مدح النساء في عهد المرابطين بقلم:أحمد بن حسن القدور
تاريخ النشر : 2011-05-15
مدح النساء في عهد المرابطين
أحمد بن حسن القدور

بسم الله الرحمن الرحيم
أولا- تمهيد :
لما كانت المرأة في أي مجتمع من المجتمعات هي النصف العددي, والكل المعنوي, بما تقدمه للرجل من محفزات ودعم بجميع الأشكال- أو العكس-. كان لابد من أن يكون لهذه المرأة أثرها في هذا المجتمع أو ذاك, تبعا لقدراتها وطاقاتها التي أودعها الله.
وهذا ما ينطبق على النساء في عهد المرابطين, فلا يوجد ذكر للمرابطين تقريبا في كتب الأدب والتاريخ إلا ويُصاحِبُه ذكر لأثرهن في هذه الدولة, وخاصة من الناحية السياسية, وأنه كان لها سيطرة ونفوذ على الرجال , وبسبب هذا النفوذ كان انهيار الدولة .

ثانيا - واقع المرأة الأندلسية في عهد المرابطين :
أ- من الناحية السياسية : كان للأميرة زينب زوج أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أثر بارز في تأكيد سلطة زوجها, بما امتلكته من حنكة وذكاء ودهاء, وبما أمدَّتهُ بأموالها لتَكْوِينِ حرسِه الخاص .و"قد أدَّت زينب دور مستشار يوسف بن تاشفين الذي امتثل لنصائحها، وكلما بدت له مشكلة أو اعتورته صعوبة لجأ إليها لتقدِّمَ له المشوْرةَ والحل الممكنَ" , حتى قال عنها ابن الأثير: "ولها الحكم في البلاد". وظهر في عصرهم بعض المقاتلات أمثال فانو بنت عمر بن ينتان التي حاربت الموحدين .
ب- من الناحية الأدبية والعلمية : ظهر في عهد المرابطين أديبات وحافظات للقرآن وراويات للحديث والشعر . وكانت الأميرة حواء زوج الأمير سير بن أبي بكر "سيدة فاضلة نبيلة تقرأ القرآن وتنظم الشعر , وكانت لها ندوة في قصر الإمارة بإشبيلية تحاضر فيها الكُتَّابَ والشعراء وتسمع إلى حوارهم في الشعر وتشارك في نقد بعض الأبيات" . وكانت الأميرة مريم بنت تفلويت "... تحفظ جملة وافرة من الشعر , وتحاضر به وتثيب عليه" .
ج- من الناحية الاجتماعية : أظهر المرابطون للمرأة كل احترام وفقًا لنظريَّةٍ بربرية قائمة على الأمومة فحصل أن بعض قادتهم كانوا ينتسبون إلى أمهاتهم كابن عائشة وابن فاطمة ونتيجة لهذه الحرية وانتشار الجواري فقد شاعت مظاهر الفسق عند طبقة منهن وخاصة في اشبيلية . إلى جانب وجود عابدات وناسكات من أمثال زينب بنت عباد بن سرحان .
ثالثا- مدح النساء في عهد المرابطين :
يقول الدكتور إحسان عباس : "إذا كان الشعر ذا دلالةٍ اجتماعية فإن ظهور القصائد في مدح النساء قد يدل على ما كان لهنَّ من سلطة واسعة في الحياة الإدارية".
فنتيجة لما امتلكته المرأة من نفوذ وسلطة في هذا المجتمع. ونتيجة لأثرها في الحياة الأدبية والاجتماعية, فقد ظهر في الأدب الأندلسي نوع جديد من الشعر يختلف عن الشعر القديم الذي كان يُتوجه به إلى الرجل فحسب, وهو مدح النساء.
ومن الشعراء الذين قاموا بمدحهن في هذا العهد الأعمى التطيلي الذي مدح الأميرة حواء بنت تاشفين , وابن خفاجة الذي مدح الأميرة مريم بنت تفلويت.
