مرة ، ولكن المال الذي تطلبه لنفقاتها كما تدعي ليس عاديا ، وإنما هو مال كثير أكثر بكثير مما تتطلبه النفقات ، والفلسفة في ذلك انه ما دام المحب غنيا " لا أريد أن اقنع بالقليل ما دام حبيبي غنيا "ص15" ، بل إنها تربط بين الغنى والمحبة ، فالمحبوب لا بد أن يكون غنيا وإلا فانه لا حاجة به للحب " فعلى العاشق أن يكون غنيا حتى يتمكن من الإنفاق على المحبوبة ، أما إذا لم يكن غنيا فانه لا ينبغي أن يحبها لأنه لا يستطيع أن يتحمل نفقاتها " فما فائدتي فيك وأنت صفر اليدين..كيف يكون حالتي إذا اصبح حبيبي فقيرا وليس في طاقته أن يقوم بنفقاتي "ص63" ، وتعني بالنفقات كل ما تريد كالملابس مثلا " وماذا يفيدني كل ذلك أفأستطيع أن أخيط من هيامك لي فروة تقيني برد الشتاء أو من عبادتك لي ثوبا جميلا من الديباج تبتهج به نفسي "ص4" ، أو العشاء الفاخر " اجتهد أن يكون عشاء هذه الليلة أشبه بمأدبة ملكية وإياك أن تقصر في شيء "ص26" ، أو عقد من الألماس " بعقد جميل من الألماس "ص 24" ، أو عربة ورداء " أما أنا فأريد الرداء والعربة "ص 8" ، على أن تكون العربة تحت إمرتها في كل آن " عربة تكون تحت أمري في كل آن "ص5" ، أو ساعة " وقد أهديتك منذ بضعة أيام ساعة ذهبية جميلة شكرتني عليها كثيرا "ص5" ، وعندما يعوزها التحديد تلجا إلى التعميم كان تطلب هدية من دون أن تحدد ما هي الهدية التي تريد " تقدم لي الآن هدية جديدة "ص71" ، المهم عندها هو ان يقوم العشاق بكل شيء من أجرة المنزل إلى ما يشبه الراتب كل شهر " إني ادفع أجرة منزلك واقدم إليك كل شهر من خمسة عشر إلى عشرين جنيها "ص5" ، ولا تقنع بما يقدم لها من مال ، وإنما تطالبه دائما بالمزيد من المال " أريد أن تعطيني مبلغا كبيرا "ص81" ، إنها لا تريد المال ، ولكنها تريد منه ما هو كثير من دون أن تحدد سقفا " اكتب لي إذا صكا بمبلغ يضمن سعادة مستقبلي "ص81" ، ولا أحد يعرف المبلغ الذي يمكن أن يضمن لها المستقبل ، وهكذا فإنها لا تقنع بما تأخذ ، وإنما تطلب المزيد " وماذا تنفعك المائة والخمسون جنيها فاطلب خمسمائة على الأقل "ص15" ، فإذا ضمنت الخمسمائة تتطلع إلى الألف " فاستدن ألف جنيه دفعة واحدة "ص30"، ولا مانع لديها من اجل الوصول إلى المال أن تحث حبيبها على الزواج من غيرها إذا كان الزواج يوفر لها المال " أما إذا تزوجت فانك تصبح غنيا فيزداد حبي لك" "ص63" ، فان تزوج استغلت الفرصة لكي تنهب منه ، " ولكنك تزوجت فهل قدمت لي هدية في يوم العرس ؟ هل قدمت لي مبلغا من المال لنفقاتي "ص80" ، ولا باس إن رأت أن ثمة خطرا يهدد مصلحتها ، فإنها يمكن أن تطلب من حبيبها طاعة عمه كيلا يحرمه من الميراث ، ولا تعود هناك فرصة لاستغفاله مرة أخرى " إذا خالفت أمره يحرمك تركته كلها "ص63" ، ولا مانع لديها أيضا أن تحث صاحبها على السرقة " إذا لم تحتشم أحدا بعد الآن فخذ من الصندوق ، ومن البضاعة قدر ما استطعت ، قبل أن يحل القضاء "ص10" ، وحين تفشل خطتها تبدل السرقة بالاستدانة " فلا اسهل من أن تستدين قدر ما تريد" ص28" ، لم يبق لك إلا أن تقترض الأموال التي تلزمك الآن إلى حين وفاة عمك "ص9" ، ولكن الاستدانة ينبغي أن تكون معتبرة لكي ترضيها " فما دام الأمر على هذه الصورة والحرب على الأبواب " فاستدن ألف جنيه "ص30" ، ومن اجل تحقيق أهدافها في الحصول على المال فإنها تلجا إلى إثارة الغيرة " أخشى أن يراك المولعون بي فيغارون منك ، وربما نفروا مني فاحرم على هذه الصورة مساعدتهم المالية "ص4" ، ولا باس عندها أن تستخدم أسلوب الغيرة أحيانا أخرى من اجل الوصول إلى تحقيق أهدافها في الحصول على المال " لا تجلس في مخدعي/لان كولونيلا غنيا سيزورني الآن وقد وعد بان يتخذ لي عربة تكون تحت إمرتي "ص4-5" ، وتستغل كل سانحة لتتحصل عليه ، فإذا غازلها طلبت المزيد من المال ولو على شكل عقد جميل من الألماس "ص24" ، ولا باس من الإغراء في بعض الأحيان " سأفعل ما تريد بشرط أن تقدم لي الآن هدية جديدة "ص71" ، لو كنت ممتنا حقيقة لأهديتني شيئا آخر في مقابل اهتمامي وسعيي "ص15" ، وهي حين تريد شيئا تصر عليه فإنها لا تتراجع عن إصرارها إلى أن تحقق ما تريد " لا صلح بيننا إلا بعد حصولي على الرداء والعربة "ص10" ، أما أنا فأريد الرداء والعربة ولا يهمني أن اعرف غير ذلك " "ص8" ، ولا باس أن تتمنع عليه وتحرمه من رؤيتها حتى يلبي طلباتها فيما يخص الرداء والعربة الرداء والعربة "ص14" ، وحينما لا يسعفه المال تسخر منه لأنه يريد أن يدفئني بالكلام فقط " ص27".

وواضح أن الرواية تنسى ، وهي تعيب عليها حب المال ، انه ليس مقصورا عليها وحدها وإنما هو من طبائع البشر ، بل إن الإسلام يقدمه على البنين وهم العزوة والجاه والعصبة ، ومن هنا فانه من غير المنطقي رميها بذلك ، ولكنه يمكن مؤاخذتها على أن المال ليس كل شيء وأن هناك ما هو افضل منه كالأعمال الصالحة التي لا يمكن أن ينال منها الزمن.

