تحليل قصيدة غربة وحنين لأحمد شوقي "دراسة لغوية" بقلم : نادر ظاهر
تاريخ النشر : 2011-05-21
تحليل قصيدة غربة وحنين لأحمد شوقي "دراسة لغوية" بقلم : نادر ظاهر


أحمد شوقي
هو أمير الشعراء أحمد شوقي ولد بالقاهرة في 16 من أكتوبر سنة 1870م ، و هو ينحدر من أصول أربعة ، عربية ، وتركية ، ويونانية ، وجركسية فالأب كردي الأصل ، و الأم تركية ، وجدته لأبيه شركسية ، وجدته لأمه يونانية ..
وقد درس في مدرسة الحقوق ، وبُعث إلى فرنسا لدراسة الحقوق والآداب ، ولما عاد صار شاعر الخديو والقصر - وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م نفي إلى إسبانيا سنة 1915 م لصلته بالخديو عباس حلمي الثاني الذي عزله الإنجليز ؛ لتأييده تركيا ضدهم .. وبعد الحرب عاد إلى مصر سنة 1920 م ، فاتصل بالشعب وصار لسان العروبة والإسلام وبويع أميرًا للشعر سنة 1927م - وتوفاه الله 23 من أكتوبر سنة 1932م . زقد كتب هذه القصيدة في منفاه وقد كانت عاطفة الحنين والشوق الى ارض الوطن .

النقد اللغوي لقصيدة غربة وحنين
إن الهدف الأساسي من وراء النقد اللغوي لهذه القصيدة هو فحص التجربة اللغوية للشاعر وتحليل البنية اللسانية واللغوية الشعرية وقيمتها الجمالية على مستوى التعبير والدلالة وربطها بالتجربة من حيث الطريقة التي يستخدم فيها الشاعر لغته على النحو الذي يتناسب مع وضعها الحداثي .
ان الشاعر في هذه القصيدة يعتمد اعتمادا كبيرا على البناء اللغوي بجميع اشكاله في سبيل اثراء الجانب الدلالي بما يتناسب مع عاطفته الجياشة , فعاطفة الغربة والحنين تحتم على الشاعر انتقاء الفاظ وتراكيب ملائمة لتلك العاطفة .
ومن خلال دراستي لهذه القصيدة ساعرض النواحي اللغوية التي توفرت فيها والتي كانت عنصرا هاما من عناصر اثراء المعنى والجانب الدلالي .

اولا من الناحية الصوتية :
لقد لجأ الشاعر في مواضع كثيرة في القصيدة الى اظهار الجانب الصوتي بنسب متفرقة قد تكون حادة احيانا وخفيفة احيانا اخرى وذلك تبعا لنفسه الشعري وعاطفته التي تهيج احيانا تهدأ احيانا اخرى وبالتالي فقد توفر التوازي الصوتي في هذه القصيدة من عدة اتجاهات منها انتقاء الكلمات اذات الترتيب الصوتي المعين , او خل نوع من التشاكل التركيبي مما يساعد على انتاج بنية ايقاعية حادة كما ان توزيع الأصوات المتشابهة على مسافات متقاربة او متباعدة يؤدي دورا في انتاج النغمة الايقاعية من ناحية ويعكس الجانب النفسي والانفعالي للشاعر من ناحية أخرى .
ان العاطفة المسيطرة على الشاعر هي عاطفة الحنين الى ارض الوطن والتي يشوبها النفس الشعوري الهادئ والمصحوب بنغمة حزينة لذلك عمد الشعار الى تكرار اصوات تتناسب مع حالة الحزن كالاصوات الصفيرية التي تعطي نوعا من التناغم الموسيقي الحزين فمثلا نجد في الابيات الخمسة الأولى تكررت هذه الاصوات خمسة عشر مرة وان كان صوت السين اوفرها حظا وذلك في قوله :
1- اختلاف الليل والنهار ينسي اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
2- وصفا لي ملاوة من شباب صورت من تصورات مس
3- عصفت كالصبا اللعوب ومرت سنة حلوة ولذة خلس
4- وسلا مصر هل سلا القلب عنها او اسى جرحه الزمان المؤسي ؟
نجد الاصوات الصفيرية تكررت بشكل ملحوظ في الكلمات الاتية : (ينسي الصبا انسي صفا صورت تصورات مس عصفت الصبا سنة خلس سلا سلا اسا المؤسي )
كما ان القافية السينية ساعدت على توافر هذا الصوت بشكل مكثف في اواخر الابيات في كل القصيدة بحيث تعيد القارئ الى جو الحزن والحنين كلما ابتعد عنها خلال الابيات من الداخل , اذافة الى تكرار تلك الاصوات بشكل مكثف ايذا على طول القصيدة من الداخل ولكن باشكال متفرقة مثل : (مستطار للسفن نفسي سيري سلسبيل للسواد شخصه ساعة )
وبالتوازي مع هذ الحالة الشعورية للشاعر يتكرر صوت الحاء ثلاث مرات في بيت واحد والذي هو بمثابة الآهات والحزان في قوله :
أحرام على بلابه الدوح أحلال للطير من كل جنس ؟

يتوجع الشاعر في هذا البيت بسبب حرمانه من دخوله وطنه في حين ان غيره من اجناس اخرى يتمتعون بوطنه أليس هذا موجعا ؟ لذلك تناغم صوت الحاء مع هذا الشعور الموجع حقا .
هذه نبذة على الناحية الصوتية في هذه القصيدة