أ- تجليات مدح النساء عند ابن خفاجة والأعمى التطيلي:
قبل ذلك نتساءل, هل جدَّ في هذا المديح شيء يجعله مخالفا لمدح الرجال ؟
لا نكاد نخرج عن الصواب إذا زعمنا: أنه لم يحدث فيه أي تجديد إلا من ناحية التوجه بالخطاب إلى الأنثى , إضافة إلى قضية وردت في قصيدة التطيلي سيأتي الحديث عنها.
وربما أكون مصيبا إذا حاولت أن أشبه هذا المدح بالتغزل بالغلمان الذي ظهر في العصر العباسي . فكلا الخطابين لا جديد فيهما إلا من ناحية تغير الشخصية المحورية, أما المعاني والقضايا فهي ذاتها .
ثم يجب أن نعلم أن لكل شاعر غايةً وهدفا يقصد إليه فالتطيلي طامع بالعطاء, وابن خفاجة طالب للشفاعة عند الأمير أبي طاهر تميم.
وأما الأفكار أو القضايا التي تطرق لها الشاعران فهي :
1- الكرم :
يقول التطيلي على لسان امرأة أسماها "زهر" , كانت تحثه على طلب الرزق, ثم أشارت عليه بالقدوم إلى الأميرة حواء :
16 هَبَّتْ تُعَاتِبُنِي زَهْـرُ وَقَـدْ عَلِمَـتْ أَنْ العِتَابَ شَجًى فِي القَلْبِ أَوْ شَجَبُ
17 قَالَتْ قَعِـدْتَ وَقَامَ النَّـاسُ كُـلُّهُمُ أَلاَ يُعَـلِّلُكَ الأَثْــرَاءُ والـرُّتَـبُ
20 أَمَا رَأَيْتَ نَدَى حَوَّاءَ كَيْـــــفَ دَنَا بِالْغَيْثِ , إِذْ كَادَ يَأْتِي دُونَهُ العَطَبُ
23 رِدْ غَمْـرَةٍ تَـــــرْتَمِي مِــــنْ كُــلِّ نَــــاحِيَــةِ عُبَابُهَا الفِضَّةُ البَيْضَـاءُ والذَّهَـبُ
طبعا لكل شاعر مبالغاته وآراؤه بممدوحه . فلولا المبالغة –ولا أقول الكذب- لما كان الشعر شعرا. فالشاعر من خلال هذه الأبيات يريد أن يفتح خزائن أموال الأميرة على مصراعيها. فيصف كرمها بأنه غيث من السماء جاء رحمة للأرض بعد طول جفاف, ولولاه لحل الفقر بين الناس. وهو غيث للشعراء الذين فقدوا رعاة الأدب ... وهو نهر جار يغرق فيه المُكرم من كثرة ما يغدق عليه من الذهب والفضة المُتراميين من كل جانب. والفعل "رد" المأخوذ من ورود الماء فيه معنى الحياة والبقاء لوارد هذا النبع أو النهر. وقد عُرِفَتْ الأميرة حواء "بالصلاح والإنفاق على الفقراء" . وهذا الكرم والعطاء قد اقتاد الشاعر إلى مدحها كما يصرح:
38 أَهْلَلْـتُ بِالْحُـرَّةِ العُلْيَا إِلَى أَمَلٍ لِمِثْلِـهِ كَانَـتِ الأَشْعَـارُ تُنْتَخَـبُ
فلكرمها ولعطائها انتخب أجود شعره, فهو لم يكتب هذه القصيدة إلا لأجل أُعطياتها جريا على عادة أغلب الشعراء المدَّاح. فطلب المال والعطاء –وللأسف!- كان غاية الشعراء الأولى تقريبا في الأدب العربي. ويكاد يكون هذا البيت شاهدا على ما نقله ابن رشد عن الفارابي من أن غاية الشعر العربي تكاد تنحصر في (النهم والكدية) , أي الغرائز والتسول.