وأول ما يلفت النظر في الجانب الاجتماعي أن الكاتب كالعادة يركز على بعض الملامح ويهمل البعض الآخر على الرغم من أهميته ، فقد ركز على العمل والدين وأهمل ما عداهما وفيما يتعلق بالدين فان الرواية قد ربطت بين الدين والأسف " لكنها يا للأسف يهودية "ص25" ، ومن ناحية العمل فإن استير " من الممثلات البارعات اللاتي عرفتهن مصرفي العهد الأخير"ص2" ، أو كما جاء على لسان سارة عشيقة ناثان " من الممثلات النادرات المثال "ص24" ، ومن ناحية الهيئة الاجتماعية " فصارت قبلة الأنظار وفتنة الألباب "ص2" ، كثر محبوها وعشاقها وازدادت هي بذلك شهرة "ص13".

وواضح أن الكاتب حين يصفها بأنها يهودية فانه لا يملك إلا أن يرفق هذا الوصف بالأسف من دون أن يبرر لنا ذلك وجعلنا لا تعرف ما الذي جعله يأسف أهو جمالها أم هو شيء آخر ، وإذا كان هو الجمال - وهو ما نرجحه- فلماذا فعل ذلك؟ هل لان الجمال مقتصر على اليهوديات من دون غيرهن من النساء أم لأن جمالهن ذو نكهة خاصة لا نجدها إلا عندهن ، ومن جهة ثانية فان الكاتب حين يصف استير بأنها ممثلة فان ذلك لا يزيد عن أن يكون استلهاما من التراث الروائي العالمي فقد درجت الرواية العالمية على جعل اليهودية فنانة ، وقد أوردت شارلوت وردي نماذج كثيرة من هؤلاء الفنانات اليهوديات "29" ، ولكن الفرق هو أن خليل بيدس لم يرتق بفن استير كما ارتقى الروائيون بالممثلات اليهوديات مثل سارة برنارد وغيرها ، ومن هنا فان الصورة مقولبة لا صورة حقيقية ، و أول ملامح هذه القولبة انه جعل استير ممثلة ، ومن المعروف أن التمثيل في فلسطين لم يكن شائعا إلى درجة أن تلحظه الرواية ، مما يؤكد أن الكاتب كان يعكس رؤية انفعالية لذاته ، وهي رؤية اكتسبها من الموروث المطلق اكثر مما اكتسبها من الواقع الموضوعي المتميز ، وهذا دليل على أن الروائي لا يكتفي بأنه لا ينهل من الواقع وإنما يفرض عليه من عنده ما ليس فيه ، خاصة وانه ثقف ثقافة أجنبية خالصة في روسيا نهل منها هذا المنهل ، وحاول أن يقحمه على الواقع الفلسطيني. إن جعل استير ممثلة في الوقت الذي لم يكن فيه التمثيل شائعا إلى حد الاستعانة به في الرواية إشارة إلى أن الكاتب لا يهتم بالواقع الإنساني القادر على الاجتذاب ، وإنما يجتنبه مما يشكل على المتلقي صعوبة بالغة في الاقتناع.

ثم أن ما فعلته استير كان يمكن أن تفعله أية ممثلة أخرى بغض النظر عن كونها يهودية، أو كما ورد على لسان نجلاء خطيبة عزيز " لان كل أولئك الممثلات والراقصات على شاكلتها ، ولم توجد هذه الفئة في العالم إلا لنصب حبائل الشر والغواية "ص2" ، وبصرف النظر عما قالته نجلاء فأن الكاتب يقع في التناقض ، فهي من جهة ممثلة ومن جهة أخرى راقصة، وإذا كان هناك فرق بين العملين إلا أن الكاتب قد اسقط عنها مهنة التمثيل في البناء الدرامي للرواية ، والصق بها مهنة الرقص ، فنحن نتوقف عندها كراقصة حضر رقصها عزيز وزوجته نجلاء ، وخاصة في آخر الرواية حين اصطحبها لكي تتفرج على رقص استير ، وقد وصفته نجلاء بان فيه قلة أدب " كلا لم تعجبني لأنها قليلة الأدب برقصها وحركاتها "ص79".

وواضح أن الكاتب ، حتى وهو ينتزع من استير صفة الممثلة ويلصق بها صفة الرقص ، يجعل نجلاء تقلل من أهميته ، وتقذعه بأبشع الصفات ، وكيف يكون مرة حسنا حين يتصل الود وأخرى غاية في الرداءة بسبب انقطاع الود ، إن محاولة الإجابة توحي بان الكاتب لا يعتقد في الشيء وإنما في انعكاساته ومدى الاستفادة منها ، إن النفعية ، وان كانت مقبولة في التبرير ، إلا أنها لا تدخل في البناء الدرامي للرواية ، ومن هنا فان الكاتب يؤكد من جديد انه يعكس انفعاله على الشخصية ، ولا يتركها تعبر عن نفسها كما يتطلب البناء الفني.

ويتضح لنا أن الكاتب كالعادة قد اغفل الكثير من الأبعاد الاجتماعية كالطبقة، والتعليم ، والحياة المنزلية ، والنشاط السياسي ، والتسليات ، والقراءات ، وغير ذلك ، فنحن لا نعرف أي شيء من هذه الأشياء عن استير ، مما يجعلنا نعتقد انه لا يضير الكاتب أن تبقى بعض جوانب الشخصية مبهمة غامضة ، ولكننا نرى أن هذا الإبهام لا يجعل المتلقي يعتقد بصحة بناء الشخصية الروائية من الناحية الفنية على الأقل.

وإذا كان رسم الشخصية اليهودية في أول رواية فلسطينية يفتقر إلى الموضوعية بسبب الرؤية السطحية الغائمة التي لم تضف عليها من الصدق ما يجعلها شخصية قادرة على الإقناع ، فان طريقة رسم الشخصية لم تختلف كثيرا عن الرسم.

