يوسف ادريس يرسم واقعه فى مجموعته ( قصة مصرية جدا)بقلم : أحمد الليثى الشرونى
تاريخ النشر : 2012-03-19
بقلم : أحمد الليثى الشرونى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مازال د. يوسف إدريس يرسم الواقع فى مجموعته " قصة مصرية جدا " .....

صدرت مجموعة قصصية بعنوان " قصة مصرية جدا " للكاتب الكبير الراحل د. يوسف إدريس عن كتاب "الثقافة الجديدة " الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة والمجموعة تحوى تسع قصص وهى لم تنشر من قبل فى أية مجموعة للكاتب وهذه القصص كتبت فى آخر الخمسينيات ، وقد صدرت هذه المجموعة بتصــدير لابنته د . نسمة إدريس والتي تقول : ( علي الرغم من إن تلك القصص تعد بدايات أو البذور الأولي لأدب وفكر يوسف إدريس بصرف النظر عن الفلسفة أو التساؤلات التي تطرحها , فمما لاشك فيه أن ذلك الطرح المتفرد والنبرة المتعمقة تلك تعد مرجعاً وبداية لأدب مختلف يقف شامخاً مختلفاً عن كل ما كتب من قبله في هذه الحقبة من الزمان ويشكل تأثيراً علي كل ما سوف يكتب من بعده ) وبعد هذا التصدير جاءت مقدمة كتبتها د : عبير سلامه والتي تهتم بأدب يوسف إدريس مما دفعها لكتابة كتاب عنه بعنوان " نداهة الكتابة " وتقول في بداية المقدمة : (تبدو قصص يوسف إدريس بالنسبة لي وكثيرين نداهة آثرة تحرص علي الاتصال بها سواءً بالقراءة أو الكتابة : عنها /مثلها / ضدها , ومن نقطة التأثير هذه بدأت التفكير في دراسة التكــوين الأولي لإبداعه لكتابـــي " نداهة الكتابة : نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس " من خلال تطبيق واسع علي نصوص مختلفة من إبداعه المنشور) وتؤكد د.عبير أن هذه القصص التي تضمها المجموعة نشرت في دوريات قديمة ولم يضمها يوسف إدريس لأي من مجموعاته نسياناً أو عمداً .
وهكذا خرجت علينا هذه القصص اليوم بعد كتابتها لأكثر من نصف قرن لتصبح مجموعة قصصية أخري تضاف إلي رصيد مجموعاته القصصية التي بلغت ثلاثة عشرة مجموعة بالإضافة إلي رواياته التي أطلق عليها " قصص قصيرة طويلة " وعددها ثمان روايات .
وهذه المجموعة" قصة مصرية جداً " تضم قصص " أنشودة الغرباء – لعنة الجبل – نهاية الطرق – قط ضال – القبور – تلميذ طب – مجرد يوم – الكابوس – قصة مصرية جداً " وتبدو في هذه القصص رؤية يوسف إدريس الخاصة في كتابة القصة وتأثير التجارب الواقعية فيها مما يشكل لديه عالماً معروفاً وذاتياً ينطلق من خلاله لتشريح هذا الواقع , كما أنه ينحاز بشدة للبسطاء والفقراء حتى أن شخوص هذه القصص لم تختلف كثيراً عن شخوص بقية أعماله التي يتغلب عليها الفقر والقهر ورغم ذلك فهي متشبثة بالحياة وتبدأ حياتها من جديد بعد كل إخفاق ونلاحظ ذلك في قصة " مجرد يوم " فيقول في ختام القصة : ( كل شئ قد انتهي ولكن هاهو يوم آخريجىء وهاهم الناس يستيقظون من جديد ويبدأون من جديد ويحاولون من جديد وحتما لن يسقط أبداً بعد هذه المرة ) وفي هذه القصة يسرد حكاية الطالب محمد وهو في انتظار نتيجة امتحان آخر سنة في الكلية وركز علي الحالة السيكو لوجية و الإجتماعية للبطل الذي رسب ولكنه تقبل الأمر وراح ينتظر يوم جديد لن يسقط فيه أبداً.
وما زال يوسف إدريس يواصل اقتحاماته للمجتمع والاشتباك في صراعاته مركزاً علي مواطن القوة والضعف فيه وذلك ما نلاحظه في قصتي " لعنة الجبل " و " قصة مصرية جداً " حيث في الأولي الصراع ما بين الغرباوي الفتوة والذي كان يخيف القرية كلها وهنا يمثل القوة, وشعبان الرجل الذي يعمل حارثا في السجن و الذي أذله الغرباوي من قبل وهذا يمثل الضعف , ويظل الصراع كامناً بينهما حتي ينتصر الضعف علي القوة عندما يقتل شعبان الغرباوي داخل السجن ويتحول الضعف إلي قوة (فصرت سيده، صرت أقوي منه ومن الرجال الذين يعدهم علي أصابعه ولم يعرفني اللعين ). وفي القصة الثانية " قصة مصرية جداً " والتي تحكي قصة المرأة الفقيرة التي ركبت الأتوبيس من باب

( 1 )
الدرجة الأولي ولم يكن معها أجرة الدرجة الأولي , ويبدأ الصراع الداخلي بينها وبين الكمساري ولم يكن أمامها سوي التوجه لأحد الركاب وتمد يدها إليه وكان كريماً معها ، وهنا يظهر معدن الإنسان المصري ( وأخرج نصف قرش ووضعه بكل أدب في الكف المفتوحة الممدودة بكل ثبات ، انتقلت الكف من قرب الأفندى الى قرب الكمسارى ، وخفض الكمسارى الصفارة وتناول القرش ولم تقف العربة 15 ) وانتهى الصراع عند هذا الحد .