ووضع مفاتيح لهذه الغاية من أول بيت في القصيدة, حين قال:
1 يَـارَبْعَ نَـاجِيَةٍ انْهَلَّـتْ بِكَ السُّحُبُ أَمَا تَرَى كَيْفَ نَابَتْ دُوْنَكَ النُّوَبُ
فالسحب ومصائب الدهر ... كلها مفاتيح لاستدرار المال والعطف من الأميرة
وكأنها أعطته أو افترض ذلك فقال :
46 حَوَّاءُ يَا خَيْرَ مَنْ يَسْعَى عَــلَى قَدَمٍ وَلَسْتُ عَبْدَكِ إِنْ لَمْ أَقْضِ مَا يَجِبُ
47 إِلَيْـــكِ أَهْـدَيْــــتُ مِمَا حَــاكَهُ خَلَدِي فَخْـرًا يَجِـدُ, وَتَبْلـى هَـذِهِ الحِقَـبُ
فهذه المدح إنما هو رد جميل لكرمها البالغ, ولكن ألم تر كيف أودى بنفسه إلى درجة العبودية مع علمه بمكانة شاعريته؟ ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبعض ولد هِرِم بن سنان ذاكرًا زهير بن أبي سلمى "إن كان ليُحسن فيكم القول . قال: ونحن والله إن كنا لنُحسن له العطاء. فقال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم" . فقد علم رضي الله عنه مكانة القيمة المعنوية للشعر والتي تفوق القيمة المادية التي يلهث وراءها الشعراء كبارهم وصغارهم.
أما ابن خفاجة الذي قال ابن بسام عنه : " الناظم المطبوع، الذي شهد بتقديمه الجميع، المتصرف بين حكمه وتحكمه البديع. تصرف في فنون الإبداع كيف شاء" فقد كان بتصويره لكرم الأميرة –كما أظن- لا يقصد عطاء المال بمقدر ما كان يقصد الرحمة والإغاثة وتلبية طلب الشفاعة, يقول :
22 تـُوْلِي الأَيَــــــادِي عَــــنْ يَــــــدٍ نَـــــزَلَ النَّدَى مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ المُكْرَمِ
23 مِـنْ كُـلِّ عَارِفَةٍ كَمَا انْسَجَــــــــم الحَيَا وَافْتَرَّ بَارِقُ مُزْنِةٍ عَنْ مَبْسَمِ
25 جُوُدٌ تَنُوءُ بِهِ الرِّكَابُ عَلَى السَّرَى مِن مُنْجِدٍ أَرْجِ الرِيَاحَ وَمُتْهِمِ
26 يَنْـدَى بِـهِ النَّبْتُ الهَشِيْمُ نَـــــــــضَارَةً وَيَنِـمُّ ذَيْـلَ الـرِّيْحِ طِيْـبَ تَـبَسُّـمِ
ويمكن القول : إن لهذه الأبيات معنين مادي ظاهر يشير إلى الكرم الذي لا منة فيه , وآخر معنوي نفسي هو الغاية المقصودة عنده.
فالأيادي هنا هي أيادي طالب الشفاعة. والندى هي البُشرى المطلوبة والمنتظرة, وكذلك الغمام والمطر...إلخ. والنبت الهشيم هو وجه الشاعر الذي امتلأ سعادة ونضارة بنيل الغاية التي أبعدت عنه الغم والكآبة, وهذا الغاية النفسية كانت بسبب الوعد الذي قد ناله من الأميرة . وهذا ما صرح به في قوله :
6 وَكَفَـى احْتِمَـاءَ مَكَانَةِ وَصِيَانَةٍ أَنِّي عَلِقْـتُ بِذِمَّـةٍ مِنْ مَرْيَـمِ
وكان قد بدأ قصيدته بقوله :
1 يَمَّمْـــــــتُ مِــــــنْ عَلْيَـــــــــاكَ خَيْــــــــرَ مُيَمَّــــمٍ؛ وَحَلَلْتُ مِنْ مَغْنَاكَ دَارَ مُخَيَّمٍ
2 فَخَلَعْتُ عَنْ عُنُقِي حَمِيـــــلَــــةَ ضَــــــارِمٍ وَأَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ حُمَالَةِ مُغْرَمٍ
فهو لم يجد خيرا من الأميرة مقاما يُحتمي به, ولا حمًى يرتاح فيها من المُطارَدِين.