والملاحظة أن الكاتب قد لجأ وهو يرسم شخصية استير إلى طريقين أولهما الوصف عن طريق السرد المباشر ، والثاني عن طريق الشخصيات الروائية ، وتتمثل الطريقة السردية في تقديم اغلب الصفات مثل قوله إنها " لا تقنع بالقليل من الأغنياء "ص15" ، وقد مالت هي أيضا إليه ، ولكنها لبعض أغراض نفسية كانت تقابله بعض الأحيان بالقسوة والجفاء "ص3" ، هذه الغانية التي ملكت قلبه "ص9" ، وأخذت تمازحه وتداعبه بغنج ودلال نسي معهما كل تعب وعناء "ص56" ، وتتهكم بعزيز وتتغامز مع جيرانها في الجلوس عليه "ص84" ، وفي النهاية تطرده " فطردته "ص104" ، أما استير فبعد أن قطعت علائقها بعزيز انصرفت إلى الكولونيل ، ولكنها لم تلبث طويلا في محبته فطردته ، وعلقت غيره ، ثم غيره من الشبان المغرورين بها ، إلى أن قضت أخيرا مخنوقة بيد أحد عشاقها "ص100" ، وهي" الفاجرة " "ص61" ، و" حية رقطاء"ص97" ، و" قليلة الأدب برقصها وحركاتها "ص97" ، وهي كل ما عليه من التهتك والدناءة "ص95".

وواضح أنه على الرغم من أن الكاتب قد اهتم بالجانب النفسي حين قام باستبطان بعض ملامح استير ، إلا أن هذا الجانب لم يرق إلى مستوى الوعي ، وان الملامح النفسية لم تتطور بتطور الأحداث ، ولكنها قدمت هي الأخرى دفعة واحدة ، وأنها بذلك لم تصنع الحدث ، ولم تنفعل به ، ولم تتطور دراميا ، كما أن حقيقة الشخصية لم تتكشف لنا لحظة بعد لحظة وإنما تقدمت دفعة واحدة ، ومن هنا يتأكد أن الكاتب يفرض على الشخصية وجهة نظره فرضا تعسفيا مباشرا يخدم وجهة النظر التي من اجلها كتب الرواية.

وفي المنهج الثاني يلجا إلى الشخصيات الأخرى كي تصف استير ، وهي نوعان : شخصيات تتخذ منها موقفا سلبيا كما هو حال عم البطل "30" ونجلاء زوجة البطل "31" ، وشخصيات تتخذ منها موقفا إيجابيا كسارة عشيقة ناثان "32" ، بل إن البطل نفسه يرى فيها مرة ملكة "ص47" ، وأخرى عاهرة لعينة مرة أخرى "ص101" ، وقد يلجا في بعض الأحيان إلى استير نفسها فيجعلها تصف نفسها بنفسها "33".

وإذا كان بيدس قد وقع فيما وقع فيه بسبب كونه الروائي الفلسطيني الأول الذي قدم -من دون أن يمهد له أحد الطريق- أول صورة لليهودية في أول رواية فلسطينية ظهرت إلى الوجود في فترة عصيبة من التاريخ الفلسطيني تغلفت بالضباب والإبهام ، فان صورة اليهودية في الرواية الفلسطينية لم تكد تختلف في الجوهر عما وضعت أساسه الوارث ، وخاصة فيما يتعلق بالغانية التي رأيناها مرة ثانية في رواية "من جانبي الطريق" لكامل كاشور. 4

وإذا كانت الوارث قد قدمت الغانية البسيط الساذجة أحادية الجانب فان كامل كاشور جهد أن يقدم الغانية في صورتها المركبة ، حيث لا تكتفي الغانية بجمع المال ، وإنما تضيف إليه بعض التوابل ، كالمتعة ، والتآمر، والغيرة ، ولكن الجوهر يبقى واحدا وهو الحصول على المال عن طريق الجسد في زمن التحولات.

فساراي حاييم يهودية وافدة من المغرب تتآمر على درويش حمزة صاحب شركة كبيرة للتعهدات و مقاولات البناء مع موظفيه مقابل ثلاثة عشر ألف جنيه ، وتجعله يشك في صاحبته بدرية عبد الحميد إلى حد الأمر بقتلها ، ثم تعاشره معاشرة الأزواج ، وتغوي الحارس محمود سرحان ، وتهرب معه إلى القدس الجديدة ، وحين يعثر عليهما درويش تنتقل إلى مستعمرة "هاتكفا" حيث لا يمكن لدرويش أن يلحق بها ، وتغير أوراق محمود الثبوتية باسم يهودي ، ولكنها لا تلبث أن تمله ، وتستبدله بضابط إنجليزي يقبض على محمود بتهمة محاولة الاعتداء عليه ، وعندما تتأكد انه خرج من السجن تشي به إلى قائد الارغون ، ولكن القائد يهمل دعواها على اعتبار أنها موتورة ، وتحاول أن تسترضي محمودا ، ولكنها لا تنجح في استعادته ، وفي النهاية تموت على اثر هجوم شنه الثوار.

وما دام الأمر يتعلق باستخدام الجسد من اجل غاية معينة فانه من البديهي أن يكون هذا الجسد أية في الجمال ، وأول ملامح الجمال في ساراي كما صورتها الرواية أنها لا تزال صغيرة ، فهي لا تزيد عن أن تكون " صبية "ص24و109" ، شعرها اثيث جميل " يظلل شعرها الأثيث قسمات وجهها "ص24" ، وخصلة منه على جبينها وتمتد ذؤلتها إلى محجر عينها "ص24" ، بيضاء " هل تظنه لا يميل إلى البيض أبدا " ص124" ، و "جسدها الغض اللدن "ص28" ، وتلقي بجسمها/ الثقيل المرتج " "ص28" ، وأصابعها " تعري ببنانها الدقيقة شعره "ص26-27" ، وظهرها " كان ظهرها رطبا لزجا "ص65" ، وهي باختصار" مباهج الفتنة "ص28".

أن كاشور يلتقي مع بيدس في أن كلا من استير وساراي في ريعان الشباب ، مما يؤكد من جديد أن الكتاب الفلسطينيين يعكسون ما هو في ذواتهم على شخصيات رواياتهم ، حتى ولو كانت هذه الشخصيات يهودية لا علاقة لها بالسن كما هو عند غيرهم ، وقد سبق أن أكدنا أن صغر السن خاصية عربية اكثر منها خاصية أمة أخري ، ولكنه يمكن أن يعطي دلالة على أن الروائيين الفلسطينيين يعتقدون أن اليهود لا يتورعون عن استخدام أي شيء من اجل تحقيق أهدافهم حتى ولو كانوا صغارا. وعلى أية حال فان الكاتب يجعل ، حين يؤثر لليهودية في روايته صغر السن ، أفعالها اكبر بكثير من عمرها ، بل أنه يكاد يجعلها خارقة لكل عادة ، فساراي على الرغم من أنها مجرد صبية إلا أنها تحسن حياكة المؤامرات كما لو أنها كانت عجوزا طاعنة في السن ، وإلى حد أن إبراهيم أحد شخصيات الرواية يعتقد بأنها عبقرية في التخطيط لا تكاد تدانيها عبقرية أخرى ، فهي ترسم له كيفية الاستيلاء على أموال درويش ، وتجعل درويشا يشك في اقرب الناس إليه ، وتحول محمودا المسلم إلى يهودي ، وتجعل الضابط الإنجليزي يأتمر بأمرها ، وتسرق من محمود أوراقه الثبوتية لكي تستخدمها ضده حينما يستلزم الأمر ، ويجعلها في وقت واحد تدير مزرعة وكافتيريا ، وغبر ذلك من مظاهر العبقرية.