ويتحدث يوسف إدريس عن فلسفة الموت في قصة " نهاية الطريق " و " القبور " , في الأولي يصف الطريق الطويل نحو الموت وقد سار منه سعيداً مهفهفاً كالأزهار ناعم الفؤاد كالنسيم , هكذا ينظر البطل إلي رحلة الموت وكلهم يصلون إلي القرار , كلهم يصيرون أحكم الحكماء ولكن بعد أن يكونوا هم أنفسهم قد استقروا في القاع , قاع الموت وفي القصة الثانية " القبور" يتحدث عن فلسفة القبر من خلال البطل الذي راح يعانق قبر أبيه الذي دفن فيه منذ زمن بعيد والذي لم يبق منه سوي نواتئ جوفاء وهذه هي حقيقة ما بعد الموت ( وأما القبور التي تتبعثر أمامه فهي نواتئ جوفاء من أرضنا السمراء , وعاد إلي القرية في ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة ) .
أما عن الحياة وضجيجها ووجهها العابس أحياناً والمبتسم أحيان أخري , عن صخب المدينة وقسوتها علي القروي النازح إليها فجاءت قصتي " أنشودة الغرباء " و " قط ضال " في الأولي يصور لنا حياة الغرباء في دنيا الناس داخل المدينة ويلتقط لنا صوراً من داخل المقاهي والشوارع لشخوص من لحم ودم يهربون من الحياة إلي حياتهم الخاصة ( نحن الهاربون من الحياة نحيا الحياة التي وإن كان يمجها المتزاحمون ويحتقرها المتصارعون النهمون وإنما هي حياتنا نحن أحرار فيها نحياها من الشاطئ الهاديء الساكن أو القاع المظلم الرطيب ) وفي قصة " قط ضال" يرصد لنا حالة إبراهيم الطالب القروي الفقير الذي جاء إلي المدينة ليلحق بالجامعة وقد بهرته المدينة بأنوارها الساطعة وبنايانها الشاهقة وعرباتها الفارهة وضجيجها وثراؤها الفاحش مما ترك جرحاً في داخله وهو الفقير النازح من بيئة أشد فقراً ويموت إبراهيم صريعاً تحت عجلات السيارة الفارهة بعد أن كان حالماً بالغني وهو ممسك في يده ورقة اليانصيب التي أعطاها له أحد البهوات (تكوم أمامها جثة لاحراك بها ، ثم تراخت أصابعه وانفلتت من راحته ورقة حمراء ... ورقة يانصيب ).
وهناك قصتان وقفتا ما بين المقال والقص وبدا فيهما المبدع الكبيرد. يوسف إدريس بارعاً وهما قصتي " تلميذ طب " و " الكابوس" فى قصة " تلميذ طب " حاول أن يرصد علاقته بكلية الطب وزهوه بلقب دكتور وظل يسرد حياته داخل كلية الطب حتي تخرجه وعمله في الريف الذي أصابه بإحباط ، نظراً للإهمال الشديد لهذه البقع من الوطن , وإنه فى هذه القصة حاول أن يكتب ذاته والدليل علي أن القصة تميل إلي من المقال أنه في نهايتها وجه نداء إلي نقيب الصيادلة (وقال لي : أنه إذا لم يصرف الدواء لهذا المريض فستصرفها له الصيدلية الأخرى .. وأضع هذه القصة أمام السيد المحترم نقيب الصيادلة ) ، وفي القصة الثانية " الكابوس " الذي أستعان فيها بالأستاذ توفيق الحكيم ليكون بطلاً لها لأنه لا يصلح أحد لها سواه , حيث كان يجلس في صالة فندق شبرد وجاءه أحد معارفه جلس وطلب له مشروباً ومع مرور الوقت أصبح الواحد أكثر من خمسة عشرة ضيفاً وفجأة جاءه الجرسون يطلب الحساب الذي وصل إلي خمسمائة وعشرين جنيهاً فبدا الرقم مزعجاً للأستاذ وفي نهاية القصة وجد توفيق الحكيم نفسه علي فراش النوم وما كان هذا الأمر إلا كابوساً ولكنه لم يطمئن إلا بعد أن قام وتحرك واستعمل النور، ولكنه الممتع في هذه القصة أن الكاتب حاول تضخيم الحدث حتى يشبع متعة المتلقي , وإذا كان يوسف إدريس قد أسس وأصل قواعد القصة القصيرة وجعل لها ملاح خاصة فأيضاً كان بارعاً في كتابة المقال وكان له قراؤه الذين ينتظرون مقالاته بشغف .
وفي هذه المجموعة لم تتغير لغة الكاتب كثيراَ حيث البساطة والعمق في آن واحد وأنها جزء مهم في رسم الشخوص وخير معبر عن ملامحهم وانفعالاتهم ونلاحظ أنه يمزج ما بين الفصحى والعامية ولكنه بدون إسفاف للغة ، قدم لنا د. يوسف إدريس كعاداته من خلال هذه المجموعة عالماً حياً وناضاً وواقعاً ما زلنا نعيشه الآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