ويؤكد على هذا الأمن الذي حصل عليه من خلال ذكره لرمي السلاح. فصحيح أن السلاح يُشعر حامِله بالأمن والطُمأنينة , إلا أنه لا يُحمل إلا نتيجة الشعور بالخوف, ورميُه يعني زوال هذا الخوف والشعور بالأمن المطلق. ويُوحي الفعل "خلعت" بكراهية عميقة لهذا السلاح المُرتدَى ... ويحِق لنا أن نفترض أن هذا السيف الذي خلعه عن عُنُقِهِ إنما هو سيف الأمير أبي طاهر. ونتيجة لهذه الراحة يأتينا بالفعل "أرحت" الذي يعني السعادة لحلول الأمن بعد زوال المُطاردين والمُطَالبين بقضاء دية أو دين, فكأنه يقول : إن الأميرة قد قضت ذلك عني.
2- التقوى :
لما كانت دولة المرابطين دولة قائمة أساسا على دعوة دينية إصلاحية, كان لابد من ذكر أثر الدين على أفرادها. وقد عرف الشاعران توظيف هذا الأمر في قصيدتيهما. فهذا التطيلي يمدحه للأميرة حواء بقوله:
21 دُنيَا وَلاَ تَرَفٌ , دِيــــنٌ وَلاَ قَشَفٌ مُلْكٌ وَلاَ سَرَفٌ , دَرْكٌ وَلاَ طَلَبٌ
22 بِـــــــــرٌّ وَلاَ سَــــــــقَمٌ , عَيْشٌ وَلاَ هَــرَمٌ جِدٌ وَلاَ نَصَـبٌ , وِرْدٌ وَلاَ قــربٌ
فالشاعر الذي قد وصل إلى أعلى درجات المبالغة فيما مر, يلتزم الآن بإثبات الاعتدال في شخصية وصفات الأميرة. فلم هذا الأمر؟
أظن –وأغلب الظن أثم- أنه لما كان لا يعنيه أمر القيمة الخلقية والدينية عند الأميرة شيئا, التزم بهذه الصيغة المعتدلة في الوصف.
ويمكن أن نستفيد من هذا الاعتدال, بأن نقول: إن دولة المرابطين لم تكن دولة تشدد في الدين والحياة كما توهم البعض.
إلا أنه قد يعترض قائل-ويحق له- بقوله: إنَّ هذا الاعتدال هو عين المبالغة. إذا علمنا أن الأندلسيين كانوا ينظرون إلى المرابطين على أنهم قوم أغلاظ, قد جاءوا إليهم من أواسط الصحراء, فلما اعتدل كان قد بالغ في نفي هذا الاعتقاد عنهم.
أما ابن خفاجة فنراه على العكس تماما إذ استخدم ألفاظ التفضيل المطلق على نحو قوله:
7 ذَاتِ الأَمَـانَـةِ والدِيَانَةِ وَالتُّقَى والخُلُقِ الأَشْرَفِ وَالطَّرِيقِ الأَقْوَمِ
فعندما لم يجد غير الأميرة ملبيا لطلبه , وأراد إعلامها بهذا بغية الحصول على أعلى درجات التعاطف, سلك هذا السبيل من التعظيم .
واستعمال الشاعران للجمل الاسمية في هذين البيتين-كما يقول البلاغيون-, تأكيد على أن هذه الصفات الخلقية والدينية صفات ثابتة في الممدوحتين.
3- مدح الأسرة:
فقد كان لمدح الأسرة مكانة واضحة في كلا النصين. وذلك لأن مدحهم هو مدح للمرء نفسهِ, ولكن من ناحية خارجية. يقول التطيلي :
33 إِذَا دَعُـوا قَامَتِ الهَيْجَاءُ عَلَى قَدَمٍ وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُمْ إِذَا غَضِبُوا
34 هُمْ ثَبَّتُوا الدِّينَ إِذْ ضَاقَـتْ مَذَاهِبُهُ بِأَنْفُسٍ صِيْغَ مِنْهَا الدِّينُ والحَسَبُ
36 حَتَّى اسْتَقَرَّ الهُدَى فِي عُقْرِ دَارِهِمُ وأَيْقَـنَ العُجْمُ أنَّ القَـادَةَ العَرَبُ
ويتضح من هذه الأبيات حرص التطيلي على إبراز أثر المرابطين في توحيد الأندلسيين, بعد زمن كثرت فيه المنازعات والانفصالات والتواطؤات , وكثرت فيه المذاهب الدينية. فما إن قامت دولتهم في هذه البلاد -الأندلس– حتى ألَّفت بين القلوب ووحدت المتخاصمين تحت شعار واحد وراية واحدة وهدف واحد. وبهذا التوحيد الذي حصل بعد طول شتات أراده الإسبان , كان النصر على أعداء الدين, وكانت إعادة مجد الإسلام والصلاح إلى الأندلس من خلال تعاملهم بمنهج الإسلام القويم .