ومن المؤكد أن الروائي يبالغ في المغالاة إلى حد يصعب معه الاقتناع بواقعية الشخصية التي يتحدث عنها ، ولكنه ينسى ، وهو يصر على إثبات عبقريتها ، أنها لم تستطع أن تقنع صدوق قائد الارغون بعربية محمود ، ولم تستطع أيضا أن تستعيد محمودا من استر ، وتنسى أيضا أن تستعين بدرويش المسجون مع محمود في سجن عكا لإثبات هوية محمود ، خاصة وانهما لم يكونا قد التقيا بعد.

ومن هنا فان صغر السن لا يمكن أن يتناسب مع كل هذه الأفاعيل التي تتطلب خبرة طويلة وتجربة واسعة ، أما من حيث التناقض فان الكاتب يؤكد اكثر من مرة أن ساراي مكتنزة ثقيلة ، ولكنه مع ذلك يجعلها تتفرس كالزان وتتمايس كالخيزران "ص28" ، و تمشي الخيزلى تخلعا ومجونا "ص24" ، قدها تبدلا وتبرجا "ص78" ، وتمشي الهوينى "ص25" ، وتتمايس وتتماجن "ص24" ، و تتمايل في أعطافها كأغصان الزيزفون "ص24" ، فيحدث بذلك التناقض بين الوصف والفعل ، كيف يكون جسدها ثقيلا ومرتخيا وتلويه وتتمايل وتتمايس وتتفرس ؟ ، ومن أين التشابه بينه وبين الزيزفون والزان والخيزران.

إن المبالغة في تتبع مواطن الجمال في المرأة يتناقض أساسا مع المنطق ، فان المرأة لا تكون في العادة جميلة في ألف شيء وشيء ، ولكنها قد تكون كذلك في شيء أو اثنين ، أما أن تكون جميلة في كل شيء فهو ادعاء يقلل من القدرة على الإقناع ، وأن ظهر ساراي لم يسلم من تتبع الكاتب بل لن الكاتب فيه لم يكتف بصفة واحدة كاللزوجة مثلا ، وإنما زاد علبها صفة أخرى وهي الرطوبة ، والكاتب حين ينتهي من ذكر مواطن الجمال لا يكتفي بذلك بالبحث عن مواطن أخرى إلى أن يصل إلي المشية ، وكأنما انتهى من كل المواطن ولم يبق عليه سوى المشية ، فلا باس أن يزبد في مواطن البهجة كما يقول الكاتب "ص28"، وكالعادة فانه لا يكتفي نعتها بصفة وإنما يعدد الصفات فالمشية مرة الهوينى "ص24" ، ومرة متمايسة " تتمايس كالخيزران "ص78" ، ومرة جديدة متمايلة تتمايل في أعطافها كأغصان الزيزفون "ص34" ، ومرة أخرى الخيزلى "ص78".

و واضح أن الكاتب لا يكاد يذكر الطول والعينين والصحة وغير ذلك مما يتطلبه الكيان الجسماني ، ورغم ما لبعضها كالعيون من مواقع هامة في الواقع الفعلي في الحياة.

أما من الجانب الاجتماعي فان الكاتب قد اقتصر فيه على بعض الجوانب كالدين"ص00" ، وامتلاكها مزرعة دواجن وكافتيربا "ص130" ، وإجادتها العربية قراءة وكتابة "ص41" ، لأنها كانت تعيش في المغرب "ص17" ، كما أنها علمت محمودا كثيرا من عبارات التفاهم العبرية كي يحسن التعامل مع اليهود "ص130" ، أما الحياة المنزلية فقد جعلها الكاتب تتقن الطبخ "راحت تقلي شرائح اللحم والكبد وفلذات الكبد والبطاطس وتعد ألوان السلاطا المختلفة من لبن الزبادي والخيار والطماطم والخل والزيت "ص43".

ولم يحفل الكاتب بالجانب النفسي على الرغم من أهميته في تكوين الشخصية وتحديد أبعادها ، وركز فقط على الحياة الجنسية ، وجعل البطلة تنتقل من رجل إلى آخر دون أن تحب حبا حقيقيا ، لان الحب ليس غايتها وإنما غايتها المتعة "ص120" ، والحق انها ليست غاية وإنما هي هدف تستخدمه من احل اصطياد الفريسة وإغرائها بالمتعة القادمة.

أما المبدأ الأخلاقي الذي تنتهجه في الحياة كما جاء على لسان إحدى شخصيات الرواية فهو أنها " في سبيل توقير الرفاهية لنفسها ، وتحقيق رغباتها ، قد تقتل ، وقد تسرق ، وقد تتجهم المصاعب والأهوال "ص120" ، والحق أن الرواية لم تدلل على ما ذهبت إليه ، فإننا لم نرها تسرق أو تقتل وان ما قامت به في الرواية ليس فيه من المصاعب والأهوال ما توحي به الرواية.