ثانيا / من الناحية المعجمية :
يعتمد الشاعر في هذه القصيدة على المفردات المعجمية وتشكيلاتها في إشراك القارئ معه في الحالة الشعورية التي تجوب أبيات القصيدة وذلك من خلال : اختيار بعض المفردات دون غيرها أو من خلال التكرار او التقابل او الترادف او الجناس .
فمن ناحية انتقاء المفردات نجد الشاعر يكثر من ذكر الاماكن المصرية وهو في منفاه وذلك بسبب تعلق قلبه بموطنه مثل ( الفنار- الثغر- رمل –مكس- عين شمس) فالشاعر في حالة حنين الى موطنه وتلك الكلمات خير دليل على تلك الحالة .
اما فيما يتعلق بتكراره للمفردات فكان ذلك مواتيا للإيقاع من ناحية ومتساويا مع الحالة الشعورية عند الشاعر فهو يكرر كلمة (الليالي) مرتينفي بيت واحد في قوله :
كلما مرت الليالي عليه رق والعهد في الليلي تقسي
فالمعهود ان اليل يكون دائما مصاحبا للاوجاع والاحزان والتي هي من خصائص الشاعر وقد ورد ذكر الليل بشكل عام في بيتين اخرين وذلك في قوله :
اختلاف النهار واللليل ينسي اذكرا لي الصبا وايام انسي
وقوله :
مستطار اذا البواخر رنت اول الليل او عوت بع جرس
اذا نجد الليل يسود اربع مرات في ثلاثة ابيات من القصيدة فان دل هذا الامر على شيئ فانما يدل على ان الشاعر غارق في حلة تشوبها الآهات والاحزان
كما كرر الشاعر كلمة الخلد مرتين في بيت واحد دليلا على تمسكه بوطنه وتشبيهه له بجنة الخلد في قوله :
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني اله في الخلد نفسي
ومن جهة اخرى نجد الناحية المعجمية تتوفر في ظاهرة الترادف التي تعتبرا نوعا من تاكيد الفكرة عن الشاعر, فترادف الكلمات (انسي-الصبا- الشباب) تظهر لنا مدى تعلق الشاعر بتلك الأيام السعيدة التي قضاها في موطنه في تلك الفترة وفي قوله : (منع وحبسي ) تاكيد على رفض البحر رجوع الشاعر لموطنه وبالتالي بقائه في الغربة .
اما على صعيد التقابل فقد زخرت القصيدة بالوان التقالبل الذي يحقق نوعا من التناغم الموسيقي العذب كما يظهر الشاعر في حالة تخبط وعدم انزان وذلك بسبب ما يعنايه من حالة حزن وتوجع وذلك في الكلمات الآتية :
(النهار- اللليل) , (ينسي- اذكرا) , (جرحه- المؤسي) ( رق- تقسي) , (ابنة- ابوك) ,( حرام- حلال) , (سيري- ارسي) , (شغلت- نازعتني) ,(سلسبيل- ظمأ)
كما رسم الشاعر بعض الكلمات المتجانسة والتي تزيد من التناغم الموسيقي داخل القصيدة فكان منه التام ومنه الناقص وذلك في (سلا- سلا), (الصبا- الصبا) ,(صورت- تصورات) كما ان اغلب كلمات القافية جائت متجانسة جناسا ناقصا .

ثالثا / من الناحية التركيبية :
ان اللغة الشعرية في اساسها ما هي الا قدرة الشاعر على ترتيب الكلمات داخل الجمل النحوية بطريقة تبرز فيها موهبة الشاعر في خلق البناء الشعري والذي يختلف عن البناء النثري . فينتقي اساليب معينة ويكثر او يقلل من استخدامه للافعال او الاسماء او نوعية الافعال ...الخ كل ذلك يساعد في اثراء الجانب الدلالي للنص ثم يقوم بالتقديم والتأخير او الحذف او الذكر ويعدل في العلاقات التركيبية بين الكلمات ليحقق الوظيفة الشعرية للنص وساتناول بعضا من استخدام شوقي للتراكيب .
بالنظر إلى الأبيات الأولى نجد ان الشاعر يبدا قصيدته بذكر أجمل أيامه في موطنه لذلك فقد استخدم الشاعر فعل الأمر أكثر من مرة في قوله (اذكرا- صفا- سلا) هذه الأفعال موجهة إلى صاحبيه , فتكرار فعل الأمر يدل على تلهف الطالب على طلبه من الشخص المطلوب منه .
كذلك الحال بالنسبة لحديثه مع السفينة في أخر الأبيات فقد كرر فعل الأمر أكثر من مرة في قوله (سيري-ارسي - اجعلي) حيث التلهف من الشاعر واضح لملاقاة وطنه عبر ظهر تلك السفينة
وفي موضع اخر نجد الشاعر يصفف التركيب اللغوي بشكل متكرر ليحقق نوعا من التناغم الموسيقي في قوله (نفسي مرجل وقلبي شراع ) حيث وجود جملتين متتاليتين تتكونان كلا منها من مبتدأ وخبر بحيث يبرز لنا حسن التقسيم الموسيقي .
ومن حيث التقيم والتاخير فقد قدم الشاعر واخر في مواضع متفرقة ومنها في قوله :
نفسي مرجل وقلبي شراع بهما في الدموع سيري وارسي
فالتقديم والتأخير واضح في الشطر الثاني والتقدير سيري بهما في الدموع وارسي ولكن الشاعر الصق كلمتي سيري وارسي وكان شدة لهفة الشاعر على ملاقاة وطنه تمنع وجود مسافة زمنية بين سير السفينة وإرسائها على شواطئ مصر فيريد الشاعر إن تسير السفينة من هنا وترسي من هنا على ارض مصر وذلك من شدة تلهفه عليها.