ويقول ابن خفاجة في تصويره لأسرة الأميرة مريم :
9 مِــــــنْ أُسْــــــرَةٍ يَتَلَثَّمُـــــــــــونَ إِلَـــــى الــــوَغَــــــى يَومَ الحَفِيْظَةِ بِالعَجَاجِ الأَقْتَمِ
10 مِــنْ بَيْـــــــتِ عِزٍّ مِنْ نِبَـــــــــالٍ حَيْــــثُ لاَ تُلْقَـى بِغَيـرِ مُسَـوَّدٍ ومُعَظَّـمِ
16 وَإِنِ اسْتَجَرْتَ بِهِ اسْتَجَرْتَ بَهَضْبَةٍ مَأْوَى الطَّـرِيْدِ بِهَا وَكَنْزُ المُعَدَمِ
فالمرابطون إذ عرفوا بأسماء كثيرة منها الملثمون, لارتدائهم اللثام, لأنهم -كما قيل- يرون فيه ضربا من العزة والشجاعة والفروسية. نرى الشاعر يثبت لهم أحقيتهم بهذه النشوة بجعله اللثام الذي عرفوا به إنما هو غبار المعارك التي كانوا يخوضونها في سبيل الدفاع عن الدين والبلاد.
وربما كانت هذه الإشارة منه رد على من كان يرى في لثامهم مثلبة عليهم, ويراه سببا للنيل من أمجادهم وبطولاتهم.
والإجارة هي مطلب ابن خفاجة ولذلك نراه يمجد هذه الصفة فيهم.

هذه هي أهم القضايا التي تطرّق لها الشاعران في مدحهما تقريبا.
والسؤال: هل فيما سبق أي تجديد أو اختلاف عن مدح الرجال؟.
إذًا. أين القضية الجديدة التي جاء بها التطيلي؟
4- المفاضلة بين الرجل والمرأة: والتي لوحظت من خلال قوله:
24 مَلِيـكَـــــــــةٌ لا يُـــــــــوازَي قَـــــــــدْرَهَــــــا مَـلِـــــكٌ كَالشَّمْسِ تَصْغُر عَنْ مِقْدَارِهَا الشُّهُبُ
26 أُنْثَى سَمَـا بَاسْمِهَا النَّـادِي وَكَمْ ذَكَرٍ يُدْعَـى كَأَنَّ اسْمَـهُ مِنْ لُؤْمِهِ لَقَبُ
29 وهَذِهِ الكَعْبَـةُ اسْتَـوَلَتْ عَلَى شَـــــرَفٍ فَذُبْـذِبَـتْ دُونَهـا الأَوْثَـانُ والصُّلُبُ
فهي والملوك كحال الشمس أخفت في فضلها كل الشُّهب, التي وإن ظهرت فإنها لا تكاد تُرى حتى تختفي. وهو بذلك قريب من قول النابغة الذبياني:
وإِنَّـكَ شَمْـسٌ والمُلُـوكُ كَـوَاكِبٌ إِذَا طَلَعَـتْ لَـمْ يَبْـدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ
وانطلاقا من المقارنة بينها وبين الملوك ينتقل إلى المقارنة بين الأنثى والذكر, منكرا على الناس عدم الاعتراف بفضلها, فقط لأنها أنثى. فمجلس هذه الأميرة -مجلس العلم والأدب- معروف مشهور باسمها, في حين أن هناك الكثير من الرجال منبوذوا السُّمعة, أعمالهم لا قيمة لها, كحال الألقاب منبوذة عند الله والعبد.