ومن الواضح أن الرواية تغفل الكثير من الأبعاد النفسية التي نراها في الروايات المختلفة كالطبع ، والعقد النفسية ، والمعتقدات الخرافية ، وخيبات الأمل ، أما من حيث التفكير فان سمته المميزة هي مصلحتها الخاصة حتى ولو تعارضت مع الجميع ، المهم عندها تحقيق الغاية ، أما من جهة الصهيونية فإنها تنطلق من أن اليهود قد عانوا الأمرين على يد ألمانيا والدول الأوروبية " ألم تسمع عن لاجئ شعبنا عن مآسي اليهود على يد النازية وعن الدول الأوروبية التي "ص36" ، وانها ، وان لم تواجه المصير نفسه خارج أو روبا ، فان ذلك لا يعنى أنها لن تواجهه في المستقبل " إننا لن نواجه شيئا من هذا القبيل ولكن المواجهة محتملة في المستقبل "ص37" ، ومن هنا فان مصير اليهود بالنسبة إليها واحد ، هنا أم هناك ، الآن أو غدا " اعني أن نهايتنا ، عفوا مصيرنا ، كيهود لا شك انه واحد "ص36" ، وتعترف أن الدهاء توارثته ، وانه تأكد عن طريق الجيتو الذي عزلوا أنفسهم فيه " لقد رضعناه من لبن أمهاتنا ، وحبونا يوم حبونا عليها ، وتعلمناها في كنيس الحياة عندما اعتزلنا بأنفسنا هذا العالم الأبله الذي لا يعدو أن يكون في نظرنا اكثر من (جوييم)" "ص126" ، وتنتهي إلى أن الصهيونية تستحق الامتعاض لان "صدوق" قائد الارغون لم يستمع إليها وهي تؤكد له أن محمودا عربي " تبا له ولمبادئ الصهيونية قاطبة هذا آخر ما نسمع به ، أقلية أو روبية وزعماء معدودون على أصابع اليد يتصرفون بإرادتنا وعقولنا "ص163"، ولكنها حين تعرف مدى الخطر الذي يشكله عليهم محمود بهويته التي غيرتها هي تعترف بأنها حمقاء " لان صحت شكوكي أكون اكبر حمقاء تدمر أحلام الصهيونية هنا "ص132".

أما المؤلف فاته يرى فيها أنها صهيونية " فقد كانت صهيونية متطرفة لا تنتحل مبدأ ولا تقر يدين "ص28" ، بل انه يجعل شخصية من شخصيات الرواية تصفها بأنها صهيونية مجرمة " سارة يا محمود تلك الصهيونية المجرمة" "ص138و139و142و145".

وواضح أن الكاتب ينطلق من الادعاء والتحامل على بطلة روايته لأنها يهودية لا اكثر ، والدليل على ذلك انه يقع في جملة من التناقضات التي ما كان ليقع فيها لولا انه متحامل على البطلة ، فقد جعلها من المغرب ولكنه جعلها تتحدث عن مأساة اليهود الأوروبيين وكأنها أو روبية لا عربية من المغرب تدين باليهودية ، مما يدل على أن الكاتب يسقط على الشخصية ما ليس من خصائصها ، ثم وضع على لسانها مصطلح الجيتو وهو مصطلح مرتبط أساسا بيهود أوروبا لا غير ، أما يهود الدول العربية فقد كان المصطلح الشائع لدى الجميع هو حارة اليهود وليس الجيتو ، والأدهى من ذلك انه جعلها تقرر أنها ترضع المبادئ من لبن الأمهات وهي بلا أب ولا أم ولا أولاد كما جاء في الرواية - ولا باس هنا أن نسأل عن مولود بلا أب أو أم- ، ومن جهة ثانية كيف يجعلها مرة صهيونية ويجعلها مرة أخرى لا تقر بمبدأ ولا دين وإنما دينها المادة ، فهل الصهيونية هي الحصول على المادة أم أن الكاتب يريد أن يجعلنا نذهب مذهبه ، ثم كيف يقول عنها أنها صهيونية ثم يجعلها تحول محمودا من مسلم إلي يهودي وتستخرج له بطاقة شخصية وتجعله يتخرج من معسكرات تدريب الصهاينة مسؤولا عن منطقة كاملة ، ثم يجعلها مرة ثالثة تقول أنها قامت بحماقة فيها خطر على الصهيونية هنا وواضح أن ثمة تناقضات يستحيل تبريرها من دون التورط في التأويل المتعسف.

أما من حيث الموقف من العرب فإنها تنطلق من أن العرب لا يعرفون كيف يعيشون " هكذا انتم معشر العرب تحبون لدرجة الجنون لكنكم لا تعرفون كيف تتمتعون بهذا الحب أو بمن تحبون "ص25" ، وان كلمة واحدة تكفي للضحك عليهم " . ماذا فعل بي سحرك حتى أهبلتني زوجي وطفلي "ص35" ، وخاصة فيما يتعلق بالمتعة " أن المتعة هي مذهبي في الحياة "ص37و120" ، وانهم ساذجون بحاجة إلي التأكيد على انك تصدقهم الأمر" أكون قد صدقنك في كل شيء "ص37" ، وانهم من اجل المرأة يمكن أن يقبلوا بأي شيء ، وان يضحوا بكل شيء ، فمحمود الذي لم يكن يقطع فرضا ، والممثل الحقيقي في الرواية للطبقة الشعبية ينهار بسهولة أمام ساراي ، فيخون سيده ويهمل صلاته من اجلها إلي حد أننا لم نره في الرواية بعد ذلك يذكر الصلاة ولو من اجل الذكر ، ولإرضاء شهوته فانه يقبل بأي امرأة حتى ولو كانت متزوجة و كان عندها أولاد " وان كنت متزوجة ولدي طفل ترضى بي "ص30" ، بل انهم مستعدون لإرضاء الزوج ودفع نفقة الأولاد ونفقة حضانتهم أيضا مهما كانت " وقررت أن تدفع لها نفقات الحضانة عن أول شهر سلفا بل لعل المبلغ الذي خصص مرضاة للزوج وثمنا لسكوته ينيف عن مجموع نفقات الطفل أو مكافأة الطفل عن سنة كاملة "ص00".

إن الكاتب يدين مختلف الطبقات ، فالبرجوازي درويش حمزة يتهافت على ساراي ويقدم لها ما تطلب من دون أن يسألها شيئا ، ونحن لا نعتقد أن ذلك من شيم الطبقة البرجوازية في فلسطين ، وخاصة أن الأحداث في الفترة التي تناولتها الرواية فترة صعبة في تاريخ المنطقة لا يمكن أن تفرز مثل درويش حمزة ، وإذا كان ذلك ممكنا في التصور على الاقل فانه لا يمكن أن يكون بالصورة التي نقلتها الرواية ، وخاصة أن الرواية قد جعلت منه في آخرها بطلا يضحي بأمواله وبنفسه في القضية الوطنية.

ويدين الطبقات الدنيا أيضا ممثلة كما سبق أن ذكرت في محمود سرحان حارس المنزل ، حين يجعله خائنا لمخدومه بمختلف معاني الخيانة ، والغريب انه يجعله في نهاية الرواية بطلا من أبطال تلك المرحلة تماما كما فعل بدرويش حمزة ، فهل الانتقال من الضد إلي الضد من دون مقدمات كافية رسم لشخصيات الرواية أم انه ادعاء غير مقنع على الإطلاق.