وليؤكد صحة كلامه يقدم دليلاً لغوي, من خلال لفظة (الكعبة) المؤنثة ذات القداسة في نفوس المسلمين والتي بقيت صامدة أمام كيد الكائدين من أصحاب (الأوثان, والصلبان) وهاتان اللفظتان مذكرتان.
على أنه لهذا البيت معنى آخر وهو تغلب المرابطين (المسلمين) على من عاداهم من وثنيين , ربما في الصحراء الإفريقية, ونصارى الغرب في إسبانيا بعد معركة الزلاقة, فهو بذلك استخدم الرمز للإشارة إلى الانتصارات وأن حروبهم إنما هي دفاع عن الدين وليست بهدف الأغراض الشخصية.
5- ملحوظات :
1- قام الشاعرين بتصوير القيم الأخلاقية والاجتماعية للممدوحتين فتعرضا للكرم والتقوى والعمل ورعاية الأدب وحماية المستجير ... إلا أنهما لم ينعتاهما بالشجاعة والإقدام في الحروب–على الرغم من وجود نساء محاربات- وإنما منحا ذلك للأسرة وبذلك يكون الشاعران قد التزما بالحقيقة الاجتماعية. أو الصدق الاجتماعي.
2- كانت لغة ابن خفاجة لغة بسيطة سهلة , لأنها لغة المتشفع الذي يريد أن تصل كلماتُه بأسرع ما يمكن.
أما لغة الأعمى التطيلي, فظهر فيها بعض الصعوبة والقوة لأنها لغة المتصنع. ولا أقصد بالتصنع هنا معنى الضعف وإنما لغة الفنان الذي جرى على عادة الشعراء فالتزم بقوانين الصنعة الشعرية. فهو الذي يقول فيه ابن بسام " له أدب بارع، ونظر في غامضه واسع، وفهم لا يجارى، وذهن لا يبارى، ونظم كالسحر الحلال، ونثر كالماء الزلال".
3- إن عاطفة ابن خفاجة –بظني- كانت أصدق من عاطفة الأعمى التطيلي الذي بنا قصيدته بهدف الحصول على المال.
وقد يُرى أني تحاملت على التطيلي في التأكيد على طلب المال, إلا أنه كان صادقا اجتماعيا فيما كان يمدح به الأميرة حواء. فكما مرَّ سابقا أنها كانت تُعِين الفقراء, وأشار ابن رشد الجد أنها ساعدت في إصلاح مسجد بلنسية .
4- إن غاية ابن خفاجة "الشفاعة" فلم يبدأ بمطلع غزلي أو طللي, كعادة المداح, وإنما بدأ نصه بما يناسب حالته النفسية المضطربة, وكان النص كله تقريبا إشارات لواقعه النفسي . وقصر هذا المطلع عنده يمكن تشبيهه بمطالع بعض اعتذاريات النابغة الذبياني تملكا لنفسية السامع أو القارئ. أما التطيلي فكان هدفه العطاء فالتزم الشكل المناسب للقصيدة المدحية مما أطال المطلع في قصيدته.
ب- الغيرة بين النساء:
من طريف ما يروى, أن القاضي أبا محمد عبد العزيز السوسي قد مدح الأميرة حواء زوج الأمير سير بن أبي بكر وفضلها على سائر النساء بالجمال والكمال, فأمرت زينب, يوسف بن تاشفين بعزله عن القضاء. فلما لقيها وعاتبته ارتجل فقال:
أَنْـتِ بِالشَّمْـسِ لاَحِقَـةٌ وَهِـيَ بِـــــــــــــــــالأَرضِ لاَصِقَــةٌ
فَمَتَـى مَــــــــا مَـدَحْــــــــــتُهَــــا فَهِـيَ مِــــــــــنْ سَيْـرٍ طَـالِقَةٌ
فقالت يا قاضي طلقتها منه , قال نعم ثلاثة وثلاثة وثلاثة , فضحكت, وكتبت إلى يوسف برده إلى القضاء فرده . وهذه الرواية على طرافتها إشارة بالغة إلى وجود تنافس بين الأميرات في طلب المدّاح, وهي دليل على أثر المرأة المرابطية في الحكم, وأثرها في الحياة الإدارة.