واظن انه ليس من الاستطراد ان الكاتب لم يكتف بإدانة الطبقتين السابقتين وإنما أدان الطبقة المتوسطة أيضا ، ولكن بجرم اقل وهو السرقة والاختلاس إلي حد التآمر مع بنات اليهود ضد أبناء الوطن وأصحاب الفضل عليهم كما جعل إبراهيم يفعل، ومن هنا ينطرح السؤال أمن اجل كتابة رواية- غير ناضجة من الناحية الفنية "34" يجوز الحكم على مجتمع كامل بالسقوط إلي - مثل هذا الدرك.

وفيما يتعلق بالمتعة فان سكوت الكاتب على قول ساراي نوع من الموافقة في الرأي ، وهي موافقة غير دقيقة ذلك أن الأمور لا تقاس بمقياس واحد لدى مختلف الأمم وفي كل الأحوال ، فإذا كانت هناك أمة تؤمن بالحب المادي فان من طبيعة العربي إيثار الأخلاق قبل المادة ، فالزين عند العرب لا يبني الدار كما يقول المثل ، والمراة تختار عند العرب لدينها أو مالها أو حسبها قبل أن تختار لجمالها ، بل أن الدين ينهى عن خضراوات الدمن لان المنبت الفاسد لا ينتج إلا فسادا ، وان العرب تختار لنطفتها ولا تترك الحبال على الغارب كما أوحت بذلك الرواية.

أما من حيث وجهة نظرها في نفسها فإنها تقول إنها لا تفشل في الحصول على ما تريد " إنها أنا ساراي حاييم التي لم تمن بالفشل مرة واحدة طيلة حياتها "ص164" ، وحين تفشل في استعادة محمود تمني نفسها بقرب الانتهاء ولا غرو أن انتهى أنا أيضا إلى الابد "ص126" ، وترى إنها من الجمال إلي حد أن تقدر على سلب الرجل من صاحبته " سأريك كيف أنني بحمالي هذا سأجعله يتخذ مني عشيقة "126" ، ولا باس عندها أن تشترك مع أخرى في رجل واحد" إلي جانب عشيقته التي لم يخلق الله مثلها "ص126" ، ولكنها في موضع آخر لا تحتمل أن تشاركها استر في محمود فتأكلها " نار الغيرة وتحاول استمالته ثانية "ص164و166" ، وتصف نفسها في موضع آخر بأنها حمقاء "ص132".

ومن الواضح فيما يخص الفشل أن الرواية قد جعلتها تفشل اكثر من مرة ، فهي لم تستطع إعادة محمود إليها ، ولم تستطع أيضا أن نجعل صدوق يسلم بوجهة نظرها في محمود ، وتفشل أيضا في سجن محمود إلى الأبد كما كانت تأمل ، وهو لا ينسجم مع ما تدعيه من أنها لا تفشل ، والحق أن النجاح والفشل مترادفان في الحياة لا يستمر أحدهما إلي ما لا نهاية مهما وقفت معه الظروف فان وقفتها لا بد أن تكون إلي حين بل ان النجاح المستمر من دون فشل يفقد بريقه ومذاقه ويمكن أن تمجه النفس.

أما من حيث وصف نفسها بالجمال فان العادة إلا يرى الناس في أنفسهم إلا الجمال ويلزم الاعتراف هنا بأنها وصفت نفسها بالجمال بصورة اقل بكثير من الصورة التي وصفها بها الكاتب ، أما أنها تستطيع بالجمال قهر الرجال فأمر مشكوك فيه من الأساس ، لأنها لا تسيطر على الرجال أصلا ، فضلا عن أنها تسيطر عليهم بالجمال ، والحق أنها تستخدم في الوصول إليهم من الطرق والحيل ما لا علاقة له بالجمال اصلا مثل الرقص والتلوي "ص28"، ومثل تطويق العنق بذراعيها "ص25" ، ومثل الصاق الفخذ بالفخذ "ص25"، وغير ذلك من الأساليب التي يمكن أن تستخدمها المرأة مع الرجل ، أما القول بأنها حمقاء فان ذلك لا يعدو أن يكون ردة فعل آنية لا اثر لها في نفسها ولا تشكل ملمحا يتطلب الوقوف عنده ، ولكنه يمكن أن يدل على أن الذكاء مهما كان حادا إلا انه قد يقترف ما يتنافى والذكاء ، وهو من جهة أخرى دليل على أن الإنسان يتعرض لمختلف المتناقضات.

أما إذا انتقلنا إلي وجهة نظر الكاتب فان أول ما يمكن ملاحظته هو ارتفاع الصوت والخطابية غير الفنية وإلصاق كل ما هو غاية في الرداءة بساراي وأول هذه النعوت الدعارة فهي مومس" مومس يهودية "ص26" ، ويتكرر هذا الوصف "ص28و74" ، أما فيما يتعلق بالأرض فان الكاتب يرى أنها لم تجيء " إلى هذه البلاد لاكتساب لقمة العيش بالكد والعرق كما تزعم ويزعم قومها ، وإنما لتنشر بذور الفساد والخطيئة في ارض المقدسات والسلام "ص27".

ان الكاتب لا يرى في اليهودية إلا الصفات السيئة التي تتعلق بالرذيلة ، فهي عاهرة ومومس ولعوب ، ولكنه ينسى أمرين هامين أولهما : أن في مقابل كل عاهرة عاهر ، وهو حين يصفها بتلك الصفات إنما في الحقيقة يصف نفسه وقومه ، إذ أن العاهرة لا تكون كذلك إلا إذا كان في المقابل رجل يدفعها إلي ذلك ، ولما كانت ساراي تعيش قي فلسطين فان الفلسطيني هو الذي يشاركها في هذه الصفة ، ولما كانت الصفة تفيد استمرار الفعل ولما كانت ساراي تبدل العشاق ، فان معنى هذا أن الفلسطينيين ينضوون تحت هذه الصفات ، ولما لم يكن الإطلاق ممكنا ومعقولا ، فان ادعاء الكاتب ينهار من الأساس لأنه يدخل في الإطار باعتباره من فلسطين.

والامر الثاني أن زمن الرواية هو زمن حرب ، ومن المعروف أن أزمنة الحرب استثنائية لا يجوز فيها التعميم ، فما قد يحدث فيها ليس من الضروري أن يحدث في غيرها ، والمعروف أن السمة المميزة لأزمنة الحرب هي كثرة وقوع الجنس بمختلف أنواعه - وتعدد دوافعه - منذ فجر التاريخ إلي اليوم . مما ينفي عمن يقوم به كل الصفات التي ألح عليها الكاتب.