ج- المشارقة هم السباقون :
يتراء لنا أن هذا الخطاب قد بدأ من المشرق, فهو مشرقي بامتياز. وأحد الأدلة على ذلك أن الشاعر نصيب الأصغر قد مدح أم الخليفة العباسي "الأمين" واسمها "زُبَيدَة" بقصيدة كان منها :
سَيَسْتَبْشِرُ الْبَيْتُ الْحَرَام وَزَمْزَمُ بَأُمِّ وَلِيِّ الْعَهْدِ زَيْنِ المَوَاسِم
د- المرأة المرابطية مسبوقة في مكانتها:
فهذه المكانة التي حظيت بها المرأة الأندلسية في هذا العهد لم تكن ميزة خاصة بهن, إذ لو عدنا قليلا إلى الوراء في عصر دول الطوائف لوجدنا أنه كان للنساء نفوذ بارز في إمارة بني زيري في غرناطة ومالقة زمن الأمير باديس . وكان لولادة بنت المستكفي صالونها الأدبي . ... والتاريخ الأندلسي والعربي والإسلامي عامة حافل بإعطاء مزايا خاصة للنساء. ومن ثم فما ظهر من تدخل للنساء في شؤون الحكم ومن رعاية الأدب والشعراء إنما هو امتداد للمجتمع السابق. وكذلك بالنسبة للظواهر الاجتماعية الأخرى.

رابعا-الخاتمة :
تمكنت المرأة الأندلسية في عهد المرابطين بفضل ذكائها ودهائها من التدخل في شؤون الحكم . وكان لها دور كبير في الحياة الاجتماعية والأدبية, فتوجه إليهن الشعراء مادحين, طالبين للعطاء أو الشفاعة. ومن هؤلاء الشعراء الأعمى التطيلي وابن خفاجة, وقد التزما بالصدق الاجتماعي في مدحهن فلم ينسبا إليهن ما ليس فيهن. وكان لتصوير الأسرة دور أساسي في هذا الخطاب المدحي, إلا أن هذا النوع الجديد من الشعر لم يكن أندلسيا خالصا إذ كان له جذور مشرقية, ولكنه في الأندلس أصبح ظاهرة معروفة بشكل أكبر في دولة المرابطين , وقد دفع هذا المدح إلى التنافس بين الأميرات, مما أدى إلى تعرض بعضِ الشعراء لغضبهن.


الحواشي :

1 : ينظر : حسن, حسن علي, الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس (عصر المرابطين والموحدين), ص 352
2: ينظر : المصدر نفسه, ص 360
3 : ينظر: المصدر نفسه , ص58-59
4 : بلغيث , محمد الأمين, دراسات في تاريخ الغرب الإسلامي ,ص 55(ترقيم إلكتروني).
5 : الكامل في التاريخ، ج9 , ص99 .
6 : ينظر: بلغيث, ص61 (ترقيم إلكتروني).
7 : ينظر : بلغيث, ص 52 وما بعد (ترقيم إلكتروني) .
8 : ضيف, شوقي, تاريخ الأدب العربي عصر الدول والإمارات (الأندلس),ص 203.
9: بلغيث, ص62 (ترقيم إلكتروني).
10: عباس, إحسان, تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين), ص 26.
11 : * قضية الانتساب إلى الأمهات وثورة محمد بن تومرت: لما قامت ثورة محمد بن تومرت –مهدي الموحدين- "انتهز ظاهرة انتساب بعض المرابطين إلى أمهاتهم-جريا على عادة لمتونية قديمة- فأوهم الناس أن النساء غالبات على أمور المرابطين" (ينظر : مؤنس, حسين, سبع وثائق جديدة عن دولة المرابطين وأيامهم في الأندلس, ص4) حتى قال المراكشي : "واستولت النساء على الأحوال وأسندت إليهن الأمور"( عبد الواحد, المعجب في تلخيص أخبار المغرب, 133-134). وأظن أن في قضية الانتساب شيء من الخلط لأن محمد بن تومرت منسوب إلى إحدى جداته وهي (تومرت) ( ينظر: حسن, حسن علي, ص 353) فكيف يحرض على ما هو فيه. ولعل الصواب هو ما قيل عن رؤيته للتحرر عند النساء واختلاطهن بالرجال في مواضع مختلفة من الدولة (ينظر : المصدر نفسه ص353) وهذا الاحتمال يضعفه أن تاريخ دولة المرابطين قد كتبه مؤرخو الموحدين ومن جاء بعدهم (ينظر : مؤنس, حسين ص4) , وكان ابن تومرت قد " شَنَّ على المرابطين حملةً عنيفة لم تدع لهم فضلا إلا أتت عليه"( المصدر نفسه , ص4).
12 : (ابن عائشة: عبد الله محمد بن يوسف بن تاشفين من أعظم قادة المرابطين . ابن فاطمة: عبد الله بن فاطمة من أبرز قادة المرابطين) ينظر: حسن, حسن علي , ص 352-353
13 : ينظر: بلغيث, ص65 (ترقيم إلكتروني).
14 : ينظر: المصدر نفسه , ص62
15: عباس, إحسان , ص26 , نقلا عن ليفي بروفنسال الإسلام في الغرب والأندلس ص299 الترجمة العربية.
16 :التطيلي, الأعمى, ديوان الأعمى التطيلي, ص16-17 والقصيدة ممتدة بين ,ص15-ص18(قرب: سير الليل لورد الغد, والمعنى إن الورد لا يكلف صاحبه مشقة , غمرة : الغَمْرة الماء الكثير , العُبابُ : عُبابُ الماءِ أَوَّلهُ , وكثرة الماءِ, و المَطَرُ الكثير ,وعَبَّ النَّبْتُ أَي طال, وعُبابُ السَّيْل مُعْظمُه وارتفاعُه وكثرته. وقيل عُبابُه مَوجُه وفي التهذيب العُبابُ معظم السيل, ابن الأَعرابي العُبُبُ المياهُ المتدفقة والعُنْبَبُ) ابن منظور , لسان العرب, المواد : غمر, عبب.
17 : هذا ما فهم من الحوار الذي أجراه مع (زهر) يقول :
فَقُلْتُ كُفِّي فَمَا تُغْنِي مُقَارَعَتِي فِي أَزْمَةٍ ضَاعَ فِي أَثْنَائِهَا الأَدَبُ
18: بلغيث, ص60 (ترقيم إلكتروني).
19: ينظر : قصبجـي, عصام, أصول النقد العربي القديم, ص 64 .
20: في رواية أنه سأل ابن زهير " ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك ؟ قال : أبلاها الدهر . قال لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر" كلا الروايتين في الأغاني مج5 ج10 ص454
21: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة, ق3,ج6,ص541
22 : ديوان ابن خفاجة, ص 293 . صفحات القصيدة في الديوان من ص290- ص293(الحيا : المطر . افتر: أسفر . تنوء : يصعب حمله . أرج الرياح : الأرج توهج ريح الطيب . متهم :خبيث, له الريح فاسدة .)
23: ينظر : عباس , إحسان, ص 32.
24: صفة لكلمة في بيت سابق
25: الأقتم , القاتم ؛ شديد السواد
26: اللقب : "اللَّقَبُ النَّبْزُ اسمٌ غير مسمى به والجمع أَلْقَابٌ وقد لَقَّبَه بكذا فَتَلَقَّبَ به وفي التنزيل العزيز ولا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ." ابن منظور , لسان العرب , مادة: لقب
27: ديوان النابغة الذبياني,ص 18
28: ق2,ج4,ص728
29: ينظر : بلغيث, ص60 (ترقيم إلكتروني).
30: ينظر : حسن, حسن علي, ص359.
31: الأصفهاني, أبو فرج, مج12, ج23, ص19.
32: ينظر : عباس, إحسان ,ص 12.
33: ينظر : الشنتريني , ابن بسام , ق : 1, ج 1 , ص 429.