ويتصل بهذه النقطة أمر آخر يتمثل في وصف ساراي بالمومس اليهودية كان اليهوديات وحدهن هن المومسات ، وهو أمر لا يستطيع العقل أن يتقبله ، لان المومسات لسن حكرا على جنس دون آخر ، ولا على دين دون آخر، وإنما يمكن أن يتعدى ذلك إلي مختلف الأجناس والديانات ، والحق أن الجنس - لدى الإنسان- حاجة اجتماعية اكثر منها بيولوجية بهيمية ، وأنها أمر ذاتي اكثر مما هي قضية عامة.

أما القول بأنها لا تحب فهو أمر يتطلب تأملا من نوع خاص ، أن ساراي كغيرها من الناس يمكن أن تحب ، ولكن الكاتب هو الذي لا يريد لها أن تحب حتى يتمكن من تجريدها من كل السمات الإنسانية ، غير انه يقع من حيث لا يدري في التدليل على عكس ما ادعاه عليها ، وذلك حين يجعلها توقع محمودا في حبائلها كما يقول ، ومن المعروف أن محمودا لم يكن غنيا حتى تبتزه ، ونحن نعتقد أنها أحبته ، والدليل أنها في القدس تكتري له بيتا ، وتنفق عليه من مالها الخاص.

ويؤكد ما ذهبنا إليه أنها أخذته مرة أخرى إلي عرين اليهود في مستعمرة هاتكفا ، أليس من اجل أن تقفل عليه بعيونها لأنها تحبه وتهواه ، بل إنها من اجله تخدع أهلها من اليهود ، وتستخرج له بطاقة شخصية تقطع بها ماضيه قبل أن تراه، وتجعله حاضرها ومستقبلها ، وما كانت لتفعل هذا مع درويش حمزة أو غيره ، وإنما فعلته فقط مع محمود ، أليس في كل ذلك دليلا على أنها تحبه ، بل إننا نراها وهي - المومس كما يقول الكاتب - تسعى لاستعادته ، وأن في تحويلها إعدام محمود إلي مجرد السجن برهانا على أنها تحبه ، وإذا لم يكن كل هذا حبا فما هو الحب إذن في رأي الكاتب؟

ويبقى بعد ذلك القول بأنها ما جاءت إلي فلسطين إلا لكي تبذر الفتنة هي وقومها في ارض السلام ، وهو قول مباشر فيه من المغالطة والتناقض ما لا يمكن القبول به .

ويرجع السبب في المغالطة إلي الجمع بينها وبين قومها فان قومها لم يأتوا لبذر الفساد وإنما لإقامة دولة ، وإذا كان الفساد إحدى الوسائل التي يتوصلون بها إلي تحقيق غايتهم فانه لا يمكن أن يتحول إلي غاية وهدف كما يدعي الكاتب ، ثم أن الاتجار بالجسد نوع من الكد والعرق أم انه يخلو في نظرالكاتب من الكد والعرق؟ واليس امرا طبيعيا في الحروب والفقر والمجاعات "35" في مختلف البلدان "36". ومن المؤكد ان ربط الفساد بأرض القداسة والسلام – إضافة إلي أنه غير فني- شكل من أشكال المغالطة التي لا تقنع ، وقد سبق أن أشرنا إلي ان الفساد يتطلب طرفين ولا يمكن أن يقتصر على طرف واحد ، فإذا كان اليهود يحملون بذور الفساد فان عدم القيام بالواجب هو الفساد بعينه ، فلماذا يتحمل اليهودي وحده مسؤولية تهاوننا في الارتفاع بمستوانا إلي مستوى الأرض وما فيها من مقدسات .

ويتصل بهذا الأمر أن الكاتب جعل كلا من درويش ومحمود وإبراهيم وغيرهم من شخصيات الرواية شخصيات غير فاضلة ، فكيف يتنصل من ذلك ويرمي كل شيء على اليهود ، وان اليهود الذين قدموا يحملون بذور الفساد ما كان لهم أن ينجحوا في أوهامهم لولا الاستعداد إلذي وجدوه في أصحاب الأرض ممن حاولت الرواية نفسها جعلهم صنائع شهوة يؤثرون الذات على الأرض والموضوع معا. ثم أن الخطيئة إنسانية أول الأمر وآخره ، وقد حفظ لنا التاريخ بعض الأسماء ممن كانوا في هذه الأرض وكانوا من الفاسدين ، وانطلاقا من هذا فاننا نرى ان حمل المسؤولية على طرف دون طرف تضليل حمل لا يخلو من عدم تبصر.

أما وجهة نظرها من الشخصيات فإنها تتوزع على شخصيات عربية عدائية طبعا ، وهي من طبيعتها نعت ساراي بأبشع الأوصاف كما فعل الكاتب فهي" بنت ستة وستين "ص142 ، وهي مجرمة حينا "ص139و142و145" ، وآفة مجرمة حينا اخر "ص145" ، بل إن بعض الشخصيات لا تملك حتى وهي تمتدحها أن تصفها بالملعونة "ص126" ، بل " إنها الداء والبلاء "ص96" ، والمجرمة التي تتسبب في الدمار والموت "138".

اما اليهود فان بعضهم يحثها على الضحك على الإنجليز وسلبهم أموالهم لأنهم جوييم "ص126" ، أما البعض فلا يرون فيها اكثر من " موتورة مغرضة مصابة بعمى الغيرة والحقد "ص171".

والملاحظ أن الدعوة إلي الضحك على الإنجليز تقولها عجوز يهودية إلي محمود المعتبر زوجا لساراي ، وفي هذا نوع من الإيحاء بان اليهود يسمحون لبناتهم وزوجاتهم أن يسخرن أجسادهن من اجل المال ، وهو أمر غريب يتناقض مع ما نعرفه عن الدين اليهودي الذي يحرم الزنا.

وواضح أن رسم ساراي مضطرب لا يميز بين ما تقتضيه الفنية وبين ما يعتمل من مغالطات في منهج الكاتب ، فوصف ساراي بالإجرام والتسبب في البلاء والداء والقتل إلي حد اللعنة وصف تجيء عن طريق مستهتر كدرويش حمزة ، أو بواسطة لص كإبراهيم ، أو عن طريق منقلب كمحمود

، وهم شهود فاقدوا الأهلية ، ومن هنا فانه لا يعتد بأقوالهم ، والمتتبع لظروف هذه الأوصاف يجد انهم أطلقوها بعد انقلاب الوضع فلماذا كانوا عنها ساكتين حين كان الوضع مستويا يجري في صالحهم ، ولماذا تأخروا فيها إلي ما بعد انتهاء ما بينها وبينهم ، أن تطلع الغريق إلي قشة يتعلق بها لا يمنع من انه لا يحسن السباحة ، وانه كان عليه قبل أن يدخل إلي البحر أن يعد له العدة المناسبة بدل قذف الناس بالتفرج عليه وهو يغرق.

على أن ما سبق لم يمنع الباحث من أن يزعم أن الكاتب وان جهد في رمي ساراي بمختلف النعوت بصورة مباشرة وغير مباشرة إلي حد أن أكثرها كان فجا دعائيا متطرفا إلي ابعد الحدود إلا انه استطاع في بعض الأحيان أن يقدم البطلة من خلال الحدث نفسه مما طوع الشخصية وساعد على إمكانية حدوث تطور في ملامحها ، وخاصة حين ينهي الرواية بموت ساراي بعد أن مهد بافتراقها عن محمود معنويا إلي قرب نهايتها وموتها ماديا.

وواضح أن الغانية في الوارث ومن جانبي الطريق تلتقيان في أنها صبية وافرة الحظ من الجمال ، وان غايتها المال تنتقل من رجل إلي رجل جريا وراء المادة ، وان نهاية الغانية كانت في الروايتين الموت على يد العشاق ، مما يدل على خلفية خلقية ينال فيها الإثم عقاب ما اقترفت يداه.

وإذا كانت السمة المميزة للشخصيتين هي أن الكاتب كان يتدخل في حياتيهما إلي حد الإسراف فان الرواية الفلسطينية قد اتخذت إلي جانب صورة الغانية صورة الوجودية وان تدخل الروائي فيها قد كاد يختفي تماما ، وقد ظهر هذا الاتجاه في المسار لافنان القاسم وثلاثية فلسطين لنبيل خوري.

ـــــــــــــ

الإحالات

1- CHARLOTTE WARDI : LE Juif dans le roman français, 1933-1948, Editions A.G.NIZET, Paris1972, p .23.

2-المورفولوجيا الاجتماعية:موريس هالبواك.ترجمة:حسين حيدر. منشورات

عويدات وديوان المطبوعات الجامعية.بيروت باريس الجزائر 1986 ص .113.

3-المادية التاريخية : ف. كيللي وم .كوفالزون، تعريب :احمد داود ، دار الجماهير دمشق. 1970ص336 ، وانظر:الأساطير والخرافات عند العرب: محمد عبد المعين خان . دار الحداثة .بيروت1982. الطبعة الرابعة. ص74 –75

4-علم الاجتماع عبد الحميد لطفي دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت1981ص105

5- أزمة الجنس في القصة العربية :غالي شكري منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت الطبعة الثالثة 1978ص171

6-صورة المرأة في الرواية المعاصرة. طه وادي دار المعارف الطبعة الثانية 1980ص56

7- تجارب في الأدب والنقد دكتور شكري عياد الكاتب العربي القاهرة1977ص33

8-الأصح أن يقال استر بدلا من استير، وذلك لان الأسماء لا ينبغي أن تترجم وإنما يجب فيها

أن تبقى على حالها إذا انتقلت من لغة إلى أخرى،واستر يهودية تزوجها أحشو رش -اجزر

كسيس - ملك فارس485-465 ق م فنالت منه العفو الشامل عن شعبها، ولها سفر من أسفار العهد القديم يرجع تاريخه إلى ما قبل سنة 114 قبل الميلاد وهو من أسفار الأبوكريفا ، أي الأسفار التي لم يعترف بقدسيتها ، فحذفت من الكتب المعترف بها وطبعت على حدة, ويحتفل اليهود في ذكراها كل عام بعيد الفوريم .انظر: المنجد في اللغة والإعلام. ص40 ، وانظر أيضا : تاريخ العلم.العلم والحضارة الهلنستية في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد ت :لفيف من العلماء الجزء الخامس .دار المعارف بمصر. القاهرة .1971 . ص47. وانظر أيضا Petit la P120:rousse

9- الوارث .خليل بيدس . مطبعة دار الأيتام السورية . القدس 1920

10- من جانبي الطريق كامل كاشور مكتبة الثقافة العربية بيروت1969

11-ثلاثية فلسطين نبيل خوري دار الشروق بيروت1974

12--المسار. أفنان القاسم المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت1981

13-عائد إلى حيفا غسان كنفاني دار العودة بيروت1969

14-الصورة الأخيرة في الألبوم : سميح القاسم دار ابن خلدون بيروت1980

15- البجروت هي البكالوريا في إسرائيل وهي التي تخول لصاحبها الالتحاق بالجامعة.

16-قصص وأصحابها : ناصر الدين النشاشيبي. منشورات المكتب التجاري للتوزيع والنشر.

بيروت.1962

17- نبتة في البيداء : فتحية محمود الباتع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر

18-الهجرة إلى الجحيم :محمود شاهين ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت

19- الرواية العربية بين الواقع والأيديولوجية :محمود أمين العالم ، يمنى العيد، ونبيل سليمان . دار الحوار. اللاذقية ص17

20- خليل بيدس : رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين . ناصر الدين الأسد . معهد الدراسات العربية العالية القاهرة1963ص74

21-الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية: دكتور مصري عبد الحميد حنورة الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1979ص40

22- للتفاصيل أنظر:الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون الدكتور لوي كاردياك تعريب وتقديم الدكتور عبد الجليل التميمي منشورات المجلة التاريخية المغربية وديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر تونس 1983

23-تطور الرواية العربية الحديثة في مصر1870-1938 دار المعارف القاهرة الطبعة

الر ابعة1983ص146

24- الرواية في الأدب الفلسطيني : احمد أبو مطر المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، وانظر للمؤلف نفسه أيضا، دراسات في الأدب الفلسطيني : دار الطليعة للطباعة والنشر الكويت1979ص96

25— الرواية في الأدب الفلسطيني ص 263

26-الأسس النفسية للإبداع الفني في الرواية ص48

27- الساقطة المتمردة خالد القشطيني المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت1980ص20

28-الساقطة المتمردة ص25.

29-Charlotte wardi, Le juif dans le roman francais1933-1948, Edition A.G. Nizet, Paris 1972,P135-193

30-حينما طلب من عزيز ألا يذكر أمامه اسم هذه الفاجرة ص63

31-حين أخبرت زوجها بان استير لا تعجبها لأنها قليلة أدب ص79

32-وذلك في معرض إغراء عزيز على قبوا ما تطلبه منه استير أنظر ص27

33- حين يجعلها تقول عن نفسها انهالا تحب التهتك والدعارة الخ..ص7

34-فلسطين في الرواية العربية صالح أبو إصبع مركز الأبحاث بيروت

35- الساقطة المتمردة ص157

36-المصدر السابق ص113-118

[email protected]